الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد10%

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 563

الجزء ١ المقدمة الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 563 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182048 / تحميل: 9886
الحجم الحجم الحجم
الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الجاري يَشربهُ اليهودُ والنّصارىَ والمجوسُ وتَمرغُ فيه خنازيرُ السوادِ(١) وكلابُه، وها هم قد صرعهم العطشُ، بئسَ ما خلفتم محمّداً في ذرِّيّتهِ، لا سقاكم اللّهُ يومَ الظّمأ الأكبرِ. فحملَ عليه رجالٌ يَرمونَ بالنَّبلِ، فأَقبلَ حتّى وقفَ أَمام الحسينِعليه‌السلام .

ونادى عمرُ بنُ سعدٍ: يا ذُوَيْدُ(٢) ، أَدْنِ رايتَكَ؛ ‎ فأَدناها ثمّ وضعَ سهمَه في كَبدِ قوسِه ثمّ رمى وقالَ: اشهدُوا أَنِّي أَوّلُ من رمى، ثمّ ارتمى النّاسُ وتبارزوا، فبرزَ يسارٌ مولى زيادِ بنِ أَبي سُفيانَ، وبرزَ إِليه عبدُاللّه بن عُميرٍ، فقالَ له يسارٌ: مَنْ أَنتَّ؟ فانتسبَ له، فقالَ: لستُ أعرفُكَ، لِيَخْرُجْ إِليَّ زُهَيرَبنُ القَيْنِ أَو حَبيبُ بن مُظاهِرٍ، فقالَ له عبدُاللّه بن عُمَيرٍ: يا ابنَ الفاعلةِ، وبكَ رغبةٌ عن مُبارَزَةِ أحدٍ منَ النّاسِ؟! ثمّ شدَّ عليه فضربَه بسيفِه حتّى بَردَ، فإِنّه لَمُشتغلٌ بضربه إِذ شدَّ عليه سالمٌ مولى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ، فصاحُوا به: قدْ رَهقَكَ العبَدُ، فلم يَشعرْحتّى غشيَه فبدرَه ضربةً اتّقاها ابنُ عميرٍ بكفِّه(٣) اليُسرى فاطارتْ أَصابعَ كفِّه، ثمّ شدّ عليه فضربَه حتّى قتله، وأَقبلَ وقد قتلَهما جميعاً ًوهو يرتجزُ ويقولُ:

إِنْ تُنْكِرُوْنيْ فأَنَا ابْنُ كَلْبِ

إِنِّي امْرُؤٌ ذُوْ مِرَّةٍ وعَضْب(٤)

وَلَسْتُ بالْخَوَّارِ عِنْدَ النَّكْبِ

__________________

(١) في «ش» البَواد، وما في المتن من «م» وهامش «ش».

(٢) انظر ص ٩٦ هامش (١).

(٣) في «م» وهامش «ش»: بيده.

(٤) ورد في «ش» و «م»: عَضب، وهو السيف القاطع. «الصحاح - عضب - ١ / ١٨٣ ».

وفي هامش «م» فَسرَ قوله: «ذو مِرَّة وعَضب » بقوله: أي القوة والشدة، ثم ذيّله بقوله: قال حسان:

دعَوا التخاجؤ وامشوا مشيةً سُجُحاً

إن الرجال ذوو عَصب وتذكير

 

١٠١

وحَمَل عمرُو بنُ الحجّاجِ على ميمنةِ أصحاب الحسينِعليه‌السلام فيمن كانَ معَه من أَهلِ الكوفةِ، فلمّا دنا من الحسَينِعليه‌السلام جَثَوْا له على الرُّكَب وأَشْرَعوا الرِّماحَ نحوَهم، فلم تُقدِمْ خيلهُم على الرِّماحِ، فذهَبتِ الخيلُ لِترجعَ فرشقَهم أَصحابُ الحسينِعليه‌السلام بالنَّبلِ فصرَعوا منهم رجالاً وجرَحوا منهم آخرينَ.

وجاء رجل من بني تَميم يُقالُ له: عبدُاللّهِ بن حَوْزةَ، فأَقدمَ على عسكرِ الحسينِعليه‌السلام فناداه القومُ: إِلى أَينَ ثكلتْكَ أُمُّكَ؟! فقالَ: إِنِّي أَقدمُ على ربِّ رحيمٍ وشفيعٍ مُطاعٍ، فقالَ الحسينُعليه‌السلام لأصحابه: «مَنْ هَذا؟» قيلَ: هذا ابنُ حَوْزةَ، قالَ: «اللّهمَّ حُزْهُ إِلى النّارِ» فاضطرَبتْ به فرسُه في جَدْوَلٍ فوقعَ وَتعلّقتْ رِجْله اليُسرى بالرِّكاب وارتفعتِ اليُمنى، فشدَّ عليه مسلمُ بنُ عَوْسَجَةَ فضربَ رجلَه اليًمنىَ فطارتْ، وعَدا به فرسُه يَضربُ برأسِه كلَّ حَجَرٍ وكلَّ شجرٍ حتّى ماتَ وعجّلَ اللّهُ بروحِه إِلى النّارِ.

ونشبَ القتالُ فقُتِلَ منَ الجميعِ جماعةٌ. وحمَلَ الحرُّ بنُ يزيدَ على أَصحاب عمربن سعدٍ وهويتَمثّلُ بقولِ عَنترةَ:

مَا زِلْتُ أرْمِيهِمْ بِغُرَّةِ وَجْهِهِ

وَلَبَانِه(١) حَتَّى تَسَربَلَ بِالدَّمِ

__________________

وهذا يدل على انه بالصاد لا بالضاد كما في جميع المصادر، انظر في ذلك ديوان حسان: ٢١٩ ومصادره ؛ كما ان العصب يتضمن معنى الشدة.

ومما يجدر بالملاحظة انه في نسخة (م ) كتبت تحت عضب التي في الرجز صاد مقتطعة وكذا تحت عصب من بيت حسان في الحاشية.

(١) اللبان: الصدر «الصحاح - لبن - ٦: ٢١٩٣».

١٠٢

فبرزَ إِليه رجلٌ من بَلحارث يقالُ له: يزيدُ بنُ سُفيانَ، فما لبّثه الحرًّ حتّى قتلَه، وبرزَنافعُ بنُ هِلالٍ وهو يقولُ:

انا ابن هلال البجلي(١)

أنَا عَلَى دِيْنِ عَلِي

فبرزَ إِليه مُزاحِمُ بنُ حُرَيْثٍ فقالَ له: أنا على دينِ عُثمانَ، فقالَ له نافعٌ: أَنتَ على دينِ شيطانٍ، وحملَ عليه فقتلَه.

فصاحَ عمرُو بنُ الحجّاجِ بالنّاسِ: يا حمقى، أَتدرونَ من تقاتلونَ؟ تقاتلونَ فرُسانَ أهلِ المصرِ، وتقاتلونَ قوماً مُستميتِينَ، لا يَبرز إِليهم منكم أحدٌ، فإِنّهم قليلٌ وقلّما يَبْقَوْن، واللّهِ لو لم تَرمُوهم إلاّ بالحجارةِ لَقتلتموهم ؛ فقالَ عمرُ بنُ سعدٍ: صدقتَ، الرّأيُ ما رأيت، فأرسِلْ في النّاسِ من يَعزِمُ(٢) عليهم ألاّ يُبارِزَ رجلٌ منكم رجلاً منهم.

ثمّ حملَ عمرُو بنُ الحجّاجِ في أَصحابِه على الحسينِعليه‌السلام من نحوِ الفراتِ فاضطربوا ساعةً، فصُرِعَ مسلمُ بن عَوْسَجةَ الأسديّ - رحمةُ اللهِّ عليه - وانصرفَ عمرٌو وأصحابُه، وانقطعتِ الغَبَرةُ فوجدوا مُسلماً صريعاً، فمشى إِليه الحسينُعليه‌السلام فإِذا به رَمَقٌ، فقالَ: « رحمَكَ اللّهُ يا مسلمُ( مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوْا تَبْدِيلاً ) (٣) » ودنا منه حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ فقالَ: عزَّ عليَّ مصرعكَ يا مسلمُ، أبشِرْ بالجنّةِ، فقالَ مسلمٌ قولاً ضعيفاً: بشّرَكَ اللهُّ بخيرٍ. فقالَ له حبيبٌ: لولا أنِّي أعلمُ أَنِّي في أثرِكَ من ساعتي هذه، لأَحببتُ

__________________

(١) لم يرد شطر البيت في نسخنا وإنما اثبتناه من نسخة البحار.

(٢) في «م» وهامش «ش»: من يعرض.

(٣) الاحزا ب ٣٣: ٢٣.

١٠٣

أن تُوَصِّيَني بكلِّ ما أهمَّكَ.

ثمّ تراجعَ القومُ إِلى الحسينِعليه‌السلام فحملَ شمرُ بنُ ذي الجوشنِ لعنَه اللّهُ على أهلِ الميسرةِ فثبتوا له فطاعَنوه، وحُمِلَ على الحسينِ وأصحابِه من كلِّ جانبِ، وقاتلَهم أصحابُ الحسينِ قتالاً شديداً، فأخذتْ خيلهُم تَحملُ وَانّما هي اثنان وثلاثونَ فارساً، فلا تحملُ على جانبٍ من خيلِ الكوفةِ إلاّكشفتْه.

فلمّا رأى ذلكَ عروةُ بنُ قيس - وهوعلى خيلِ أهلِ الكوفة - بعثَ إِلى عمر بن سعدٍ: أما ترى ما تلقى خيلي منذ اليوم من هذه العِدّةِ اليسيرةِ، ابعثْ إِليهم الرِّجالَ والرُّماةَ. فبعثَ عليهَم بالرُّماة ِ فعُقِرَ بالحرِّ بنِ يزيدَ فرسُه فنزلَ عنه وجعلَ يقولُ:

إِنْ تَعقِرُوْا بِيْ فأنَا ابْنُ الْحُرِّ

أشْجَعُ مِنْ ذِيْ لِبَدٍ(١) هِزبْرِ

 ويضربهُم بسيفِه وتكاثروا عليه فاشتركَ في قتِله أيّوبُ بنُ مُسَرِّحٍ ورجلٌ آخرٌ من فُرسانِ أهلِ الكوفةِ.

وقاتلَ أصحابُ الحسينِ بنِ عليّعليه‌السلام القومَ أشدَّ قتالٍ حتّى انتصفَ النّهارُ. فلمّا رأى الحصينَ بنُ نمَير - وكانَ على الرُّماةِ - صبرَ أصحاب الحسينِعليه‌السلام تقدّمَ إِلى أصحابه - وكانوا خمسمائةِ نابلٍ - أن يَرشُقوا أصحابَ الحسينِعليه‌السلام بالنَّبْلِ فرشقوهم، فلم يَلبثوا أن عقروا خيولَهم وجرحوا الرِّجالَ، وأرجلوهم. واشتدَّ القتالُ

__________________

(١) في هامش «ش» يقال للأسد: ذو اللِبَد وذو اللبدتين، واللبدة: ما اجتمع على قفا الأسد من الشعر.

