الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد13%

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 563

الجزء ١ المقدمة الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 563 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182023 / تحميل: 9883
الحجم الحجم الحجم
الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسَنَ، وكانَ جليلَ القدرِ كريمَ الطّبعِ ظَلِفَ النّفسِ(١) ثيرَ البِرِّ، ومدحَه الشّعراءُ وقصدَه النّاسُ منَ الآفاقِ لطلبِ فضلهِ.

فذكرَ أصحابُ السِّيرِة: أنّ زيدَ بنَ الحسنِ كانَ يلي صدقاتِ رسولِ اللهِّصلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا وُلِّيَ سليمانُ بنُ عبدِ الملكِ كتبَ إِلى عاملِه بالمدينةِ: أمّا بعدُ فإِذا جاءَكَ كتابي هذا، فاعزِلْ زيداً عن صدقاتِ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله وادفَعْها إِلى فلانِ ابنِ فلانٍ - رجل من قومِه - وأعِنْه على ما استعانَكَ عليهِ، والسّلامُ.

فلما استُخْلِفَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ إِذا كتابٌ قد جاءَ(٢) منه: أمّا بعدُ فإنّ زيدَ بنَ الحسنِ شريفُ بني هاشمٍ وذوسِنِّهم، فإِذا جاءَكَ كتابي هذا فاردُدْ اليه صدقاتِ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله واعِنْه على ما استعانَكَ عليه، والسّلامُ(٣) .

وفي زيدِ بنِ الحسنِ يقولُ محمّدُ بنُ بَشيرٍ الخارِجيُّ:

إِذَا نَزَلَ ابْنُ المُصْطَفَى بَطْنَ تَلْعَةٍ(٤)

نَفَى جَدْبَهَا وَاخْضَرَّ بِالنَّبْتِ عُوْدُهَا

وَزيدٌ رَبِيْعُ النَّاسِ فيْ كُلِّ شَتْوة

إِذَا أخْلـفَتْ أنـوَاؤُهَا(٥) وَرُعوْدُهـا

__________________

(١) ظلف النفس: عزيزها. «الصحاح - ظلف - ٤: ١٣٩٩».

وفي «م»! وهامش «ش»: ظريف النفس.

(٢) في هامش «ش» و «م»: ورد.

(٣) ذكر الذهبي استخلاف عمر بن عبد العزيز لزيد بن الحسن على الصدقات. انظر سير اعلام النبلاء ٤: ٤٨٧ / ١٨٦، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ١٦٣ / ٢.

(٤) التلعة: مسيل ماء من أعلى الأرض الى بطن الوادي «الصحاح - تلع - ٣: ١١٩٢ ».

(٥) الأنواء: جمع نوء، وهوسقوط نجم وطلوع نجم، وكانت العرب تنسب المطر الى الأنواء، فتقول: مطرنا بنوء كذا. «مجمع البحرين - نوأ - ١: ٤٢٣ ». وفي هامش «ش»: »:

٢١

حَمُوْلٌ لأشْنَاقِ(١) الدِّيَاتِ كَأنَّهُ

سِرَاجُ الدُّجَىِ إِذْ قَارَنته سُعُوْدُهَا(٢)

وماتَ زيد وله تسعونَ سنة، فرثَاه جماعةٌ منَ الشُّعراءِ وذكروا مآثره وبكَوا فضلَه، فممّن رثاه قُدامةُ بنُ موسى الجُمَحِيّ فقالَ:

فَإِنْ يَكُ زَبْدٌ غَالَتِ الأرْضُ شَخْصَهُ

فَقَدْ بَانَ مَعْرُوْف هُنَاكَ وَجُوْدُ

وانْ يك أمسى رهنَ رَمْسٍ فقد ثَوَى

بهِ وَهْوَ مَحموْدُ الْفعَالِ فَقِيْدُ

سَمِيْعٌ إِلىَ المُعْتَرّ يَعْلَمُ أنَهُ

سًيَطْلُبُهُ اْلمَعْرُوْفَ ثُمَّ يَعُوْدُ

وَلَيْسَ بِقَوَّالٍ وَقَد ْحَطَّ رَحْلَه

لِمُلْتَمِسِ اْلمَعْرُوْفِ أيْنَ تُرِيْدُ

إِذَا قَصَّرَ الْوَغْد الدَّنيُّ نَمَا بِهِ

إِلَى اْلمَجْدِ ابَاءٌ لَهُ وَجدُوْدُ

مَبَاذِيْلُ لِلْمَوْلىَ مَحَاشِيْدُ لَلْقِرَى

وَفي الرَّوْعِ عِنْدَ النَّائِبَاتِ أُسُودُ

إِذَا انْتُحِلَ الْعِزُّالطَّرِيْفُ فَإِنَّهُمْ

لَهُم إِرْثُ مَجْدٍ مَا يُرَامُ تَلِيْدُ

إِذَا مَاتَ مِنْهًمْ سَيِّدٌ قَامَ سَيِّدٌ

كَرِيْمٌ يُبَنِّيْ بَعْدَهُ ويَشِيْدُ(٣)

في أمثالِ هذا ممّا يطولُ به الكتاب.

وخرجَ زيدُ بنُ الحسنِ رضيَ اللهُ عنه منَ الدُّنيا ولم يدَعِ الأمامةَ، ولا ادَّعاها له مُدَّعٍ منَ الشِّيعةِ ولا غيرهم، وذلكَ أنَّ الشِّيعةَ رجلانِ: إِمامّي

__________________

الأنواء منازل القمر.

(١) في هامش «ش» و «م»: الاشناق: ما دون الديات، مثل أروش الجراحات، والشنق أيضاً في الزكاة: ما دون النصاب.

(٢) ذكره البلاذري في أنساب الأشراف ٣: ٧٢ / ٨٤ عدا البيت الاول.

(٣) ذكر البلاذري البيت الأول فقط ٣: ٧٢ و ٧٣، وذكر محقق أنساب الأشراف الشيخ المحمودي عن تاريخ دمشق لابن عساكرج ٦: ٣٠٢ ب القصيدة كاملة.

٢٢

وزيديّ، فالأماميُّ يَعتمدُ في الإِمامةِ النُّصوصَ، وهي معدومة في ولدِ الحسنِعليه‌السلام باتِّفاق، ولم يدَّعِ ذلكَ أحدٌ منهم لنفسهِ فيقع فيه ارتيابٌ.

والزّيديُّ يُراعي في الأمامةِ بعدَ عليٍّ والحسنِ والحسينِعليهم‌السلام الدعوةَ والجهادَ، وزيدُ بن الحسنِ رحمةُ اللهِ عليهِ كانَ مُسالِماً لبني أُميّةَ ومُتقلِّداً من قِبَلِهم الأعمالَ، وكان رأْيُه التّقيَّةَ لأعدائه والتألُّفَ لهم والمداراةَ، وهذا يُضادُّ عندَ الزّيديّةِ علاماتِ الأمامةِ كما حَكَيْناه.

فأمّا الحَشْويّة فإِنّها تَدينُ بامِامةِ بني أُمَّيَةَ، ولا ترى لولدِ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله إمامةً على حالٍ.

والمُعتزلةُ لا ترى الأمامةَ إلاٌ فيمن كانَ على رأيِها في الاعتزالِ، ومن تَوَلَّوا - هم - العقدَ له بالشورى والاختيار، وزيدٌ على ما قدّمْنا ذكرَه خارج عن هذه الأحوال.

والخوارجُ لا ترى إِمامةَ من تولىّ أميرَ المؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالبٍعليه‌السلام ، وزيدٌ كانَ متولِّياً أباه وجدّه بلا اختلافٍ.

فصل

فأمّا الحسنُ بنُ الحسنِ فكانَ جليلاً رئيساً فاضلاً وَرِعاً، وكانَ يَلي صدقاتِ أميرِ المؤمنينَعليه‌السلام في وقتِه، وله معَ الحَجَّاجِ خبرٌ رواه الزُّبيرُ بنُ بكّارٍ قالَ: كانَ الحسنُ بنُ الحسنِ والياً صدقاتِ أميرِ المؤمنينَعليه‌السلام في عصرِه، فسايرَ يوماً الحَجَّاجَ بنَ يوسفَ في موكبِه - وهو إِذْ ذاكَ أمير المدينةِ - فقالَ له الحَجَّاجُ: أدْخِلْ

٢٣

عُمَرَ بنَ عليٍّ معَكَ في صدقةِ أبيه، فإِنّه عمُكَ وبقيّةُ أهلِكَ، فقالَ له الحسنُ: لا أُغيّرُشرطَ عليٍّ ولا أُدْخِلُ فيها من لمِ يُدْخِلْ، فقالَ له الحَجَّاجُ: إِذاً أُدْخِله أنا معَكَ.

فنكصَ الحسنُ بنُ الحسنِ عنه ( حتّى غفلَ )(١) الحَجَّاجُ، ثمّ توجّهَ إِلى عبدِ الملكِ حتّى قَدِمَ عليه فوقفَ ببابهِ يَطلُبُ الإذن، فمرّ به يحيى بن أُمِّ الحَكَمِ فلمّا رآه يَحيى مالَ إِليه وسلّمَ عليه وسألَه عن مَقدَمِه وخبرِه، ثمَّ قالَ: إِنِّي سأنفعُكَ عندَ أميرِ المؤمنينَ - يعني عبدَ الملكِ - فلمّا دخلَ الحسنُ ابنُ الحسنِ على عبدِ الملكِ رَحّبَ به وأحسنَ مُسَاءَلَتَه، وكانَ الحسنُ قد أسرعَ إليه الشَّيبُ، ويَحيى بن أُمِّ الحكمِ في المجلسِ، فقالَ له عبدُ الملكِ: لقد أسرعَ إليكَ إليكَ الشيبُ يا با محمّدٍ، فقالَ يَحيى: وما يمنعُه يا أمير المؤمنينَ؟ شيَّبَه أمانيُّ أهلِ العراقِ، يَفِدُ(٢) عليه الرّكبُ يُمَنُّونَه الخلافةَ. فأقبلَ عليه الحسنُ فقالَ: بئْسَ والله الرِّفدُ رَفَدْتَ، لست(٣) كما قلتَ، ولكنّا أهلُ بيتٍ يُسرعُ إِليناَ الشَّيبُ. وعبدُ الملكِ يَسمعُ، فأقبلَ عليه عبدُ الملكِ فقالَ: هلّم بما(٤) قدمتَ له، فاخبرهَ بقولِ الحجّاج فقالَ: ليس ذلكَ له، أكْتُبُ إِليه كتاباً لا يتجاوزه. فكتبَ إِليه ووصلَ الحسنَ بنَ الحسنِ فأحسنَ صِلَتَه.

فلمّا خرجَ من عندِه لَقِيَه يَحيى بن أُمِّ الحكمِ، فعاتبَه الحسن على

__________________

(١) كذا في النسخ الثلاث، لكن في هامش «ح » والبحار: حين غفل، والظاهر ان الصحيح: حتى قفل - بالقاف - أي رجع. انظر مختصر تاريخ دمشق ٦: ٣٣٠.

(٢) في «م» وهامش «ش»: يغدو.

(٣) في هامش «ش»: ليس.

(٤) في «م» وهامش «ش»: ما.

٢٤

سوء مَحْضَرِه وقالَ له: ما هذا الّذي وعدْتَني به؟ فقالَ له يَحيى: إِيهاً عنكَ، فواللهِ لا يَزالُ يَهابُكَ، ولولا هَيْبَتُكَ ما قضى لكَ حاجةً، وما ألَوْتُكَ رِفْداً(١) .

وكانَ الحسنُ بنُ الحسنِ حضرَمعَ عمِّه الحسينِ بنِ عليٍّعليهما‌السلام الطّفَّ، فلما قُتِلَ الحسينُ وأسِرَ الباقونَ من أهلِه، جاءه أسماءُ بنُ خارِجةَ فانتزعَه من بينِ الأسرى وقالَ: واللّهِ لا يُوصَلُ إِلى ابن خَوْلَةَ أبداً، فقالَ عُمَرُ بنُ سعدٍ: دَعُوا لأبي حَسَّان ابنَ أُختِه. ويُقالُ إِنّه أُسِرَ وكانَ به جِراح قد أشفى منها.

