سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام0%

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 247

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

مؤلف: مؤسسة البلاغ
تصنيف:

الصفحات: 247
المشاهدات: 88417
تحميل: 4059

توضيحات:

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 247 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88417 / تحميل: 4059
الحجم الحجم الحجم
سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

مؤلف:
العربية

وشعري، ولمّا قال: أشهد أنّ محمداً رسول الله، التفت الإمام إلى يزيد وقال: محمد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت. وإن زعمت أنّه جدّي فلم قتلت عترته ؟

أسقط في يد يزيد، ورأى أنّ خير ما يفعله هو التعجيل بترحيل الأسرى إلى المدينة، تداركاً لغضبة أهل الشام.

في المدينة

وسيقت بقيّة الحسين نحو المدينة، لكنّ القافلة انعطفت في طريقها نحو كربلاء، ونزل زين العابدين وزينب الكبرىعليهما‌السلام مرّةً ثانيةً في أرض الكرب والبلاء، ونثرا على تربة الحسين دموع الألم وأنّات التّوجّع.

منذ ذلك اليوم، وعلى مدى الأزمان، وما بقيت الأرض والناس، ستبقى صروح العبادة مرتفعةً بجلالٍ وشموخٍ في هذا المكان، تروي للنّاس قصّة أكرم شهادةٍ، وتحكي لهم قصّة أروع ثورة على الظلم، ما بقيت العصور وكرّت الدّهور.

١٠١

تابعت القافلة مسيرها نحو المدينة، مدينة الرسول، فخرجت جموع أهلها، كبيرهم وصغيرهم لاستقبالهم، يذرفون دموع الحزن لما حّل بأهل بيت رسولهم، ويسكبون دموع الندم لسوء تفريطهم وتقصيرهم في حقّ العترة الطاهرة. وازدحموا حول الإمام يعزّونه بأبيه. فوقف بينهم وقال: الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، بارئ الخلق أجمعين أيّها القوم، إنّ الله وله الحمد - ابتلانا بمصائب جليلةٍ، وثلمةٍ في الإسلام عظيمةٍ؛ قتل أبو عبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السّنان، وهذه الرّزيّة التي لا مثلها رزيّة أيّها الناس، أصبحنا مطرودين مشرّدين من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمةٍ في الإسلام ثلمناها والله لو أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تقدّم إليهم في قتالنا، كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا، لما زادوا على ما فعلوا بنا؛ فإنّا لله وإنا إليه راجعون فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ منّا، إنّه عزيز ذو انتقامٍ.

فأثار خطابه الأسى والحزن في نفوس تلك

١٠٢

الجماهير، وامتلأ المكان بالبكاء والعويل، وأحسّ المسلمون بمرارة تلك الصدمة العنيفة، التي أصابت الإسلام في الصميم، وبدأت تعتمل في أوصالهم روح الثورة ونذر الانتقام.

أمّا العقيلة زينبعليها‌السلام ، فكانت تردّد تلك المأساة الرّهيبة، فتشحن النفوس بالحقد على الظالمين، وتلهب فيها نار الثورة على يزيد وحكومته الجائرة.

اندلاع الثورات

نعم، فقد كانت فاجعة كربلاء صدمةً عنيفةً، أيقظت الغافلين من غفلتهم وألهبت المشاعر الخامدة وفجّرت ثورةً تلو أخرى في وجوه الطغاة؛ فلم تمض سنة على واقعة الطّف، حتى اندلعت الثورة في مدينة الرسول، واندفع الناس يهاجمون الأمويّين وأعوانهم، بعد أن خلعوا بيعة يزيد وطردوا عامله عليها، ولما بلغ يزيد ما فعلوه أرسل إليهم جيشاً بقيادة الجزّار مسلم بن عقبة. فأعمل فيهم السيف وقتل منهم خلقاً كثيراً، في موقعةٍ شهيرةٍ تدعى وقعة الحرّة، ثمّ أباح

١٠٣

مدينة الرسول لجنوده ثلاثة أيام، فنهبوها واستباحوا الحرمات وهتكوا الأعراض، حتّى نزل أهل المدينة على أمره. وبايعوا على أن يكونوا عبيداً ليزيد، وهكذا فقد دفعوا ثمن تقصيرهم وتخاذلهم عن الجهاد مع الحسين حين دعاهم إليه.