١٠٤

بينَهم ساعةً، وجاءهم شمرُبنُ ذي الجوشن في أصحابه، فحملَ عليهم زُهَيرُ بنُ القَيْنِرحمه‌الله في عشرةِ رجالٍ من أَصحاب الحسينِ فكشفَهم(١) عنِ البيوتِ، وعطف عليهم شمرُ بنُ ذي الجَوشنِ فقتلَ منَ القوم وردَّ الباقينَ إِلى مواضعِهم ؛ وأَنشأَ زُهَيْرُ بن القَيْنِ يقولُ مُخاطِباً للحسينَِعليه‌السلام :

الْيَوْمَ نَلْقَى جَدَّكَ النَّبيَّا

وَحَسَنَا ًوَاْلمُرْتَضَى عَلِيَّا

 وَذَا الْجَنًاحَيْنِ الْفَتَى الْكَميّا

وكانَ القتلُ يبينُ في أَصحابِ الحسينعليه‌السلام لِقلّةِ عددِهم، ولا يبينُ في أصحاب عمر بن سعدٍ لكثرتِهم، واشتدَّ القتالُ والْتَحَمَ وكثُرَ القتلُ والجراحُ في أصَحاب أبي عبدِاللّهِ الحسينِعليه‌السلام إِلى أَن زالتِ الشّمسُ، فصلّى الحسَينُ بأصحابِه صلاةَ الخوفِ.

وتقدّمَ حنظلةُ بنُ سعدٍ الشِّباميّ بينَ يَدَيِ الحسينِعليه‌السلام فنادى أهلَ الكوفةِ: يا قوم إِنِّي أَخافُ عليكم مثلَ يوم الأحزاب، يا قوم إِنِّي أخافُ عليكم يومَ التّنادِ، يا قوم لا تقتلوا حسيناً فيُسْحِتكَم(٢) اللهُ بعذابٍ وقد خابَ منِ افترى؛ ثمّ تقدّمَ فقاتلَ حتّى قُتِلَرحمه‌الله .

وتقدّمَ بعدَه شَوْذَبٌ مولى شاكر فقالَ: السّلامُ عليكَ يا أبا عبدِاللّهِ ورحمةُ اللّهِ وبركاتُه، أستودِعُكَ اللّهَ وأسًترعيكَ ؛ ثمّ قاتلَ حتّى قُتِلَرحمه‌الله .

__________________

(١) في هامش «ش»: فكشفوهم.

(٢) يسحتكم: يهلككم ويستأصلكم «مجمع البحرين ٢: ٢٠٥».

١٠٥

وتقدّمَ عابسُ بنُ [أبي](١) شَبيبِ(٢) الشّاكري فسلّمَ على الحسينِعليه‌السلام وودّعَه وقاتلَ حتّى قُتِلَرحمه‌الله .

ولم يَزَلْ يتقدّم رجلٌ رجلٌ من أصحابه فيُقتَلُ، حتّى لم يَبْقَ معَ الحسينِعليه‌السلام إلاّ أهلُ بيتهِ خاَصّةً. فتقدّمَ ابنُه عليُّ بنُ الحسينِعليه‌السلام - وأُمّهُ ليلى بنتُ أبي مرّة(٣) بن عروة بن مسعود الثّقفيّ - وكانَ من أصبحِ النّاسِ وجهاً، وله يومئذٍ بضعَ عشرةَ سنةً، فشدَّ على النّاسِ وهو يقولَ:

أنَا عَليُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلي

نَحْنُ وَبَيْتِ اللهِّ أوْلـى بِالنَّبِي

تَاللهِّ لايَحْكُمُ فِيْنَا ابْنُ الدَّعِيَ

أضْرِبُ بِالسَّيْفِ أُحامِيْ عَنْ أبِيْ

 ضَرْبَ غلامٍ هَاشِمِيٍّ قُرَشِي

ففعلَ ذلكَ مِراراً وأهلُ الكوفةِ يَتَّقونَ قَتْلَه، فبَصُرَ به مُرّةُ بنُ مُنقِذٍ العبديّ فقالَ: عَلَيَّ آثامُ العرب إِن مرَّ بي يَفعلُ مثلَ ذلكَ إِن لم اُثْكِلْه أباه ؛ فمرَّ يشتدُّ(٤) علَى النّاسِ كما مرَّ في الأوّلِ، فاعترضَه مُرّةُ بنُ مُنقذٍ فطعنَه فَصُرعَ، واحتواه القومُ فقطّعوه بأسيافِهم، فجاءَ الحسينُعليه‌السلام حتّى وقفَ عليه فقالَ: «قتلَ اللهُّ قوماً قتلوكَ يا بُنَيَّ، ما أجرأهم على الرّحمنِ وعلى انتهاكِ حرمةِ الرّسولِ!‌» وانهملت عيناه بالدُّموعِ ثمّ قالَ: «على الدُّنيا بعدَك العفاء»

__________________

(١) ما بين المعقوفين اثبتناه من رجال الشيخ: ٧٨ / ٢٣، والطبري ٥: ٤٤٣، والكامل ٤: ٧٣.

(٢) في هامش « ش» حبيب.

(٣) في «ش» و «م»: أبي قرة، وسيأتي في باب ذكر ولد الحسينعليه‌السلام : أبي مرّة. وهو الموافق لما في المصادر.

(٤) في «م» وهامش «ش»: يُنْشِد.

١٠٦

وخرجتْ زينبُ أخُتُ الحسينِ مُسرِعةً تُنادي: يا أُخيّاه وابنَ أُخيّاه، وجاءَتْ حتّى أكبّتْ عليه، فأخذَ الحسينُ برأْسِها فردَّها إِلى الفسطاطِ، وأمرَ فتيانَه فقالَ: «احمِلوا أخاكم» فحملوه حتّى وضعوه بينَ يَدَيِ الفسطاطِ الّذي كانوا يُقاتلونَ أَمامَه.

ثمّ رمى رجلٌ من أصحاب عمر بن سعدٍ يُقالُ له: عَمرُو بنُ صَبِيْحٍ عبدَاللّه بن مسلم بنِ عقيلٍرحمه‌الله بسهمٍ، فوضعَ عبدُاللّهِ يدَه على جبهتِه يتّقيه، فأصابَ السّهمُ كفَّه ونفذَ إِلى جبهتِه فسمّرهَا به فلم يستطعْ تحريكَها، ثمّ انتحى عليه آخر ُبرمحهِ فطعنَه في قلبه فقتلَه.

وحملَ عبدُاللّه بن قُطبةَ الطّائيّ على عونِ بنِ عبداللهِ بن جعفرِ ابنِ أَبي طالبٍ رضيَ اللّهُ عنه فقتلَه.

وحملَ عامرُبنُ نَهْشَلٍ التّيميّ على محمّدِ بنِ عبدِاللّهِ بنِ جعفرِبنِ أَبي طالبٍ رضيَ اللّهُ عنه فقتلهَ.

وشدَّ عثمانُ بنُ خالدٍ الهَمْدانيّ على عبدِ الرّحمنِ بنِ عقيلِ بنِ أبي طالبٍ رضيَ اللّهُ عنه فقتلهَ.

قالَ حُمَيدَ بنُ مُسْلمٍ: فإنّا لَكذلكَ إِذ خرجَ علينا غلامٌ كأَنَّ وجهَه شِقَّةُ قمرٍ، في يدِه سيفٌ وعليه قَميصٌ وإزار ونعلانِ قدِ انقطعَ شِسْعُ إِحداهما، فقالَ لي عُمَر بنُ سعيدِ بنِ نُفيلٍ الأَزْديّ: واللّهِ لأشدَّنَّ عليه، فقلتُ: سبحانَ اللّهِ، وما تريدُ بذلكَ؟! دَعْه يكفيكه هؤلاءِ القومُ الّذينَ ما يُبقونَ على أحدٍ منهم ؛ فقالَ: واللّهِ لأشدَّنَّ عليه، فشدَّ عليه فما ولّى حتّى ضربَ رأسَه بالسّيفِ ففلقَه، ووقعَ

١٠٧

الغلامُ لوجهِه فقالَ: يا عمّاه! فجلّى(١) الحسينُعليه‌السلام كما يُجلِّي الصّقرُثمّ شدَّ شدّةَ ليثٍ أُغْضِبَ، فضربَ عُمَرَبنَ سعيدِ بني نُفيلٍ بالسّيفِ فاتّقاها بالسّاعدِ فأطنَّها(٢) من لَدُنِ المِرفقِ، فصاحَ صيحة سمعَها أهلُ العسكرِ، ثمّ تنحّى عنه الحسينُعليه‌السلام . وحملتْ خيلُ الكوفةِ لتسنقِذَهُ فتوطّأتْه بأرجُلِها حتّى ماتَ.

وانجلتِ الغبرةُ فرأيتُ الحسينَعليه‌السلام قائماً على رأْس الغلامِ وهو يَفحصُ برجلِه والحسينُ يَقولُ: «بعْداً لقومٍ قتلوكَ ومَنْ خَصْمُهُم يومَ القيامةِ فيكَ جدُّكَ» ثمّ قالَ: «عَزَّ - واللّهِ - على عمِّكَ أن تدعوَه فلا يجيبكَ، أو يجيبكَ فلا ينفعكَ، صوتٌ - واللّهِ - كثرَ واتروه وقلَّ ناصروه» ثمّ حملَه على صدرِه، فكأنِّي أنظرُ إِلى رِجْلَيِ الغلام تخطّانِ الأرضَ، فجاءَ به حتّى ألقاه معَ ابنهِ عليِّ بنِ الحسينَِ والقتلى من أهلِ بيتهِ، فسألْتُ عنه فقيلَ لي: هوالقاسمُ ابنُ الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍعليهم‌السلام .

ثمّ جلسَ الحسينُعليه‌السلام أمامَ الفُسطاطِ فاُتِيَ بابنِه عبدِاللهِ ابن الحسينِ وهو طفلٌ فأجلسَه في حجرِه، فرماه رجلٌ من بني أسد بسهمٍ فذبحَه، فتلقّى الحسينُعليه‌السلام دمَه، فلمّا ملأ كفَّه صبَّه في الأرضِ ثمّ قالَ: «رَبّ إِن تكنْ حبستَ عنّا النّصرَمنَ السّماءِ، فاجعلْ ذلكَ لما هوخيرٌ، وانتقِمْ لنا من هؤلاءِ القوم الظّالمينَ» ثمّ حملَه حتّى وضعَه معَ قتلى أهلِه.

__________________

(١) جلّى ببصره: اذا رمى به كما ينظر الصقر الى الصيد. «الصحاح - جلا - ٦: ٢٣٠٥».

(٢) في «م» وهامش «ش»: فقطعها.

١٠٨

ورمى عبدُاللهّ بن عُقْبةَ الغَنويّ أبا بكر بن الحسنِ بنِ عليِّ بن أبي طالبٍعليهم‌السلام فقتلَه.