ورُويَ:أنّ الحسنَ بنَ الحسنِ خطبَ إلى عمِّه الحسينِعليه‌السلام إحدى ابنتيه، فقالَ له الحسينُ: «اختَرْ يا بُنيَّ أحبَّهُما إِليكَ » فاستحيا الحسنُ ولم يُحرْ جواباً، فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «فإِنِّي قدِ اخترتُ لكَ ابنتي فاطَمةَ، وهي أكثرُهما شبهاً بأُمِّي فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِما»(٢) .

وقُبضَ الحسنُ بنُ الحسنِ رضوانَ اللهِ عليه وله خمسُ وثلاثونَ سنةً وأخَوه زيدُ بنُ الحسنِ حيُّ، ووصّى إِلى أخيه من أُمِّه إِبراهيم بن محمّدِ بنِ طلحةَ.

__________________

(١) وذكر البلاذري في انساب الاشراف ٣: ٧٣ / ٨٥ الخبر مختصراً، وكذا الذهبي في سير أعلام النبلاء ٤: ٤٨٥، وفي هامش السير نقله عن مصعب الزبيري في نسب قريش: ٤٦، ٤٧، وتاريخ دمشق لابن عساكر ٤: ٢١٨ آ، ب، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ١٦٦.

(٢) مقاتل الطالبيين: ١٨٠، الأغاني ٢١: ١١٥، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ١٦٧ / ٣.

٢٥

ولمّا ماتَ الحسنُ بنُ الحسنِ رحمةُ اللهِّ عليه ضَرَبَتْ زوجتُه فاطمةُ بنتُ الحسينِ على قبرِه فسطاطاً، وكانتْ تقومُ الليلَ وتصومُ النّهارَ، وكانتْ تُشبَّهُ بالحورِ العينِ لجمالِها، فلمّا كانَ رأسُ السّنةِ قالتْ لمواليها: إِذا أظلمَ الليلُ فقَوِّضُوا هذا الفسطاطَ، فلمّا أظلمَ الليلُ سَمِعَتْ قائلاً يقول هَلْ وَجَدُوا ما فَقَدُوا؟ فاجابَه آخرُ: بَلْ يَئِسُوْا فانْقَلَبُوْا.

ومضى الحسنُ بنُ الحسنِ ولم يَدَّعِ الأمامةَ ولا ادّعاها له مُدَّعٍ، كما وصفْناه من حالِ أخيه زيدٍ رحمةُ اللّهِ عليهما.

وأمّا عَمْروٌ والقاسمُ وعبدُ اللهِ بنو الحسنِ بنِ عليّ رضوانُ اللهِ عليهم فإِنَّهم استُشْهِدُوا بينَ يَدَيْ عمِّهم الحسينِعليه‌السلام بالطّفِّ رضيَ الله عنهم وأرضاهم وأحسنَ عن الدِّينِ والإسلام وأهلهِ جَزاءهم.

وعبدُ الرّحمن بن الحسنِ رضيَ اللهُ عنه خرجَ معَ عمِّه الحسينِعليه‌السلام إِلى الحجِّ فتُوفِّيَ بالأبواءِ وهومُحْرِمٌ.

والحسينُ بنُ الحسنِ المعروفُ بالأثرم كانَ له فضلٌ ولم يكنْ له ذِكر في ذلك.

وطلحةُ بنُ الحسنِ كانَ جَواداً.

٢٦

باب ذكر الأمام بعدَ الحسنِ بنِ عليّ عليهما السّلامُ

وتارَيخ مولدِه، ودلائل إمامتهِ،

ومبلغ سنِّه، ومدّة خلافتِه، ووقت وفاتِه وسببها،

وموضع قبرِه، وعدد أولادِه، ومختصر من أخبارِه

والأمامُ بعدَ الحسنِ بنِ عليٍّعليهما‌السلام أخوه الحسينُ بنُ عليٍّ، ابنُ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ صلّى اللّهُ عليهم بنصِّ أبيه وجَدِّه عليه، ووصيّةِ أخيه الحسنِ إِليه.

كنيتهُ أبو عبدِاللهِّ. وُلِدَ بالمدينةِ لخمسِ ليالٍ خَلَوْنَ من شَعبانَ سنةَ أربعٍ منَ الهجرةِ، وجاءتْ به أُمُّه فاطمةُعليهما‌السلام إِلى جَدِّهِ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستبشرَ به وسمّاه حُسَيْنَاً وعَقَّ عنه كبشاً ؛ وهو وأخوه بشهادةِ الرّسولِ صلّى اللّهُ عليهِ وعليهما سيِّدا شبابِ أهل الجنّةِ، وبالاتِّفاقِ الّذي لا مِرْيَةَ فيه سِبطا نبيِّ الرّحمةِ.

وكانَ الحسنُ بنُ عليّعليهما‌السلام يُشبَّهُ بالنّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله من صدرِه إِلى رأْسِه، والحسينُ يُشبَّهُ به من صدرِه إِلى رجليه، وكانا حبيبَيْ رسولِ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من بينِ جميعِ أهلهِ وولدِه.

روى زَاذانُ عن سلمانَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله يقولُ في الحسنِ والحسينِعليهما‌السلام :

٢٧

«اللّهمَّ إِنِّي أُحِبُّهما فأحِبَّهما ( وأحِبَّ من أحبّهما )(١) »(٢) .

وقالَ عليهِ وآلهِ السّلامُ: «مَنْ أحَبَّ الحسنَ والحسينَ -عليهما‌السلام - أحْبَبْتُهُ، ومن أحْبَبْتُهُ أحبّه اللهُّ، ومن أحَبَّه اللهّ عزّ وجلّ أدْخَلَه الجنّةَ، ومن أبْغَضَهما أبْغَضْتُهُ، ومن أبْغَضْتُهُ أبْغَضَه اللهُ، ومن أبْغَضَهُ اللّهُ خَلَّدَه في النّارِ»(٣) .

وقالَ عليهِ وآلهِ السّلامُ: «إِنّ ابنيَّ هذينِ رَيحانتايَ مِنَ الدُّنيا»(٤) .

وروى زرُّ بنُ حُبَيْشٍ، عنِ ابنِ مسعودٍ قالَ: كانَ النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله يصُلِّي فجاءه الحسنُ والحسينُعليهما‌السلام فارْتَدَفاه، فلمّا رَفعَ رأسَه أخذَهما أخذاً رفيقاً، فلمّا عَادَ عادَا، فلما انصرفَ أجلسَ هذا على فخذِه وهذا على فخذِه، وقالَ: «مَنْ أحَبَّني فَلْيُحِبَّ هذينِ »(٥) .

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: وأحبب من يحبهما.

(٢) رواه الترمذي في سننه ٥: ٦٥٦ / ذح ٣٧٦٩ عن اسامة بن زيد، وابن الأثير في أُسد الغابة ٢: ١١، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٣: ٦٦٦ / ٣٧٦٩٧، ورواه ابن عساكر عن مسند حصين بن عوف الخثعمي في تاريخ دمشق - ترجمة الامام الحسينعليه‌السلام -: ٩٥ بدون جملة (وأحب من احبهما) فراجع هوامش الكتاب.

(٣) ذكره الحاكم النيسابوري في مستدركه ٣: ٦٦٦ باختلاف يسير، وابن عساكر في تاريخ دمشق - ترجمة الامام الحسينعليه‌السلام -: ٩٧ / ١٣١ و ٩٨ / ١٣٢، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب: ٤٢٢، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٢: ١١٩، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٣: ٢٧٥ / ٤٢.

(٤) ذكره البخاري في الصحاح ٥: ٣٣، باختلاف يسير، والترمذي في سننه ٥: ٦٥٦ / ٣٧٧٠، وابن عساكر في تاريخ دمشق - ترجمة الامام الحسينعليه‌السلام -: ٣٨ - ٣٩ / ٥٨ - ٦٠، وابن الأثير في اُسد الغابة ٢: ١٩، وابن الصباغ في الفصول المهمة: ١٥٤، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٢: ١١٣، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٣: ٢٧٥ / ٤٢.

(٥) روى نحوه البيهقي في سننه ٢: ٢٦٣، وابن عساكر في تاريخ دمشق - ترجمة الامام

٢٨

وكاناعليهما‌السلام حجّةَ اللهِ تعالى لنبيِّه عليهِ وآلهِ السّلامُ في المُباهلةِ، وحجّةَ اللّهِ من بعد أبيهما أميرِ المؤمنينَ عليهِ وعليهما السّلامُ على الأمّةِ في الدِّينِ والأسلامِ والملّةِ.

وروى محمّدُ بنُ أبي عُمَيْرٍ، عن رجالهِ، عن أبي عبدِاللهّعليه‌السلام قالَ: «قالَ الحسنُ بنُ عليٍّعليهما‌السلام لأصحابِه: إِنّ للّهِ تعالى مدينتينِ: إِحداهما في المشرقِ، والأخرى في المغرب، فيهما خَلْق للّهِ عزّ وجلّ لم يَهُمُّوا بمعصيةٍ له قطُّ، واللهِّ مافيهما وَما بينَهما حجّةٌ للهِّ على خلقِه غيري وغيرُ أخي الحسينِ »(١) .

وجاءتِ الرِّوايةُ بمثلِ ذلكَ عن الحسينِعليه‌السلام أنّه قالَ لأصحابِ ابنِ زيادٍ: « ما بالُكم »(٢) تَناصَرونَ عليَّ؟! أمَ واللهِ لَئنْ قتلتموني لَتَقتُلُنَ حجّةَ اللهِّ عليكم، لا واللهِ ما بينَ جَابَلْقَا وجَابَرْسَا ابنُ نبيٍّ احتجَّ اللّهُ به عليكم غيري »(٣) يَعني بَجابَلْقَا وجَابَرْسَا المدينتينِ اللتينِ ذكرَهما الحسنُ أخوهعليه‌السلام .

وكانَ من برهانِ كمالِهما وحجّةِ اختصاصِ اللهِ لهما - بعدَ الّذي ذكرْناه من مُباهلةِ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله بهما - بيعةُ رسولِ اللهِ لهما، ولم يُبايِعْ صبيّاً في ظاهرِ الحالِ غيرَهما، ونزولُ القرآنِ بإِيجابِ

__________________

الحسينعليه‌السلام -: ٨٣ / ١١٦، ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ١٣١ و ١٣٢، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٢: ١٢١ مختصرأ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٣: ٢٧٥ / ٤٣.

(١) أورد نحوه الصفار في بصائر الدرجات: ٣٥٩ / ٤ و ٥، والكليني في الكافي ١: ٣٨٤ / ٥.

(٢) في «م» وهامش «ش»: ما لكم.

(٣) انظر نحوه في الطبري ٣: ٣١٩، الكامل ٤: ٦٢.

٢٩

ثواب الجنّةِ لهما على عملِهما معَ ظاهر الطّفوليّةِ فيهما، ولم ينزلْ بذلكَ في مثلِهماَ، قالَ اللّهُ عزّ اسمُه في سورةِ هل أتى:( وَيُطْعِمُوْنَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيْنَاً ويَتِيْمَاً وأسِيْرَاً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيْدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوْرَاً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمَاً عَبُوْسَاً قَمْطَرِيْرَاً * فَوَقَاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوْرَاً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوْا جَنَّةً وَحَرِيْر ) (١) فعمَّهما هذا القولُ معَ أبيهما وأمِّهماعليهم‌السلام ، وتضمَّنَ الخبرُ نُطقَهما في ذلكَ وضميرَهما الدّالّينِ على الآيةِ الباهرةِ فيهما، والحجّةِ العُظمى على الخلقِ بهما، كما تضمَّنَ الخبر عن نُطقِ المسيحعليه‌السلام في المهدِ وكانَ حُجَّةً لنًبُوَّته، واختصاصِه منَ اللّهِ بالكرامةِ الدّالّةِ على محلِّه عندَه في الفضلِ ومكانِه.

وقد صرّحَ رسول اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنّصِّ على إِمامتهِ وامامةِ أخيه من قبلهِ بقولهِ: « ابناي هذانِ إِمامانِ قاما أوقعدا» ودَلّت وصيّةُ الحسنِعليه‌السلام إِليه على إِمامتِه، كما دَلّتْ وصيّةُ أميرِ المؤمنينَ إِلى الحسنِ على إِمامتهِ، بحسبِ ما دَلّتْ وصيّةُ رسولِ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله إِلى أميرِ المؤمنينَ على إِمامتهِ من بعدِه.

