الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد10%

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 563

الجزء ١ المقدمة الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 563 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182029 / تحميل: 9885
الحجم الحجم الحجم
الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

فصرعَه، فقالَ مسلمٌ: نقتلُ عدوَّنا إِن شاءَ اللهُّ. ثمّ أَقبلَ حتّى دخلَ الكوفةَ، فنزلَ في دار المختارِ بنِ أَبي عُبَيْدٍ، وهي الّتي تدعى اليومَ دارَ سَلْمِ بنِ المسيَّب. وَأَقبلتِ الشِّيعةُ تختلفُ إِليه، فكلما اجتمعَ إِليه منهم جماعةٌ قرأَ عليهَم كتابَ الحسينِ بنِ عليٍّعليهما‌السلام وهم يبكونَ، وبايعَه النّاسُ حتّى بايَعَه منهم ثمانيةَ عشرَ أَلفاً، فكتبَ مسلمٌرحمه‌الله إِلى الحسينِعليه‌السلام يُخبرهُ ببيعةِ ثمانيةَ عشرَأَلفاً ويأْمرُه بالقدوم. وجعلت الشِّيعةُ تختلفُ إِلى مسلمِ بنِ عقيلٍ رضيَ اللهَّ عنه حتّى عُلِمَ مكانُه(١) ، فبلغَ النُّعمانَ بنَ بشيرٍ ذلكَ - وكانَ والياً على الكوفةِ من قِبَلِ معاويةَ فأقرَّه يزيدُ عليها - فصعدَ المنبرَ فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه ثمّ قالَ:

أمّا بعدُ: فاتّقوا اللّهَ - عبادَ اللّه - ولا تُسارعوا إِلى الفتنةِ والفُرقةِ، فإِنّ فيها يَهْلِك الرِّجالُ، وتُسْفَكُ الدِّماءُ، وتُغْتَصَبُ(٢) الأَموالُ، إِنّي لا أُقاتلُ من لا يُقاتلني، ولا آتي على من لم يأْتِ عليَّ، ولا أُنبِّهُ نائمَكم، ولا أتحرّشُ بكم، ولا آخُذُ بالقَرْفِ(٣) ولا الظِّنّةِ ولا التُّهمةِ، ولكنَّكم إِن أبديتم صفحتَكم لي ونكثتم بيعتَكم وخالفتم إِمامَكم، فوَاللّهِ الّذي لا إِلهَ غيرُه، لأضربَنَّكم بسيفي ما ثبتَ قائمهُ في يدي، ولو لم يكنْ لي منكم ناصرٌ. أما إِنِّي أرجو أن يكونَ من يعرفً الحقَّ منكم أَكثرَ ممّن يُرديه الباطلُ.

فقامَ إِليه عبدُاللّه بن مسلمِ بن ربيعةَ الحضرميّ، حليف بني أُميّةَ،

__________________

(١) في هامش «ش»: بمكانه.

(٢) في هامش «ش»: وتغصب.

(٣) القرف: التهمة «الصحاح - قرف - ٤:١٤١٥».

٤١

فقالَ: إِنَّه لا يُصلحُ ما ترى إِلاّ الغَشْمُ ؛ إنَّ هذا الّذي أَنتَ عليه فيما بينَكَ وبينَ عدوِّكَ رأيُ المستضعفينَ. فقالَ له النُّعمانُ: أَكون(١) من المستضعفينَ في طاعةِ اللهِّ، أَحبّ إِليَّ من أَن أكونَ من الأَعزِّينَ في معصيةِ اللّهِ. ثمّ نزلَ.

وخرجَ عبداللهِّ بن مسلمٍ فكتبَ إِلى يزيد بن معاويةَ: أَمّا بعدُ: فإِنّ مُسلمَ بنَ عقيلٍ قد قدمَ الكوفَة، فبايعَتْه الشِّيعةُ للحسينِ بنِ عليِّ، فإِنْ يَكُ لكَ في الكوفةِ حاجة فابعثْ إِليها رجلاً قويّاً، يُنَفِّذُ أَمرَكَ وَيعملُ مثلَ عملِكَ في عدوِّكَ، فإِنّ النُّعمانَ بنَ بشيرٍ رجلٌ ضعيفٌ أو هو يَتَضعَّفُ. ثمّ كتبَ إِليه عُمارةُ بنُ عُقْبَةَ بنحوٍ من كتابه ؛ ثمّ كتبَ إِليه عُمَرُ ابنُ سعدِ بنِ أَبي وقّاصٍ مثلَ ذلكَ.