فلمّا رأى العبّاسُ بنُ عليٍّ رحمة اللّهِ عليه كثرةَ القتلى في أهلِه قالَ لإخوته(١) من أُمِّه - وهم عبدُاللهِّ وجعفر وعُثمانُ - يا بَني أُمِّي، تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم للهِّ ولرسولهِ، فإِنّه لا ولدَ لكم. فتقدّمَ عبدُاللّهِ فقاتلَ قتالاً شديداً، فاختلفَ هو وهانئ بنُ ثُبَيتٍ الحَضْرميّ ضربتينِ فقتلَه هانئ لعنَه اللّهُ. وتقدّمَ بعدَه جعفرً بنُ عليٍّرحمه‌الله فقتلَه أيضاً هانئ. وتعمّدَ خوليُّ بنُ يزيدَ الأصبحيّ عثمانَ بنَ عليِّ رضيَ اللهُّ عنه وقد قامَ مقامَ إِخوته فرماه بسهمٍ فصرعَه، وشدَّ عليه رَجلٌ من بني دارم فاحتزَّ رأسَه.

وحملتِ الجماعة على الحسينِعليه‌السلام فغلبوه على عسكرِه، واشتدَّ به العطشُ، فركبَ المُسنّاةَ(٢) يريدُ الفراتَ وبينَ يديه العبّاسُ أخوه، فاعترضتْه خيل ابنِ سعدٍ وفيهم رجلٌ من بني دارم فقالَ لهم: ويلَكم حُولُوا بينَه وبينَ الفراتِ ولا تمكَّنوه منَ الماءِ، فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «اللّهمّ أظْمِئْه» فغَضِبَ الدّارميّ ورماه بسهمٍ فأثبتَه في حَنَكهِ، فانتزعَ الحسينُعليه‌السلام السّهمَ وبسطَ يدَه تحتَ حَنَكهِ فامتلأتْ راحتاه بالدَّم، فرمى به ثمّ قالَ: «اللّهمَّ إِنِّي أشكو إِليكَ ما يُفعلُ بابنِ بنتِ نبيِّك» ثمّ رجعَ إِلى مكانهِ وقدِ اشتدَّ به العطشُ. وأحاطَ القومُ بالعبّاسِ فاقتطعوه عنه، فجعلَ يُقاتلُهم وحدَه حتّى قُتِلَ

__________________

(١) في «ش»: لاخوانه، وصحَح في الهامش بـ: إِخوته.

(٢) المسناة: تراب عالٍ يحجز بين النهر والأرض الزراعية. «تاج العروس - سني - ١٠: ١٨٥ ».

١٠٩

 - رضوانُ اللّهِ عليه - وكانَ المتولِّي لقتلِه زيد بن وَرْقاءَ الحنفيّ وحَكِيم بن الطُّفَيلِ السِّنْبِسيّ بعدَ أن أُثخِنَ بالجراحِ فلم يستطعْ حراكاً.

ولمّا رجعَ الحسينُعليه‌السلام منَ المُسنّاةِ إِلى فسطاطِه تقدّمَ إِليه شمرُبنُ ذي الجوشنِ في جماعةٍ من أصحابه فاحاطَ به، فأسرعَ منهم رجلٌ يُقالُ له مالكُ بنُ النّسرِ الكِنديّ، فشَتمَ الحسينَ وضربَه على رأسِه بالسّيف، وكانَ عليه قلنسوةٌ فقطعَها حتّى وصلَ إِلى رأْسه فأدماه، فامتلأتَ القلنسوةُ دماً، فقالَ له الحسينُ: «لا أكلتَ بيَمينِكَ ولا شربتَ بها، وحشرَكَ اللّهُ معَ الظّالمينَ» ثمّ ألقى القلنسوةَ ودعا بخرقةٍ فشدَّ بها رأسَه واستدعى قلنسوةً أُخرى فلبسَها واعتمَّ عليها، ورجعَ عنه شمرُ بنُ ذي الجوشنِ ومن كانَ معَه إِلى مواضعِهم، فمكثَ هُنيهةً ثّم عادَ وعادُوا إِليه وأحاطُوا به.

فخرجَ إِليهم عبدُاللهّ بن الحسنِ بنِ عليٍّعليهما‌السلام - وهو غلامٌ لم يُراهِقْ - من عندِ النّساءِ يشتدٌُ حتّى وقفَ إِلى جنب الحسينِ فلحقتْه زينبُ بنتُ عليٍّعليهما‌السلام لتحبسه، فقالَ لها الحَسينُ: «احبسيه يا أُختي» فأَبى وامتنعَ عليها امتناعاً شديداً وقالَ: واللّهِ لا أفُارقُ عمِّي. وأهوى أَبجر بنُ كَعْبِ إِلى الحسينعليه‌السلام بالسّيف، فقالَ له الغلامُ: ويلَكَ يا ابنََ الخبيثةِ أتقتل عمِّي؟! فضربَه أبْجَرُ بالسّيفِ فاتّقاها الغلامُ بيدهِ فأطنَّها إِلى الجلدةِ فإِذا يده معلّقةٌ، ونادى الغلامُ: يا أُمّتاه! فأخذَه الحسينُعليه‌السلام فضمَّه إِليه وقالَ: «يا ابنَ أخي، اصبرْعلى ما نزلَ بكَ، واحتسِبْ في ذلكَ الخيرَ، فإِنّ اللهَّ يُلحقُكَ بآبائكَ الصّالحينَ».

ثمّ رفعَ الحسينُعليه‌السلام يدَه وقالَ: «اللّهمَّ إِن متّعتَهم إِلى

١١٠

حينٍ ففرِّقْهم فِرَقاً، واجعلْهم طَرَائقَ قدَداً، ولا تُرْضِ الولاةَ عنهم أبداً، فإِنّهم دَعَوْنا ليَنصُرونا، ثمّ عَدَوْا علينا فقتلونا».

وحملتِ الرّجّالةُ يميناً وشمالاً على من كانَ بقيَ معَ الحسينِ فقتلوهم حتّى لم يَبقَ معَه إلاّ ثلاثةُ نفر أو أربعةٌ، فلمّا رأى ذلكَ الحسينُ دعا بسراويلَ يمانيّةٍ يُلمَعُ فيها البصرُففَزَرَها(١) ثمّ لبسَها، وانّما فَزَرَها لكي لا يُسْلَبَها بعدَ قتلِه.

فلمّا قُتِلَ عَمَدَ أبجر بنُ كعبِ إِليه فسلبَه السّراويلَ وتركَه مُجَرَّداً، فكانتْ يدا أبْجر بن كعبِ بعدَ ذلَكَ تَيْبسانِ في الصّيفِ حتّى كأنّهما عُودَانِ، وتترطّبانِ في الشِّتاَءِ فتنضحانِ دماً وقيحاً إِلى أن أهلكَه اللهُ.

فلمّا لم يبقَ معَ الحسينِعليه‌السلام أَحدٌ إلاّ ثلاثةُ رهطٍ من أَهلهِ، أَقبلَ على القومِ يدفعهُم عن نفسِه والثلاثةُ يَحْمونَه، حتّى قُتِلَ الثلاثةُ وبقيَ وحدَه وقد أُثْخِنَ بالجراحِ في رأسِه وبدنِه، فجعلَ يُضارِبُهم بسيفِه وهم يتفرّقونَ عنه يميناً وشمالاً.

فقالَ حُمَيدُ بنُ مسلم: فواللّهِ ما رأَيْتُ مَكثوراً(٢) قطُّ قد قُتِلَ ولدُه وأَهلُ بيتِه وأَصحابُه أَربطَ جأْشاً ولا أَمضى جَناناً منهعليه‌السلام ، إِنْ كانت الرّجّالةُ لَتشدُّ عليه فيشدُّ عليها بسيفِه، فتنكشِفُ عن يمينهِ وشمالهِ انكشافَ المِعزى إِذا شدَّ فيها الذِّئبُ.

فلمّا رأَى ذلكَ شمرُ بنُ ذي الجوشنِ استدعى الفرسانَ فصاروا في ظهورِ الرّجّالةِ، وأَمرَ الرُّماةَ أَن يَرموه، فرشقوه بالسِّهام حتّى صارَ

__________________

(١) في هامش «ش» فزر الثوب: اذا مدّه حتى يتميز سداه من لحمته.

(٢) في هامش «ش» و «م» المكثور: الذي أحاط به الكثير.

١١١

كالقُنفُذِ فأَحجَمَ عنهم، فوقفوا بإِزائه، وخرجتْ أُختُه زينبُ إِلى باب الفسطاطِ فنادتْ عمرَبنِ سعدِ بن أبي وقّاصٍ: ويحَكَ يا عمرُ! أيقْتَلُ أبوعبدِاللهِ وأَنتَ تَنظُرُ إِليه؟ فلم يُجبْها عمرُ بشيءٍ، فنادتْ: َويحْكم أَما فيكم مسلمٌ؟! فلم يُجبْهاَ أَحدٌ بشيءٍ ؛ ونادى شمرُبنُ ذي الجوشنِ الفرسانَ والرَّجَّالةَ(١) فقالَ: ويحكم ما تَنتظِرونَ بالرّجلِ؟ ثكلتْكم أُمّهاتُكم! فَحُمِلَ عليه من كلِّ جانبٍ فضربه زُرْعَةُ بنُ شَرِيكٍ على كفّه(٢) اليسرى فقطعَها، وضربَه آخرُ منهم على عاتِقه فكَبا منها لوجهه، وطعنَه سِنانُ بنُ أَنسٍ بالرُّمح فصرعَه، وبَدرَإِليه خَوليّ بنً يزيدَ الأصبحيّ لعنه اللّهُ فنزلَ ليحتزّ(٣) رأسْه فأرعِدَ، فقالَ له شمرٌ: فَتَّ اللهُ في عَضدِكَ، ما لَكَ تُرْعَدَ؟

ونزلَ شمرٌ إِليه فذبحَه ثمّ دفعَ رأسَه إِلى خوليِّ بنِ يزيدَ فقالَ: احملْه إِلى الأميرعمر بن سعدٍ، ثمّ أَقبلوا على سَلب الحسينِعليه‌السلام فاَخذَ قميصه إِسحاقُ بنُ حَيْوَةَ الحضرميّ، وَأَخذَ سراويلَه أبْجرُ بنُ كعبِ، وأَخذَ عمامتَه أَخنَسُ بنُ مَرْثَدٍ(٤) ، وأَخذَ سيفَه رجل من بني دارم، وانتهبوا رَحْلَه ِوابلَه وأَثقالَه وسلبوا نِساءه.

قال حمَيدُ بنُ مسلمٍ: فواللهِ لقد كنتُ أَرى المرأَةَ من نسائه وبناتِه وأَهلِه تُنَازعُ ثوبها عن ظهرِها حتّى تُغلَبَ عليه فيُذهَب به منها، ثمّ انتهينا إِلى عليِّ بنِ الحسينِعليه‌السلام وهومُنْبَسِطٌ على فراشٍ وهو

__________________

(١) في هامش «ش»: الرجال.