كما اندلعت ثورة في الحجاز يقودها عبد الله بن الزبير. هذا الإنسان الميّال إلى العلوّ في الأرض، والذي بقي سنين طويلةً يتحيّن الفرص للقفز إلى كرسيّ الخلافة، فواتته الفرصة الآن. فقام يرفع راية أهل البيت ويطالب بدم الحسين زوراً وكذباً يخفي وراءه أطماعه. لأنّ عداوته لأهل البيت لا تحتاج إلى بيانٍ.

استمدّ عبد الله بن الزبير جرأته من الثّورات المتعدّدة، التي أعقبت الواحدة منها الأخرى في وجه حكم يزيد، وجهّز جيشاً واجه به قوّات السلطة في معركة طاحنةٍ، راح ضحيّتها عدد كبير من القتلى من الطرفين، ودارت بالقرب من مكّة، التي قذفها جند يزيد بالمنجنيق، وقبل أن تحسم المعركة لصالح أحد الطرفين المتقاتلين، ورد نبأ هلاك الطاغية يزيد، وكان

١٠٤

لهذا النّبأ أثره السريع، حيث انسحب جيش الحكم، وضمن ابن الزبير السلامة، ولكن إلى حين حيث لاقى حتفه فيما بعد على يد الحجّاج السّفّاح، في عهد عبد الملك بن مروان.

ومن الثورات التي اشتعلت بتأثير واقعة كربلاء، ثورة التوّابين في الكوفة سنة ٦٥ للهجرة. وانتشرت إلى البصرة والمدائن، وسمّيت بهذا الاسم نسبةً إلى جماعةٍ من أهل الكوفة، ندموا ندماً شديداً على تقاعسهم عن نصرة سيّد الشهداء، بعد أن دعوه للقدوم إليهم، وقد أعلنوا توبتهم، وكانت توبةً نصوحاً، ولذا عرفوا بالتّوّابين. وكان يقودهم سليمان بن صردٍ الخزاعيّ. ويروى أنّ تعدادهم بلغ ستّة عشر ألفاً.

خرج التّوابون من الكوفة إلى قبر الحسينعليه‌السلام ، وقد لبسوا أكفانهم، وأخذوا على أنفسهم عهداً بألاّ يعودوا إلى بيوتهم حتّى ينتقموا لمقتل الحسين أو يقتلوا تكفيراً عن تقصيرهم. وردّدت جنبات الكوفة صيحاتهم (يا لثارات الحسين) وتردّدت أصداؤها في كلّ مكانٍ. وحين بلغوا القبر الشريف صاحوا باكين

١٠٥

نادمين وأقاموا عنده يوماً وليلةً، ثم غادروا القبر متّجهين إلى الشام، وهم يتلون الآية الكريمة:( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم، إنّه هو التّواب الرحيم ) . والتقوا في طريقهم بجيش السلطة يقوده الطاغية عبيد الله بن زياد، واندفعوا يقاتلون ببسالة فائقة، وكادوا يقضون على ابن زياد لولا المدد الذي وصل إليه، لكنّهم ظلّوا يقاتلون أيّاماً حتى أبيدوا عن آخرهم.

وهكذا مضى التّوّابون شهداء الندم والتوبة، وتركوا الندم وراءهم ميراثاً يصلي بناره المتخاذلين جيلاً بعد جيل.

