سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام15%

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 247

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام
  • البداية
  • السابق
  • 247 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116401 / تحميل: 7079
الحجم الحجم الحجم
سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

سلسلة أئمة أهل البيت عليهم السلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

إلى مكّة، ونفّذ ما عزم عليه دون إبطاء، يرافقه أهله وأصحابه الأقربون، وابتعدوا عن المدينة ما أمكنهم ليكونوا في مأمن من مطاردة أعوان يزيد، في هذا السّفر المحفوف بالمخاطر.

أمّا أهل المدينة، والذين كانوا قد عاهدوا الحسين على النصرة والحماية، فلم يبدر عنهم أيّ تحرّكٍ في هذا الاتّجاه، بل لجأ أكثرهم إلى بيوتهم من الخوف.

وصلت قافلة الإمام إلى مكّة، حيث الأمان أكثر، لأنّ مكّة بيت الله، وأرضها حرم الله؛ والعرب يحترمون بيت الله ويقدّسونه منذ القدم، فلا يقتلون لاجئاً إلى الحرم، ويمتنعون فيه عن الحرب والخصام.

لم يمض وقت طويل على وصول الإمام إلى مكّة، حتّى وصلها جواسيس يزيد، وكانت خطّتهم التخلّص من الإمام خفيةً، ثمّ الادّعاء بأنّه قتل في نزاعٍ محلّيّ بسيط.

بقي الحسينعليه‌السلام في مكة ما أمكنه ذلك، يحذّر الناس وينبّههم إلى الخطر الذي يشكّله حكم يزيد على الإسلام، كما بعث برسائل إلى رؤساء القبائل

٨١

يدعوهم إلى الجهاد والنصرة. حتى إذا أحسّ بأعوان يزيد يضيّقون عليه الخناق، اضطرّ للتفكير بتدبير آخر.

الكوفة مركز الأحداث

كانت الكوفة في ذلك الوقت، منطقةً آهلةً بالسّكّان، وكان أهلها ممّن عايشوا علياًعليه‌السلام زمناً ليس بالقصير، وعرفوا قدره ومكانته، وكانت كوفة تلك الأيام أفضل أرض يراعى فيها الإسلام، كما كان أهلها على دراية واطلاع، فهم يعرفون أهل البيت وفضلهم، في حين كان غيرهم لا يعرفون إلاّ حاكم مدينتهم أو خطيب مسجدها، والأمر لديهم سيّان: حكم عليّ أم حكم معاوية، نصروا الحسين أم نصروا يزيد.

في ضوء هذا كلّه، أرسل الإمام ابن عمه (مسلم بن عقيل) إلى الكوفة، ليعمل على تحضير أصحابه وشيعة أبيه للعمل والجهاد، سيّما وأنّ أهل الكوفة كانوا قد بعثوا برسائل كثيرةٍ، يطلبون منه القيام، كما يطلبون منه قيادتهم للجهاد. وكان الإمام حينها ينتظر موت معاوية، حتى يتوجّه إلى الكوفة، ويعلن من هناك إقامة الخلافة الإسلامية.

٨٢

شعر يزيد بالخطر حين سمع بالتفاف أهل الكوفة حول مسلم رسول الحسين، فعيّن الطاغية ابن زياد لحكم الكوفة، وأوصاه بالبطش والشدّة، وهو ابن لامرأةٍ معروفة بسوء السمعة تدعى مرجانة. كان ابن زياد رجلاً قاسياً متحجّر القلب. كما كان داهيةً صاحب حيلةٍ ومكر، ورث عن أبيه عداوته وبغضاءه لأهل بيت الرسول، إلى جانب وضاعة منبته وسوء خلقه.

خطّط أهل الكوفة يوماً لقتل ابن زيادٍ، فدعاه أحد أعيان المدينة لزيارته في بيته. وكان قد اتّفق مع (مسلم بن عقيل) على أن يخرج فجأةً إلى ابن زياد فينقضّ عليه ويقتله، لكنّ مسلماً لم يفعل، كي لا يعطي ليزيد عذراً، فيحتجّ بأنّ أنصار الحسين هم الذين بدأوا القتال. أمّا ابن زيادٍ فقد أحسّ بالخطر خلال وجوده في هذا البيت، وبعد خروجه أصدر أمراً بالقبض على مسلم وأصحابه، فسجن بعضهم، وقتل مسلماً مع صاحب البيت هانئ بن عروة، ثم أمر بإغلاق مداخل المدينة لا يتسرّب منها أيّ خبرٍ، وكي لا يعلم الحسين بقتل مسلمٍ.

نحو العراق

ولنعد الآن إلى مكّة، حيث تركنا الإمام الحسين يتدبّر أموره، لنستمع إلى ما جرى هناك. فبعد أن أوفد الإمام رسوله مسلماً إلى الكوفة، استعدّ للحاق به، كي يستكمل من هناك ما عزم عليه، ذلك في حين حاول جماعة من كبار أهل مكة أن يقنعوه بعدم الخروج، قائلين له: أنت تعرف أهل الكوفة جيّداً، وأنّهم خذلوا أباك، كما خذلوا أخاك، وسيخذلونك أنت أيضاً، إنّهم قوم ضعاف النفوس والإيمان، ولئن كانت ألسنتهم معك، فإنّ سيوفهم ستكون عليك. ومن الأفضل أن تصرف النظر عن سفرك هذا. لكنّ الإمام لم يستجب لأقوالهم. بل أصرّ على الخروج. إصرار صاحب الرسالة على أداء رسالته، ولو كان فيها الموت، ألا إنّه الموت في سبيل الله والحق.

أحرم الإمامعليه‌السلام للعمرة فطاف وسعى وقصّر، وطاف طواف النساء وأحلّ من عمرته، دون أن يتمّ حجّه، كي لا يعطي لأعوان يزيد فرصةً لانتهاك حرمة المسجد الحرام، بسفك دمه الطاهر فيه.

٨٣

ثمّ توجّهعليه‌السلام نحو العراق، قاصداً الكوفة مع أهله وإخوانه ونفر من أصحابه. خرج دون أن يصله أيّ خبر من الكوفة، لأنّ ابن زياد حال - كما نعلم - دون تسرّب الأخبار منها، كما أنّه زرع جواسيسه في كلّ مكانٍ على طول الطريق، كي ينبئوه مسبقاً بقدوم الحسين.

أرض الكرب والبلاء

اقترب الإمام من الكوفة، لكنّ أعوان ابن زيادٍ بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحيّ منعوه من التقدّم، واضطرّوه للنزول في أرض جافّة محرقة تدعى كربلاء، وحين سمع باسمها سرح في تفكير عميق ثم قال: (هذا موضع كرب وبلاءٍ، هاهنا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، وسفك دمائنا.). ثمّ أمر بنصب الخيام.