فلمّا وصلتِ الكتبُ إِلى يزيدَ دعا سَرْجُونَ مولى معاويةَ فقالَ: ما رأْيُكَ؟ إِنَّ حسيناً قد وجّهَ إِلى الكوفةِ مسلمَ بنَ عقيل يُبايِعُ له، وقد بَلَغَني عنِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ ضعفٌ وقولٌ سَيّيءٌ، فمَنْ تَرى أَن أَستعملَ على الكوفةِ؟ وكانَ يزيدُ عاتباً على عُبيدِاللهِّ بن زيادٍ؟ فقالَ له سَرْجُون: أرأيتَ معاويةَ لو نُشِرَ(٢) لكَ حيّاً أَما كنتَ اخَذاً برأْيه؟ قالَ: نعم. قال: فأخرجَ سرجُونُ عهدَ عبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ على الكوفةِ وقاَلَ: هذا رأْيُ معاويةَ، ماتَ وقد أمرَ بهذا الكتاب، فضُمَّ المِصرينِ إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ، فقالَ له يزيدُ: أفْعَلُ، ابعثْ بعهدِ عَبيدِاللهِّ إِليه. ثمّ دعا مسلمَ بنَ عَمرو الباهليّ وكتبَ إِلى عبيدِاللّهِ بن زيادٍ معَه:

أَمّا بعدُ: فإِنّهَ كَتَبَ إِليَّ شيعتي من أَهلِ الكُوفةِ، يُخبروني أنّ ابن

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: لئن اكون.

(٢) في «م» وهامش « ش »: انشر.

٤٢

عقيلٍ بها يَجمعُ الجمُوعَ ويشقُّ(١) عصا المسلمينَ، فسِرْحينَ تقرأ كتابي هذا حتّى تأْتيَ الكوفةَ، فتطلب ابنَ عقيلٍ طَلَبَ الخرزَةِ حتّى تَثْقَفَهُ فتُوثقَهُ أَو تَقْتُلَهُ أَو تَنْفِيَهُ، والسّلامُ.

وسلّمَ إِليه عهدَه على الكوفةِ. فسارَ مسلمُ بنُ عمرو حتّى قدمَ على عُبيدِاللّهِ بالبصرةِ، فأوصلَ إِليه العهدَ والكتابَ، فأمَرَ عُبيدُاللهِّ بالجهازِ من وقتهِ، والمسيرِ والتّهيًّؤ إِلى الكوفةِ منَ الغدِ، ثمّ خرجَ منَ البصرةِ واستخلفَ أَخاه عًثمانَ، وأَقبلَ إلى الكوفةِ ومعَه مسلمُ بنُ عمرو الباهليّ وشريكُ بنُ أَعْوَرَ الحارثيّ وحَشَمُه وأَهلُ بيتهِ، حتّى دخلَ الكوفةَ وعليه عمامةٌ سوداءُ وهو متَلثِّمٌ، والنّاسُ قد بلغَهم إِقبالُ الحسينِعليه‌السلام إِليهم فهم ينتظرونَ قدومَه، فظنُّوا حينَ رأوا عُبيدَاللّهِ أَنّه الحسينُ، فأَخذَ لا يَمُرُّ على جماعةٍ منَ النّاسِ إلاّ سلَّموا عليهِ وقالوا: مرحباً بابنِ رسولِ اللهِّ، قدمتَ خيرَ مقدم. فرأَى من تَباشرُهم بالحسينِ ما ساءه، فقالَ مسلمُ بنُ عمرو لمّا أَكثروا: تَأخَّرُوا، هذا الأَميرُ عبيدُاللّه بن زيادٍ.

وسارَ حتّى وافى القصرَ في الليلِ، ومعَه جماعةٌ قدِ التفُّوا به لا يَشُكُّون أَنّه الحسينُعليه‌السلام ، فأَغلقَ النًّعمانُ بنُ بشيرٍ عليه وعلى حامّتهِ(٢) ، فناداه بعضُ من كانَ معَه ليفتح لهم البابَ، فأطّلعَ إِليه النُّعمانُ وهو يظنُّه الحسين فقالَ: أَنْشُدُكَ اللهَّ إلاّ تَنَحَّيْتَ، واللهِّ ما انا مُسلمٌ إِليكَ أمانتي، وما لي في قتالِكَ من أَرَبٍ، فجعلَ لا يُكلّمُه، ثمّ إِنّه دنا وتدلّى

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: ليشق.

(٢) في « م » وهامش «ش»: خاصته.

وحامته: خاصته واقرباؤه. «الصحاح - حمم - ٥: ١٩٠٧ ».