فصل

فكانتْ إِمامةُ الحسينِعليه‌السلام بعدَ وفاةِ أخيه بما قدّمناه ثابتةً، وطاعتُه - لجَميعِ الخلقِ - لازمة، وِإن لم يَدْعُ إِلى نفسِهعليه‌السلام

__________________

(١) الانسان ٧٦: ٨ - ١٢.

٣٠

للتّقيّةِ الّتي كانَ عليها، والهُدنةِ الحاصلة بينَه وبينَ معاوية بن أبي سفيانَ فالتزمَ الوفاءَ بها، وجرى في ذلكَ مجرى أَبيهِ أميرِ المؤمنينَعليه‌السلام وثبوتِ إِمامتهِ بعدَ النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله معَ الصّموتِ، وِامامةِ أخيه الحسنِعليه‌السلام بعدَ الهُدنةِ معَ الكفِّ والسُّكوتِ، وكانوا في ذلكَ على سنَن نبيِّ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الشِّعب محصورٌ، وعندَ خروجِه مهاجِرأ من مكّةَ مستخفِياً في الغار وهو من أعدائه مستورٌ.

فلمّا ماتَ معاويةُ وانقضتْ مُدَّةُ الهُدنةِ الّتي كانتْ تمنعُ الحسينَ ابنَ عليِّعليهما‌السلام منَ الدّعوةِ إِلى نفسه، أظهرَ أمرَه بحسب الأمكاَنِ، وأبانَ عن حقه للجاهلينَ به حالاً بحالٍ، إِلى أنِ اجتمع لهَ في الظاهر الأنصارُ. فدعاعليه‌السلام إِلى الجهادِ وشمّرَ(١) للقتالِ، وتوجّه بولدِه وأهلِ بيتهِ من حرَمِ اللّهِ وحرَمِ رسولهِ نحوَ العراقِ، للاستنصارِ بمن دعاه من شيعتهِ على الأعداءِ. وقدّمَ أمَامَهُ ابنَ عمِّه مُسلِمَ بنَ عقيلٍ - رضيَ اللهُ عنه وأرضاه - للدّعوةِ إِلى اللهِّ والبيعةِ له على الجهادِ، فبايَعه أهلُ الكوفةِ على ذلكَ وعاهدوه، وضَمِنُوا له النّصرةَ والنصّيحةَ ووَثَّقوا له في ذلكَ وعاقدوه، ثمّ لم تطُلِ المُدّةُ بهم حتّى نكثوا بيعتَه وخذلوه وأسلموه، فقُتِلَ بينهم ولم يمنعوه، وخرجوا إِلى الحسينعليه‌السلام فحصروه ومنعوه المسيرَفي بلادِ اللّهِ، واضطرُّوه إِلى حيث لا يَجِدُ ناصراً ولا مَهْرباً منهم، وحالوا بينَه وبينَ ماءِ الفُراتِ حتّى تمكَّنوا منه وقتلوه، فمضىعليه‌السلام ظَمآنَ مجاهداً صابراً

__________________

(١) في هامش «ش»: وتشمر.

٣١

محتسباً مظلوماً، قد نُكِثَتْ بيعتُه، واستُحِلَّتْ حرمتُه، ولم يُوفَ له بعهدٍ، ولا رُعيَتْ(١) فيه ذِمَّةُ عَقْدٍ، شهيداً على ما مضى عليه أبوه وأخوه عليهما أَفضل الصّلاةِ والرّحمةِ والتّسليمِ.

فصل

فمن مختصر الأخبارِ الّتي جاءتْ بسبب دعوتهعليه‌السلام وما أخذَه
على النّاسِ في الجهادِ من بيعتِه، وذكرِ جملةٍ منَ أمرِه وخروجِه ومقتلِه.

ما رواه الكَلبيُّ والمدائنيُّ وغيرُهما من أصحاب السِّيرةِ قالوا: لمّا ماتَ الحسنُ بنُ عليٍّعليهما‌السلام تحرّكتِ الشِّيعةُ بالعراقِ وكتبوا إِلى الحسينِعليه‌السلام في خلعِِ معاويةَ والبيعةِ له، فامتنعَ عليهم وذكرَ أنّ بينَه وبينَ معاويةَ عهداً وعقداَ لا يجوزُ له نقضُه حتّى تمضِيَ المُدّةُ، فإِن ماتَ معاويةُ نظرَ في ذلكَ.

فلمّا ماتَ معاويةُ - وذلكَ للنِّصفِ(٢) من رجب سنة ستِّينَ منَ الهجرةِ - كتبَ يزيدُ إِلى الوليدِ بنِ عُتْبة بن أبي سفيانَ - وكانَ على المدينةِ من قِبَلِ معاويةَ - أن يأْخذَ الحسينَعليه‌السلام بالبيعةِ له، ولا يُرخِّصَ له في التّأخُّرِعن ذلكَ. فأنفذَ الوليدُ إِلى الحسينِعليه‌السلام في الليلِ فاستدعاه، فعَرفَ الحسينُ الّذي أرادَ فدعا جماعةً من مواليه وأمرَهم بحملِ السِّلاحِ، وقالَ لهم: « إِنّ الوليدَ قد

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: روعيت.

(٢) في هامش«ش» و «م»: في النصف.

٣٢

استدعاني في هذا الوقتِ، ولستُ آمَنُ أن يُكلِّفني فيه أمراً لا أُجيبُه إليه، وهو غيرُ مأْمونٍ، فكونوا معي، فإِذا دخلتُ إِليه فاجلِسوا على البابِ، فإِن سمعتم صوتي قد علا فادخُلوا عليه لتمنعوه منِّي.

فصارَ الحسينُعليه‌السلام إلى الوليدِ فوجدَ عندَه مروانَ بنَ الحكمِ، فنعى الوليدُ إِليه معاويةَ فاسترجعَ الحسينُعليه‌السلام ، ثم قرأ كتابَ يزيدَ وما أمرَه فيه من أخذِ البيعةِ منه له، فقالَ له الحسينُ: «إِنِّي لا أراكَ تَقنعُ ببيعتي ليزيدَ سرّاً حتّى أُبايعَه جهراً، فيعرف الناسُ ذلكَ » فقالَ الوليدُ له: أجل، فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «فتصبحُ وترى ريكَ في ذلكَ » فقالَ له الوليدُ: انصرفْ على اسمِ اللّهِ حتّى تأْتينا معَ جماعةِ النّاسِ. فقالَ له مروانُ: واللهِ لئن فارقَكَ الحسينُ السّاعةَ ولم يُبايعْ لا قَدرت منه على مثلِها أبداً حتّى يكثرَ القتلى بينَكم وبينَه، احبسِ الرّجلَ فلا يخرج من عندِكَ حتّى يبايعَ أوتضربَ عنقَه. فوثبَ عندَ ذلكَ الحسينُعليه‌السلام وقالَ: «أنتَ - يا ابنَ الزّرقاءِ - تَقتلني أو هو؟! كذبتَ واللّهِ وأثمتَ » وخرجَ (يمشي ومعَه )(١) مواليه حتّى اتى منزلَه.

فقالَ مروان للوليد ِ: عصيتَني، لا واللهِ لا يُمكِّنكَ مثلَها مِن نفسِه أبداً، فقالَ الوليدُ: (الويح لغيرك )(٢) يا مروانُ إِنَّكَ اخترتَ لي الّتي فيها هلاكُ ديني، واللّهِ ما أُحِبُّ أنّ لي ما طلعتْ عليه الشّمسُ وغربتْ عنه من مالِ الدُّنيا وملكِها وأنّي قتلتُ حسيناً، سبحانَ اللهِّ! أقتلُ حسيناً أنْ

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: فمشى معه.

(٢) في هامش «ش» و «م»: ويح غيرك، وما أثبتناه من «ش» و «م» و «ح». قال العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ٣٦٠: قال هذا تعظيماً له، أي لا اقول لك ويحك بل أقول لغيرك.

٣٣

قالَ لا أُبايعُ؟! واللهِ إنَي لأظنُّ أنّ امراً يُحاسبُ بدمِ الحسينِ خفيفُ الميزانِ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ. فقالَ له مروانُ: فإِذا كانَ هذا رأيك فقد أصبتَ فيما صنعتَ ؛ يقولُ هذا وهوغيرُ الحامدِ له في رأْيِه(١) .

فأقامَ الحسينُعليه‌السلام في منزلهِ تلكَ الليلَة، وهي ليلةُ السبتِ لثلاثٍ بَقِيْنَ من رجبِ سنةَ ستَينَ. واشتغلَ الوليدُ بنُ عُتْبةَ بمراسلةِ ابنِ الزُّبيرِ في البيعةِ ليزَيدَ وامتناعِه عليه. وخرجَ ابنُ الزُبيرِمن ليلتِه عنِ إلمدينةِ متوجِّهاً إِلى مكّةَ، فلمّا أصبحَ الوليدُ سرّحَ في أثرِه الرِّجالَ، فبعثَ راكباً من موالي بني أُمّيةَ في ثمانينَ راكباً، فطلبوه فلم يُدرِكوه فرجعوا.

فلمّا كانَ آخر (نهارِ يوم )(٢) السّبتِ بعثَ الرِّجالَ إِلى الحسينِ بنِ عليِّعليهما‌السلام ليحضرَ فيبايعِ الوليدَ ليزيد بن معاويةَ، فقالَ لهم الحسَينُ: «أصبِحوا ثمّ تَرَوْن ونرَى» فكفُّوا تلكَ الليلةَ عنه ولم يُلِحُّوا عليه. فخرجَعليه‌السلام من تحتِ ليلتِه - وهي ليلةُ الأحدِ ليومين بَقِيا من رجبٍ - متوجِّهاً نحوَ مكّةَ ومعَه بنوه واخوتُه وبنوأخيه وجُلُّ أهلِ بيتهِ إلّا محمّدَ بنَ الحنفيّةِ - رضوان اللهِ عليه - فإِنّه لمّا علمَ عزمَه على الخروجِ عنِ المدينةِ لَم يدْرِ أينَ يتوجّهُ، فقالَ له: يا أخي أنتَ أحبُّ النّاس إِليَّ وأعزُّهم عليَّ ولستُ أَدّخِرُ النّصيحةَ لأحدٍ منَ الخلقِ إِلا لكَ وأَنتَ أحقُّ بها، تَنَحَّ ببيعتِكَ عن يزيد بن معاويةَ وعنِ الأمصارِ ما استطعتَ، ثمّ ابعثْ رُسُلَكَ إِلى النّاسِ فادعُهم إِلى نفسِكَ، فإِن تابَعَكَ النّاسُ وبايَعوا لكَ حمدتَ اللهَّ على ذلكَ، وإن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٣٣٩.

(٢) في هامش «ش»: النهار من يوم.

٣٤

أجمعَ النّاسُ على غيرِكَ لم يَنْقُصِ اللّهُ بذلكَ دينَكَ ولا عقلَكَ ولا تَذْهَب به مروءتُكَ ولا فضلُكَ ؛ إِنّي أخافُ أن تَدخلَ مصراً من هذه الأمصارِ فيختلف النّاسُ بينَهم فمنهم طائفةٌ معَكَ وأُخرى عليكَ، فيقتَتِلونَ فتكونُ أنتَ لأوّلِ الأسِنَّةِ، فإِذا خيرُهذه الأُمّةِ كلِّها نفساً وأباً وأُمّاً أضيعُها دماً وأذلُّها أهلاً، فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «فأينَ أذهبُ يا أخي؟» قالَ: انزلْ مكّةَ فإِنِ اطمأنّتْ بكَ الدّارُ بها فسبيلُ ذلكَ، وِإن ( نَبَت بك )(١) لحقتَ بالرِّمالِ وشَعَفِ الجبالِ وخرجتَ من بلدٍ إِلى بلدٍ، حتّى تنظرَ ( ما يصيرُأمرُ النّاسِ إِليه )(٢) ، فإِنّكَ أصوبُ ما تكونُ رأياً حينَ تستقبَلُ الأمرَ استقبالاً. فقالَ: «يا أخي قد نصحتَ وأشفَقْتَ، وأرجو أن يكونَ رأْيُكَ سديداً موفّقاً».