حين علم ابن زياد بنزول الحسينعليه‌السلام في أرض كربلاء؛ شرع في تنفيذ خطّةٍ لئيمةٍ ماكرةٍ؛ جمع الناس في مسجد الكوفة الأعظم، وقام فيهم خطيباً، فعدّد لهم (حسنات) حكم يزيد، وأنّه أمره

٨٤

بتوفير الأموال والأرزاق لهم، إن هم خرجوا إلى قتال الحسين، ولم ينس أن يتوعّد من لا يستجيبون له، ويهدّدهم بأنّ أنفسهم وأموالهموعيالهم سيكونون في خطر. وهكذا بين وعدٍ ووعيدٍ استمال الكثيرين منهم، وزجّهم لقتال ابن بنت رسول الله. إنّهم حقاً ضعاف النفوس والإيمان، يتقبّلون أكاذيب ابن زياد، ويخرجون لقتال إمامهم حفيد نبيّهم. إنّه ذاك الطراز من التفكير، تفكير أناس خيّروا بين الحقّ والباطل، فاختاروا الباطل على الحقّ.

الليلة الأخيرة

وأخيراً، حلّت الليلة الأخيرة ، ليلة العاشر من المحرّم، وحين طوت الظلمة كلّ شيءٍ جمع الإمام أصحابه وأهل بيته، وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أمّا بعد، فإنّني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً. ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم جميعاً، فانطلقوا في حلّ ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري).

٨٥

يا لروعة الكرامة الإنسانية لقد أوضح الإمام لهم كلّ شيءٍ، وحدّد لهم مصيرهم وهو القتل، ليكونوا على بيّنة من أمرهم، ورغب أن ينصرفوا تحت جنح الظلام، فيكون لهم ستاراً، كما أنّ الظلام يخفي خجلهم إن هم رغبوا في فراقه.

لكنّه لم يكد يفرغ من كلامه، حتى هبّت الصفوة الطيبة من أهل بيته يتقدّمهم أخوه العباس قائلين: (لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً).

وتبعهم خيرة أصحاب الحسين، أمثال حبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة، وزهير بن القين وغيرهم، وأعلنوا ترحيبهم بالموت في سبيله. وحين أكّد لهم أنّهم سيلاقون حتفهم هتفوا جميعاً: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك.

لقد أشرقت نفوسهم بنور الإيمان، وكانوا من خيرة الرجال صدقاً ووفاءً.

في هذه الليلة، وفي قلب كربلاء؛ في الخيام التي تسمع منها همسات الشوق إلى الشهادة، وقف الإمام الحسينعليه‌السلام بين صفوة أهله وخيرة أصحابه يحدّثهم فيحسّون بالسّكينة تتنزّل على

٨٦

قلوبهم، ويشعرون بنفوسهم خفيفةً شفّافةً تكاد تطير شوقاً إلى الشهادة، وبقلوبهم تهفو إلى لقاء ربّهم، فيبثّون إليه نجواهم وبوح قلوبهم. ويتوجّهون إليه بالتماس العفو والغفران يقولون: ربّنا اغفر لنا، وتجاوز عن خطيئاتنا، واجعل لنا مكاناً في جنّتك واحشرنا مع الطّيّبين الطاهرين من صفوة خلقك. ربّنا وتفضّل بقبول هذه القرابين من أهل بيت نبيك، ربّنا وأسمع صوتنا ونداءنا إلى خلقك، ربّنا واجعل من موطن قرباننا هذا ميعاداً لعبيدك، ربّنا وأرنا مناسكنا وتب علينا يا ربّ العالمين.

أمّا في المعسكر الآخر، فكانت أصوات الطّبول والمزامير تمزّق بصخبها سكون الليل وهدوءه، بينما انصرف اليزيديون إلى الأكل والشرب كالبهائم يغمرهم فرح يزيدي أثيم.

يوم عاشوراء والمودة في القربى

وأطلّت شمس عاشوراء برأسها من وراء الأفق، ووقف جيش الحقّ في مواجهة جيش الباطل، وأعطى عمر بن سعدٍ أوامره لجنوده، فرموا ابن رسول الله

٨٧

بسهامهم ونبالهم.

ألم يصدر قاضي المدينة حكمه ويقول: هذا الحسين قد خرج من أرضه، يتدخل في الأمور السياسية، ويفرّق بين المسلمين، فيجب أن يقتل بسيف الإسلام، حتى يخلص منه الإسلام؟

عجباً: كيف طوّعت له نفسه قتل أخيه

وقتل الحسين، وقتل أهل بيته، وقتل أصحابه

وديست أجسادهم الكريمة بحوافر الخيل، وبأمرٍ من ابن سعدٍ

وقيل: تدخّلوا في الأمور السياسيّة

لا، غير صحيح، إنّها العداوة المكشوفة لله ولرسوله وللإسلام وللقرآن، إنّه الحقد الكامن في النفوس السوداء

وبعد ففي الوقت الذي تركن فيه المخلوقات إلى بيوتها وأوكارها تنشد الرّاحة، كان أهل بيت الرسول، نساؤه وأطفاله، يرسفون بالأغلال، ويطاف بهم من مكانٍ إلى آخر. وفي الوقت الذي كان اسم الله واسم رسوله يرتفع فوق المآذن، كان أهل بيت

٨٨

الرسول يقاسون الأذى والمذلّة والهوان أهذه هي المودّة في القربى؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

راح جنود ابن سعد يدوسون الأجساد الطاهرة بسنابك الخيل، حتى شفوا غليلهم ونفثوا سموم حقدهم، ثم التفتوا إلى نساء الحسين و أطفاله يسوقونهم أسرى مكبّلين إلى الكوفة. والكوفة كانت مقرّ عليّ أميرالمؤمنين. والكلّ يعرف ابنته العقيلة زينب، لكم رأوها في بيت أبيها، ولكم حضرت نساء الكوفة مجالسها واستمعن إلى مواعظها، وها هي الآن أمامهم تتقدّم الأسيرات من النساء والأطفال، فأين يوارون خجلهم؟ إنّ أصواتهم التي اختنقت بالبكاء. وألسنتهم التي لهجت باللّعن على ابن سعدٍ، لن تكفي لغسل ذنوبهم، ولن تغفر لهم تقاعسهم، وهذه كلمات العقيلة تتساقط كالسّياط على جلودهم علّها توقظ القلوب النّائمة، وتحرّك النفوس الغافلة.

في الشام

سيق الأسرى بعد أيام إلى الشام، والشام كانت في عيدٍ، أليست تحتفل بانتصار يزيد؟ ها هو يستقبل رأس عدوّه؛ رأس الحسين حفيد رسول الله، يغمره

٨٩

الفرح. ويملأ الفخر أعطافه، راح يسترجع أمجاد آبائه ومآثرهم، ويزهو بها ثم يقول:

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل !!