(٢) في «م»، وهامش «ش»: كتفه.

(٣) في «م»: ليجتز.

(٤) في «ش»: مَزيْد، وما اثبتناه من «م» وهامش «ش».

١١٢

شديدُ المرضِ، ومعَ شمر جماعةٌ منَ الرَّجّالةِ فقالوا له: ألا نقتلُ هذا العليلَ؟ فقلتُ: سبحانَ اللهِ! أَيُقتَلُ الصِّبيانُ؟ إِنّما هوصبيّ وانّه لمِا به، فلم أَزلْ حتّى رددتُهم(١) عنه.

وجاءَ عمرُبنُ سعدٍ فصاحَ النِّساءُ في وجهِه وبكَيْن فقالَ لأصحابه: لا يَدخلْ أَحدٌ منكم بيوتَ هَؤلاءِ النِّسوةِ، ولا تَعَرَّضوا لهذا الغُلامِ المريضِ، وساَلتْه النِّسوةُ لِيسترجعَ ما أُخِذَ منهنَ لِيتستّرنَ به فقالَ: مَنْ أَخذَ من متاعِهنّ شيئاً فليردَّه عليهنّ ؛ فواللهِ ما ردَّ أَحدٌ منهم شيئاً، فوَكّلَ بالفسطاطِ وبيوتِ النِّساءِ وعليِّ بن الحسين جماعة بمّن كانوا(٢) معَه وقالَ: احفظوهم لئلا يخرج منهم أحدُ، ولا تُسِيئن إليهم.

ثمّ عادَ إِلى مضرِبه ونادى في أصحابه: من يَنتدِبُ للحسينِ فيوُطِئه فرسَه؟ فانتدَبَ عشرةٌ منهم: إِسحَاقُ بنُ حَيْوَةَ، وأخنسُ بنُ مَرْثَدٍ(٣) ، فداسوا الحسينَعليه‌السلام بخيولهم حتّى رَضُّوا ظهرَه.

وسرّحَ عمرُ بن سعدٍ من يومِه ذلكَ - وهو يومُ عاشوراءَ - برأسِ الحسينِعليه‌السلام معَ خوليِّ بنِ يزيدَ الأصبحيّ وحُمَيدِ بنِ مُسلمٍ الأزْديّ إِلى عُبيدِاللهِ بنِ زيادٍ، وأمرَ برؤوسِ الباقينَ من أصحابِه وأهلِ بيتهِ فَنُظِّفَتْ، وكانتِ اثنين(٤) وسبعينَ رأساً، وسرّحَ بها معَ شمرِ بنِ ذي الجَوْشَنِ وقَيْسٍ بنِ الأشْعَثِ وعَمْرِو بنِ الحجّاجِ، فأقبلوا حتّى قَدِموا بها على

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: دفعتهم.

(٢) في هامش «ش»: كان.

(٣) في «ش»: مَزيد، وما اثبتناه من «م» وهامش «ش».

(٤) في «ش» و «م»: اثنتين.

١١٣

ابنِ زيادٍ.

وأقامَ بقيّةَ يومِه واليومَ الثّانيَ إِلى زوالِ الشّمس، ثمّ نادى في النّاسِ بالرّحيلِ وتوجّهَ إِلى الكوفةِ ومعَه بناتُ الحسينِ وَأخواتُه، ومن كانَ معَه منَ النِّساءِ والصِّبيانِ، وعليُّ بنُ الحسينِ فيهم وهو مريضٌ بالذِّرَبِ(١) وقد أشْفَى(٢) .

ولمّا رحلَ ابنُ سعدٍ خرجَ قومٌ من بني أسد كانوا نُزولاً بالغاضريّةِ إِلى الحسينِ وأصحابِه رحمة اللهِ عليهم، فصلَّوا عليهم ودفنوا الحسينَعليه‌السلام حيثُ قبرُه الآنَ، ودفنوا ابنَه عليَّ بنَ الحسينِ الأصغرَ عندَ رجليه، وحفروا للشًّهداءِ من أهلِ بيتهِ وأصحابِه الّذينَ صُرِعوا حولَه مما يلي رِجلَيِ الحسينِعليه‌السلام وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العبّاسَ بن عليٍّعليهما‌السلام في موضعِه الّذي قُتِلَ فيه على طريقِ الغاضريّةِ حيثُ قبرُه الآنَ.

ولمّا وَصلَ رأسُ الحسينِعليه‌السلام ووَصلَ ابنُ سعدٍ - لعنَه اللهُ - من غدِ يوم وصوله ومعَه بناتُ الحسينِ وأهلُه، جلسَ ابنُ زيادٍ للنّاسِ في قصرَ الإمارةِ وأذِنَ للنّاسِ إِذناً عامّاً، وأمرَ بإحضارِ الرّأسِ فوُضِعَ بينَ يديه، فجَعلَ يَنظرُ إِليه ويبتسّمُ وفي يدِه قضيبٌ يَضربُ به ثناياه، وكانَ إِلى جانبِه زيدُ بنُ أرقمَ صاحبُ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله - وهوشيخٌ كبيرٌ - فلمّا رآه يَضربُ بالقضيبِ ثناياه قالَ له: ارفَع قضيبَكَ عن هاتين الشّفتينِ، فوَاللهِ الّذي لا إِلهَ غيرُه لقد رأيتُ شَفَتيْ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله عليهما ما لا أُحصيه

__________________

(١) في هامش «ش»: ذربت معدته اذا فسد عليه الطعام فلم ينهضم وخرج رقيقاً.

(٢) اشفى المريض: قرب من الموت. انظر «الصحاح - شفا - ٦: ٢٣٩٤».

١١٤

كثرةً تُقَبِّلُهما ؛ ثمّ انتحبَ باكياً. فقالَ له ابنُ زيادٍ: أبكى اللهُ عينيكَ، أتبكي لفتحِ اللهِ؟ واللهِ لولا أنّكَ شيخٌ قد خَرِفتَ وذهبَ عقلكَ لَضَربت عُنقَكَ ؛ فنهضَ زيدُ بنُ أرقمَ من بينِ يديه وصارَ إِلى منزلهِ.

وأُدخِلَ عيالُ الحسينِعليه‌السلام على ابنِ زيادٍ، فدخلتْ زينبُ أُختُ الحسينِ في جُملتِهم مُتنكِّرةً وعليها أرذلُ ثيابها، فمَضَتْ حتّى جلستْ ناحيةً منَ القصرِ وحفَّتْ بها إِماؤها، فَقالَ ابنُ زيادٍ: مَنْ هذه الّتي انحازتْ ناحيةً ومعَها نساؤها؟ فلم تجُبْه زينبُ، فأعادَ ثانية وثالثةً يَسألُ عنها، فقالَ له بعضُ إمائها: هذه زينبُ بنتُ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ ؛ فأقبلَ عليها ابنُ زيادٍ وقالَ لها: الحمدُللهِ الّذي فضَحَكم وقتلَكم وأكْذَبَ أحْدُوثَتَكم.

فقالتْ زينبُ: الحمدُللهِ الّذي أكرمَنا بنبيِّه محمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله وطهَّرَنا منَ الرِّجْسِ تطهيراً، واِنّما يفْتَضحُ الفاسِقُ ويكذبُ الفاجرُ، وهو غيرُنا والحمد لله.

فقالَ ابنُ زيادٍ: كيفَ رأَيتِ فعْلَ اللهِ بأهلِ بيتِكِ؟

قالتْ: كتبَ اللهُّ عليهم القتلَ فبرزوا إِلى مضاجعِهم، وسيجمعُ اللّهُ بينَكَ وبينَهم فتحاجُّونَ إِليه وتختصمُونَ عندَه.

فغضبَ ابنُ زيادٍ واستشاطَ، فقالَ عمْرُو بنُ حُريثٍ: أيُّها الأميرُ، إِنّها امرأةٌ والمراة لا تؤاخذُ بشيءٍ من مَنطقِها، ولا تُذَمُّ على خطابها. فقالَ لها ابنُ زيادٍ: لقد(١) شفى اللهُ نفسي من طاغيتِكِ والعُصَاةِ من أهلِ بيتِكِ.

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: قد.

١١٥

فَزَقَت(١) ، زينبُعليها‌السلام وبكَتْ وقالتْ له: لَعمري لقد قَتَلْتَ كَهْلي، وأبَدْتَ(٢) أهلي، وقَطَعْتَ فرعي، واجْتَثَثْتَ أصلي، فإنْ يَشْفِكَ هذا فقدِ اشْتَفَيْتَ.

فقالَ ابنُ زيادٍ: هذه سجّاعةٌ، ولَعمري لقد كانَ أبوها سجّاعاً شاعراً.

فقالتْ: ما لِلمرأةِ والسجاعةَ؟ إِنّ لي عن السجاعةِ لَشغلاّ، ولكن صدري نفثَ بما قلتُ.

وعُرِضَ عليه عليُّ بنُ الحسينِعليهما‌السلام فقالَ له: مَنْ أنْتَ؟

فقالَ: «أنا عليُّ بنُ الحسينِ».

فقالَ: أليسَ قد قَتَلَ الله عليَّ بنَ الحسينِ؟.

فقالَ له عليّعليه‌السلام : «قد كان لي أخٌ يسمّى عليّاً قتلَه النّاسُ».

فقالَ له ابنُ زيادٍ:بلِ اللهُ قتلَه.

فقالَ عليُّ بنُ الحسينعليه‌السلام : «( اللهُ يَتَوَفّىَ الأنفُسَ حيْنَ مَوْتِهَا ) »(٣) .

فغضبَ ابنُ زيادٍ وقالَ: وبكَ جُرأةُ لجوابي وفيكَ بقيّةْ للرّدَ علي؟! اذهبوا به فاضربوا عُنقَه. فَتعلّقتْ به زينبُ عمتُه وقالتْ: يا ابنَ زيادٍ، حَسْبُكَ من دمائنا؟ واعْتَنَقَتْه وقالتْ: واللهِ لا أُفارِقُه فإنْ قتلتَه

__________________

(١) فَزَقَتْ: اي صاحت «الصحاح - زقا - ٦: ٢٣٦٨ » وفي هامش «ش» و «م»: فرقّت.

(٢) في «م» وهامش «ش»: وأبرَزْتَ.

(٣) الزمر ٣٩: ٤٢.

١١٦

فاقتلْني معَه ؛ فنظرَ ابنُ زيادٍ إليها واليه ساعة ثمّ قالَ: عجباً للرّحمِ! واللهِّ إِنِّي لأظنُّها ودّتْ أنِّي قتلتُها معَه، دَعُوه فإِنِّي أراه لمِا به.

ثمّ قامَ من مجلسِه حتّى خرجَ منَ القصرِ، ودخلَ المسجدَ فصَعدَ المنبرَ فقالَ: الحمدُ للهِّ الّذي أظهر الحقَّ وأهلَه، ونصرَ أميرَ المؤمنينَ يزيدَ وحزبَه، وقتلَ الكذّابَ ابن الكذّابِ وشيعتَه.