فسارَ الحسينُعليه‌السلام إلى مكّةَ وهو يقرأ:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفَاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ الْقَوْم الظَالِميْنَ ) (٣) ولزمَ الطّريقَ الأعظمَ، فقالَ له أهلُ بيتِه: لوتنكّبْتَ الطَّريقَ الأَعظمَ كما صنعَ(٤) اَبنُ الزُّبيرِلئلاّ يلحقَكَ الطّلبُ، فقالَ: «لا واللّهِ لا أُفارقُه حتّى يقضيَ اللّهُ ما هوقاضٍ ».

ولمّا دخلَ الحسينُ مكّةَ كانَ دُخُولُه إِليها(٥) ليلةَ الجمعةِ لثلاث مَضَيْنَ من شعبانَ، دخلهَا وهو يقرأُ:( وَلَمِّا تَوَجَّههَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قالَ

__________________

(١) نبت بك: أي لم تجد بها قراراً، ولم تطمئن عليها «انظر لسان العرب - نبا - ١٥: ٣٠٢».

(٢) في هامش «ش»: الى ما يصير امر الناس.

(٣) القصص ٢٨: ٢١.

(٤) في هامش «ش» و «م»: فعل.

(٥) في هامش «ش»: أياها.

٣٥

عَسَى رَبِّيْ أنْ يَهْدِيَنيْ سَوَاءَ السَّبِيْل ) (١) ثمّ نزلَها وأقبلَ أهلُها يختلفونَ إِليه، ومن كانَ بها من المعتمرينَ وأَهل الآفَاقِ، وابنُ الزُّبيرِ بها قد لزمَ جانبَ الكعبةِ فهو قائمٌ يصلِّي عندَها ويطوفُ، وياْتي الحسينَعليه‌السلام فيمن ياْتيه، فيأْتيه اليومينِ المتواليينِ وياْتيه بينَ كلِّ يومينِ مرّةً، وهو أثقلُ خلقِ اللهِّ على ابنِ الزُبيرِ، قد عرفَ أنّ أهلَ الحجازِ لا يُبايعونَه ما دامَ الحسينُعليه‌السلام في البلدِ(٢) ، وأنّ الحسينَ أطوعُ في النّاس منه وأجلُ.

وبلغَ أهل الكُوفةِ هلاك معاويةَ فأرجفوا بيزيدَ، وعَرفوا خبرَ الحسينِعليه‌السلام وامتناعَه من بيعتهِ، وما كانَ من ابنِ الزُّبيرِ في ذلكَ، وخروجهما إِلى مكّةَ، فاجتمعتِ الشِّيعةُ بالكوفةِ في منزلِ سُليمان ابن صُرَد، فذكروا هلاكَ معاويةَ فحمدوا اللهَ عليه، فقالَ سليمانُ: إِنّ معاويةَ قد هلكَ، وانّ حُسَيناً قد تَقَبَّضَ(٣) على القوم ببيعتِه، وقد خرجَ إِلى مكّةَ، وأنتم شيعتُه وشيعةُ أبيه، فإِن كنتم تعَلمونَ أنّكم ناصِروه ومجاهِدو عَدوِّه ( فاعلموه، وان خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوه، ونقتل انفسنا دونه، قال: )(٤) ؛ فكَتَبُوا:

بسمَ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

للحسينِ بنِ عليٍّعليهما‌السلام من سُليمان بن صُرد، والمسَيَّبِ

__________________

(١) القصص ٢٨: ٢٢.

(٢) في «م» وهامش «ش»: بالبلد.

(٣) تقبّض ببيعته: انزوى بها ولم يعطهم اياها «لسان العرب - قبض - ٧: ٢١٣».

(٤) في «ش» و «م»: بدل ما بين القوسين: ونقتل أنفسنا دونه.

٣٦

ابن نَجَبَةَ، ورِفاعة بن شدّادٍ، وحبيبِ بنِ مُظاهِر(١) ، وشيعتِه من المؤمنينَ والمسلمينَ من أهلِ الكوفةِ:

سلامٌ عليك، فإِنّا نحمدُ إِليكَ اللهَ الّذي لا إِلهَ إلّا هو.

أمّا بعدُ: فالحمدُ للّهِ الّذي قصمَ عدوَّكَ الجبّارَ العنيدَ، الّذي انتزى على هذهِ الأمّةِ فابتَزَها أمرَها، وغصبَها فيئَها، وتأمّرَ عليها بغيرِ رضىً منها، ثمّ قتلَ خيارَها واستبقى شِرارَها، وجعلَ مالَ اللّهِ دُوْلةً بينَ (جبابرتِها وأغنيائها )(٢) ، فبعُداً له كما بَعدَتْ ثمودُ. إِنّه ليسَ علينا إِمامٌ، فأقبِلْ لعلّ اللّهَ أن يجمعَنا بكَ على الحقِّ ؛ والنُّعمانُ بنُ بشيرٍ في قصرِ الأمارة لسْنا نجَمِّعُ معَه في جمعةٍ ولا نخرجُ معَه إِلى عيدٍ، ولوقد بَلَغَنا أنّكَ أَقبلتَ إِلينا أخرَجْناه حتّى نُلحقَه بالشّامِ إِن شاءَ اللّهُ.

ثمّ سرّحوا الكتابَ(٣) معَ عبدِاللهِ بنِ مِسْمَعٍ الهَمْدانيّ وعبدِاللّهِ ابنِ والٍ، وأمروهما بالنّجاءِ(٤) ، فخرجا مُسرِعَيْنِ حتّى قدما على الحسينِعليه‌السلام بمكّةَ(٥) ، لعشرٍ مَضَيْنَ من شهرِ رمضانَ.

(ولبثَ أهلُ الكُوفةِ يومينِ بعدَ تسريحِهم )(٦) بالكتاب، وأنفذوا قيسَ بنَ مُسْهِرٍ الصَّيْداويّ و (عبدَ الرّحمن بن عبدِ الله الأرحبّي )(٧) وعمارةَ

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: مظهَر.

(٢) في هامش «ش» و «م»: عتاتها واغنيائها.

(٣) في هامش «ش»: بالكتاب.

(٤) النجاء: السرعة « القاموس المحيط - نجو - ٤: ٣٩٣».

(٥) في «م» وهامش «ش»: مكة.

(٦) في «م» وهامش «ش»: ثم كتب أهل الكوفة بعد تسريحهم.

(٧) في النسخ الخطية: عبدالله بن شداد الأرحبي، وبعده بأسطر ذكره باسم عبد الرحمن

٣٧

ابنَ عبدٍ السّلوليّ إِلى الحسينِعليه‌السلام ومعَهم نحوٌ من مائةٍ وخمسينَ صحيفةً منَ الرّجلِ والاثنينِ والأربعةِ.

ثمّ لبثوا يومينِ آخرينِ وسرّحوا إِليه هانئ بنَ هانئ السّبيعيّ وسعيدَ بنَ عبدِاللهِّ الحنفيّ، وكتبوا إِليه: بسمِ اللهِّ الرّحمنِ الرّحيمِ، للحسينِ بنِ عليٍّ من شيعتهِ منَ المؤمنينَ والمسلمينَ.

أمّا بعدُ: فحيَّ هلا، فإِنّ النّاسَ ينتظرونَكَ، لا رأيَ لهم غيركَ، فالعجلَ العجلَ، ثمّ العجلَ العجلَ، والسلامُ.

وكتبَ شَبَثُ بنُ رِبعيّ وحجَّارُ بنُ أبجرَ ويزيدُ بنً الحارثِ بنِ رُوَيمٍ و (عروةُ بنُ قيسٍ )(١) ، وعمروبنُ الحجّاجِ الزّبيديّ و (محمّد بنُ عمرو التّيميّ )(٢) : أمّا بعدُ: فقد اخضرَّ الجَناب وأينعتِ الثِّمارُ، فإِذا شئتَ فاقدمْ على جُندٍ لكَ مجنَّدٍ، والسّلامُ.

وتلاقتِ الرُسّلُ كلًّها عندَه، فقرأ الكُتُبَ وسألَ الرّسلَ عنِ النّاسِ، ثمّ كتبَ معَ هانئ بنِ هانئ وسعيدِ بنِ عبدِاللّهِ وكانا آخرَ الرُّسُلَ:

__________________

ابن عبدالله الارحبي والمصادر مجمعة عليه انظر، (تاريخ الطبري ٥: ٣٥٢، انساب الاشراف للبلاذري ٣: ١٥٨، الفتوح لابن اعثم ٥: ٣٢، وقعة الطف لابي مخنف: ٩٢، تذكرة الخواص: ٢٢٠، وفي الاخبار الطوال: ٢٢٩: ابن عبيد.

(١) لم نجد في كتب الرجال عروة بن قيس، والظاهر ان الصحيح عزرة بن قيس، انظر تاريخ الطبري ٥: ٣٥٣، انساب الاشراف ٣: ١٥٨، وهو عزرة بن قيس بن عزية الاحمس البجلي الدهني الكوفي.

(٢) كذا في النسخ الخطية، ولم نجد له في كتب الرجال ترجمة، والظاهر ان الصحيح محمد بن عمير التميمي، انظر تاريخ ألطبري ٥: ٣٥٣، انساب الاشراف ٣: ١٥٨، وهو محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب الدارمي التميمي الكوفي، كان من اشراف أهل الكوفة، لسان الميزان ٣٣٠:٥، مختصر تاريخ دمشق ٢٣: ١٥١.

٣٨

« بسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

منَ الحسينِ بنِ عليٍّ إِلى الملإِ منَ المسلمينَ والمؤمنينَ.

أمّا بعد: فإِنّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليَّ بكتبكم، وكانا آخرَ من قدمَ عليَّ من رسلِكم، وقد فهمت كلَّ الّذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلِّكم: أنّه ليسَ علينا إِمامٌ فأقبلْ لعلّ اللّهَ أن يجمعَنا بكَ على الهدى والحقِّ. وإِنِّي باعثٌ إِليكم أخي وابنَ عمِّي وثقتي من أهلِ بيتي، فإِن كتبَ إِليَّ أنّه قدِ اجتمعَ رأيُ مَلَئِكم وذوي الحِجا والفضلِ (١) منكم على مثلِ ما قدمتْ به رُسُلُكم وقرأتُ في كُتُبِكم، أقدم عليكم وشيكاً إِن شاءَ اللّهُ. فَلعَمري ما الأمامُ إلأ الحاكمُ بالكتاب، القائمُ بالقسطِ، الدّائنُ بدينِ الحقِّ، الحابسُ نفسَه على ذَاتِ اللّهِ، والسّلامُ ».

ودعا الحسينُ بنُ عليٍّعليهما‌السلام مسلمَ بنَ عقيلِ بنِ أَبي طالبِ رضيَ اللهُّ عنه فسرَّحَه معَ قيسِ بنِ مُسْهِرِ الصّيداويّ وعُمارة بن عبدٍ السَّلوليّ وعبدِ الرّحمنِ بنِ عبدِاللّهِ الأَرحبي، وأَمرَه بتقوى اللهِّ وكتمانِ أمرِه واللطفِ، فإِنْ رأَى النّاسَ مجتمعينَ مُسْتوسِقِينَ عَجَّلَ إِليه بذلكَ.

فأقبلَ مسلمٌ حتّى أَتى المدينةَ فصلّى في مسجدِ رسولِ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله وودعِ من أَحبَّ من أَهلِه ثمّ استأْجرَ دليلينِ من قيس،

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: الفضيلة.

٣٩

فأقبلا به يتنكّبانِ الطّريقَ، فضلاّ وأصابَهم عطشٌ شديدٌ فعجزا عنِ السّيرِ، فأومئا له إِلى سَنَنِ الطّريقِ بعدَ أنْ لاحَ لهما ذلكَ، فسلكَ مسلمٌ ذلكَ السَّنَنَ وماتَ الدّليلانِ عطشاً.