إنّها آداب اليزيديّين

وفي الشام، استطاع الإمام زين العابدينعليه‌السلام أن يتحدّث إلى الناس، ويوقظهم من غفلتهم، ويبسط لهم الحقائق، فهو وأبوه الإمام الشهيد وأهله ليسوا من الخوارج العصاة كما قيل للناس، وهم ليسوا من أعداء الإسلام والقرآن كما اتّهموا زوراً وبهتاناً، وكان ممّا قالهعليه‌السلام :

(فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي أنا ابن محمد المصطفى أنا ابن عليّ المرتضى أنا ابن فاطمة الزّهراء، أنا ابن سيّدة النساء أنا ابن المزّمل بالدماء أنا ابن ذبيح كربلا.) ولم يزل يقول أنا، حتّى ضجّ الناس بالبكاء. وتركت صرخة الإمام المدوّية، أهل الشام في ذهولٍ، إذن فهؤلاء أهل بيت النبي ؟ وقامت في الشام بوادر ثورة هوجاء، بعد أن عرف الناس الحقيقة. ثورة تداركها يزيد بإبعاد الأسرى والرؤوس عن الشام.

٩٠

ثم حظر على الناس مجرّد التّفوّه باسم الحسين، وكل من أتى على ذكر الحسين كان مصيره السجن أو القتل.

الشهادة والثورة

كان أوّل من أتى على ذكر الحسينعليه‌السلام هو الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، فقد زار قبر سيّد الشهداء، وهناك ذرف دموعاً سخينةً صادقةً. وانقلبت تلك الدموع عاصفةً على مرّ التاريخ. كان الذين يجهلون قدر هذه الدموع، يردّدون أقوال اليزيديّين، في ذمّها وذمّ صاحبها.

ولكن في آتي الأيّام، سيتّجه عشّاق درب الحسين نحو كربلا، حيث يذرفون الدموع، ويؤدّون مناسك الشهادة، ويصونون دم الحسين حيّاً مشتعلاً بالثورة، ويصونون درس الشهادة ناطقاً للأجيال القادمة، فلا ينسى الناس ثورة أبي الثوار الحسينعليه‌السلام ، على الظلم والظالمين.

لهذا، ولهذا وحده كان بنو أميّة وبنو العباس يحظرون زيارة قبر الحسينعليه‌السلام وقبور الشهداء

٩١

الآخرين. ولكن فرغماً عن سعي الأعداء والأجراء، فقد ارتفع على أرض كربلاء صرح عظيم، وأقيمت على تربة الشهداء بيوت خالدة للعبادة، وبقي نور الشهادة مشعّاً على مدى الأزمان، وبقي عهد الشهادة نشيداً يتردّد في الأسماع.

وفي الختام: فقد علّمنا الحسين أنّ الدم يقهر السيف بإرادة الشهادة، حين استشهد في سبيل الله والإسلام.

وعلّمنا أنّ الحياة بالقهر والذلّ هي الموت بعينه، حين أبى أن يعطي بيده إعطاء الذليل.

وعلّمنا كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله، حين غلب بمواقفه ومبادئه جموع الطغاة.

فالحسين مدرسة لكلّ المستضعفين في ثورتهم على المستكبرين.

والحسين إمام لكلّ العاملين على إقامة حكم الحقّ والإسلام.

والحسين هو من قال عنه جدّه رسول الله : سيّد شباب أهل الجنة.

وصدق رسول الله

٩٢

الإمام زين العابدينعليه‌السلام

الاسم : الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام

اسم الأب: الإمام الحسينعليه‌السلام .

اسم الأم: شهربانو

تاريخ الولادة: ١٥ جمادي الأولى سنة ٣٦ للهجرة

محل الولادة: المدينة

تاريخ الاستشهاد: ٢٥ محرم سنة ٩٥ للهجرة

محل الاستشهاد: المدينة

محل الدفن : المدينة (البقيع)

أم الإمام

باسمه تعالى

يقولون: ولم كانت أمّه ابنة أحد كبار الإيرانيين؟

إنّ أمّ نبيّ الله إسماعيلعليه‌السلام كانت ابنةً من بلاط فرعون مصر؛ وهذا من آيات الله سبحانه، إذ تلتقي أمّة بأمة، ويلتقي بحر ببحر، فتنبثق عن هذا اللقاء لآلىء لا تقدّر بثمن. فزوجة فرعون رزقت نعمة الإيمان بعملها الصالح، وابن نوح بعد عن بيت النبوة لأنّ عمله كان غير صالح. وابنة كسرى شرّفتها إرادة الله بالإيمان، وجعلت من ابنة قيصر أمّا لإمام الزمان (عج(، ولكنّ المنافقين لا يؤمنون. فالإيمان والتقوى والعمل الصالح هي المعيار، وفيها القربى إلى الله.

أخلاق إسلامية

جيء بأسرى فارس بعد فتحها من قبل المسلمين إلى مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبعد أن قام الخليفة

٩٣

باستعراضهم، أمر بأن يوزّعوا على أفراد الجيش الظّافر، كما جرت العادة أيّام الفتح الإسلاميّ. وكانت لأوامر الخليفة آثار مختلفة على الفريقين؛ ففي حين غمر الفرح وجوه المهاجرين والأنصار، اكتست وجوه الأسرى بالحزن والأسى.

وقفت بنات (يزدجرد) وأحفاده يرقبون في ذلٍّ وانكسار عمليّة التّوزيع، وهم يتساءلون عمّا يخبّئه لهم المستقبل المجهول، ويذكرون بأسى الآمال العريضة التي كانت إلى حين قريب تملأ قلوبهم وجوانحهم. كانوا ينعمون بأسباب العزّ والجاه، والحياة الرّغيدة. وهم الآن يتساءلون عمّا أوصلهم إلى ما هم فيه، ومن هو المسؤول عن هذا الهوان، هل يلومون قادة جيوشهم، أم يوجّهون اللّوم إلى آبائهم؟ هل يا ترى لو أنّ كبير الفرس (خسرو برويز) لم يمزّق كتاب رسول الله؛ يوم كتب إليه يدعوه إلى الإسلام؛ لتغيّرت النتائج ؟ لكنّ تساؤلاتهم بقيت دون جواب، فهم لا يدرون أنّ( ذلك جزيناهم بما كفروا، وهل نجازي إلاّ الكفور ) .

لم يمرّ وقت طويل على وقوف الأسرى أمام

٩٤

الخليفة، حين تقدّم منه شابّ وبادره بالقول: لقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوصي باحترام كبار القوم وأشرافهم؛ ومراعاة قدرهم وكرامتهم؛ وإنّ هؤلاء الأسرى ذوو حسب رفيع، ولا يحسن بنا كمسلمين أن ندعهم في الأسر، وأنا أعلن عتق نصيبي منهم لوجه الله ورسوله.

لم يكن هذا الشابّ غير عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وكان لمبادرته هذه وقع حسن لدى الجميع، فلم يلبث المهاجرون والأنصار من الحضور أن حذوا حذوه، وفعلوا فعله.