٤٣

النُّعمانُ من شَرَفٍ فجعلَ يُكلِّمُه، فقالَ: افتحْ لا فَتَحْتَ(١) ، فقد طالَ ليلكَ. وسمعَها إِنسانٌ خلفَه فنكصَ إِلى القوم الّذينَ اتّبعوه من أهلِ الكوفةِ على أَنّه الحسينُ فقالَ: أيْ قوم! ابن مَرْجَانةَ والّذي لا إِلهَ غيرهُ. ففتحَ له النُّعمانُ ودخلَ وضربوا البابَ في وُجوهِ النّاسِ فانْفَضُّوا.

وأصبحَ فنادى في النّاسِ: الصّلاةُ جامعةٌ. فاجتمعَ النّاسُ، فخرجَ إِليهم فحمدَ اللهَّ وأثنى عليه ثمّ قالَ:

أَمّا بعدُ: فإِنّ أَميرَ المؤمنينَ وَلاَّني مِصرَكم وثَغْرَكم وفيئكم، وأمرَني بإِنصافِ مظلومِكم وإِعطاءِ محرومكم، والأحسانِ إِلى سامعِكم ومُطيعِكم كالوالدِ البر، وسوطي وسيفي على من تركَ أمري وخالفَ عهدي، فليُبقِ(٢) امرؤٌ على نفسِه؛ الصِّدقُ يُنبي عنك(٣) ، لا الوعيدُ.

ثمّ نزلَ فأَخذَ العُرَفاءَ(٤) والنّاسَ(٥) أخذاً شديداً فقالَ: اكتُبوا إِلى

__________________

(١) قال العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ٣٦١: لا فتحت دعاء عليه أي لا فتحت على نفسك باباً من الخير.

(٢) في هامش «ش» و «م»: فليتق.

(٣) في هامش «ش» و «م»: ينبي عنك - بغيرهمز - أي يدفع عنك من النبوة، ويمكن أن يكون من النبأ الخبر اي الصَدق يخبر عنك بالحقيقة. والأول سماع والثاني قياس.

وقال الجوهري في الصحاح - نبا - ٦: ٢٥٠٠: في المثل: «الصدق ينبي عنك لا الوعيد» أي ان الصدق يدفع عنك الغائلة في الحرب دون التهديد. وقال أبو عبيد: هو ينبي بغيرهمز. ويقال: أصله الهمزمن الانباء أي ان الفعل يخبرعن حقيقتك لا القول.

وقد نقل ابن منظور في لسان العرب: ١٥ / ٣٠٢ هذا الكلام ناسباً إيّاه الى التهذيب وهو اشتباه والصحيح انه عن الصحاح.

(٤) العرفاء: جمع عريف، وهو القائم بامور جماعة من الناس يرفعها الى السلطان، وعمله العِرافة «مجمع البحرين - عرف - ٥: ٩٧».

(٥) في «ش»: بالناس.

٤٤

العُرفاءِ ومَنْ فيكم من طلبةِ أمير المؤمنين، ومَنْ فيكم منَ الحَرُورِية وأَهلِ الرّيب، الّذين رأيُهم الخلافُ والشِّقاق، ( فمن يجئ بهم لنا فبرئ )(١) ، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمنْ لنا ما في عِرافتِه ألاّ يخالفَنا منهم مخالفٌ، ولا يبغِ علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعلْ برئتْ منه الذِّمّةُ وحلالٌ لنا دمُه ومالُه، وأيّما عريفٍ وُجدَ في عرافتِه مِن بُغيةِ أميرِ المؤمنينَ أحدٌ لم يرفعْه إِلينا، صلِبَ على باب داره، واُلغيتْ تلكَ العرافةُ منَ العطاءِ.َ

ولمّا سمعَ مسلمُ بنُ عقيلٍرحمه‌الله بمجيءِ عبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ الكوفةَ، ومقالتهِ الّتي قالَها، وما أخذَ به العُرفاءَ والنّاسَ، خرجَ من دارِ المختارِ حتّى انتهى إِلى دارِ هانئ بنِ عُروةَ فدخلَها، وأخذتِ الشِّيعةُ تختلفُ إِليه فِى دارِ هانئ على تستُّرٍ واستخفاف من عبيدِاللهِّ، وتواصَوْا بالكتمانِ.

فدعا ابنُ زيادٍ مولىً له يُقالُ له مَعْقلٌ، فقالَ: خُذْ ثلاثةَ آلافِ دِرهمٍ، ثمّ اطلبْ مسلمَ بنَ عقيلٍ والتمسْ أَصحابَه، فإِذا ظفرتَ بواحدٍ منهم أو جماعةٍ فأعطِهم هذهِ الثّلاثةَ آلاف درهمٍ، وقلْ لهم: استعينوا بها على حرب عدوِّكم، وأعلِمْهم أنّكَ منهم، فإِنّكَ لو قد أعطيتَها إِياهم لقدِ اَطمأنوا إِليكَ ووثقوا بكَ ولم يكتموكَ شيئاً من أخبارِهم، ثمّ اغدُ عليهم ورُح حتّى تعرفَ مستقرَّمسلم بن عقيلٍ، وتدخلَ عليه.