فقامَ إليه عبدُالله بن عفيفٍ الأزديّ - وكانَ من شيعة أميرِ المؤمنينَعليه‌السلام - فقالَ: ياعدوَّ اللهِّ، إنّ الكذّابَ أنتَ وأَبوكَ، والّذي ولاّكَ وأبوه، يا ابنَ مرجانَة، تَقتلُ أولادَ النّبيِّينَ وتقومُ على المنبرِ مَقامَ الصِّدِّيقينَ؟!

فقالَ ابنُ زيادٍ: عليَّ به ؛ فأخذتْه الجلاوِزةُ، فنادى بشِعارِ الأزْدِ، فاجتمعَ منهم سبعمائةِ رجلٍ فانتزعوه منَ الجلاوزةِ، فلمّا كانَ الليلُ أرسلَ إِليه ابنُ زيادٍ مَنْ أخرجَه من بيتهِ، فضَرَبَ عُنقَه وصلبَه في السَّبَخةِرحمه‌الله .

ولمّا أصبحَ عُبيدُاللّه بن زيادٍ بعثَ برأسِ الحسينِعليه‌السلام فدِيْرَ به في سِكَكِ الكوفةِ كلِّها وقبائلِها.

فرُوِيَ عن زيدِ بنِ أرقمَ أنّه قالَ: مُر َّبه عليَّ وهوعلى رمحً وأنا في غُرفةٍ، فلمّا حاذاني سمعتهُ يَقرأُ:( أمْ حَسِبْتَ أنَّ أصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيْمِ كَانُوْا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبَاً ) (١) فَقَفَّ(٢) - واللهِّ - شَعري وناديتُ: رأسُكَ واللهِ - يا ابنَ رسولِ اللهِّ - أعجبُ وأعجبُ(٣) .

__________________

(١) الكهف ١٨: ٩.

(٢) قفّ شعري: أي قام من الفزع «الصحاح - قفف - ٤: ١٤١٨».

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام لابي مخنف:١٧٥، ونقله العلامة المجلسي في البحار

١١٧

ولمّا فَرغَ القوم منَ التّطوافِ به بالكوفةِ، ردّوه إِلى بابِ القصر، فدفعَه ابنُ زيادٍ إِلى زَحْرِ بنِ قيْسٍ ودَفعَ إِليه رؤوسَ أصحابِه، وسرّحَه إِلى يزيد بن معاويةَ عليهم لعائنُ اللّهِ ولعنةُ اللاعنينَ في السّماواتِ والأرضينَ، وأنفذَ معَه أبا بُردةَ بنَ عَوْفٍ الأزديّ وطارِقَ بنَ أبي ظَبيانَ في جماعةٍ من أهلِ الكوفةِ، حتّى وردوا بها على يزيدَ بدمشقَ.

فروى عبدُالله بن ربيعةَ الحِميريّ فقالَ: إِنِّي لَعندَ يزيد بن معاويةَ بدمشقَ، إذ أقبلَ زَحْرُ بنُ قيسٍ حتى دخلَ عليه، فقالَ له يزيدُ: ويلكَ ما وراءَكَ وما عندَكَ؟ قالَ: أبشِرْ يا أميرَالمؤمنينَ بفتح اللّهِ ونصرِه، وَرَدَ علينا الحسينُ بن عليٍّ في ثمانيةَ عشرَمن أهلِ بيتهِ وستينَ من شيعتهِ، فسِرْنا إِليهم فسألْناهم أن يستسلموا أو ينزلوا على حكمِ الأميرِ عُبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ أو القتال، فاختاروا القتالَ على الاستسلام، فغَدَوْنا عليهم معَ شروق الشّمسِ، فأحَطْنا بهم من كلِّ ناحيةٍ، حتّى إِذا أخذتِ السُّيوفُ مآخِذَها من هام القوم، جعلوا يهربونَ إِلى غيرِ وَزَرٍ، ويلوذونَ منّا بالاكام والحُفر(١) لواذاً كَما لاذَ الحمائمُ من صقرٍ، فواللّهِ يا أميرَالمؤمنينَ ما كانوَا إلاّ جَزْرَ جَزُورٍ أو نومةَ قائلٍ، حتّى أتينا على آخرِهم، فهاتيكَ أجسادُهم مجرَّدَةً، وثيابُهم مُرَمَّلةً، وخدودُهم معفَّرةً، تَصْهَرُهم الشّمسُ(٢) وتَسْفِي عليهم الرِّياحُ، زُوّارُهم العقبانُ والرّخمُ. فأطرقَ يزيدُ هُنيهةً ثمّ رفعَ رأسَه فقالَ: قد كنتُ أرضى من طاعتِكم(٣) بدونِ

__________________

٤٥: ١٢١.

(١) في هامش «ش» و «م»: والشجر.

(٢) في «م» وهامش «ش»: الشموس.

(٣) في هامش «ش» و «م»: طاغيتكم.

١١٨

قتلِ الحسينِ، أما لوأنّي صاحبُه لَعَفَوْتُ عنه(١) .

ثمّ إنّ عُبيدَاللّه بن زيادٍ بعدَ إِنفاذِه برأس الحسينِعليه‌السلام أمرَ بنسائه وصبيانِه فَجُهِّزُوا، وأمرَ بعليِّ بنِ الَحسينِ فَغلَّ بِغُلٍّ إِلى عُنقِه، ثمّ سرّحَ بهم في أثرِ الرّأسِ معَ مُجْفِرِبنِ ثعلبةَ العائذي وشمرِ بنِ ذي الجوشنِ، فانطلقوا بهم حتّى لحقوا بالقوم الّذينَ معَهم الرّأسُ، ولم يكن عليُّ بنُ الحسينِعليه‌السلام يُكلًّمُ أحداً منَ القومِ في الطّريقِ كلمةً حتّى بلغوا، فلمّا انتهَوْا إِلى باب يزيدَ رفعَ مُجْفِرُ بنُ ثعلبةَ صوتَه فقالَ: هذا مُجْفِرُ بنُ ثعلبةَ أتى أميرَ المؤمنينَ باَللئام الفَجَرةِ، فأجابَه عليُّ بنُ الحسينِعليهما‌السلام : «ما وَلَدَتْ أُمًّ مجْفِرٍ أشرُّ وألأمُ»(٢) .

قالَ: ولمّا وُضِعَتِ الرُّؤوسُ بينَ يَدَيْ يزيدَ وفيها رأس الحسينِعليه‌السلام قالَ يزيدُ:

نفَلِّقُ هَامَاً مِنْ رِجَالٍ أعِزَّةٍ

عَلَيْنَا وَهمْ كَانُوْا أعَقَّ وَأظْلَمَا(٣)

فقالَ يحيى بن الحكمِ - أخو مروان بن الحكمِ - وكانَ جالساً معَ يزيدَ:

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٤٥٩، الفتوح لابن اعثم ٥: ١٤٧، مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي ٢: ٥٦، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ١٢٩.

(٢) نسب هذا الجواب الى يزيد بن معاوية، انظر: الطبري ٥: ٤٦٠، ٤٦٣، انساب الاشراف ٣: ٢١٤، البداية والنهاية ٨: ٢١١، ونقله العلامة المجلسي - عن ابن نما عن تاريخ دمشق - في البحار ٤٥: ١٣١.

(٣) هذا شعر الحُصين بن الحُمام وهو شاعر جاهلي وقصيدته ٤٢ بيتاُ، وقد تَمثّل يزيدَ - لعنه اللّه - بالبيت السّادس. انظر الاغاني ١٤: ٧، شرح اختيارات المفضّل للخطيب التبريزي ١: ٣٢٥ وهوامشه.

١١٩

لَهَامٌ بأدْنَى الطَّفِّ أدْنى قَرَابَةً

من ابْنِ زيادِ الْعَبْدِ ذِي الحسَب الرَّذْلِ(١)

أمَيِّةُ(٢) أمْسَى نَسْلُهَا عَدَدَ الحَصَى

وَبِنتُ رسًولِ اللهِّ لَيْسَ لَهَا نَسْلُ(٣)

فضربَ يزيدُ في صدِر يحيى بن الحكمِ وقالَ: اسكتْ؟ ثمّ قالَ لعليِّ بنِ الحسينِ: يا ابنَ حسينٍ، أبوكَ قطعَ رَحِمي وجهلَ حقَي ونازعَني سلطاني، فصنعَ اللّهُ به ما قد رأيتَ.

فقالَ عليُّ بنُ الحسينِ: «( مَا أصَابَ مِنْ مصُيبةٍ في الأرْضِ وَلاَ فِيْ أنْفُسِكُمْ إلاَّ فِيْ كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأها إنَّ ذَلِكَ علَىَ اللّهِ يَسِيْر ) (٤) ».

فقالَ يزيدُ لابنهِ خالدٍ: اردُدْ عليه ؛ فلم يَدْرِ خالدٌ ما يردُّ عليه.
فقالَ له يزيدُ: قلْ( مَا أصَابَكمْ مِنْ مُصِيْبَةٍ فَبمَا كَسَبَتْ أيْدِيْكُمْ وَيعْفُوْ عَنْ كَثِيْرِ ) (٥) .

ثمّ دعا بالنِّسَاءِ والصِّبيانِ فاُجلسوا بينَ يديه، فرأى هيئةً قبيحةً فقالَ: قبّحَ اللهُّ ابنَ مرجانَة، لو كانتْ بينكَم وبينَه قرابةُ رحمٍ(٦) ما فعلَ هذا بكم، ولا بعثَ بكم على هذه الصُّورةِ(٧) .

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: الوغل.

(٢) كذا في «ش» و «م». وفي نسخة البحار، والطبري ومقتل الحسين للخوارزمي: سمية، ولعلّه الانسب بالمقام.

(٣) كذا روي البيتان في النسخ، وفيهما إقواء وهو اختلاف حركات الروي، وفي الطبري ومقتل الحسين للخوارزمي والبحار روى عجز البيت الثاني: « وبنت رسول الله ليست بذي نسل».

(٤) الحديد ٥٧: ٢٢.

(٥) الشورى ٤٢: ٣٠.

(٦) في «م» وهامش «ش»: ورحم.

(٧) في هامش «ش»، و «م»: هذه الحال.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

« الواحدي في أسباب نزول القرآن بإسناده عن الأعمش وأبي الجحاف عن عطية عن أبي سعيد الخدري. وأبو بكر الشيرازي في ما نزل من القرآن في أمير المؤمنينعليه‌السلام بالإِسناد عن ابن عباس. والمرزباني في كتابه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) يوم غدير خم في علي بن أبي طالب »(١) .

ترجمة أبي بكر الشيرازي

١ - الذهبي: « الشيرازي الإِمام الحافظ الجوّال أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن ابن أحمد بن محمد بن موسى الفارسي صاحب كتاب الألقاب. سمع أبا القاسم الطبراني بإصبهان، وأبا بحر البربهاري وطبقته ببغداد، وعبد الله بن عدي بجرجان، ومحمد بن الحسن السّراج بنيسابور، وعبد الله بن عمر بن علك بمرو، وسعيد بن القاسم المطّوعي ببلاد الترك، ومحمّد بن محمّد بن صابر ببخارى، وسمع بالبصرة وواسط وشيراز وعدة مدائن.