فكتبَ مسلم بنُ عقيلٍرحمه‌الله منَ الموضعِ المعروفِ بالمضيقِ معَ قيسِ بنِ مُسْهِرٍ: أمّا بعدُ: فإِنّني أقبلتُ منَ المدينةِ معَ دليلينِ لي فجارَا عنِ الطّريقِ فضلاّ واشتدَّ علينا(١) ، العطشُ فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلْنا حتّى انتهينا إِلى الماءِ فلم نَنْجُ إلاّ بحُشاشةِ أَنفسِنا، وذلكَ الماءُ بمكانٍ يدعى المضيقَ من بطنِ الخَبْتِ(٢) ، وقد تطيَّرتُ من وجهي هذا، فإِنْ رأَيتَ أَعفيتَني منه وبعثتَ غيري، والسّلامُ.

فكتبَ إِليه الحسينُ بنُ عليٍّعليهما‌السلام :

«أمّا بعدُ: فقد خَشيتُ (٣) أن لا يكونَ حَمَلَكَ على الكتابِ إِليَّ في الاستعفاءِ منَ الوجهِ الّذي وجّهتُك له إلاّ الجُبْنُ، فامضِ لوجهِكَ الّذي وجّهتُكَ له، والسّلامُ ».

فلمّا قرأَ مسلمٌ الكتابَ قالَ: أَمّا هذا فلستُ أتخوّفُه على نفسي. فأَقبلَ حتّى مرَّ بماءٍ لِطَيءٍ فنزلَ به ثمّ ارتحلَ منه، فإِذا رجلٌ يرمي الصّيدَ فنظرَ إِليه قد رمى ظَبْياً حينَ أشرفَ(٤) له

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: عليهما.

(٢) الخبت: ماء لقبيلة كلب «معجم البلدان - خبت - ٢: ٣٤٣».

(٣) في هامش «ش» و «م»: حسبت.

(٤) في هامش «ش» و «م»: اشرأبّ. ومعناه: مدّ عنقه لينظر. «الصحاح - شرب - ١: ١٥٤ ».

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وعن الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الـمُحْرم يستاك ، قال : « نعم ولا يُدْمي »(١) .

وعن معاوية بن عمّار - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « لا بأس أن يدخل الـمُحْرم الحمّام ولكن لا يتدلّك »(٢) .

وعن عمر بن يزيد عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « لا بأس بحكّ الرأس واللحية ما لم يلق الشعر ، وبحكّ الجسد ما لم يُدْمه »(٣) .

وسأل يعقوبُ بن شعيب - في الصحيح - الصادقَعليه‌السلام : عن الـمُحْرم يغتسل ، فقال : « نعم يفيض الماء على رأسه ولا يدلكه »(٤) .

مسألة ٢٨٠ : ينبغي للمُحْرم أن يغسل رأسه وبدنه برفق بحيث لا يسقط منه شي‌ء من شعر رأسه ولحيته إجماعاً ، وفَعَله(٥) عليعليه‌السلام ، وعمر ، وابنه ، وبه قال جابر وسعيد بن جبير والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي(٦) ، إلّا أنّه لا يجوز له الارتماس في الماء بحيث يغيبه فيه ، عند علمائنا ، وبه قال مالك(٧) - خلافاً لباقي العامّة(٨) - لما فيه من تغطية الرأس.

احتجّوا : بما رواه ابن عباس ، قال : ربما قال لي عمر ونحن مُحْرمون‌

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٣١٣ / ١٠٧٨.

(٢) التهذيب ٥ : ٣١٤ / ١٠٨١ ، الاستبصار ٢ : ١٨٤ / ٦١١.

(٣) التهذيب ٥ : ٣١٣ / ١٠٧٧.

(٤) الفقيه ٢ : ٢٣٠ / ١٠٩٣ ، التهذيب ٥ : ٣١٣ / ١٠٧٩.

(٥) في المغني والشرح الكبير : ورخص فيه عليّ.

(٦) المغني ٣ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٣ ، المحلّى ٧ : ٢٤٧ ، المجموع ٧ : ٣٥٥ ، الهداية - للمرغيناني - ١ : ١٣٩.

(٧) المنتقى - للباجي - ٢ : ١٩٤.

(٨) المغني ٣ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٣.

٣٦١

بالجحفة : تعال أباقيك(١) أيّنا أطول نفساً في الماء(٢) .

ولأنّه ليس بستر معتاد ، فأشبه صبّ الماء عليه(٣) .

وحديث عمر لا حجّة فيه ، مع احتمال أن يكون في ابتداء الإِحرام ؛ لأنّه في الميقات الذي يحرم منه ، فالظاهر أنّ غسله للإِحرام ، والفرق : أنّ في الارتماس تغطيةَ الرأس دون الصبّ.

إذا عرفت هذا ، فإنّه يجوز له غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما - وبه قال جابر بن عبد الله والشافعي وأصحاب الرأي(٤) - ولا فدية عليه.

وعن أحمد رواية : أنّ عليه الفدية ، وبه قال مالك وأبو حنيفة(٥) .

وقال أبو يوسف ومحمّد : عليه صدقة(٦) .

لنا : ما رواه العامّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال في الـمُحْرم الذي أوقصه بعيره : ( اغسلوه بماء وسدر ، وكفّنوه في ثوبيه ، ولا تحنّطوه ولا تخمّروا رأسه ، فإنّه يُحشر يوم القيامة ملبّياً )(٧) أمر بغسله بالسدر مع بقاء حكم الإِحرام عليه ، ولهذا منعه من الطيب وتخمير رأسه.

احتجّوا : بأنّه تستطاب رائحته ، ويزيل الشعث ، ويقتل الهوامّ(٨) .

____________________

(١) بقاه بقْياً : انتظره ورصده. لسان العرب ١٤ : ٨١ « بقي ».

(٢) سنن البيهقي ٥ : ٦٣.

(٣) المغني ٣ : ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٣.

(٤) المغني ٣ : ٢٧٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٣ ، فتح العزيز ٧ : ٤٦٣ ، المجموع ٧ : ٣٥٥.

(٥) المغني ٣ : ٢٧٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٣ ، المدونّة الكبرى ١ : ٣٨٩ ، بداية المجتهد ١ : ٣٢٩ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٩١ ، حلية العلماء ٣ : ٣٠٤ ، المجموع ٧ : ٣٥٥.

(٦) بدائع الصنائع ٢ : ١٩١ ، المغني ٣ : ٢٧٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٣ ، حلية العلماء ٣ : ٣٠٤ ، المجموع ٧ : ٣٥٥.

(٧) صحيح البخاري ٢ : ٩٦ و ٣ : ٢٢ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٦٥ / ٩٤ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٣٠ / ٣٠٨٤ ، سنن النسائي ٥ : ١٩٦ ، سنن الدارمي ٢ : ٥٠ ، سنن البيهقي ٥ : ٧٠ ، مسند أحمد ١ : ٢١٥ ، المغني ٣ : ٢٧٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٤.

(٨) المغني ٣ : ٢٧٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٣.

٣٦٢

ونمنع التلذّذ بالرائحة ، وينتقض بالفاكهة ، وإزالة الشعث تحصل بالتراب والماء مع موافقته على تسويغه.

مسألة ٢٨١ : يجوز للمُحْرم دخول الحمّام إجماعاً ، ولا يدلك جسده فيه بقوّة لئلّا يدميه أو يزيل شعره ؛ للأصل.

ولما رواه العامّة عن ابن عباس : أنّه دخل حمّام الجحفة ، وقال : ما يعبأ الله بأوساخكم شيئاً(١) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « لا بأس أن يدخل الـمُحْرم الحمّام ولكن لا يتدلّك»(٢) .

إذا ثبت هذا ، فالأفضل تركه ؛ لاشتماله على الترفّه ( وإزالة الشعث )(٣)

ولما رواه عقبة أنّه سأل الصادقعليه‌السلام عن الـمُحْرم يدخل الحمّام ، قال : « لا يدخل »(٤) وإنّما حملناه على الكراهة ، جمعاً بين الأخبار.

البحث الثالث عشر : قتل هوامّ الجسد‌

مسألة ٢٨٢ : لا يجوز للمُحْرم قتل القمل والصئبان(٥) والبراغيث وغير ذلك من هوامّ الجسد - وهو إحدى الروايتين عن أحمد(٦) - لاشتماله على الترفّه وإزالة الشعث ، فكان حراماً ، كالطيب.

____________________

(١) فتح العزيز ٧ : ٤٦٣ ، وفي سنن البيهقي ٥ : ٦٣ : بأوساخنا ، وفي ترتيب مسند الشافعي ١ : ٣١٤ / ٨١٦ : بأوسخنا.

(٢) الكافي ٤ : ٣٦٦ / ٣ ، الفقيه ٢ : ٢٢٨ / ١٠٨١ ، التهذيب ٥ : ٣١٤ / ١٠٨١ ، الاستبصار ٢ : ١٨٤ / ٦١١.

(٣) ما بين القوسين لم يرد في « ن ».

(٤) التهذيب ٥ : ٣٨٦ / ١٣٤٩ ، الإستبصار ٢ : ١٨٤ / ٦١٢.

(٥) الصؤابة : بيضة القملة ، والجمع : الصؤاب والصئبان. الصحاح ١ : ١٦٠ « صأب ».

(٦) المغني ٣ : ٢٧٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١١.

٣٦٣

ولقول الصادقعليه‌السلام : « الـمُحْرم لا ينزع القملة من جسده ولا من ثوبه متعمّداً ، وإن قتل شيئاً من ذلك خطأً فليطعم مكانها طعاماً قبضةً بيده »(١) .

ولا فرق بين أن يقتله أو يلقيه عن بدنه إلى الأرض أو يقتله بالزئبق وشبهه ؛ لأنّ تحريم قتله ليس معلّلاً بحرمته ، بل للترفّه بفقده ، فعمّ المنع إزالته كيف كان.

ولأنّ حماد بن عيسى سأل الصادقعليه‌السلام : عن الـمُحْرم يبين القملة من جسده فيلقيها ، فقال : « يطعم مكانها طعاماً »(٢) .

وفي الرواية الاُخرى عن أحمد : يُباح قتله(٣) .

إذا عرفت هذا ، فإنّه يجوز له تحويلها من مكان من جسده إلى مكان آخر منه ؛ لاشتمال دوامها في موضع واحد على أذى كثير.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « فإذا أراد أن يحوّل قملة من مكان إلى مكان فلا يضرّه »(٤) .

مسألة ٢٨٣ : لو قتل قملةً ، فَعَل حراماً ، ووجب عليه فدية كف من طعام - وبه قال عطاء(٥) - لأنّه فَعَل إزهاق نفس محرَّمة ، فكان عليه صدقة ، كالصيد.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « يُطعم مكانها طعاماً »(٦) بمجرد الإِلقاء ؛ لأنّه مظنّة القتل لها ، فأشبه رمي الصيد وجهل حاله.

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٣٣٦ / ١١٦٠ ، الاستبصار ٢ : ١٩٦ - ١٩٧ / ٦٦١.

(٢) التهذيب ٥ : ٣٣٦ / ١١٥٨ ، الاستبصار ٢ : ١٩٦ / ٦٥٩.

(٣) المغني ٣ : ٢٧٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١١.

(٤) التهذيب ٥ : ٣٣٦ - ٣٣٧ / ١١٦١ ، الفقيه ٢ : ٢٣٠ / ١٠٩١.

(٥) المغني ٣ : ٢٧٣ - ٢٧٤.

(٦) التهذيب ٥ : ٣٣٦ / ١١٥٨ ، الاستبصار ٢ : ١٩٦ / ٦٥٩.

٣٦٤

وقال مالك : يفدي بحفنة من طعام. وهو مروي عن ابن عمر(١) .

وقال إسحاق : يتصدّق بتمرة فما فوقها(٢) .

وقال أحمد في إحدى الروايتين : يتصدّق بمهما كان من قليل وكثير ، وهو قول أصحاب الرأي(٣) .

وفي الرواية الاُخرى : لا شي‌ء عليه ، وبه قال سعيد بن جبير وطاوس وأبو ثور وابن المنذر(٤) .

مسألة ٢٨٤ : يجوز له أن ينحّي عن نفسه القراد والحَلَمَة ، ويلقي القراد عنه وعن بعيره ؛ لما رواه معاوية بن عمّار عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « و الـمُحْرم يلقي عنه القِرْدان(٥) كلّها إلّا القملة فإنّها من جسده ، وإن أراد أن يحوّل قملةً من مكان إلى مكان فلا يضرّه »(٦) .