ففعلَ ذلكَ وجاءَ حتّى جلسَ إِلى مسلمِ بنِ عَوْسَجةَ الأسديّ في المسجدِ الأعظمِ وهو يصلِّي، فسمعِ قوماً يقولونَ: هذا يبايعُ للحسينِ، فجاءَ فجلسَ إِلى جنبهِ حتّى فرغ من صلاتِه، ثمّ قالَ: ياعبدَ اللهِّ! إِنِّي امرؤٌ من أهلِ الشّامِ، أنعمَ اللهُّ عليَّ بحبِّ أهلِ هذا البيتِ

__________________

(١) في «ش» نسخة اخرى: ثم يجاء بهم لنرى رأينا فيهم.

٤٥

وحبِّ مَنْ أحبَّهم ؛ وتَباكى له وقالَ: معي ثلاثة آلافِ درهمٍ، أردتُ بها لقاءَ رجلٍ منهم بلغَني أنّه قدمَ الكوفةَ يبايعُ لابنِ بنتِ رسولِ اللّهِ، فكنتُ أُريدُ لقاءه فلم أجدْ أَحداً يدلُّني عليه ولا أعرفُ مكانَه، فإِنِّي لجالسٌ في المسجدِ الان إِذْ سمعتُ نفراً منَ المؤمنينَ يقولونَ: هذا رجلٌ له علمٌ بأَهلِ هذا البيتِ، وانِّي أتيتُكَ لتقبضَ منَي هذا المالَ وتُدخِلني على صاحبكَ، فإِنما أنا أَخٌ من إِخوانِكَ وثقةٌ عليكَ، وِان شئتَ أخذتَ بيعتي له قبَلَ لقائه.

فقالَ له مسلمُ بنُ عوسجةرحمه‌الله : احمد اللهَّ على لقائكَ إِيّايَ فقد سرَني ذلكَ، لتنال الّذي تحبُّ، ولينصر اللّهُ بكَ أهلَ بيتِ نبيِّه عليه والهِ السّلامُ، ولقد ساءَني معرفةُ النّاسِ إِيّايَ بهذا إلأَمر قبلَ أَن يتمَّ، مخافةَ هذا الطاغيةِ وسطوته ؛ فقالَ له معقلٌ: لا يكون إلأ خيراً، خُذِ البيعةَ عليَّ، فأَخذَ بيعتَه وأَخذَ عليه المواثيقَ المغلَّظةَ لَيُناصِحَنَّ ولَيَكْتُمَنَّ، فأَعطاه من ذلكَ ما رضيَ به، ثمّ قال له: اختلفْ إِليَّ أيّاماً في منزلي فأنا طالبٌ لكَ الأذنَ على صاحبكَ. فأَخذَ يختلفُ مع النّاسِ، فطلبَ له الأذنَ فأُذِنَ له، فأَخذَ مسلمُ بنُ عقيلٍ رضيَ اللّه عنه بيعتَه، وأمرَ أَبا ثُمامةَ الصائديَّ فقبضَ المالَ منه، وهو الّذي كانَ يَقبضُ أموالَهمِ وما يُعينُ به بعضُهم بعضاً، ويشتري لهم السِّلاحَ، وكانَ بصيراًَ ومن فرسانِ العربِ ووُجوهِ الشِّيعةِ.

وأَقبل ذلكَ الرّجلُ يختلفُ إِليهم، وهو أَوّلُ داخلٍ وآخرُ خارج، حتّى فَهِمَ ما احتاجَ إِليه ابنُ زيادٍ من أَمرِهم، وكانَ يُخبرهُ به وقتاً فوقتاَ. وخافَ هانئً بنُ عُروةَ عبيدَاللهّ بن زيادٍ على نفسِه فانقطعِ من حضور مجلسِه وتمارضَ، فقالَ ابنُ زيادٍ لجلسائه: ما لي لا أَرى هانئاً؟ فقالوا: هو

٤٦

شاكٍ، فقالَ: لو علمتُ بمرضِه لَعُدْته، ودعا محمّدَ بنَ الأشعثِ وأسماءَ بنَ خارجةَ وعمرو بنَ الحجّاجِ الزُّبيديّ، وكانتْ رُوَيحةُ بنتُ عمرو تحتَ هانئ بنِ عُروةَ وهي أُمُّ يحيى بن هانئ، فقالَ لهم: ما يمنعُ هانئ بنَ عُروةَ من إِتيانِنا؟ فقالوا: ما نَدري وقد قيلَ إِنّه يشتكي؟ قالَ: قد بلغَني أنّه قد بَرِىءَ وهو يجلسُ على بابِ دارِه، فالْقَوْه ومروه ألاّ يَدَعَ ما عليه من حقِّنا، فإِنِّي لا أحبُّ أن يَفسدَ عندي مثلُه من أشرافِ العرب.