عليك الصلاة والسلام يا رسول الله، فهذا درس من دروس لا تحصى علّمته لأمّتك في حسن الخلق، حين أكرمت ابن حاتم الطائيّ رغم إشراكه، لأنّه ابن رجل كريم جواد، هو حاتم الطائيّ، الشاعر الجاهليّ المعروف بسخائه وكرمه. وهذا وصيّك الأمين، يبيّن للناس بعدك سيرتك الشريفة.

لقد تركت مبادرة عليّعليه‌السلام أثراً طيّباً في نفوس الأسرى الإيرانيّين، فشعروا بالأمان والرّاحة بعد القلق، ولم يعد المستقبل مجهولاً لديهم بعد الآن،

٩٥

فهم في كنف وحماية الإسلام، بتعاليمه الطيّبة السّمحة، التي لا تفرّق بين عربيّ وأعجميّ، أو بين أبيض وأسود، فالكلّ في الإسلام سواء؛ وهم في كنف وحماية أميرالمؤمنين. وخير المسلمين بعد رسول الله. وأحسّوا بعد الاطمئنان إليه بمحبّته تعمر قلوبهم.

العناية الإلهيّة

لم يمض وقت طويل بعد هذه الواقعة، حين تمّ اختيار (شهربانو) بنت (يزدجرد) زوجةً للإمام الحسين الابن الأصغر لعليّعليهما‌السلام (١) ، وأنجبت للحسين ابنه الثاني فأسماه عليّا الأصغر وهو المعروف بلقبه (زين العابدين) لكثرة تعبّده وتقواه(٢) ، وهو الإمام الرابع من أهل البيتعليه‌السلام .

كان زين العابدينعليه‌السلام أشبه الناس بجدّه علي بن أبي طالبعليه‌السلام .(٣) فقوّته وشجاعته،

____________________

(١) روت المصادر التاريخية قصّة (شهربانو) على هذه الصورة، وهذا واقع يجهله بعض المؤرخين.

(٢) بعد ولادة آخر طفل للإمام الحسينعليه‌السلام أسموه علياً، واشتهر باسم (عليّ الأصغر) وصار زين العابدينعليه‌السلام من يومها يعرف بـ (عليّ الأوسط).

(٣) في حين كان عليّ الأصغر أشبه الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

٩٦

وصبره وتجلّده، وتعبّده وتقواه، وعلمه ومعرفته أمور تذكّر بجدّهعليهما‌السلام . ويروى أنّه حين توجّه مع أبيه في قافلة الشهادة إلى كربلاء، كان يطفح تصميماً وعزيمةً؛ وبعد النزول في كربلاء، وبدء الاستعداد للقتال، تمّ تخصيص كلّ فردٍ بدرعٍ وسيفٍ، وكانت الدرع التي خصّصت لزين العابدين طويلة تصل حتى ركبتيه، فما كان منه إلاّ أن لوى طرفها بمقدار الزيادة، ثمّ كسرها بيديه حتى غدت ملائمةً لطوله، فلا تعيق حركته. فارتفع صدى الاستحسان من الحاضرين لما رأوه من شدّته وقوّته. لكنّه لم يقدّر له استخدام قوّته هذه يوم النزال، فقد ظهرت عليه في تلك الليلة آثار حمّى شديدة لم تلبث أن طرحته في الفراش.

وهكذا شاءت العناية الإلهيّة أن يكون علي الصغير طريح فراش المرض، في قلب المعركة، ولكنّه بعيد عنها، الأمر الذي جنّبه القتل، وحفظ نسل رسول الله من الانقراض. رغم حرص طغاة يزيد على قتل أبناء الحسين جميعهم، لكنّ إرادة الله سبحانه، النافذة في كلّ أمر، والقادرة فوق كلّ قدرة، رعته وحفظته خلال المعركة وبعدها، حين تعرّض للقتل أكثر من مرّةٍ.

٩٧

وانجلت المعركة عن فوز أحباب الله أباة الضّيم بشرف الشهادة، بعد أن سطّروا أروع ملحمةٍ في التاريخ، وباء أعداء الله بالخسران المبين.

وسيق من تبقّى من أهل بيت النبوّة أسرى مكبّلين بالأغلال إلى الكوفة، وكلّهم من النساء والأطفال، غير زين العابدينعليه‌السلام .

الإمام يواجه ابن زياد

وفي الكوفة، في مجلس ابن زياد، وقف الطاغية يشمت ويتشفّى، وحوله زبانيته وجلاوزته، ولمّا انتهى من نفث سموم حقده على النساء والأطفال دون أن يجرؤ أحد على التفوّه بحرف، خوفاً من بطشه وقسوته، التفت إلى الإمام وقال له: من أنت ؟ قال: أنا عليّ بن الحسين، فردّ عليه بقوله: أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟ فأجابه الإمام: كان لي أخ يسمّى عليّاً قتله الناس، فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال الإمام: الله يتوفّى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد وقال: أبك جرأة على ردّ جوابي؟ وأمر جلاوزته بقتله. فتعلّقت به عمّته زينب واعتنقته

٩٨

وقالت: يابن زياد، حسبك من دمائنا ما سفكت. والله لا أفارقه، فإن أردت قتله فاقتلني معه. فرقّ لها وتركه كما يروى.

في مواجهة الطاغية يزيد

عند ما سيق آل الرسول إلى الشام قيل للناس إنّ هؤلاء الأسرى هم من العصاة الذين خرجوا لإثارة الفتن، فاقتضى الأمر تأديبهم.

دخلت قافلة الأسرى دمشق، وكان يزيد قد أمر بتزيين مجلسه، وجمع حوله الكبار والأعيان، دون أن ينسى ضمّ أمثاله من رفاق السّوء. ليشاركوه (نصره( وأفراحه. كما بدت الشام بأبهى مظاهر الزينة والفرح

أدخل الأسرى إلى مجلس يزيد، وحينما وضعت الرؤوس الشريفة بين يديه أنشد:

نفلّق هاماً من رجالٍ أعزّةٍ

علينا وقد كانوا أعقّ وأظلما

ثم التفت إلى زين العابدين وقال: أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سلطاني، فصنع به الله ما قد رأيت. فقال الإمام:( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها، إنّ

٩٩

ذلك على الله يسير، لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحبّ كلّ مختالٍ فخور ) .