وقال الشيخرحمه‌الله : يجوز للمُحْرم أن يلقي القراد عن بعيره ، وليس له أن يلقي الحَلَمَة(٧) ؛ لقول الصادقعليه‌السلام : « إنّ القراد ليس من البعير ، والحلمة من البعير »(٨) .

البحث الرابع عشر : قطع شجر الحرم‌

مسألة ٢٨٥ : أجمع علماء الأمصار على تحريم قطع شجر الحرم غير الإِذخر‌ وما أنبته الآدمي من البقول والزروع والرياحين.

وبالجملة فالتحريم متعلّق بما نبت بنفسه دون ما يستنبت.

____________________

(١) المغني ٣ : ٢٧٣ - ٢٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٢.

(٢ - ٤ ) المغني ٣ : ٢٧٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣١٢.

(٥) في المصدر : « الدواب » بدل « القردان ».

(٦) الفقيه ٢ : ٢٣٠ / ١٠٩١ ، التهذيب ٥ : ٣٣٧ / ١١٦١.

(٧) التهذيب ٥ : ٣٣٨.

(٨) الفقيه ٢ : ٢٣٢ / ١١٠٧.

٣٦٥

لما رواه العامّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من قولهعليه‌السلام : ( لا يُختلى شوكها ولا يُعضد شجرها )(١) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « كلّ شي‌ء ينبت في الحرم فهو حرام على الناس أجمعين إلّا ما أنبتّه أنت وغرسته »(٢) .

واعلم أنّ النابت إمّا شجر أو غيره.

أمّا الشجر : فيحرم قطع كلّ شجر رطب حرمي وقلعه ، فخرج بالرطب : الشجر اليابس ، فإنّه لا شي‌ء في قطعه ، كما لو قطع صيداً ميّتاً.

وخرج بالحرمي أشجار الحِلّ ، فلا يجوز أن يقلع شجرة من أشجار الحرم وينقلها إلى الحِلّ محافظة على حرمتها ، فإن فَعَل ، فعليه الردّ.

أمّا لو نقل من بقعة من الحرم إلى بقعة اُخرى منه ، فإنّه لا يؤمر بالردّ ، ويضمن لو تلفت بالنقل.

ولا فرق في التحريم بين أن ينقله إلى الحِلّ أو الحرم.

ولو نبتت في الموضع المنقول إليه ، فإن كان في الحرم ، فلا جزاء فيه ؛ لأنّه لم يُتلفها ولم يُزِلْ حرمتها.

ولو كان في الحِلّ ، فكذلك عند الشافعي ؛ لأنّه لم يتحقّق منه الإِتلاف(٣) .

ومقتضى مذهبنا : وجوب الردّ ، فإن تلفت ضمن ، وإلّا فلا ؛ لأنّه أزال حرمتها بالنقل ، فوجب الردّ.

وأمّا غير الشجر كالحشيش ، فلا يجوز قطعه ؛ للخبر(٤) ، ولو قَطَعه ضمنه.

____________________

(١) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ٣٦١ - ٣٦٢ ، والشرح الكبير ٣ : ٣٧٧.

(٢) الفقيه ٢ : ١٦٦ / ٧١٨ ، التهذيب ٥ : ٣٨٠ / ١٣٢٥.

(٣) فتح العزيز ٧ : ٥١١ ، المجموع ٧ : ٤٤٨.

(٤) تقدّم في صدر المسألة.

٣٦٦

مسألة ٢٨٦ : يحرم قطع الشوك والعوسج وشبهه من الأشجار المؤذية‌ - وبه قال أحمد(١) - لعموم قولهعليه‌السلام : ( لا يعضد شجرها )(٢) .

وقال الشافعي : لا يحرم - وبه قال عطاء ومجاهد وعمرو بن دينار - لأنّه مُؤذٍ ، فأشبه السباع من الحيوان(٣) .

ونمنع المساواة ، والفرق : إمكان الاحتراز غالباً عن الشوك ، وقلّة ضرره ، بخلاف السباع ، ولأنّها تقصد الأذى.

وليس له أخذ ورق الشجر - وبه قال أحمد(٤) - لقولهعليه‌السلام : ( لا يُخبط(٥) شوكها ولا يُعضد شجرها )(٦) .

ولأنّ ما حرم أخذه حرم كلّ شي‌ء منه ، كريش الطائر.

وقال الشافعي : له أخذه ؛ لأنّه لا يضرّ به(٧) . وكان عطاء يرخّص في أخذ ورق السنا(٨) للإِسهال ، ولا ينزع من أصله(٩) ، ورخص فيه عمرو بن دينار(١٠) .

ونمنع عدم تضرّر الشجرة به ، فإنّه يضعفها ، وربما أدّى إلى تلفها.

وكذا يحرم أغصان الشجرة ؛ لأنّ منفعتها به أقوى من منفعة الورق.

____________________

(١) المغني ٣ : ٣٦٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٧٨.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ١٨ ، صحيح مسلم ٢ : ٩٨٩ / ٤٤٨ ، سنن أبي داود ٢ : ٢١٢ / ٢٠١٧ ، سنن النسائي ٥ : ٢١١ ، سنن البيهقي ٥ : ١٩٥.

(٣) فتح العزيز ٧ : ٥١١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٢٦ ، المجموع ٧ : ٤٤٨ ، المغني ٣ : ٣٦٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٧٨.

(٤) المغني ٣ : ٣٦٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٧٨.

(٥) الخبط : خبط ورق العضاة من الطلح ونحوه ، يخبط ، يُضرب بالعصا فيتناثر. لسان العرب ٧ : ٢٨١ « خبط ».

(٦) صحيح مسلم ٢ : ٩٨٩ / ٤٤٨.

(٧) فتح العزيز ٧ : ٥١١ ، المجموع ٧ : ٤٤٩ ، المغني ٣ : ٣٦٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٧٨.

(٨) السنا : نبت يتداوى به. لسان العرب ١٤ : ٤٠٥ « سنا ».

(٩ و ١٠) المغني ٣ : ٣٦٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٧٨.

٣٦٧

مسألة ٢٨٧ : تجب في قطع الشجر الفدية‌ عند أكثر علمائنا(١) - وبه قال ابن عباس وعطاء وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في أصحّ قوليه(٢) - لما رواه العامّة عن ابن عباس أنّه قال : في الدوحة بقرة ، وفي الجزلة شاة(٣) .

والدوحة : الشجرة الكبيرة ، والجزلة : الشجرة الصغيرة.

ومن طريق الخاصّة : قول أحدهماعليهما‌السلام : « إذا كان في دار الرجل شجرة من شجر الحرم ولم تُنزع فأراد نزعها ، نزعها وكفّر بذبح بقرة يتصدّق بلحمها على المساكين »(٤) .

ولأنّه ممنوع من إتلافه ؛ لحرمة الحرم ، فكان مضموناً عليه ، كالصيد.

وقال بعض علمائنا : لا ضمان فيه وإن حرم(٥) - وبه قال مالك وأبو ثور وداود وابن المنذر والشافعي في القديم(٦) - لأصالة البراءة.

[ و ](٧) لأنّ الإِحرام لا يوجب ضمان الشجر ، فكذلك الحرم.

مسألة ٢٨٨ : يحرم قطع حشيش الحرم إذا كان رطباً ؛ للخبر ، إلّا ما استثني من الإِذخر وما أنبته الآدميون ؛ لما رواه العامّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : ( لا يُحْتش حشيشها )(٨) .

____________________

(١) منهم : الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٤٠٨ ، المسألة ٢٨١ ، والمبسوط ٢ : ٣٥٤ ، وأبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه : ٢٠٤ ، والقاضي ابن البرّاج في المهذّب ١ : ٢٢٣.

(٢) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ١٠٤ ، المغني ٣ : ٣٦٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٧٩ - ٣٨٠ ، الْأُم ٢ : ١٠٨ ، الحاوي الكبير ٤ : ٣١٣ ، الوجيز ١ : ١٢٩ ، فتح العزيز ٧ : ٥١١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٢٥ - ٢٢٦ ، المجموع ٧ : ٤٥٠ و ٤٥١.

(٣) المغني ٣ : ٣٦٧ - ٣٦٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨٠.

(٤) التهذيب ٥ : ٣٨١ / ١٣٣١.

(٥) قال به ابن إدريس في السرائر : ١٣٠.

(٦) المغني ٣ : ٣٦٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨٠ ، المدوّنة الكبرى ١ : ٤٥١ ، حلية العلماء ٣٠ : ٣٢٢ ، فتح العزيز ٧ : ٥١١.

(٧) أضفناها لأجل السياق.

(٨) المغني ٣ : ٢٦٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٧٩.

٣٦٨

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « إنّ علي بن الحسينعليهما‌السلام كان يتّقي الطاقة من العُشْب ينتفها من الحرم » قال : « وقد نتف طاقة وهو يطلب أن يعيدها في مكانها »(١) .

ورأى زين العابدينعليه‌السلام شخصا يقلع العشب من حول الفسطاط ، فقالعليه‌السلام : « إنّ هذا لا يقلع »(٢) .

وقال الشافعي : لا يجوز قطعه مطلقاً ؛ للخبر ، فإن قَطَعه ، فعليه قيمته إن لم يخلف ، وإن أخلف فلا ، بخلاف الشجر ؛ فإنّ الغالب فيه الإِخلاف ، فأشبه سنّ الصبي(٣) .

إذا عرفت هذا ، فلو كان يابساً ، لم يكن في قطعه شي‌ء ، كما في الشجر.

نعم لا يجوز قلعه ، فإن قَلَعه ، فعليه الضمان ؛ لأنّه لو لم يقلع لنبت ثانياً ، ذكره بعض الشافعية(٤) ، ولا بأس به.

مسألة ٢٨٩ : يجوز للمُحْرم أن يترك إبله لترعى في حشيش الحرم ، وتسريح البهائم فيه لترعى وإن حرم عليه قلعه عند علمائنا - وبه قال عطاء والشافعي(٥) - لما رواه العامّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : ( إلّا علف الدوابّ )(٦) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « يُخلّى البعير في‌

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٣٧٩ / ١٣٢٣.

(٢) التهذيب ٥ : ٣٧٩ / ١٣٢٢.

(٣) فتح العزيز ٧ : ٥١٢.

(٤) فتح العزيز ٧ : ٤١٢ ، المجموع ٧ : ٤٥٢.

(٥) المغني ٣ : ٣٦٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٧٩ ، الحاوي الكبير ٤ : ٣١٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٢ ، فتح العزيز ٧ : ٥١٢ ، المجموع ٧ : ٤٥٢ - ٤٥٣.

(٦) أورده الماوردي في الحاوي الكبير ٤ : ٣١٢ ، والشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٤٠٩ ، المسألة ٢٨٢.

٣٦٩

الحرم يأكل ما شاء »(١) .

ولأنّ الهدايا في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تدخل الحرم وتكثر فيه ، ولم ينقل أنّه [ كانت ](٢) تُشدّ(٣) أفواهها.

ولأنّ الحاجة ماسّة إلى ذلك ، فكان سائغاً ، كالإِذخر.

وقال أحمد وأبو حنيفة : لا يجوز ؛ لأنّ ما حرم إتلافه لا يجوز أن يرسل عليه ما يتلفه ، كالصيد(٤) .

والفرق : الحاجة ، ولأنّ الصيد منهي عن قتله مباشرةً وتولّداً ، بخلاف الحشيش.

ولو اختلى الحشيش ليعلفه البهائم ، فللشافعية وجهان :

أحدهما : الجواز ، كما لو سرحها فيه.

والثاني : المنع ؛ لقولهعليه‌السلام : ( لا يختلى خلاها )(٥) (٦) .

مسألة ٢٩٠ : شجر الفواكه والنخل يجوز قلعه ، سواء أنبته الله تعالى أو الآدميون ، وسواء كانت مُثمرةً ، كالنخل والكرم ، أو غير مثمرة ، كالصنوبر والخلاف - وبه قال أبو حنيفة(٧) - لأنّ تحريم الحرم مختص بما كان وحشياً من‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ٢٣١ / ٥ ، الفقيه ٢ : ١٦٦ / ٧١٩ ، التهذيب ٥ : ٣٨١ / ١٣٢٩.