فأتَوْه حتّى وقفوا عليه عشيّةً وهو جالسُ على بابه، فقالوا: ما يمنعُكَ من لقاءِ الأمير؟ فإِنّه قد ذكرَكَ وقالَ: لو أعلمُ أَنّه شاكٍ لَعُدْته، فقالَ لهم: الشّكوى تَمنعُني، فقالوا له: قد بلغَه انّكَ تجلسُ كلَّ عشيّةٍ على باب دارِكَ، وقدِ استبطأكَ، والإبطاءُ والجَفاءُ لا يحتملُه السًّلطانُ، أقسَمْنَا عليكَ لمّا ركبتَ معَنا. فدعا بثيابه فلبسَها ثمّ دعا ببغلتِه فركبَها، حتّى إِذا دنا منَ القصرِ كأنّ نفسهَ أحسّتْ ببعضِ الّذي كانَ، فقالَ لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن أخي إِنِّي واللّهِ لهِذا الرّجلِ لَخائفٌ، فما تَرى؟ قال: أيْ عمّ! واللهِّ ما أَتخوّفُ عليكَ شيئاً، ولَمْ تَجعلْ على نفسِك سبيلاً، ولم يكنْ حسّان يعلمُ في أَيِّ شيءٍ بعثَ إِليه عبيدُاللّهِ.

فجاءَ هانئ حتّى دخلَ على ابنِ زيادٍ ومعَه القومُ، فلمّا طلعَ قالَ ابنُ زيادٍ: أتَتْكَ بحائنٍ(١) رِجلاه. فلمّا دنا من ابنِ زيادٍ - وعندَه شُريحٌ القاضي - التفتَ نحوَه فقالَ:

__________________

(١) مثل يضرب لمن يسعى الى مكروه حتى يقع فيه. «جمهرة الامثال للعسكري ١: ١١٩ ت ١١٤ »، والحائن: الهالك. «لسان العرب - حين - ١٣: ١٣٦ ».

٤٧

أُريدُ حِبَاءهُ وَيُرِيْدُ قَتْلي

عَذِيْرَكَ مِنَ خَلِيْلِكَ مِنْ مُرَادِ(١)

وقد كانَ أوّل ( مادخلَ )(٢) عليه مُكرِماً له مُلطِفاً، فقالَ له هانئ: وما ذلكَ أيًّها الأَميرُ؟ قالَ: إٍيهٍ يا هانئ بنَ عُروِةَ، ما هذهِ الأمورُ الّتي تَرَبّصُ في دارِكَ لأَميرِ المؤمنين وعامّةِ المسلمين؟ جئتَ بمسلم بنِ عقيلٍ فأَدخلتَه دارَك وجمعتَ له السِّلاحَ والرجالَ في الدُّورِ حولَكَ، وظننتَ أَنّ ذلكَ يخفى عليّ، فقالَ: ما فعلتُ، وما مسلم عندي، قالَ: بلى قد فعلتَ. فلمّا كثرَ ذلكَ بينَهما، وأَبى هانئ إلاّ مجاحَدَتَه ومنُاكَرتَه، دعا ابنُ زيادٍ مَعْقِلاً - ذلكَ العَيْنَ(٣) - فجاءَ حتّى وقفَ بين يديه، فقالَ: أَتعرفُ هذا؟ قالَ: نعم، وعلمَ هانئ عندَ ذلكَ أَنّه كانَ عيناً عليهم، وأَنه قد أَتاه بأَخبارِهم، فأُسقطَ في يدِه ساعةً ثم راجعتْه نفسه فقالَ: اسمعْ مني وصدَقْ مقالتي(٤) ، فواللهِّ لا كذبتُ، واللهِ ما دعوتُه إِلى منزلي، ولا علمتُ بشيءٍ من أَمرِه حتّى جاءَني يسأَلني(٥) النُزولَ فاستحيَيْتُ من ردِّه، ودخلنَي من ذلكَ ذمامٌ فضيَّفْتُه واويتُه، وقد كانَ من أَمرِه ما كانَ بلغَكَ، فإِن شئتَ أن أعطيَكَ الآنَ مَوْثقاً مُغَلَّظاً ألاّ أَبغيَكَ سوءاً ولا غائلةً، ولآتِيَنَّكَ حتّى أَضعَ يدي في يدِكَ، وان شئتَ أَعطيتُكَ رهينةً تكونُ في يدِكَ حتّى آتيَكَ، وأَنطلق إِليه فآمره أن يخرجَ من داري إِلى حيثُ شاءَ منَ الأَرضِ، فأَخرج من ذمامِه وجوارِه. فقالَ له