روى عنه: محمد بن عيسى الهمداني، وأبو مسلم بن عروة، وحميد بن المأمون، وآخرون.

قال شيرويه نا عنه أبو الفرج البجلي. قال: كان صدوقاً حافظاً، يحسن هذا الشأن جيّداً. خرج من عندنا سنة ٤٠٤ الى شيراز. وأخبرت أنه مات في سنة ٤١١. وذكره جعفر المستغفري فقال: كان يفهم ويحفظ، كتبت عنه »(٢) .

٢ - الذهبي: « وفيها توفي أبو بكر الشيرازي أحمد بن عبد الرحمن الحافظ مصنّف الألقاب. كان أحد من عني بهذا الشأن، وأكثر الترحال في البلدان، ووصل إلى بلاد الترك، وسمع من الطبراني وطبقته. قال عبد الرحمن ابن مندة:

____________________

(١). بحار الأنوار ٣٧ / ١٥٥ عن المناقب لابن شهر آشوب.

(٢). تذكرة الحفاظ ٣ / ١٠٦٥ - ١٠٦٦.

٢٠١

مات في شوال »(١) .

٣ - اليافعي: « وفيها توفي الحافظ أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي مصنف كتاب الألقاب »(٢) .

٤ - السيوطي: « الشيرازي صاحب الألقاب، الامام الحافظ الجوّال أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن موسى الفارسي. سمع الطبراني وطبقته. وكان صدوقاً حافظاً يحسن هذا الشأن جيّداً. مات سنة ٤٠٧ قال جعفر المستغفري: كان يفهم ويحفظ »(٣) .

(٣)

رواية ابن مردويه

وروى ذلك أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الاصفهاني كما علمت من عبارة ( الدر المنثور ) السالفة الذكر.

وفيه أيضاً: « وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنّا نقرأ على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إنّ عليا مولى المؤمنين و إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ »(٤) .

وستعلم روايته أيضاً من عبارة البدخشي الآتية.

____________________

(١). العبر حوادث ٤٠٧.

(٢). مرآة الجنان حوادث ٤٠٧.

(٣). طبقات الحفاظ: ٤١٥.

(٤). الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٢ / ٢٩٨.

٢٠٢

ترجمة ابن مردويه

١ - الذهبي: « ابن مردويه الحافظ الثبت العلامة أبو بكر أحمد بن موسى ابن مردويه الاصفهاني صاحب التفسير والتاريخ وغير ذلك.

روى عن أبي سهل بن زياد القطان، وميمون بن إسحاق الخراساني، ومحمّد بن عبد الله بن علم الصفار، وإسماعيل الخطبي، ومحمّد بن علي بن دحيم الشيباني، وأحمد بن عبد الله بن دليل، وإسحاق بن محمّد بن علي الكوفي، ومحمد ابن أحمد بن علي الأسواري، وأحمد بن عيسى الخفاف، وأحمد بن محمّد بن عاصم الكراني، وطبقتهم.

وروى عنه: أبو القاسم عبد الرحمن بن مندة، وأخوه عبد الوهاب، وأبو الخير محمّد بن أحمد، وأبو منصور محمّد بن سكرويه، وأبو بكر محمّد بن الحسن ابن محمّد بن سليم، وأبو عبد الله الثقفي، وأبو مطيع محمّد بن عبد الواحد المصري، وخلق كثير.

وعمل المستخرج على صحيح البخاري، وكان قيّماً بمعرفة هذا الشأن، بصيراً بالرجال، طويل الباع، مليح التصانيف.

ولد سنة ٣٢٣. ومات لست بقين من رمضان سنة ٤١٠. يقع عواليه في الثقفيات وغيرها»(١) .

٢ - الذهبي أيضاً: « وفيها توفي أحمد بن موسى بن مردويه، أبو بكر الحافظ الاصبهاني، صاحب التفسير والتاريخ والتصانيف، لست بقين من رمضان، وقد قارب التسعين، سمع بأصبهان والعراق، وروى عن أبي سهل ابن زياد القطان وطبقته »(٢) .

____________________

(١). تذكرة الحفاظ ٣ / ١٠٥٠.

(٢). العبر حوادث ٤١٠.

٢٠٣

٣ - السيوطي: « ابن مردويه الحافظ الكبير العلّامة كان قيّماً بهذا الشأن، بصيراً بالرجال، طويل الباع، مليح التصانيف، ولد سنة ٣٢٣. ومات لست بقين من رمضان سنة ٤١٠ »(١) .

٤ - الزرقاني: « أبو بكر الحافظ أحمد بن موسى بن مردويه الاصبهاني الثبت [ اللبيب ] العلامة. ولد سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وصنف التاريخ والتفسير المسند والمستخرج على البخاري، وكان فهماً بهذا الشأن، بصيرا بالرجال طويل الباع، مليح التصنيف، مات لست بقين من رمضان سنة ٤١٠ »(٢) .

وتظهر جلالة الحافظ ابن مردويه من كلامٍ لابن قيّم الجوزية حول حديث بني المنتفق حيث قال بعد أن ذكره ما هذا نصه: « هذا حديث كبير جليل، ينادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة، لا يعرف إلّا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني، رواه عنه إبراهيم بن ضمرة الزبيري، وهما من كبار أهل المدينة، ثقتان يحتج بهما في الصحيح، احتج بهما إمام الحديث محمّد بن إسماعيل البخاري، رواه أئمة السنّة في كتبهم وتلقّوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد، ولم يطعن أحد منهم فيه، ولا في أحد من رواته.

فممّن رواه الامام ابن الامام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في مسند أبيه وفي كتاب السنة

ومنهم الفاضل الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن عاصم النبيل في كتاب السنّة له.

ومنهم الحافظ أبو أحمد بن أحمد بن ابراهيم بن سليمان العسّال في كتاب المعرفة.

ومنهم حافظ زمانه ومحدث أوانه أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب

____________________

(١). طبقات الحفاظ: ٤١٢.

(٢). شرح المواهب اللدنية ١ / ٦٨.

٢٠٤

الطبراني في كثير من كتبه.

ومنهم الحافظ أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن حيان أبو الشيخ الاصبهاني في كتاب السنّة.

ومنهم الحافظ ابن الحافظ أبو عبد الله محمّد بن إسحاق بن محمّد بن يحيى ابن مندة حافظ أصبهان.

ومنهم الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه.

ومنهم حافظ عصره أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الاصبهاني.

وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم »(١) .

وتظهر جلالته أيضاً من عبارةٍ لتاج الدين السّبكي فإنه قال في ( طبقاته ):

« فأين أهل عصرنا من حفاظ هذه الشريعة: أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وعلي المرتضى

ومن طبقة أخرى من التابعين: أويس القرني

... أخرى: وأبي عبد الله بن مندة، وأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن بكير، وأبي عبد الله الحاكم، وعبد الغني بن سعيد الازدي، وأبي بكر بن مردويه

فهولاء مهرة هذا الفن، وقد أغفلنا كثيراً من الأئمة، وأهملنا عدداً صالحاً من المحدّثين، وإنما ذكرنا من ذكرناه لننبّه بهم على من عداهم، ثم أفضى الأمر إلى طيّ بساط الأسانيد رأساً وعدّ الإِكثار منها جهالة ووسواسا »(٢) .

وهذه العبارة تدل على جلالة ابن مردويه من وجوه عديدة لا تخفى.

كما تظهر جلالته من وصفهم إياه بالحفظ، فقد قال السمعاني بترجمة حمزة

____________________

(١). زاد المعاد في هدي خير العباد ٣ / ٥٦.

(٢). طبقات الشافعية ١ / ٣١٧.

٢٠٥

ابن الحسين المؤدب الاصبهاني: « روى عنه أبو بكر ابن مردويه الحافظ »(١).

وقال ابن كثير حول حديث الطائر: « وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنفات مفردة، ومنهم أبو بكر ابن مردويه الحافظ، وأبو طاهر محمّد بن أحمد بن حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبد الله الذهبي »(٢) .

وقال الكاتب الجلبي: « تفسير ابن مردويه هو الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى الاصبهاني المتوفى سنة ٤١٠ »(٣) .

« الحافظ » في الاصطلاح

ثم إنّ « الحافظ » من الألقاب الجليلة في اصطلاح علماء الحديث، قال الشيخ علي القاري: « الحافظ - المراد به حافظ الحديث لا القرآن. كذا ذكره ميرك، ويحتمل أنه كان حافظاً للكتاب والسنّة.

ثم الحافظ في اصطلاح المحدّثين من أحاط علمه بمائة ألف حديث متنا وإسنادا »(٤) .

وفي ( لواقح الأنوار ) بترجمة السيوطي: « وكان الحافظ ابن حجر يقول: الشروط التي إذا اجتمعت في الإنسان سمّي حافظا هي: الشهرة بالطلب: والأخذ من أفواه الرجال، والمعرفة بالجرح والتعديل لطبقات الرواة ومراتبهم وتمييز الصحيح من السقيم، حتى يكون ما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره، مع استحفاظ الكثير من المتون، فهذه الشروط من جمعها فهو حافظ ».

وقال البدخشي: « الحافظ - يطلق هذا الاسم على من مهر في فن الحديث بخلاف المحدّث»(٥) .

____________________

(١). الأنساب - الاصبهاني.

(٢). تاريخ ابن كثير ٧ / ٣٥٣.

(٣). كشف الظنون ١ / ٤٣٩.

(٤). جمع الوسائل في شرح الشمائل: ٧.

(٥). تراجم الحفاظ - مخطوط.

٢٠٦

ومن شواهد جلالة ابن مردويه: إن شمس الدين محمّد ابن الجزري ذكره في عداد مشاهير الأئمة، وكبار علماء الحديث الذين روى عنهم في كتابه ( الحصن الحصين )، مع أصحاب الصحاح والمسانيد وسائر الكتب المعتبرة وجعل رمزه « مر »، وذكر في خطبة كتابه ما نصه: « فليعلم أني أرجو أن يكون جميع ما فيه صحيحاً »(١) .

كما أن ( الدهلوي ) نفسه ذكر تفسير ابن مردويه في ( رسالة أصول الحديث ) في عداد تفاسير الديلمي وابن جرير وغيرهم، وقدّمه عليها في الذكر، وهذا يدلّ على أن تفسير ابن مردويه من التفاسير المشهورة المعتبرة لدى أهل السنّة.

(٤)

رواية الثعلبي

روى أبو إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثعلبي نزول الآية الكريمة:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) في يوم غدير خم في تفسيره حيث قال:

« قال أبو جعفر محمّد بن علي: معناه: بلّغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي بن أبي طالب، فلمـّا نزلت هذه الآية أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه.