(٢) أضفناها لأجل السياق.

(٣) في النسخ الخطية والحجرية : شدّ. وما أثبتناه هو الصحيح.

(٤) المغني ٣ : ٣٦٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٧٩ ، المبسوط - للسرخسي - ٤ : ١٠٤ ، الهداية - للمرغيناني - ١ : ١٧٥ ، بدائع الصنائع ٢ : ٢١٠ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٢ - ٣٢٣ ، الحاوي الكبير ٤ : ٣١٢ ، فتح العزيز ٧ : ٥١٢.

(٥) صحيح البخاري ٣ : ١٩ ، صحيح مسلم ٢ : ٩٨٧ / ١٣٥٣ ، سنن النسائي ٥ : ٢١١ ، سنن البيهقي ٥ : ١٩٥.

(٦) فتح العزيز ٧ : ٥١٢ ، المجموع ٧ : ٤٥٣‌

(٧) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ١٠٣ ، بدائع الصنائع ٢ : ٢١٠ - ٢١١ ، المغني ٣ : ٣٦٢ - ٣٦٣.

٣٧٠

الصيد ، فكذا من الشجر.

وقول الصادقعليه‌السلام : « لا ينزع من شجر مكة إلّا النخل وشجر الفواكه »(١) .

وكذا يجوز قلع ما أنبته الإِنسان من شجر الفواكه كلّها ؛ لقول الصادقعليه‌السلام : « كلّ شي‌ء ينبت في الحرم فهو حرام على الناس أجمعين إلّا ما أنبتّه أنت وغرسته »(٢) .

وبه قال أبو حنيفة ؛ تشبيهاً للمستنبتات بالحيوان الإِنسي وبالزرع(٣) .

قال الشيخرحمه‌الله : وما أنبته الله تعالى في الحِلّ إذا قلعه المـُحلّ ونَقَله إلى الحرم ثم قَطَعه ، فلا ضمان عليه ، وما أنبته الله إذا نبت في ملك الإِنسان ، جاز له قلعه ، وإنّما لا يجوز له قلع ما نبت في المباح(٤) .

وقال الشافعي : كلّ ما ينبت في الحرم فهو حرام سواء أنبته الله تعالى أو الآدميّون(٥) ؛ لعموم قولهعليه‌السلام : ( لا يُعضد شجرها )(٦) .

ولأنّها شجرة تنبت في الحرم ، فأشبه ما لم ينبته الآدميون.

والحديث قد استثني فيه في بعض الروايات ( إلّا ما أنبته الآدمي ).

ولأنّ أدلّتنا أخصّ.

وللفرق بين الأهلي من الشجر ، كالنخل والجواز واللوز ، والوحشي ،

____________________

(١) الفقيه ٢ : ١٦٦ / ٧٢٠ ، التهذيب ٥ : ٣٧٩ - ٣٨٠ / ١٣٢٤.

(٢) تقدّمت الإِشارة إلى مصادره في ص ٣٦٥ ، الهامش (٢)

(٣) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ١٠٣ ، بدائع الصنائع ٢ : ٢١١ ، فتح العزيز ٧ : ٥١٢.

(٤) المبسوط - للطوسي - ١ : ٣٥٤.

(٥) فتح العزيز ٧ : ٥١١ و ٥١٢ ، المجموع ٧ : ٤٤٧ و ٤٥٠.

(٦) صحيح البخاري ٣ : ١٨ ، صحيح مسلم ٢ : ٩٨٩ / ٤٤٨ ، سنن أبي داود ٢ : ٢١٢ / ٢٠١٧ ، سنن النسائي ٥ : ٢١١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٣٨ / ٣١٠٩ ، سنن البيهقي ٥ : ١٩٥.

٣٧١

كالدَّوْح(١) والسَّلَم(٢) ، كالصيد.

إذا عرفت هذا ، فسواء كان الشجر الذي أنبته الآدمي ممّا جنسه أن يُنبته الآدميّون أو لم يكن جنسه من ذلك يجوز قلعه مطلقاً - خلافاً للشافعي(٣) - لعموم قول الصادقعليه‌السلام : « إلّا ما أنبتّه أنت وغرسته »(٤) .

ولا بأس بقطع شجر الإِذخر إجماعاً.

وكذا لا بأس بعودي المحالة للحاجة إلى ذلك.

ولقول الباقرعليه‌السلام : « رخص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قطع عودي المـَحالَة - وهي البكرة التي يُستقى بها(٥) - من شجر الحرم والإِذخر »(٦) .

وكذلك لا بأس بأن يقلع الإِنسان شجرة تنبت في منزله بعد بنائه له ، ولو نبتت قبل بنائه ، لم يجز له قلعها ؛ لقول الصادقعليه‌السلام في الشجرة يقلعها الرجل من منزله في الحرم ، فقال : « إن بنى المنزل والشجرة فيه فليس له أن يقلعها ، وإن كانت نبتت في منزله فله قلعها(٧) »(٨) .

ويجوز أن يقلع اليابس من الشجر والحشيش ، لأنّه ميّت فلم تبق له حرمة ، وكذا قطع ما انكسر ولم يبن ؛ لأنّه قد تلف ، فهو بمنزلة الميّت والظفر المنكسر.

____________________

(١) الدوح جمع الدوحة ، وهي : الشجرة العظيمة من أيّ الشجر كان. الصحاح ١ : ٣٦١ « دوح ».

(٢) السَّلَم : شجر من العظاة ، واحدتها سَلَمة. الصحاح ٥ : ١٩٥٠ « سلم ».

(٣) فتح العزيز ٧ : ٥١٢ ، المجموع ٧ : ٤٥٠.

(٤) تقدّمت الإِشارة إلى مصادره في ص ٣٦٥ ، الهامش (٢)

(٥) النهاية - لابن الأثير - ٤ : ٣٠٤ « محل ».

(٦) التهذيب ٥ : ٣٨١ / ١٣٣٠.

(٧) في المصدر : « وهو له فليقلعها » بدل « فله قلعها ».

(٨) الكافي ٤ : ٢٣١ / ٦ ، التهذيب ٥ : ٣٨٠ / ١٣٢٧.

٣٧٢

ويجوز أخذ الكَمْأَة(١) والفقْع(٢) من الحرم ، لأنّه لا أصل له ، فهو كالثمرة الموضوعة على الأرض.

ولو انكسر غصن شجرة أو سقط ورقها ، فإن كان بغير فعل الآدمي ، جاز الانتفاع به إجماعاً؛ لتناول النهي القطع وهذا لم يقطع ، وإن كان بفعل آدمي ، فالأقرب جوازه(٣) ؛ لأنّه بعد القطع يكون كاليابس ، وتحريم الفعل لا ينافي جواز استعماله.

ومنعه بعض العامّة ؛ قياساً على الصيد يذبحه المـُحْرم(٤) .

وقال آخرون : يباح لغير القاطع ، والفرق : أنّ الصيد يُعتبر في ذبحه الأهليةُ ، وهي منفية عن المـُحْرم ، بخلاف قطع الشجرة ؛ فإنّ الدابّة لو قطعته جاز الانتفاع به(٥) .

مسألة ٢٩١ : الشجرة إذا كان أصلها في الحرم وفرعها في الحِلّ ، حرم قطعها وقطع غصنها ؛ لأنّها في الحرم.

ولما رواه معاوية بن عمّار - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن شجرة أصلها في الحرم وفرعها في الحِلّ ، فقال : « حرم فرعها لمكان أصلها » قال : قلت : فإنّ أصلها في الحلّ وفرعها في الحرم ، قال : « حرام أصلها لمكان فرعها »(٦) والغصن تابع.

وإن كان بالعكس ، فكذلك.

وسوّغ بعض العامّة قطع الغصن في الأخير ؛ لأنّه تابع لأصله ، كالتي‌

____________________

(١) الكَمْأَة واحدها : كَمْءٌ ، وهو نبات ينقّض الأرض فيخرج. لسان العرب ١ : ١٤٨ « كمأ ».

(٢) الفقْع - بالفتح والكسر - : الأبيض الرخو من الكَمْأَة ، وهو أردأها. لسان العرب ٨ : ٢٥٥ « فقع ».

(٣) في « ف » : الجواز.

(٤ و ٥) المغني ٣ : ٣٦٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٧٨.

(٦) الكافي ٤ : ٢٣١ / ٤ ، الفقيه ٢ : ١٦٥ / ٧١٧ ، التهذيب ٥ : ٣٧٩ / ١٣٢١.

٣٧٣

قبلها(١) .

وليس بجيّد ؛ لأنّه في الحرم.

وإذا كان الأصل في الحِلّ والغصن في الحرم فقَطَع واحدٌ الغصنَ ، ضمنه.

ولو قطع آخرٌ الأصلَ بعد قطع الغصن ، فالأقرب عدم التحريم ؛ لأنّ المقتضي له هو استتباع قطع الغصن لقطعه وقد زال بقطع الغصن.

ولو كان بعض الأصل في الحِلّ وبعضه في الحرم ، ضمن الغصن ، سواء كان في الحِلّ أو الحرم ، تغليباً لحرمة الحرم ، كما لو وقف صيد بعض قوائمه في الحِلّ وبعضها في الحرم.

مسألة ٢٩٢ : لو قلع شجرةً من الحرم فغرسها في مكان آخر منه فماتت ، ضمنها ؛ لإِتلافه.

ولو غرسها في مكان آخر من الحرم فنبتت ، لم يكن عليه ضمان ؛ لعدم الإِتلاف ولم تزل حرمتها.

ولو غرسها في الحِلّ فنبتت ، وجب عليه ردّها ؛ لأنّه أزال حرمتها ، فإن تعذّر ردّها ، أو ردّها ويبست ، ضمنها.

ولو غرسها في الحِلّ فقلعها غيره منه ، قال بعض العامّة : يضمن الثاني ؛ لأنّه المتلف لها ، بخلاف الصيد إذا نفّره إنسان من الحرم فقتله الآخر في الحلّ ، فإنّ الضمان على المنفّر ؛ لأنّ الشجر لا ينتقل بنفسه ، ولا تزول حرمته بإخراجه ، ولهذا يجب على قالعه ردّه ، وأمّا الصيد فإنّه يكون تارة في الحِلّ واُخرى في الحرم ، فمن نفّره فقد أذهب حرمته ، فوجب عليه جزاؤه ، والشجر لا تفوت حرمته بالإِخراج ، فكان الضمان على المـُتْلف ؛ لأنّه أتلف‌

____________________

(١) المغني ٣ : ٣٦٩ - ٣٧٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨٢.

٣٧٤

شجراً من الحرم(١) .

مسألة ٢٩٣ : يضمن المـُحْرم الشجرة الكبيرة ببقرة ، والصغيرة بشاة ، والحشيش بقيمته ، والغصن بأرشه - وبه قال الشافعي وأحمد(٢) - لما رواه العامّة عن ابن عباس أنّه قال : في الدوحة بقرة ، وفي الجزلة شاة(٣) .

والدوحة : الشجرة الكبيرة ، والجزلة : الشجرة الصغيرة.

ومن طريق الخاصّة : قول أحدهماعليهما‌السلام : « إذا كان في دار الرجل شجرة من شجر الحرم ولم تنزع ، فإن أراد نزعها نزعها ، وكفّر بذبح بقرة ، وتصدّق بلحمها على المساكين »(٤) .

وقال أصحاب الرأي : يضمن الجميع بالقمية ؛ لأنّه لا مقدّر فيه ، فأشبه الحشيش(٥) .

وليس بجيّد ؛ لأنّه أحد نوعي ما يحرم إتلافه ، فكان فيه مقدّر ، كالصيد.

ولو قطع غصناً أو قلع حشيشاً فعاد عوضه ، فالوجه : بقاء الضمان ؛ لأنّ الثاني غير الأول.

إذا عرفت هذا ، فالمرجع في الصغر والكبر إلى العرف.

وقال بعض الشافعية : ضبط الشجرة المضمونة بالشاة أن تقع قريبةً من‌

____________________

(١) المغني ٣ : ٣٦٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨١.