__________________

(١) البيت لعمرو بن معدي كَرب: كتاب سيبويه ١: ٢٧٦، الاغاني ١٠: ٢٧، العقد الفريد ١: ١٢١، جمهرة اللَغة ٦: ٣٦١.

(٢) في هامش «ش» نسخة اخرى: ما قدم.

(٣) العين: الجاسوس « الصحاح - عين - ٦: ٢١٧٠ ».

(٤) في هامش «ش»: قولي.

(٥) في «م»: ليسالني.

٤٨

ابنُ زيادٍ: واللهِّ لا تفارقني أبداً حتّى تَأْتِيَني به، قالَ: لا واللهِ لا آتيكَ(١) به أبداً، أجيئُكَ بضيفي تَقتلُه؟! قالَ: واللّهِ لَتَأْتِيَنَّ(٢) به، قالَ: لا واللّهِ لا آتيكَ به.

فلمّا كثرَ الكلامُ بينَهما قامَ مسلمُ بنُ عمرو الباهليّ - وليسَ بالكوفةِ شاميٌ ولا بصريٌّ غيره - فقالَ: أصلحَ اللهُّ الأميرَ، خلِّني وِايّاه حتّى أُكَلِّمَه، فقامَ فخلا به ناحيةً من ابنِ زيادٍ، وهما منه بحيثُ يَراهما، وِاذا رفعا أصواتَهما سمعَ ما يقولانِ، فقالَ له مسلمٌ: يا هانئ إِنِّي أنْشُدُكَ اللهَ أن تقتلَ نفسَكَ، وأنْ تُدخِلَ البلاءَ على عشيرتِكَ، فواللّهِ إِنّي لأنْفَسُ بكَ عنِ القتلِ، إِنّ هذا الرّجلَ ابنُ عمِّ القوم وليسوا قاتِليه ولا ضائريه، فادفعْه إِليه فإِنّه ليسَ عليكَ بذلكَ مَخزاةٌ ولا مَنقصةٌ، إِنّما تَدفعُه إِلى السُّلطانِ. فقالَ هانئ: واللهِّ إِنّ عليَّ في ذلكَ للخزي والعار، أنا أدفعُ جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيحٌ أسمعُ وأرى، شديدُ السّاعدِ، كثيرُ الأعوانِ؟! واللهِّ لو لم أكن إلاّ واحداَ ليسَ لي ناصرٌ لم أدفعْه حتّى أموتَ دونَه. فأخذَ يُناشدُه وهو يقولُ: واللّهِ لا أدفعُه أبداً.

فسمعَ ابنُ زيادٍ ذلكَ فقالَ: أدْنُوه منِّي، فادْنيَ منه فقالَ: واللّهِ لَتَأْتِيَنِّي به أو لأضْربَنَ عُنقَكَ، فقالَ هانئ: إِذاً واللّهِ تكثر البارِقة حولَ دارِكَ فقالَ ابنُ زيادٍ: والهفاه عليكَ! أبالبارِقةِ تُخوِّفُني؟ وهو يظنُّ أنّ عشيرتَه سيمنعونه ؛ ثّم قالَ: أدْنُوه منيِّ، فادنِيَ، فاعترضَ وجهَه بالقضيبِ فلم يَزَلْ يَضربُ وجهَه وأنفَه وجبينَه وخدَّه حتّى كَسرَ

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: لا أجيئك.

(٢) في هامش «ش» و «م»: لتأتيني.