فأمر يزيد أحد أنصاره أن يصعد المنبر وينال من عليّ والحسن والحسينعليهم‌السلام ، ففعل ونال منهم، كما أثنى على معاوية، فقال له الإمام: ويلك أيّها المتكلّم، لقد اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النار. ثمّ التفت إلى الجلوس وقال:

(أيّها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى أنا أنا.). ولم يزل يقول أنا، ويعدّد على الحضور مآثر جدّيه رسول الله وأميرالمؤمنين، وأبيه أبي عبد الله الحسين، ويذكر ما جرى في طفّ كربلاء حتّى ضجّ الناس بالبكاء. وخشي يزيد أن ينتقض أهل الشام عليه فأمر المؤذّن أن يؤذّن ليقطع حديثه. فلمّا قال المؤذّن: الله اكبر قالعليه‌السلام : لا شيء أكبر من الله، ولمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله قال الإمامعليه‌السلام : شهد بها لحمي ودمي وبشري

١٠٠

وشعري، ولمّا قال: أشهد أنّ محمداً رسول الله، التفت الإمام إلى يزيد وقال: محمد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت. وإن زعمت أنّه جدّي فلم قتلت عترته ؟

أسقط في يد يزيد، ورأى أنّ خير ما يفعله هو التعجيل بترحيل الأسرى إلى المدينة، تداركاً لغضبة أهل الشام.

في المدينة

وسيقت بقيّة الحسين نحو المدينة، لكنّ القافلة انعطفت في طريقها نحو كربلاء، ونزل زين العابدين وزينب الكبرىعليهما‌السلام مرّةً ثانيةً في أرض الكرب والبلاء، ونثرا على تربة الحسين دموع الألم وأنّات التّوجّع.

منذ ذلك اليوم، وعلى مدى الأزمان، وما بقيت الأرض والناس، ستبقى صروح العبادة مرتفعةً بجلالٍ وشموخٍ في هذا المكان، تروي للنّاس قصّة أكرم شهادةٍ، وتحكي لهم قصّة أروع ثورة على الظلم، ما بقيت العصور وكرّت الدّهور.

١٠١

تابعت القافلة مسيرها نحو المدينة، مدينة الرسول، فخرجت جموع أهلها، كبيرهم وصغيرهم لاستقبالهم، يذرفون دموع الحزن لما حّل بأهل بيت رسولهم، ويسكبون دموع الندم لسوء تفريطهم وتقصيرهم في حقّ العترة الطاهرة. وازدحموا حول الإمام يعزّونه بأبيه. فوقف بينهم وقال: الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، بارئ الخلق أجمعين أيّها القوم، إنّ الله وله الحمد - ابتلانا بمصائب جليلةٍ، وثلمةٍ في الإسلام عظيمةٍ؛ قتل أبو عبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السّنان، وهذه الرّزيّة التي لا مثلها رزيّة أيّها الناس، أصبحنا مطرودين مشرّدين من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمةٍ في الإسلام ثلمناها والله لو أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تقدّم إليهم في قتالنا، كما تقدّم إليهم في الوصاية بنا، لما زادوا على ما فعلوا بنا؛ فإنّا لله وإنا إليه راجعون فعند الله نحتسب ما أصابنا وما بلغ منّا، إنّه عزيز ذو انتقامٍ.

فأثار خطابه الأسى والحزن في نفوس تلك

١٠٢

الجماهير، وامتلأ المكان بالبكاء والعويل، وأحسّ المسلمون بمرارة تلك الصدمة العنيفة، التي أصابت الإسلام في الصميم، وبدأت تعتمل في أوصالهم روح الثورة ونذر الانتقام.

أمّا العقيلة زينبعليها‌السلام ، فكانت تردّد تلك المأساة الرّهيبة، فتشحن النفوس بالحقد على الظالمين، وتلهب فيها نار الثورة على يزيد وحكومته الجائرة.

اندلاع الثورات

نعم، فقد كانت فاجعة كربلاء صدمةً عنيفةً، أيقظت الغافلين من غفلتهم وألهبت المشاعر الخامدة وفجّرت ثورةً تلو أخرى في وجوه الطغاة؛ فلم تمض سنة على واقعة الطّف، حتى اندلعت الثورة في مدينة الرسول، واندفع الناس يهاجمون الأمويّين وأعوانهم، بعد أن خلعوا بيعة يزيد وطردوا عامله عليها، ولما بلغ يزيد ما فعلوه أرسل إليهم جيشاً بقيادة الجزّار مسلم بن عقبة. فأعمل فيهم السيف وقتل منهم خلقاً كثيراً، في موقعةٍ شهيرةٍ تدعى وقعة الحرّة، ثمّ أباح

١٠٣

مدينة الرسول لجنوده ثلاثة أيام، فنهبوها واستباحوا الحرمات وهتكوا الأعراض، حتّى نزل أهل المدينة على أمره. وبايعوا على أن يكونوا عبيداً ليزيد، وهكذا فقد دفعوا ثمن تقصيرهم وتخاذلهم عن الجهاد مع الحسين حين دعاهم إليه.

كما اندلعت ثورة في الحجاز يقودها عبد الله بن الزبير. هذا الإنسان الميّال إلى العلوّ في الأرض، والذي بقي سنين طويلةً يتحيّن الفرص للقفز إلى كرسيّ الخلافة، فواتته الفرصة الآن. فقام يرفع راية أهل البيت ويطالب بدم الحسين زوراً وكذباً يخفي وراءه أطماعه. لأنّ عداوته لأهل البيت لا تحتاج إلى بيانٍ.

استمدّ عبد الله بن الزبير جرأته من الثّورات المتعدّدة، التي أعقبت الواحدة منها الأخرى في وجه حكم يزيد، وجهّز جيشاً واجه به قوّات السلطة في معركة طاحنةٍ، راح ضحيّتها عدد كبير من القتلى من الطرفين، ودارت بالقرب من مكّة، التي قذفها جند يزيد بالمنجنيق، وقبل أن تحسم المعركة لصالح أحد الطرفين المتقاتلين، ورد نبأ هلاك الطاغية يزيد، وكان

١٠٤

لهذا النّبأ أثره السريع، حيث انسحب جيش الحكم، وضمن ابن الزبير السلامة، ولكن إلى حين حيث لاقى حتفه فيما بعد على يد الحجّاج السّفّاح، في عهد عبد الملك بن مروان.

ومن الثورات التي اشتعلت بتأثير واقعة كربلاء، ثورة التوّابين في الكوفة سنة ٦٥ للهجرة. وانتشرت إلى البصرة والمدائن، وسمّيت بهذا الاسم نسبةً إلى جماعةٍ من أهل الكوفة، ندموا ندماً شديداً على تقاعسهم عن نصرة سيّد الشهداء، بعد أن دعوه للقدوم إليهم، وقد أعلنوا توبتهم، وكانت توبةً نصوحاً، ولذا عرفوا بالتّوّابين. وكان يقودهم سليمان بن صردٍ الخزاعيّ. ويروى أنّ تعدادهم بلغ ستّة عشر ألفاً.