ثورة المختار

زاد موت يزيد من تفجّر الثّورات ضدّ الحكم الأمويّ، فاشتعلت ثورة المختار بن أبي عبيد الثقفيّ في الكوفة أيضاً سنة ٦٦ للهجرة.

خرج المختار في الكوفة، ودعا الناس للطلب بثأر الحسينعليه‌السلام ، فمال إليه الناس، واستولى على بيت المال فوزّع ما فيه من الأموال على من انضمّ إلى

١٠٦

حركته، فاستتبّ له الأمر في الكوفة، وحاول تقوية مركزه فكتب إلى الإمام زين العابدينعليه‌السلام يدعوه إلى تأييده ويعرض عليه البيعة، ويروى أنّ الإمام تجاهل دعوته، لأنّ تحرّك المختار لم يكن خالصاً من المصالح الشخصيّة، ولمّا يئس المختار من الإمام كتب إلى عمّه محمد بن الحنفيّة(١) ، وأشاع بين الناس كذباً أنّ محمد بن الحنفيّة هو قائم آل محمدٍ، وأنّه يدعو إليه، فخدع بعض الناس بهذه الأكاذيب. ومن هنا ظهرت الفرقة الكيسانيّة إلى الوجود.

إنّه عزيز ذو انتقامٍ

وعلى أيّ حالٍ، فلقد تتّبع المختار قتلة الحسينعليه‌السلام ، والمشتركين في حربه، وعلى الأخصّ قادتهم كعمر بن سعدٍ وغيره، فلم يترك أحداً منهم إلاّ ونكّل به، وكان يصنع بهم مثل ما صنعوه مع الحسين وأصحابه، وكان المختار بحقّ عدوّاً عنيداً للأمويّين. وقد ظفر أخيراً بعبيد الله بن زيادٍ فقطع رأسه وأرسله مع

____________________

(١) محمد بن الحنفيّة هو أحد أبناء الإمام عليّعليه‌السلام ، وهو يعرف باسم أمّه (الحنفيّة).

١٠٧

رأس عمر بن سعدٍ، بالإضافة إلى هدايا كثيرةً بينها جارية إلى الإمام زين العابدين في المدينة.

ما إن رأى الإمام الرأسين حتى خرّ ساحداً شكراً لله تعالى وقال: الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي، وجزى الله المختار خيراً. وقبل الجارية والهدايا، وقد أنجبت له تلك الجارية ولداً هو (زيد بن عليّ) الثّائر الشهيد. وكان زيد مجاهداً صادقاً، قام لصون دين الله من التّحريف. فحمل رسالة آبائه، وناضل وجاهد، حتّى قتل على منهاج المجاهدين في سبيل الله.

أخلاقه من أخلاق جدّيه محمد وعليّ

كان الإمام زين العابدينعليه‌السلام عالماً فقيهاً، ذا اطّلاع واسع على أمور الدين وعلوم القرآن الكريم، وكان جواداً سخيّاً كما كان ورعاً تقيّاً، ذا مهابةٍ ووقارٍ، ويروى أنّه غادر يوماً مجلساً لعمر بن عبد العزيز. فقال عمر لمن حوله: من أشرف الناس؟ أجابه بعض المتزلّفين: أنتم يا أميرالمؤمنين، فقال: كلاّ، أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفاً. وهذا