(٢) الْأُم ٢ : ٢٠٨ ، مختصر المزني : ٧١ ، الوجيز ١ : ١٢٩ ، فتح العزيز ٧ : ٥١١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٢٥ - ٢٢٦ ، المجموع ٧ : ٤٥١ و ٤٩٦ ، المغني ٣ : ٣٦٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٧٩ و ٣٨٠.

(٣) المغني ٣ : ٣٦٧ - ٣٦٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨٠.

(٤) التهذيب ٥ : ٣٨١ / ١٣٣١.

(٥) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ١٠٣ ، الهداية - للمرغيناني - ١ : ١٧٥ ، المحلّى ٧ : ٢٦١ ، المغني ٣ : ٣٦٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨٠ ، المجموع ٧ : ٤٩٦.

٣٧٥

سُبْع الكبيرة ، فإنّ الشاة من البقرة سُبْعُها(١) .

والمتوسّطة صغيرة ؛ لأصالة البراءة ، ولأنّ اسم الصغيرة يتناول ما ليست بكبيرة.

مسألة ٢٩٤ : حدّ الحرم - الذي لا يحلّ الصيد فيه ولا قطع شجره‌ - بريد في بريد ؛ لما رواه زرارة - في الصحيح - عن الباقرعليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : « حرّم الله حرمه بريداً في بريد أن يختلى خلاه ويُعضد شجره إلّا الإِذخر أو يصاد طيره ، وحرّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة ما بين لابتيها صيدها ، وحرّم ما حولها بريداً في بريد أن يختلى خلاها ويعضد شجرها إلّا عودي الناضح(٢) »(٣) .

مسألة ٢٩٥ : قال الشيخرحمه‌الله : واعلم أنّ للمدينة حرماً مثل حرم مكّة‌ ، وحدّه ما بين لابتيها ، وهو من ظلّ عائر إلى ظلّ وُعير لا يُعْضد شجرها ، ولا بأس أن يؤكل صيدها إلّا ما صيد بين الحرّتين(٤) .

واللابة : الحرّة ، والحرّة : الحجارة السوداء.

وفي هذا الكلام اضطراب ، وينبغي أن يقال : وحدّه من ظلّ عائر إلى ظلّ وعير ، لا يُعْضد شجرها ، ولا بأس أن يؤكل صيدها إلّا ما صيد بين الحرّتين ، لأنّ الحرّتين غير ظلّ عائر وظلّ وُعير ، والحرّتان بين الظلّين ؛ لأنّه قال : لا يعضد الشجر فيما بين الظلّين ، ولا بأس أن يؤكل الصيد إلّا ما صيد بين الحرّتين ، فدلّ على دخول الحرّتين في الظلّين ، وإلّا تناقض الكلام ، ولو كانت الحرّتان هُما حدّ حرم المدينة الأول ، لما حلّ الصيد في شي‌ء من حرم المدينة.

____________________

(١) فتح العزيز ٧ : ٥١١ ، المجموع ٧ : ٤٥١.

(٢) في المصدر : « عودي محالة الناضح ».

(٣) التهذيب ٥ : ٣٨١ - ٣٨٢ / ١٣٣٢.

(٤) النهاية : ٢٨٦ - ٢٨٧ ، المبسوط - للطوسي - ١ : ٣٨٦.

٣٧٦

والشيخ -رحمه‌الله - عوّل في التحريم على رواية زرارة عن الباقرعليه‌السلام ، السابقة(١) .

والشافعي ألحق حرم المدينة بحرم مكة في التحريم في أصحّ الوجهين عنده ، وبه قال مالك وأحمد(٢) - وهو المشهور عندنا - لما روى العامّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : ( إنّ إبراهيم حرّم مكة وإنّي حرّمت المدينة مثل ما حرّم إبراهيم مكة ، لا ينفّر صيدها ولا يُعْضد شجرها ولا يُخْتلى خلاها )(٣) .

وروي أنّه قال : ( إنّي اُحرّم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها(٤) أو يُقْتل صيدها )(٥) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ مكة حرم الله حرّمها إبراهيم ، وإنّ المدينة حرمي ما بين لابتيها حرم لا يُعْضد شجرها ، وهو ما بين ظلّ عائر إلى ظلّ وُعير [ و ](٦) ليس صيدها كصيد مكة يؤكل هذا ولا يؤكل ذاك وهو بريد »(٧) .

____________________

(١) سبقت في المسألة (٢٩٤).

(٢) الوجيز ١ : ١٢٩ - ١٣٠ ، فتح العزيز ٧ : ٥١٣ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٢٦ ، المجموع ٧ : ٤٨٠ و ٤٩٧ ، المنتقى - للباجي - ٢ : ٢٥٢ ، المغني ٣ : ٣٧٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨٢ - ٣٨٣.

(٣) أورده - كما في المتن - الرافعي في فتح العزيز ٧ : ٥١٣ - ٥١٤ ، وفي صحيح مسلم ٢ : ٩٩٢ / ١٣٦٢ ، وسنن البيهقي ٥ : ١٩٨ بتفاوت واختصار.

(٤) في « ط ، ف ، ن » والطبعة الحجرية : أغصانها. وذلك تصحيف ، وما أثبتناه من المصادر.

(٥) صحيح مسلم ٢ : ٩٩٢ / ١٣٦٣ ، وسنن البيهقي ٥ : ١٩٧ ، وأورده الرافعي في فتح العزيز ٧ : ٥١٤.

(٦) أضفناها من المصدر.

(٧) الكافي ٤ : ٥٦٤ - ٥٦٥ / ٥ ، التهذيب ٦ : ١٢ / ٢٣.

٣٧٧

وقال أبو حنيفة : لا يحرم(١) . وهو الوجه الثاني للشافعي(٢) .

وعلى قول التحريم عند الشافعي ففي ضمان صيدها وشجرها قولان :

الجديد - وبه قال مالك - لا يضمن ؛ لأنّه ليس بمحلّ النسك ، فأشبه مواضع الحمى ، وإنّما أثبتنا التحريم ؛ للنصوص.

والقديم - وبه قال أحمد - أنّه يضمن.

وعلى هذا فما جزاؤه؟ وجهان :

أحدهما : أنّ جزاءه كجزاء حرم مكة ؛ لاستوائهما في التحريم.

والثاني - وبه قال أحمد - أنّ جزاءه أخذ سلب الصائد وقاطع الشجر ؛ لما روي أنّ سعد بن أبي وقاص أخذ سَلَب رجل قتلَ صيداً في المدينة ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ( من رأى رجلاً يصطاد بالمدينة فليسلبه )(٣) .

وهذا ليس بشي‌ء على مذهبنا.

وعلى هذا ففيما يُسلب للشافعي وجهان :

الذي أورده أكثر أصحابه أنّه يسلب منه ما يسلبه القاتل من قتيل الكفّار.

والثاني : لا ينحى بهذا نحو سَلَب القتيل في الجهاد ، وإنّما المراد من السَّلَب هاهنا الثياب فحسب(٤) .

وعلى الوجهين ففي مصرفه وجهان مشهوران لهم :

أظهرهما : انّه للسالب كسَلَب القتيل ، وقد روي أنّهم كلّموا سعداً في هذا السَّلَب ، فقال : ما كنت لأردّ طعمةً أطعمنيها رسول الله صلّى الله عليه‌

____________________

(١) المغني ٣ : ٣٧٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨٣ ، المجموع ٧ : ٤٩٧.

(٢) فتح العزيز ٧ : ٥١٣ ، المجموع ٧ : ٤٨٠.

(٣) فتح العزيز ٧ : ٥١٤ ، المجموع ٧ : ٤٨٠ - ٤٨١ و ٤٩٧ ، وراجع : المنتقى - للباجي - ٢ : ٢٥٢ ، والمغني ٣ : ٣٧١ - ٣٧٢ ، والشرح الكبير ٣ : ٣٨٤ و ٣٨٥.

(٤) فتح العزيز ٧ : ٥١٤ ، المجموع ٧ : ٤٨١.

٣٧٨

وآله.

والثاني : أنّه لمحاويج المدينة وفقرائها ، كما أنّ جزاء صيد مكة لفقرائها.

ولهم وجه ثالث : أنّه يوضع في بيت المال ، وسبيله سبيل السهم المـُـرصد للمصالح(١) .

مسألة ٢٩٦ : صيدُ وَجٍّ وشجرهُ مباح - ووجّ : وادٍ بالطائف ، وليس المراد منه نفس البلد - قاله علماؤنا ، وبه قال أحمد(٢) ؛ لأصالة الإِباحة ، وعدم شغل الذمّة من واجب أو عقوبة.

وقال الشافعي : إنّه محرَّم ؛ لما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ( صيدُ وَجّ وعضاهها محرَّم )(٣) (٤) والعضاة كلّ شجر عظيم له شوك.

ونمنع صحة الحديث ؛ فإنّ أحمد طعن فيه(٥) .

وللشافعي قول آخر : إنّه مكروه(٦) .

وعلى الأول هل يتعلّق به ضمان؟ بعض الشافعية مَنَع منه ؛ إذ لم يرد في الضمان نقل ، لكن يؤدّب ، وبعضهم قال : نعم ، وحكمه حكم حرم المدينة(٧) .

وأمّا النقيع(٨) فليس بحرم ، لكن حماه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لإِبل‌

____________________

(١) فتح العزيز ٧ : ٥١٤ ، المجموع ٧ : ٤٨١ - ٤٨٢.

(٢) المغني ٣ : ٣٧٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨٦.

(٣) مسند أحمد ١ : ١٦٥ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٠٠ ، سنن أبي داود ٢ : ٢١٥ - ٢١٦ / ٢٠٣٢.

(٤) فتح العزيز ٧ : ٥١٩ - ٥٢٠ ، المجموع ٧ : ٤٨٣ ، المغني ٣ : ٣٧٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨٦.

(٥) المغني ٣ : ٣٧٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٣٨٦.

(٦) فتح العزيز ٧ : ٥١٨.

(٧) فتح العزيز ٧ : ٥٢٠‌

(٨) النقيع : موضع قرب المدينة كان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حماه لخيله ، وكان يجتمع فيه =

٣٧٩

الصدقة ونَعَم الجزية(١) ، فلا تُملك أشجاره وحشيشه.

وفي وجوب الضمان على من أتلفها للشافعية وجهان :

أحدهما : لا يجب ، كما لا يجب في صيده شي‌ء.

وأظهرهما عندهم : الوجوب ؛ لأنّه ممنوع منه ، فكانت مضمونةً عليه ، بخلاف الصيد ؛ فإنّ الاصطياد فيه جائز ، وعلى هذا فضمانها القيمة ، ومصرفه مصرف نعم الصدقة والجزية(٢) .

مسألة ٢٩٧ : قد بيّنّا تحريم قطع شجر الحرم‌ إذا كان نابتا بنفسه دون ما يستنبت.

وللشافعي في الثاني قولان : أحدهما : التحريم. والثاني : الكراهة ، فيندرج في التحريم قطع الطرفاء والأراك والعضاة وغيرها من أشجار الفواكه ؛ لأنّها تنبت بنفسها(٣) . وكذا العوسج عند الشافعية(٤) .

لكن سوّغ أصحابنا قطع شجر الأراك وذي الشوك ، كالعوسج وشبهه.

ثم فرّع الشافعية على إباحة ما يستنبت : أنّه لو استنبت بعض ما ينبت بنفسه على خلاف الغالب ، أو نبت بعض ما يستنبت ، لهم خلاف في إلحاقه بأيّ الصنفين :

حكى الجويني عن الأصحاب : النظر إلى الجنس والأصل ، فأوجب الضمان في الصورة الاُولى دون الثانية.

وحكى غيره : أنّ النظر إلى القصد والحال ، فيعكس الحكم فيهما(٥) .

____________________

= الماء. معجم البلدان ٥ : ٣٠١ « نقيع » النهاية - لابن الأثير - ٥ : ١٠٨.

(١) فتح العزيز ٧ : ٥٢١ ، وسنن البيهقي ٥ : ٢٠١.

(٢) فتح العزيز ٧ : ٥٢١ - ٥٢٢.

(٣ و ٤ ) فتح العزيز ٧ : ٥١٢ ، المجموع ٧ : ٤٥٠ ، وفيهما نسب تحريم قطع العوسج إلى بعض الشافعية.

(٥) فتح العزيز ٧ : ٥١٢ ، المجموع ٧ : ٤٥٠.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563