خرج التّوابون من الكوفة إلى قبر الحسينعليه‌السلام ، وقد لبسوا أكفانهم، وأخذوا على أنفسهم عهداً بألاّ يعودوا إلى بيوتهم حتّى ينتقموا لمقتل الحسين أو يقتلوا تكفيراً عن تقصيرهم. وردّدت جنبات الكوفة صيحاتهم (يا لثارات الحسين) وتردّدت أصداؤها في كلّ مكانٍ. وحين بلغوا القبر الشريف صاحوا باكين

١٠٥

نادمين وأقاموا عنده يوماً وليلةً، ثم غادروا القبر متّجهين إلى الشام، وهم يتلون الآية الكريمة:( فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم، إنّه هو التّواب الرحيم ) . والتقوا في طريقهم بجيش السلطة يقوده الطاغية عبيد الله بن زياد، واندفعوا يقاتلون ببسالة فائقة، وكادوا يقضون على ابن زياد لولا المدد الذي وصل إليه، لكنّهم ظلّوا يقاتلون أيّاماً حتى أبيدوا عن آخرهم.

وهكذا مضى التّوّابون شهداء الندم والتوبة، وتركوا الندم وراءهم ميراثاً يصلي بناره المتخاذلين جيلاً بعد جيل.

ثورة المختار

زاد موت يزيد من تفجّر الثّورات ضدّ الحكم الأمويّ، فاشتعلت ثورة المختار بن أبي عبيد الثقفيّ في الكوفة أيضاً سنة ٦٦ للهجرة.

خرج المختار في الكوفة، ودعا الناس للطلب بثأر الحسينعليه‌السلام ، فمال إليه الناس، واستولى على بيت المال فوزّع ما فيه من الأموال على من انضمّ إلى

١٠٦

حركته، فاستتبّ له الأمر في الكوفة، وحاول تقوية مركزه فكتب إلى الإمام زين العابدينعليه‌السلام يدعوه إلى تأييده ويعرض عليه البيعة، ويروى أنّ الإمام تجاهل دعوته، لأنّ تحرّك المختار لم يكن خالصاً من المصالح الشخصيّة، ولمّا يئس المختار من الإمام كتب إلى عمّه محمد بن الحنفيّة(١) ، وأشاع بين الناس كذباً أنّ محمد بن الحنفيّة هو قائم آل محمدٍ، وأنّه يدعو إليه، فخدع بعض الناس بهذه الأكاذيب. ومن هنا ظهرت الفرقة الكيسانيّة إلى الوجود.

إنّه عزيز ذو انتقامٍ

وعلى أيّ حالٍ، فلقد تتّبع المختار قتلة الحسينعليه‌السلام ، والمشتركين في حربه، وعلى الأخصّ قادتهم كعمر بن سعدٍ وغيره، فلم يترك أحداً منهم إلاّ ونكّل به، وكان يصنع بهم مثل ما صنعوه مع الحسين وأصحابه، وكان المختار بحقّ عدوّاً عنيداً للأمويّين. وقد ظفر أخيراً بعبيد الله بن زيادٍ فقطع رأسه وأرسله مع

____________________

(١) محمد بن الحنفيّة هو أحد أبناء الإمام عليّعليه‌السلام ، وهو يعرف باسم أمّه (الحنفيّة).

١٠٧

رأس عمر بن سعدٍ، بالإضافة إلى هدايا كثيرةً بينها جارية إلى الإمام زين العابدين في المدينة.

ما إن رأى الإمام الرأسين حتى خرّ ساحداً شكراً لله تعالى وقال: الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي، وجزى الله المختار خيراً. وقبل الجارية والهدايا، وقد أنجبت له تلك الجارية ولداً هو (زيد بن عليّ) الثّائر الشهيد. وكان زيد مجاهداً صادقاً، قام لصون دين الله من التّحريف. فحمل رسالة آبائه، وناضل وجاهد، حتّى قتل على منهاج المجاهدين في سبيل الله.

أخلاقه من أخلاق جدّيه محمد وعليّ

كان الإمام زين العابدينعليه‌السلام عالماً فقيهاً، ذا اطّلاع واسع على أمور الدين وعلوم القرآن الكريم، وكان جواداً سخيّاً كما كان ورعاً تقيّاً، ذا مهابةٍ ووقارٍ، ويروى أنّه غادر يوماً مجلساً لعمر بن عبد العزيز. فقال عمر لمن حوله: من أشرف الناس؟ أجابه بعض المتزلّفين: أنتم يا أميرالمؤمنين، فقال: كلاّ، أشرف الناس هذا القائم من عندي آنفاً. وهذا

١٠٨

يدلّ على ما كان يتمتّع بهعليه‌السلام من مكانةٍ رفيعةٍ واحترام كبير. ويروى عن سماحته وسموّ خلقه ما جرى له مع مروان بن الحكم ألدّ أعداء أهل البيت، وهو من أشار على الوليد عامل يزيد على المدينة بقتل الحسينعليه‌السلام ، وهو من شمت بمقتلهعليه‌السلام ، وهو من انضمّ إلى الناكثين في صفين والبصرة، ومع ذلك فمروان هذا لم يجد من يحمي عياله ونساءه غير زين العابدينعليه‌السلام ، وذلك يوم ثار أهل المدينة ضدّ الأمويّين فضمّهمعليه‌السلام إلى عياله، وعاملهم بما كان يعامل به أهله وعياله. وليس هذا غريباً على من اجتباهم الله وخصّهم بالكرامة والعصمة. وإنّ أخلاق الإمام زين العابدين من أخلاق جدّيه محمد رسول الله وعليّ أميرالمؤمنين عليهم أفضل الصلاة والسلام. ألم يعف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن رؤوس الشّرك والنفاق بعد أن ظفر بهم، وقال لهم قولته الشّهيرة: اذهبوا فأنتم الطّلقاء؟ ألم يعف أميرالمؤمنين عن مروان نفسه، وقد قاد الجيوش لحربه في البصرة؟ ألم يعف عنه بعد أن وقع أسيراً في قبضته، وتركه مع علمه بأنّه سينضمّ إلى معاوية ويحاربه في صفّين؟ وقد فعل؟ إلاّ إنّها

١٠٩

السّماحة الهاشميّة.

أمّا عن سخائه وجوده فيروى أنّ بيوتاً في المدينة كانت تعيش على صدقات الإمامعليه‌السلام ولا تدري من أين تعيش. فلمّا ماتعليه‌السلام فقدوا ما كان يأتيهم، فعلموا بأنّه هو الذي كان يعيلهم وقالوا: ما فقدنا صدقة السرّ حتى فقدنا عليّ بن الحسين زين العابدين.