١٠٨

يدلّ على ما كان يتمتّع بهعليه‌السلام من مكانةٍ رفيعةٍ واحترام كبير. ويروى عن سماحته وسموّ خلقه ما جرى له مع مروان بن الحكم ألدّ أعداء أهل البيت، وهو من أشار على الوليد عامل يزيد على المدينة بقتل الحسينعليه‌السلام ، وهو من شمت بمقتلهعليه‌السلام ، وهو من انضمّ إلى الناكثين في صفين والبصرة، ومع ذلك فمروان هذا لم يجد من يحمي عياله ونساءه غير زين العابدينعليه‌السلام ، وذلك يوم ثار أهل المدينة ضدّ الأمويّين فضمّهمعليه‌السلام إلى عياله، وعاملهم بما كان يعامل به أهله وعياله. وليس هذا غريباً على من اجتباهم الله وخصّهم بالكرامة والعصمة. وإنّ أخلاق الإمام زين العابدين من أخلاق جدّيه محمد رسول الله وعليّ أميرالمؤمنين عليهم أفضل الصلاة والسلام. ألم يعف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن رؤوس الشّرك والنفاق بعد أن ظفر بهم، وقال لهم قولته الشّهيرة: اذهبوا فأنتم الطّلقاء؟ ألم يعف أميرالمؤمنين عن مروان نفسه، وقد قاد الجيوش لحربه في البصرة؟ ألم يعف عنه بعد أن وقع أسيراً في قبضته، وتركه مع علمه بأنّه سينضمّ إلى معاوية ويحاربه في صفّين؟ وقد فعل؟ إلاّ إنّها

١٠٩

السّماحة الهاشميّة.

أمّا عن سخائه وجوده فيروى أنّ بيوتاً في المدينة كانت تعيش على صدقات الإمامعليه‌السلام ولا تدري من أين تعيش. فلمّا ماتعليه‌السلام فقدوا ما كان يأتيهم، فعلموا بأنّه هو الذي كان يعيلهم وقالوا: ما فقدنا صدقة السرّ حتى فقدنا عليّ بن الحسين زين العابدين.

الصحيفة السجادية ورسالة الحقوق

وأمّا بحار علمهعليه‌السلام فعميقة بلا قرار، وحيث لم يتسنّ له أن يرتقي المنابر ويقف في المجتمعات لإرشاد الناس إلى ما يصلحهم من أخلاق الإسلام وآدابه، فقد استخدم أسلوب الوعظ والإرشاد في حوارٍ ومناجاة مع الله سبحانه، يستعطفه ويمجّده في ستين دعاءً عرفت (بالصحيفة السجّاديّة)، رواها عنه والده الإمام الباقرعليه‌السلام وزيد بن عليّ وغيرهما من الثّقات، ولا تزال إلى يومنا هذا يتداولها المؤمنون ويواظبون على قراءتها. وهي أدعية شاملة حافلة بآداب الإسلام وأخلاقه، وبكلّ ما يقرّب المؤمن من الله سبحانه. كما وضععليه‌السلام رسالةً لأصحابه وشيعته تتضمّن ما يجب عليهم من واجباتٍ وما يجب

١١٠

لهم من حقوقٍ، وتشمل خميس مادّةً في هذا الموضوع، تتناول الأخ والجار والصديق والزوج والحاكم وغيرهم وقد عرفت (برسالة الحقوق)، رواها عنه العديد من الثّقات الأسناد. إلى ما هنالك من كلماتٍ قصارٍ ووصايا وأحاديث رويت عنهعليه‌السلام .

لا عجب في كلّ ما تقدّم، فزين العابدينعليه‌السلام ، هو رابع الأئمة الأطهار المجتبين، ورثة العلم عن رسول ربّ العالمين، مشاعل نورٍ تضيء للأجيال طريقها إلى الخير والصلاح، فأحر بنا أن ننهج إلى الجهاد، ونسلك مسالكهم في التّعامل مع طواغيت العصر. فقد جاهدعليه‌السلام بيده مع جدّه وأبيه، وجاهد بلسانه عند ما استدعت الظّروف ذلك، وصدق رسول الله إذ أكّد أنّ عترته هي مع القرآن والقرآن معها، وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض.