٤٩

أَنفَه وسَيَّلَ الدِّماءَ على ثيابِه، ونثرَلحمَ خدِّه وجبينهِ على لحيتهِ، حتّى كسرَ القضيب. وضربَ هانئ يدَه إِلى قائم سيفِ شُرَطِيٍّ، وجاذبَه الرّجلُ ومنَعه، فقالَ عبيدُاللّهِ: أَحَرُوْرِيٌّ سائرَ اليوم؟ قد حلَّ لنا دمُكَ، جرُّوه، فَجرَّوه فألقَوْه في بيتٍ من بيوتِ الدّارِ، وأَغلقوا عليه بابَه، فقالَ: اجعلوا عليه حَرَساً، ففُعِلَ ذلكَ به، فقام إِليه حسّانُ بنُ أَسماء فقالَ له: أرُسُلُ غَدْرٍ سائرَ اليوم؟ أَمرْتَنا أَن نجيئكَ بالرّجلِ، حتّى إِذا جئناك به هَشَمْت وجهَه وسيَّلتَ دماءه على لحيتِه، وزعمتَ أَنّكَ تقتلُه. فقالَ له عُبيدُاللهِّ: ِوانّكَ لَهاهنا، فأَمَرَ به فلُهِز(١) وتُعْتِعَ(٢) ثمّ أُجلسَ ناحيةً. فقالَ محمّدُ بنُ الأشعثِ: قد رَضِيْنا بما راه(٣) الأَميرُ، لنا كانَ أَو علينا، إِنّما الأميرُ مؤدِّبٌ.

وبلغَ عمرو بنَ الحجّاجِ أَنّ هانئاً قد قُتِلَ، فأَقبلَ في مَذْحِج حتّى أَحاطَ بالقصرِ ومعَه جمعٌ عظيمٌ، ثمّ نادى: أَنا عمرو بنُ الحجّاجِ، وهذه فُرسانُ مَذْحِج ووُجوهُها، لم تَخلعْ طاعةً، ولم تُفارقْ جماعةً، وقد بلغَهم أَنّ صاحبَهم قد قُتِلَ فأَعظَموا ذلكَ. فقيلَ لعبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ: هذه مَذْحِج بالباب، فقال لشريحٍ القاضي: ادخلْ على صاحبهم فانظُرْ إِليه، ثمّ اخرُجْ وأَعلِمْهم أَنّه حيٌّ لم يُقتَلْ. فدخلَ فنظرَ شُريحٌ إِليه، فقالَ هانئ لمّا رأَى شُريحاً: يا للهِّ! يا للمسلميمنَ! أَهَلَكَتْ عشيرتي؟! أَينَ أَهلُ الدِّين؟! أَينَ أَهلُ البَصَر(٤) ؟! والدِّماءُ تَسيلُ على

__________________

(١) اللهز: الضرب بجمع اليد في الصدر «الصحاح - لهز - ٣: ٨٩٤».

(٢) تعتعه: حرّكه بعنف. «القاموس - تعع - ٣: ٩».

(٣) في « م » وهامش « ش » رأى.

(٤) في « م » وهامش « ش »: المصر.

٥٠

لحيتِه، إِذ سمعَ الرّجّةَ(١) على باب القصرِ فقالَ: إِنِّي لأَظنُّها أَصواتَ مَذْحِج وشيعتي منَ المسلمينَ، إِنّه إِن ( دَخَلَ عليّ )(٢) عشرةُ نفرٍ أَنقذوني. فلمّا سمعَ كلامَه شُريحٌ خرجَ إِليهم فقالَ لهم: إِنّ الأميرَ لمّا بلغَه مكانُكم ومقالتُكم في صاحبكم، أَمرَني بالدُّخولِ إِليه فأتيتُه فنظرت إِليه، فأَمرَني(٣) أَن أَلقاكم وأَن أًّعلمَكم أنّه حيٌ، وأَنّ الّذي بلغَكم من قتلِه باطل، فقالَ عمرُو بنُ الحجّاجِ وأَصحابُه: أَمّا إِذْ لم يُقْتَلْ(٤) فالحمدُ للّهِ، ثمّ انصرفوا.

وخَرجَ عبيدُاللّهِ بن زيادٍ فصعدَ المنبرَ، ومعَه أَشرافُ النّاس وشُرَطهُ وحَشَمُه، فقالَ:

أَمّا بعدُ: أَيُّها النّاسُ فاعتصِمُوا بطاعةِ اللّهِ وطاعةِ أئمّتِكم، ولا تَفرقوا فتَهلِكُوا وتَذِلُّوا وتُقْتَلوا وتُجْفَوا وتًحرَبوا(٥) ، إِنَّ أَخاك منْ صَدَقَكَ، وقد أَعذَرَ مَنْ أنذَرَ. ثمّ ذهبَ لِيَنزلَ فما نزلَ عنِ المنبرِحتّى دخلتِ النّظّارةُ المسجدَ من قِبَلِ باب التّمّارينَ يَشتدُّون ويَقولونَ: قد جاءَ ابنُ عقيلٍ!قد جاءَ ابنُ عقيلٍ!فدخل عبيدُاللّهِ القصرَمُسرِعاً وأَغلقَ أبوابَه.

قالَ عبدُاللّه بن حازمٍ: أنا واللهِّ رسولُ ابنِ عقيلٍ إِلى القصرِ لأنظرَ ما فعلَ هانئ، فلمّا حُبِسَ وضُرِبَ ركبتُ فرسي فكنتُ أَوّلَ أَهل

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: الوجبة. وهي الصوت الساقط. «القاموس » وجب - ١: ١٣٦ ».