الصحيفة السجادية ورسالة الحقوق

وأمّا بحار علمهعليه‌السلام فعميقة بلا قرار، وحيث لم يتسنّ له أن يرتقي المنابر ويقف في المجتمعات لإرشاد الناس إلى ما يصلحهم من أخلاق الإسلام وآدابه، فقد استخدم أسلوب الوعظ والإرشاد في حوارٍ ومناجاة مع الله سبحانه، يستعطفه ويمجّده في ستين دعاءً عرفت (بالصحيفة السجّاديّة)، رواها عنه والده الإمام الباقرعليه‌السلام وزيد بن عليّ وغيرهما من الثّقات، ولا تزال إلى يومنا هذا يتداولها المؤمنون ويواظبون على قراءتها. وهي أدعية شاملة حافلة بآداب الإسلام وأخلاقه، وبكلّ ما يقرّب المؤمن من الله سبحانه. كما وضععليه‌السلام رسالةً لأصحابه وشيعته تتضمّن ما يجب عليهم من واجباتٍ وما يجب

١١٠

لهم من حقوقٍ، وتشمل خميس مادّةً في هذا الموضوع، تتناول الأخ والجار والصديق والزوج والحاكم وغيرهم وقد عرفت (برسالة الحقوق)، رواها عنه العديد من الثّقات الأسناد. إلى ما هنالك من كلماتٍ قصارٍ ووصايا وأحاديث رويت عنهعليه‌السلام .

لا عجب في كلّ ما تقدّم، فزين العابدينعليه‌السلام ، هو رابع الأئمة الأطهار المجتبين، ورثة العلم عن رسول ربّ العالمين، مشاعل نورٍ تضيء للأجيال طريقها إلى الخير والصلاح، فأحر بنا أن ننهج إلى الجهاد، ونسلك مسالكهم في التّعامل مع طواغيت العصر. فقد جاهدعليه‌السلام بيده مع جدّه وأبيه، وجاهد بلسانه عند ما استدعت الظّروف ذلك، وصدق رسول الله إذ أكّد أنّ عترته هي مع القرآن والقرآن معها، وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض.

١١١

الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

الاسم: الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

اسم الأب: الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام

اسم الأم: فاطمة

تاريخ الولادة: أول رجب سنة ٥٦ للهجرة

محل الولادة: المدينة

تاريخ الاستشهاد: ٧ ذي الحجة سنة ١١٤ للهجرة

محل الاستشهاد: المدينة

محل الدفن: المدينة (البقيع)

ثمرة الشجرة المباركة

باسمه تعالى

كان للإمام الحسنعليه‌السلام بنت اسمها فاطمة. وكانت تستحقّ حمل هذاالاسم الكريم عن جدارةٍ، فهي تقيّة طاهرة، فاضلة عابدة ، زاهدة صالحة، نشأت في بيتٍ كريمٍ، وتلقّت علوم القرآن الكريم والمعارف الإسلامية في بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

اختار الإمام الحسينعليه‌السلام فاطمة ابنة أخيه، زوجة لابنه عليّعليه‌السلام ، وعاشت فاطمة الثانية مع عليّ الثاني حياة طيّبةً طاهرةً، وأنجبا مولوداً طاهراً عفيفاً أسموه محمداً، ويعرف باسم محمد الباقر، أي الذي يبقر العلوم ويشقّها ويوضّحها ويحلّ ألغازها. ويروى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي أسماه بالباقر، قبل ولادته، مستشفّاً طوايا الغيب. وكان الباقرعليه‌السلام شبيهاً إلى حدّ بعيدٍ بجدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولذلك كان يدعى بـ (شبيه رسول الله).

١١٢

طفولة الإمام وشريط الأحداث

حين قدم الإمام الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء، صحب معه أبناءه وأهله، ومن بينهم زين العابدين وفاطمة وطفلهما محمدعليهم‌السلام .

كان الباقر يبلغ الرابعة من العمر، وفي طفولته هذه رأي بأم عينيه ما جرى في كربلاء، رأى مقتل جدّه الحسين، ورأى الأصحاب والأهل يتساقطون على الثرى، رأى الدماء والويلات، رأى كيف سيق مع من تبقّى من أهله أسرى إلى الكوفة والشام، رأى رأس جدّه يرفع على سنان الرمح. رأى أعياد وأفراح الناس، رأى طريقة الطاغية يزيد في معاملة أهل بيت الرسول. وكلّ ما قيل هنا وهناك وهنالك سمعه وفهمه ووعاه. وهكذا بدأت طفولتهعليه‌السلام ، وفي غمرة هذا الجحيم من الأحداث المتوالية، بدأ يتلقّى علومه على يد أبيه.

أمّا الحكم الأموي. فقد عانىعليه‌السلام منه الكثير. فقد عاصر حكم يزيد، وشهد حكم عبد الملك والوليد وهشام ابنيه، كما رأى مسلك

١١٣

الحجّاج ابن يوسف، هذا الذئب من ذئاب جهنم، رأى الحصار الذي فرض على أبيه الجليل، رأى كيف كان الناس يتحرّكون بكامل حرّيتهم؛ فيقولون ما يشاؤون ويكتبون ما يشاؤون، إلاّ أهل بيت الرسول، فالحرّيّة محظورة عليهم، والناس لا يجرؤون على الاقتراب من بيت الإمام، أو سؤاله عن أيّ مسألة، دينيةٍ كانت أم غير ذلك، لا لشيءٍ؛ إلاّ لأنّ زين العابدين هو ابن الحسين وحفيد علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

ورغم هذا التضييق الشديد فقد كان هناك رجال صدقٍ، لا يأبهون لأوامر الحكّام، ويحضرون للقائهعليه‌السلام ، وكان جابر بن عبد الله الأنصاري أحد هؤلاء، وجابر هو آخر من بقي من أصحاب الرسول في تلك الأيام، وقد أصبح شيخاً طاعناً في السن.

سلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

كان جابر حين يجلس في مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يردّد: يا باقر العلم، يا باقر العلم. وكان أهل المدينة إذا سمعوه يردّد هذا القول، يتعجّبون ويقولون: إنّ

١١٤

جابراً يهجر (أي يهذي بأقوالٍ غير مفهومةٍ). فكان يجيبهم: والله ما أهجر، ولكنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (إنك ستدرك رجلاً منّي، اسمه اسمي، وشمائله شمائلي، يبقر العلم بقراً).

فذاك ما دعاني إلى ما أقول.

كان جابر ذات يوم في بعض طرق المدينة، فمرّ به غلام، فلمّا رآه جابر قال: يا غلام أقبل، فأقبل، ثمّ قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال جابر: شمائل رسول الله، والذي نفسي بيده. يا غلام ما اسمك؟ قال: اسمي محمد بن علي بن الحسين. فقام جابر يقبّل رأسه ويقول: بأبي أنت وأمي، أبوك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرئك السلام، فقال محمد: وعلى رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته.

ثم رجع محمد إلى أبيه مذعوراً فأخبره الخبر، فقال له: يا بنيّ، قد فعلها جابر؟ قال: نعم، قال: الزم بيتك يا بنيّ.

ذلك أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام خاف على ولده، لأنّ الحكومة الأمويّة كانت قد فرضت رقابةً شديدةً على الإمام وأهله، فخشيعليه‌السلام أن ينالوه بسوءٍ.