١١١

الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

الاسم: الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

اسم الأب: الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام

اسم الأم: فاطمة

تاريخ الولادة: أول رجب سنة ٥٦ للهجرة

محل الولادة: المدينة

تاريخ الاستشهاد: ٧ ذي الحجة سنة ١١٤ للهجرة

محل الاستشهاد: المدينة

محل الدفن: المدينة (البقيع)

ثمرة الشجرة المباركة

باسمه تعالى

كان للإمام الحسنعليه‌السلام بنت اسمها فاطمة. وكانت تستحقّ حمل هذاالاسم الكريم عن جدارةٍ، فهي تقيّة طاهرة، فاضلة عابدة ، زاهدة صالحة، نشأت في بيتٍ كريمٍ، وتلقّت علوم القرآن الكريم والمعارف الإسلامية في بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

اختار الإمام الحسينعليه‌السلام فاطمة ابنة أخيه، زوجة لابنه عليّعليه‌السلام ، وعاشت فاطمة الثانية مع عليّ الثاني حياة طيّبةً طاهرةً، وأنجبا مولوداً طاهراً عفيفاً أسموه محمداً، ويعرف باسم محمد الباقر، أي الذي يبقر العلوم ويشقّها ويوضّحها ويحلّ ألغازها. ويروى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي أسماه بالباقر، قبل ولادته، مستشفّاً طوايا الغيب. وكان الباقرعليه‌السلام شبيهاً إلى حدّ بعيدٍ بجدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولذلك كان يدعى بـ (شبيه رسول الله).

١١٢

طفولة الإمام وشريط الأحداث

حين قدم الإمام الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء، صحب معه أبناءه وأهله، ومن بينهم زين العابدين وفاطمة وطفلهما محمدعليهم‌السلام .

كان الباقر يبلغ الرابعة من العمر، وفي طفولته هذه رأي بأم عينيه ما جرى في كربلاء، رأى مقتل جدّه الحسين، ورأى الأصحاب والأهل يتساقطون على الثرى، رأى الدماء والويلات، رأى كيف سيق مع من تبقّى من أهله أسرى إلى الكوفة والشام، رأى رأس جدّه يرفع على سنان الرمح. رأى أعياد وأفراح الناس، رأى طريقة الطاغية يزيد في معاملة أهل بيت الرسول. وكلّ ما قيل هنا وهناك وهنالك سمعه وفهمه ووعاه. وهكذا بدأت طفولتهعليه‌السلام ، وفي غمرة هذا الجحيم من الأحداث المتوالية، بدأ يتلقّى علومه على يد أبيه.

أمّا الحكم الأموي. فقد عانىعليه‌السلام منه الكثير. فقد عاصر حكم يزيد، وشهد حكم عبد الملك والوليد وهشام ابنيه، كما رأى مسلك

١١٣

الحجّاج ابن يوسف، هذا الذئب من ذئاب جهنم، رأى الحصار الذي فرض على أبيه الجليل، رأى كيف كان الناس يتحرّكون بكامل حرّيتهم؛ فيقولون ما يشاؤون ويكتبون ما يشاؤون، إلاّ أهل بيت الرسول، فالحرّيّة محظورة عليهم، والناس لا يجرؤون على الاقتراب من بيت الإمام، أو سؤاله عن أيّ مسألة، دينيةٍ كانت أم غير ذلك، لا لشيءٍ؛ إلاّ لأنّ زين العابدين هو ابن الحسين وحفيد علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

ورغم هذا التضييق الشديد فقد كان هناك رجال صدقٍ، لا يأبهون لأوامر الحكّام، ويحضرون للقائهعليه‌السلام ، وكان جابر بن عبد الله الأنصاري أحد هؤلاء، وجابر هو آخر من بقي من أصحاب الرسول في تلك الأيام، وقد أصبح شيخاً طاعناً في السن.

سلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

كان جابر حين يجلس في مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يردّد: يا باقر العلم، يا باقر العلم. وكان أهل المدينة إذا سمعوه يردّد هذا القول، يتعجّبون ويقولون: إنّ

١١٤

جابراً يهجر (أي يهذي بأقوالٍ غير مفهومةٍ). فكان يجيبهم: والله ما أهجر، ولكنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (إنك ستدرك رجلاً منّي، اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً).