أخبرنا أبو القاسم يعقوب بن أحمد بن السري، أنا أبو بكر محمّد بن عبد الله ابن محمد، نا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي، نا حجاج بن منهال نا حماد عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء قال: لمـّا نزلنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع كنا بغدير خم فنادى: إن الصلاة جامعة، وكسح

____________________

(١). الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين بشرح القاري: انظر ٢٠ و ٢٥.

٢٠٧

للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت شجرتين، فأخذ بيد علي فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى. قال: هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قال: فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.

أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمّد القائني، نا أبو الحسين محمّد بن عثمان النصيبي، نا أبو بكر محمّد بن الحسن السبيعي، نا علي بن محمّد الدهان والحسين ابن إبراهيم الجصاص، نا حسين بن حكم، نا حسن بن حسين عن حبان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الآية. قال: نزلت في علي، أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلّغ فيه فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد علي، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه »(١) .

ترجمة الثعلبي

وقد ذكرت ترجمة أبي إسحاق الثعلبي وآيات عظمته وجلالته ووثاقته في المنهج الأول من الكتاب، في الجواب عن شبهات ( الدهلوي ) حول الاستدلال بقوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) .

كما ستأتي ترجمته في الدليل السادس من أدلة دلالة حديث الغدير على إمامة عليعليه‌السلام ، وستقف هناك على كلمات الثناء التي قالها والد ( الدهلوي ) في حق الثعلبي.

كما يتضح من عبارة الثعلبي في خطبة تفسيره عظمة هذا التفسير واعتباره.

____________________

(١). الكشف والبيان في تفسير القرآن - مخطوط.

٢٠٨

(٥)

رواية أبي نعيم

وروى أبو نعيم أحمد بن عبد الله الاصبهاني نزولها في واقعة يوم غدير خم في كتاب ( ما نزل من القرآن في عليعليه‌السلام ). وقد ذكر روايته الفاضل رشيد الدين خان الدهلوي في ( إيضاح لطافة المقال ) نقلاً عن الشيخ علي المتخلص بحزين، وتلك الرواية هي باسناده « عن علي بن عامر [ عياش ] عن أبي الجحاف والأعمش عن عطية قال: نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علي بن أبي طالب:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) .

وقد ذكر مثل هذه الرواية الحاج عبد الوهاب بن محمّد عن الحافظ أبي نعيم كما سيجيء.

ترجمة أبي نعيم

١ - ابن خلكان: « الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق ابن موسى بن مهران الاصبهاني، الحافظ المشهور، صاحب كتاب حلية الأولياء. كان من أعلام المحدّثين، وأكابر الحفاظ الثقات، أخذ عن الأفاضل وأخذوا عنه وانتفعوا به. وكتاب الحلية من أحسن الكتب، وله كتاب تاريخ أصبهان وتوفي في صفر وقيل يوم الاثنين الحادي والعشرين من المحرم سنة ثلاثين وأربعمائة باصبهان. رحمه الله تعالى »(١) .

____________________

(١). وفيات الأعيان ١ / ٢٦.

٢٠٩

٢ - الصلاح الصفدي: « أحمد بن عبد الله بن إسحاق بن موسى بن مهران، أبو نعيم الحافظ، سبط محمد بن يوسف بن البناء الاصفهاني، تاج المحدثين وأحد أعلام الدين، له العلوّ في الرواية والحفظ والفهم والدراية، وكانت الرّحال تشدّ إليه، أملى في فنون الحديث كتباً سارت في البلاد وانتفع بها العباد، وامتدت أيامه حتى ألحق الأحفاد بالأجداد، وتفرّد بعلوّ الأسناد

وكان أبو نعيم إماماً في العلم والزهد والدّيانة، وصنف مصنفات كثيرة منها: حلية الأولياء، والمستخرج على الصحيحين - ذكر فيها [ فيه ] أحاديث ساوى فيها البخاري ومسلماً، وأحاديث علا عليهما فيها كأنهما سمعاها منه، وذكر فيها حديثاً كأن البخاري ومسلماً سمعاه ممّن سمعه منه ودلائل النبوة، ومعرفة الصحابة، وتاريخ بلده، وفضائل الصحابة، وصفة الجنّة، وكثيراً من المصنفات الصغار.

وبقي أربعة عشر سنة بلا نظير، لا يوجد شرقاً ولا غرباً أعلى إسناداً منه ولا أحفظ، ولمـّا كتب كتاب الحلية إلى نيسابور بيع بأربعمائة دينار »(١) .

٣ - الخطيب التبريزي: « أبو نعيم الاصفهاني هو: أبو نعيم أحمد ابن عبد الله الاصفهاني صاحب الحلية، هو من مشايخ الحديث الثقات المعمول بحديثهم المرجوع إلى قولهم، كبير القدر، ولد سنة ٣٣٤ ومات في صفر سنة ٤٣٠ باصفهان وله من العمر ٩٦ سنة رحمه الله تعالى »(٢) .

____________________

(١). الوافي بالوفيات ٧ / ٨١.

(٢). رجال المشكاة = الإِكمال في أسماء الرجال ط مع المشكاة ٣ / ٨٠٥.

٢١٠

(٦)

رواية الواحدي

وروى ذلك أيضاً أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، وعنه في ( مطالب السئول لابن طلحة الشافعي ) و ( الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ) وهذا نص ما جاء في ( أسباب النزول ) له: « قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) قال الحسن: إن نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لمـّا بعثني الله تعالى برسالته ضقت بها ذرعاً، وعرفت أن من الناس من يكذّبني، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهاب قريشاً واليهود والنصارى، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

أخبرنا أبو سعيد محمد بن علي الصفار قال: أنا الحسن بن أحمد المخلدي قال: أنا محمّد بن حمدون بن خالد، أنا محمد بن إبراهيم الحلواني [ الخلواتي ] قال: أنا الحسن بن حماد سجادة قال: علي بن عياش [ عابس ] عن الأعمش وأبي الجحاف عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال نزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) يوم غدير خم في علي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه »(١) .

كلام الواحدي في خطبة أسباب النزول

ولأجل أنْ لا يبقى ريب في اعتبار هذه الرواية نورد نص عبارة الواحدي في خطبة كتابه ( أسباب النزول ) فإنه قال: « وبعد هذا: فإن علوم القرآن غزيرة فآل الأمر بنا إلى إفادة المستهترين بعلوم الكتاب إبانة ما أنزل فيه من

____________________

(١). أسباب النزول للواحدي: ١١٥.

٢١١

الأسباب، إذ هي أولى ما يجب الوقوف عليها وأولى ما يصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها، ولا يحلُّ القول في أسباب نزول الكتاب إلّا بالرواية والسماع ممّن شاهد التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدّوا في الطلاب.

وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل في العثار في هذا العلم بالنار: أنا أبو إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، أنبأ أبو الحسين [ الحسن ] محمّد بن أحمد بن حامد العطار، أنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار، أنا ليث بن حماد، ثنا أبو عوانة عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتقوا الحديث إلّا ما علمتم، فإنه من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار، ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار.

والسلف الماضون -رحمهم‌الله - كانوا من أبعد الغاية احترازاً عن القول في نزول الآية، أنا أبو نصر أحمد بن عبد الله المخلدي، أنا أبو عمرو بن مجيد ثنا أبو مسلم، ثنا عبد الرحمن بن حماد، ثنا أبو عمر عن محمّد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن فقال: إتق الله وقل سداداً، ذهب الذين يعلمون في ما أنزل القرآن.

فأما اليوم فكلّ واحد يخترع للآية سبباً ويخلق إفكاً وكذباً، ملقياً زمامه إلى الجهالة، غير مفكر في الوعيد لجاهل سبب الآية، وذاك الذي حداني إلى إملاء الكتاب الجامع للأسباب، لينتهي إليه طالبوا هذا الشأن، والمتكلمون في نزول القرآن، فيعرفوا الصدق ويستغنوا عن التمويه والكذب، ويجدّوا في تحفظه بعد السماع والطلب »(١) .

وإذا كان ما ذكر سبب تأليفه هذا الكتاب، فإن هذا الحديث الذي رواه في سبب نزول الآية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) يكون هو الخبر الصدق الوارد

____________________

(١). أسباب النزول: ٤.

٢١٢

عمّن شاهد التنزيل ووقفوا على الأسباب، فيجب التصديق به والاعراض عن غيره، لأنه من الكذب على القرآن، ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار.

ترجمة الواحدي

١ - ابن الأثير: « وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد بن محمّد بن متويه الواحدي المفسّر، مصنّف الوسيط والوجيز في التفسير، وهو نيسابوري إمام مشهور »(١) .

٢ - الذهبي: « الامام العلامة الاستاذ أبو الحسن صاحب التفسير، وإمام علماء التأويل، من أولاد النجار، وأصله من ساوه، لزم الاستاذ أبا إسحاق الثعلبي وأكثر عنه، وأخذ علم العربية من أبي الحسن القهندزي الضرير وسمع من أبي طاهر بن مخمس، والقاضي أبي بكر الحيري، وأبي إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، ومحمّد بن إبراهيم المزكّي، وعبد الرحمن بن حمدان النصروي، وأحمد بن إبراهيم النجار، وخلق.

حدّث عنه: أحمد بن عمر الارغياني، وعبد الجبار بن محمد الخواري وطائفة أكبرهم الخواري.

صنف التفاسير الثلاثة: البسيط والوسيط والوجيز، وبتلك الأسماء سمّى الغزالي تواليفه الثلاثة في الفقه، ولأبي الحسن كتاب أسباب النزول مروي،

تصدر للتدريس مدة وعظم شأنه، وقيل: كان منطلق اللسان في جماعة من العلماء بما لا ينبغي، وقد كفّر من ألّف كتاب حقائق التفسير، فهو معذور قال أبو سعد السمعاني: كان الواحدي حقيقاً بكل احترام وإعظام، لكن كان فيه بسط لسان في الأئمة، وقد سمعت أحمد بن محمّد بن بشار يقول: كان الواحدي

____________________

(١). الكامل في التاريخ حوادث سنة ٤٦٨.

٢١٣

يقول صنّف السلمي كتاب حقائق التفسير، ولو قال إن ذلك تفسير القرآن لكفر به.

قلت: الواحدي معذور مأجور. مات بنيسابور في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة، وقد شاخ »(١) .

٣ - الذهبي أيضاً: « أحد من برع في العلم وكان رأسا في الفقه والعربية »(٢) .

٤ - ابن الوردي: « كان استاذاً في التفسير والنحو، وشرح ديوان المتنبي أجود شرح، وهو تلميذ الثعلبي، وتوفي بعد مرض طويل بنيسابور »(٣) .

٥ - اليافعي: « الامام المفسر أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، أستاذ عصره في النحو والتفسير، تلميذ أبي إسحاق الثعلبي، وأحد من برع في العلم، وصنف التصانيف الشهيرة المجمع على حسنها، والمشتغل بتدريسها والمرزوق السعادة فيها »(٤) .