١١٥

وفيما بعد كان جابر يلتقي ابن زين العابدين، ويتبادل معه الحديث، وقد أدرك أنّ علوم ومعارف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أودعت عند هذا الغلام. فقال له يوماً: أي بنيّ، إنّك ستعلّم الناس أمور الدين، وستحلّ مشاكل العلوم عند الباحثين، وتردّ على أسئلة السائلين، يابن عليّ بن الحسين بن أبي طالب، إنّك (باقر العلوم) إنّك من الذين أوتوا العلم صغاراً، وقال فيهم الرحمن سبحانه:( وآتيناه الحكم صبيّاً ) .

كان قد مضى على هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ما يقارب المئة عام، حين ودّع الإمام زين العابدين الحياة، بعد أن أوصى لابنه محمد بالإمامة، وكانت سنّ محمدٍعليه‌السلام تقارب الأربعين عاماً.

عصر الإمامعليه‌السلام وشريط الأحداث

خلال ولاية الإمام الباقرعليه‌السلام ، تعاقب على حكم العالم الإسلامي كلّ من الوليد وسليمان، ابني عبد الملك، ثمّ عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد وهشام ابنا عبد الملك أيضاً. وكانوا إذا زار أحدهم المدينة، يحضرون للقاء الإمام الباقرعليه‌السلام ، مراعاةً

١١٦

لقدره ومكانته بين المسلمين، كما كانوا يوجّهون له الدّعوات أحياناً للحضور إلى دمشق، وكانت غايتهم من ذلك إبعاده عن المدينة، فوجوده فيها كان يسبّب لهم القلق. ويخشون تأثيره على الناس. خاصةً وأنّ الحكم الأمويّ في تلك الفترة كان يميل إلى الضعف، وكانت تقوم جماعات في نواح وأطراف مختلفةٍ من البلاد تنازع الأمويّين وتخاصمهم. الأمر الذي خفّف الضغط عن الإمامعليه‌السلام ، وأتاح للناس حرّيّة أكبر في زيارته والجلوس إليه والتزوّد من علومه ومعارفه. واستطاع أن يعقد المجالس كلّ صباح، ويقدّم فيها لتلاميذه شتّى أنواع العلوم والتربية الدينية. لهذا فإنّ الروايات التي وصلتنا عنه كثيرة جداً، وقد تقدّمت العلوم والمعارف في عصره حتى سمّي بالعصر الذهبيّ.

كما كان عصره، من ناحية أخرى، عصر يقظةٍ في صفوف المسلمين، وكان الناس قد أدركوا - بعد خمسين سنةً من واقعة كربلاء - أنّ الأموييّن يحكمون باسم الإسلام زوراً وبهتاناً، وأنّ مسلكهم كان بعيداً كلّ البعد عن الإسلام. وأنّ الرّجال العظام الذين

١١٧

قدّموا أرواحهم في سبيل توعية المسلمين وتقويم الانحراف، قد تركوا لهم دروساً بليغة واضحة المدلول، فقام المجاهدون في كلّ مكان، يرفعون لواء الثورة على الظلم والفساد، ومشعل ثورة كربلاء ينير لهم الطريق.

وفي هذا النطاق أعلن كثير من العلويّين الثورة، لكنّ ثوراتهم فشلت ولم تثمر، وحتى ثورة زيد بن عليّ، أخي الإمام الباقر، كان مصيرها الفشل، فقد تفرّق عنه الناس، وتركوه مع نفر من أصحابه الصادقين، يقارعون الطغاة ببسالة وإيمانٍ، حتى غلبتهم الكثرة، وقتل زيد وأصحابه. كان زيد رحمه الله ورعاً تقيّاً. وكان لمقتله وقع أليم على أخيه الإمام الباقرعليه‌السلام وأهله جميعاً.

وعلي أيّ حالٍ، فإلى جانب ما رآه الإمام الباقرعليه‌السلام من طغيان الأمويّين، شهد كذلك قيام طغاة بني العباس، وكما رفع أولئك لواء الإسلام كذباً، رفع هؤلاء لواء أهل البيت زوراً وبهتاناً، وصار أبو مسلمٍ وأبو سلمة وسفاح بني العباسا (مجاهدين ثائرين).

١١٨

حين تولّى عمر بن عبد العزيز الحكم، حاول إصلاح أمور أفسدها من سبقه من حكّام بني أميّة، فأبطل لعن أميرالمؤمنينعليه‌السلام على المنابر. تلك الوصمة السوداء في تاريخ الحكم الأمويّ، كما أمر بإعادة (مزرعة فدك) إلى أهل البيت، بعد أن انتزعت منهم إلى بيت المال، رغم معرفة الجميع بالحقيقة، وهي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد أعطى هذه المزرعة الصغيرة نحلةً لابنته الزهراءعليها‌السلام . وهذا التصرّف السليم من جانب عمر بن عبد العزيز يلقي الضوء على وجهٍ من وجوه الإجحاف الكثير الذي لحق بآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من بعده. كما أنّه من جانب آخر، أمر بإعادة تدوين الحديث الشريف، بعد أن حضر تدوينه لمدّة مئة عام كاملة، لكنّ عمر بن عبد العزيز كسر هذا الطوق عن أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

مع هشام بن عبد الملك

وخلال حكم هشام بن عبد الملك. ونتيجةً للتضييق على آل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقف جعفر بن محمد، الابن الأكبر للإمام الباقرعليهما‌السلام ، أمام

١١٩

الألوف المؤلفة من الرجال والنساء، في رحاب بيت الله، وكان فيهم مسلمة بن عبد الملك أخو هشامٍ وقف خطيباً معرّفاً بأبيه وبنفسه وقال:

(الحمد لله الذي بعث محمداً بالحقّ نبيّاً، وأكرمنا به، فنحن صفوة الله في خلقه، وخيرته من عباده، فالسعيد من تبعنا، والشقي من عادانا وخالفنا.).

تردّدت كلمات حفيد رسول الله بين الناس، فرفّت القلوب لمعانيها، ولهجت الألسن بمراميها، والتفّت الجموع حول قائلها وأبيه. صلوات الله عليكم يا أهل بيت رسول الله، فأنتم بالحقّ صفوة الله في خلقه، وأنتم خيرته من عباده.

رأى مسلمة بن عبد الملك ما جرى وسمع ما قيل، فراح والحقد يفري أحشاءه، ونقل إلى أخيه كلّ ما رأى وما سمع.

غضب هشام من أقوال جعفر بن محمد، وآلمه أنّ يافعاً حدث السّن يجرؤ على الوقوف أمام الناس، يدعو لنفسه ولأبيه وأهله، ويدّعي أنّهم خلفاء الله في أرضه عجباً لئن كان جعفر هذا وأبوه خليفتين لله، فماذا نكون نحن إذا؟

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247