فذاك ما دعاني إلى ما أقول.

كان جابر ذات يوم في بعض طرق المدينة، فمرّ به غلام، فلمّا رآه جابر قال: يا غلام أقبل، فأقبل، ثمّ قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال جابر: شمائل رسول الله، والذي نفسي بيده. يا غلام ما اسمك؟ قال: اسمي محمد بن علي بن الحسين. فقام جابر يقبّل رأسه ويقول: بأبي أنت وأمي، أبوك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرئك السلام، فقال محمد: وعلى رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته.

ثم رجع محمد إلى أبيه مذعوراً فأخبره الخبر، فقال له: يا بنيّ، قد فعلها جابر؟ قال: نعم، قال: الزم بيتك يا بنيّ.

ذلك أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام خاف على ولده، لأنّ الحكومة الأمويّة كانت قد فرضت رقابةً شديدةً على الإمام وأهله، فخشيعليه‌السلام أن ينالوه بسوءٍ.

١١٥

وفيما بعد كان جابر يلتقي ابن زين العابدين، ويتبادل معه الحديث، وقد أدرك أنّ علوم ومعارف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أودعت عند هذا الغلام. فقال له يوماً: أي بنيّ، إنّك ستعلّم الناس أمور الدين، وستحلّ مشاكل العلوم عند الباحثين، وتردّ على أسئلة السائلين، يابن عليّ بن الحسين بن أبي طالب، إنّك (باقر العلوم) إنّك من الذين أوتوا العلم صغاراً، وقال فيهم الرحمن سبحانه:( وآتيناه الحكم صبيّاً ) .

كان قد مضى على هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ما يقارب المئة عام، حين ودّع الإمام زين العابدين الحياة، بعد أن أوصى لابنه محمد بالإمامة، وكانت سنّ محمدٍعليه‌السلام تقارب الأربعين عاماً.

عصر الإمامعليه‌السلام وشريط الأحداث

خلال ولاية الإمام الباقرعليه‌السلام ، تعاقب على حكم العالم الإسلامي كلّ من الوليد وسليمان، ابني عبد الملك، ثمّ عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد وهشام ابنا عبد الملك أيضاً. وكانوا إذا زار أحدهم المدينة، يحضرون للقاء الإمام الباقرعليه‌السلام ، مراعاةً

١١٦

لقدره ومكانته بين المسلمين، كما كانوا يوجّهون له الدّعوات أحياناً للحضور إلى دمشق، وكانت غايتهم من ذلك إبعاده عن المدينة، فوجوده فيها كان يسبّب لهم القلق. ويخشون تأثيره على الناس. خاصةً وأنّ الحكم الأمويّ في تلك الفترة كان يميل إلى الضعف، وكانت تقوم جماعات في نواح وأطراف مختلفةٍ من البلاد تنازع الأمويّين وتخاصمهم. الأمر الذي خفّف الضغط عن الإمامعليه‌السلام ، وأتاح للناس حرّيّة أكبر في زيارته والجلوس إليه والتزوّد من علومه ومعارفه. واستطاع أن يعقد المجالس كلّ صباح، ويقدّم فيها لتلاميذه شتّى أنواع العلوم والتربية الدينية. لهذا فإنّ الروايات التي وصلتنا عنه كثيرة جداً، وقد تقدّمت العلوم والمعارف في عصره حتى سمّي بالعصر الذهبيّ.

كما كان عصره، من ناحية أخرى، عصر يقظةٍ في صفوف المسلمين، وكان الناس قد أدركوا - بعد خمسين سنةً من واقعة كربلاء - أنّ الأموييّن يحكمون باسم الإسلام زوراً وبهتاناً، وأنّ مسلكهم كان بعيداً كلّ البعد عن الإسلام. وأنّ الرّجال العظام الذين

١١٧

قدّموا أرواحهم في سبيل توعية المسلمين وتقويم الانحراف، قد تركوا لهم دروساً بليغة واضحة المدلول، فقام المجاهدون في كلّ مكان، يرفعون لواء الثورة على الظلم والفساد، ومشعل ثورة كربلاء ينير لهم الطريق.