٦ - ابن الجزري: « إمام كبير علامة، روى القراءة عن علي بن أحمد البستي، وأحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي. روى القراءة عنه: أبو القاسم الهذلي. مات في سنة ٤٦٨ بنيسابور »(٥) .

٧ - ابن قاضي شهبة: « كان فقيهاً، إماماً في النحو واللغة وغيرهما، شاعراً، وأما التفسير فهو إمام عصره فيه، »(٦) .

٨ - الديار بكري: « وفي سنة ثمان وستين وأربعمائة توفي أبو الحسن علي بن

____________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٨ / ٣٣٩.

(٢). العبر، حوادث سنة ٤٦٨.

(٣). تتمة المختصر، حوادث سنة ٤٦٨.

(٤). مرآة الجنان، حوادث سنة ٤٦٨.

(٥). طبقات القراء ١ / ٥٢٣.

(٦). طبقات الشافعية ١ / ٢٦٤.

٢١٤

أحمد بن محمد بن متويه الواحدي المفسّر، مصنّف البسيط والوسيط والوجيز في التفسير، وهو نيسابوري إمام مشهور »(١) .

٩ - الكاتب الجلبي: « أسباب النزول للشيخ الامام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المفسر المتوفى سنة ٤٦٨. وهو أشهر ما صنّف فيه، أوله: الحمد لله الكريم الوهاب »(٢) .

١٠ - وذكر ولي اللهالدهلوي الواحدي مع البغوي والبيضاوي، واصفاً إياهم بكبار المفسّرين، وجاعلاً إيّاهم قدوة المسلمين(٣) .

(٧)

رواية أبي سعيد السجستاني

ورواه أبو سعيد مسعود بن ناصر السجستاني في كتابه حول حديث الولاية باسناده عن ابن عباس إنه قال: « أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلّغ بولاية علي، فأنزل الله عزّ وجلّ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الآية فلمـّا كان يوم غدير خم قام فحمد الله وأثنى عليه وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره، وأعز من أعزه، وأعن من أعانه ».

____________________

(١). تاريخ الخميس ٢ / ٣٥٩.

(٢). كشف الظنون ١ / ٧٦.

(٣). ازالة الخفاء.

٢١٥

ترجمة أبي سعيد السجستاني

وأبو سعيد السجستاني من مشاهير حفاظ أهل السنّة الثّقات، وقد تقدم سابقاً ذكر طرف من ترجمته عن السمعاني والذهبي.

(٨)

رواية الحاكم الحسكاني

وروى أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني نزول قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) في واقعة يوم غدير خم، ففي كتاب ( مجمع البيان ) بتفسير الآية المباركة: « عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن الكلبي عن أبي صالح عن عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله قالا: أمر الله محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينصب عليّاً علماً للناس فيخبرهم بولايته، فتخوّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقولوا حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله إليه هذه الآية، فقامعليه‌السلام بولايته يوم غدير خم ».

قال: وهذا الخبر بعينه قد حدثناه السيد أبو الحمد عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن أبي عمير في كتاب شواهد التنزيل في قواعد التفضيل »(١) .

____________________

(١). مجمع البيان في تفسير القرآن المجلد الثاني / ٢٢٣ وهو في شواهد التنزيل ١ / ١٨٧.

٢١٦

(٩)

رواية ابن عساكر

وممّن روى نزول تلك الآية المباركة في واقعة يوم غدير خم: أبو القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر الدمشقي، كما عرفت ذلك من عبارة السيوطي في ( الدر المنثور )(١) .

ترجمة ابن عساكر

١ - ياقوت الحموي: « هو أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله الحافظ أحد أئمة الحديث المشهورين والعلماء المذكورين. ولد في المحرم سنة ٤٩٩. ومات في الحادي عشر من رجب سنة ٥٧١ »(٢) .

٢ - ابن خلكان: « الحافظ أبو القاسم المعروف بابن عساكر الدمشقي الملقب ثقة الدين. كان محدّث الشام في وقته ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه الحديث فاشتهر به، وبالغ في طلبه، إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره، ورحل وطوف وجاب البلاد ولقي المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم ابن السمعاني في الرحلة.

وكان حافظاً ديناً، جمع بين معرفة المتون والأسانيد وصنّف التصانيف المفيدة وخرّج التخاريج، وكان حسن الكلام على الأحاديث، محفوظاً في الجمع والتأليف، صنف التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلدة، أتى فيه بالعجائب،

____________________

(١) وهو في ترجمة أمير المؤمنينعليه‌السلام من تاريخ دمشق ٢ / ٨٦.

(٢). معجم الأدباء ١٣ / ٧٣.

٢١٧

وهو على نسق تاريخ بغداد، قال لي شيخنا الحافظ العلامة أبو محمد عبد العظيم المنذري حافظ مصر أدام الله به النفع - وقد جرى ذكر هذا التاريخ وأخرج لي منه مجلّداً وطال الحديث في أمره واستعظامه - ما أظن هذا الرجل إلّا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلّا فالعمر يقصر عن أن يجمع الإنسان فيه مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبّه. قال - ولقد قال الحق - من وقف عليه عرف حقيقة هذا القول، ومتى يتسع للانسان الوقت حتى يضع مثله، وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره وما صح له هذا إلّا بعد مسودات ما كاد ينضبط حصرها.

وله غيره تواليف حسنة وأجزاء ممتعة »(١) .

٣ - الذهبي: « ابن عساكر الامام الحافظ الكبير محدّث الشام فخر الأئمة ثقة الدين قال السمعاني: أبو القاسم حافظ ثقة متقن ديّن خيّر حسن السمت، جمع بين معرفة المتن والاسناد، وكان كثير العلم غزير الفضل، صحيح القراءة، متثبّتا، رحل وتعب وبالغ في الطلب، وجمع ما لم يجمعه غيره، وأربى على الأقران وقال المحدث بهاء الدين القاسم: كان أبيرحمه‌الله مواظباً على الجماعة والتلاوة، يختم كلّ ليلة ختمة [ يختم كل جمعة ]، ويختم في رمضان كلّ يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، وكان كثير النوافل والأذكار، ويحيي ليلة العيدين بالصلاة والذكر، وكان يحاسب نفسه على لحظة تذهب

قال سعد الخير: ما رأيت في سنن [ سن ] ابن عساكر مثله.

قال القاسم ابن عساكر سمعت التاج المسعودي يقول سمعت أبا العلاء الهمداني يقول لرجل استأذنه في الرحلة [ قال ]: إن عرفت أحداً أفضل مني فحينئذٍ آذن لك أن تسافر إليه، إلّا أن تسافر إلى ابن عساكر فإنه حافظ كما يجب.

وحدثني أبو المواهب بن صصري قال: لما دخلت همدان قال لي الحافظ: أنا

____________________

(١). وفيات الأعيان ١ / ٣٣٥.

٢١٨

أعلم أنه لا يساجل الحافظ أبا القاسم في شأنه أحد، فلو خالق الناس ومازجهم كما ينبغي [ أصنع ] إذاً لاجتمع عليه الموافق والمخالف، وقال لي يوماً: أي شيء فتح له؟ وكيف الناس له؟ قلت: هو بعيد من هذا كلّه، لم يشتغل منذ أربعين سنة إلّا بالجمع والتسميع حتى في نزهته وخلواته، قال: الحمد لله هذا ثمرة العلم، إلّا أنا حصل لنا [ من ] هذا المسجد والدار والكتب تدل على قلة حظ أهل العلم في بلادكم. ثم قال: ما كان يسمى أبو القاسم إلاّ شعلة نار ببغداد من ذكائه وتوقده وحسن إدراكه.

قال أبو المواهب: كنت أذاكر أبا القاسم الحافظ عن الحفّاظ الذين لقيهم. فقال: أما بغداد فأبو عامر العبدري، وأما اصبهان فأبو نصر اليونارتي لكن اسماعيل بن محمّد الحافظ كان أشهر. فقلت: فعلى هذا ما كان رأى سيدنا مثل نفسه. قال: لا تقل هذا قال الله:( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) قلت: فقد قال [ الله تعالى ]( أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) . فقال: لو قال قائل: إن عيني لم تر مثلي لصدق.

ثم قال أبو المواهب: لم أر مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه، من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلّا من عذر، والاعتكاف في رمضان وعشر ذي الحجة، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، وأعرض عن طلب المناصب من الامامة والخطابة، وأباها بعد أن عرضت عليه

وكان شيخنا أبو الحجاج يميل إلى أن ابن عساكر ما رأى حافظاً مثل نفسه.

قال الحافظ عبد القادر: ما رأيت أحفظ من ابن عساكر.

وقال ابن النجار: أبو القاسم إمام المحدّثين في وقته، إنتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان والنقل والمعرفة التامة وبه ختم هذا الشأن. فقرأت بخط الحافظ معمر بن الفاخر في معجمه أنا الحافظ أبو القاسم الدمشقي - بمنى - وكان أحفظ من رأيت من طلبة الحديث والشبان. وكان شيخنا اسماعيل بن محمد الامام

٢١٩

يفضّله على جميع من لقيناهم، قدم إصبهان ونزل في داري، وما رأيت شاباً أودع ولا أحفظ ولا أتقن منه، وكان مع ذلك فقيهاً أديباً سنّياً، جزاه الله خيراً وكثّر في الاسلام مثله، وإني كثيراً سألته عن تأخره عن المجيء إلى إصبهان فقال: لم تأذن لي أمّي.

قال القاسم: توفي أبي في حادي عشر رجب سنة ٥٧١. ورئي له منامات حسنة، ورثي بقصائد، وقبره يزار بباب الصغير »(١) .

٤ - الذهبي أيضاً: « فيها توفي الحافظ ابن عساكر صاحب التاريخ الثمانين مجلّداً ساد أهل زمانه في الحديث ورجاله، وبلغ في ذلك الذروة العليا، ومن تصفّح تاريخه علم منزلة الرجل في الحفظ. توفي في حادي عشر رجب »(٢) .

٥ - اليافعي: « وفيها: الفقيه الامام، المحدث البارع، الحافظ المتقن الضابط ذو العلم الراسخ، شيخ الاسلام، ومحدّث الشام، ناصر السنّة، وقامع البدعة زين الحفّاظ وبحر العلوم الزاخر، رئيس المحدّثين المقر له بالتقدم، العارف الماهر، ثقة الدين، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، الذي اشتهر في زمانه بعلو شانه، ولم ير مثله في أقرانه، الجامع بين المعقول والمنقول، والمميز بين الصحيح والمعلول.

كان محدّث زمانه، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، غلب عليه الحديث واشتهر به، وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره، رحل وطوّف وجاب البلاد، ولقي المشايخ، وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني في الرحلة.

وكان أبو القاسم المذكور حافظاً ديناً، جمع بين معرفة المتون والأسانيد - وصنف التصانيف المفيدة، وخرّج التخاريج، وكان حسن الكلام على الأحاديث

____________________

(١). تذكرة الحفاظ ٤ / ١٣٢٨ - ١٣٣٣.

(٢). العبر حوادث ٥٧١.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563