وفي هذا النطاق أعلن كثير من العلويّين الثورة، لكنّ ثوراتهم فشلت ولم تثمر، وحتى ثورة زيد بن عليّ، أخي الإمام الباقر، كان مصيرها الفشل، فقد تفرّق عنه الناس، وتركوه مع نفر من أصحابه الصادقين، يقارعون الطغاة ببسالة وإيمانٍ، حتى غلبتهم الكثرة، وقتل زيد وأصحابه. كان زيد رحمه الله ورعاً تقيّاً. وكان لمقتله وقع أليم على أخيه الإمام الباقرعليه‌السلام وأهله جميعاً.

وعلي أيّ حالٍ، فإلى جانب ما رآه الإمام الباقرعليه‌السلام من طغيان الأمويّين، شهد كذلك قيام طغاة بني العباس، وكما رفع أولئك لواء الإسلام كذباً، رفع هؤلاء لواء أهل البيت زوراً وبهتاناً، وصار أبو مسلمٍ وأبو سلمة وسفاح بني العباسا (مجاهدين ثائرين).

١١٨

حين تولّى عمر بن عبد العزيز الحكم، حاول إصلاح أمور أفسدها من سبقه من حكّام بني أميّة، فأبطل لعن أميرالمؤمنينعليه‌السلام على المنابر. تلك الوصمة السوداء في تاريخ الحكم الأمويّ، كما أمر بإعادة (مزرعة فدك) إلى أهل البيت، بعد أن انتزعت منهم إلى بيت المال، رغم معرفة الجميع بالحقيقة، وهي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أعطى هذه المزرعة الصغيرة نحلةً لابنته الزهراءعليها‌السلام . وهذا التصرّف السليم من جانب عمر بن عبد العزيز يلقي الضوء على وجهٍ من وجوه الإجحاف الكثير الذي لحق بآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من بعده. كما أنّه من جانب آخر، أمر بإعادة تدوين الحديث الشريف، بعد أن حضر تدوينه لمدّة مئة عام كاملة، لكنّ عمر بن عبد العزيز كسر هذا الطوق عن أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

مع هشام بن عبد الملك

وخلال حكم هشام بن عبد الملك. ونتيجةً للتضييق على آل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقف جعفر بن محمد، الابن الأكبر للإمام الباقرعليهما‌السلام ، أمام

١١٩

الألوف المؤلفة من الرجال والنساء، في رحاب بيت الله، وكان فيهم مسلمة بن عبد الملك أخو هشامٍ وقف خطيباً معرّفاً بأبيه وبنفسه وقال:

(الحمد لله الذي بعث محمداً بالحقّ نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله في خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من تبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا.).

تردّدت كلمات حفيد رسول الله بين الناس، فرفّت القلوب لمعانيها، ولهجت الألسن بمراميها، والتفّت الجموع حول قائلها وأبيه. صلوات الله عليكم يا أهل بيت رسول الله، فأنتم بالحقّ صفوة الله في خلقه، وأنتم خيرته من عباده.

رأى مسلمة بن عبد الملك ما جرى وسمع ما قيل، فراح والحقد يفري أحشاءه، ونقل إلى أخيه كلّ ما رأى وما سمع.

غضب هشام من أقوال جعفر بن محمد، وآلمه أنّ يافعاً حدث السّن يجرؤ على الوقوف أمام الناس، يدعو لنفسه ولأبيه وأهله، ويدّعي أنّهم خلفاء الله في أرضه عجباً لئن كان جعفر هذا وأبوه خليفتين لله، فماذا نكون نحن إذا؟

١٢٠