(٢) في «ش»: دخل الي.

(٣) في «م» وهامش «ش»: وأمرني.

(٤) في هامش «ش» و «م»: اما اذا كان لم يقتل.

(٥) الحرب: أخذ المال قهراً. «الصحاح - حرب - ١: ١٠٨».

٥١

الدَّارِ دخلَ على مسلمِ بنِ عقيلٍ بالخبرِ، فإِذا نِسوةٌ لِمُرَاد مُجتمعات يُنادِيْنَ: يا عَبرتاه! يا ثُكلاه! فدخلتُ على مسلمِ بنِ عقيلٍ فأخبرتُه فأَمرَني أَن أُناديَ في أصحابِه وقد ملأ بهم(١) الدُّورَ حولَه، وكانوا فيها أَربعةَ آلافِ رجلٍ، فناديتُ: يا منصورُ أمِتْ، فتَنادى أهل الكوفةِ واجتمعوا عليه، فعقدَ مسلمٌ لرؤوسِ الأرباعِ على القبائل كِنْدَةَ ومَذْحِجَ وأسَدَ وتَمِيْمَ وهَمْدَانَ، وتَداعى النّاسُ واجتمعوا، فما لبثْنا إلاّ قليلاً حتّى امتلأ المسجدُ منَ النّاسِ والسُّوقُ، وما زالوا يَتَوَثَّبون حتّى المساءِ، فضاقَ بعبيدِاللهّ أمرُه، وكانَ أَكثر عملِه أن يُمسِكَ بابَ القصر وليسَ معَه في القصرِ إلاّ ثَلاثونَ رجلاً منَ الشُّرَطِ وعشرونَ رجلاً من أشرافِ النّاسِ وأهلِ بيتهِ وخاصّته، وأقبلَ مَنْ نأَى عنه من أشرافِ النّاسِ يأْتونَه من قِبَل الباب الّذي يلي دارَ الرُّوميِّينَ، وجعلَ مَنْ في القصرِ معَ ابن زيادٍ يُشرِفونَ عليهِمَ فينظرونَ إِليهم وهم يرمونَهم بالحجارةٍ ويَشتمونَهم ويَفترونَ على عبيدِاللهِّ وعلى أبيه.

ودعا ابنُ زيادٍ كَثِيرَ بنَ شهابِ وأمرَه أن يَخرجَ فيمن أطاعَه من مَذْحِج، فيسيرَ في الكوفةِ ويخذِّلَ النّاَسَ عنِ ابن عقيلٍ ويخوِّفَهم الحربَ(٢) ويحذِّرَهم عقوبةَ السُّلطانِ، وأَمرَ محمّدَ بنَ الأشعثِ أن يَخرجَ فيمن أطاعَه من كِنْدةَ وحَضْرَمَوْتَ، فيرفعَ رايةَ أمانٍ لمن جاءه منَ النّاسِ، وقالَ مثلَ ذلكَ للقَعْقاعِ الذُّهْليِّ وشَبَثِ بنِ رِبعيٍّ التّميميِّ وحَجّارِبن أبجَر العِجليِّ وشمرِ بنِ ذي الجوشنِ العامريِّ، وحبسَ باقيَ وجوهِ النّاسِ عندَه استيحاشاً إِليهم لقلّةِ عددِ من معَه منَ النّاس.

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: منهم.

(٢) في هامش «ش» و «م»: بالحروب.

٥٢

فخرجَ كَثيرُبنُ شِهابٍ يُخذِّلُ(١) النّاسَ عنِ ابنِ عقيلٍ، وخرجَ محمّدُ ابنُ الأشعثِ حتّى وقفَ عندَ دُورِ بني عُمارةَ، فبعثَ ابنُ عقيلٍ إِلى محمّدِ ابن الأشعثِ منَ المسجدِ عبدَ الرّحمن بن شريحٍ الشِّباميّ، فلمّا رأَى ابنُ الأشعثِ كثرةَ من أَتاه تأَخّرَ عن مكانِه، جعلَ محمّدُ بنُ الأشعثِ وكثِيرُبنُ شِهابِ والقَعْقَاعُ بنُ شَوْر الذُّهليّ وشَبَثُ بنُ رِبعيٍ يَرُدُّونَ النّاسَ عنِ اللحوقِ بمسلمٍ ويخوِّفونَهمُ السُّلطانَ، حتّى اجتمعَ اليهم عددٌ كثيرٌ من قومِهم وغيرهم، فصاروا إِلى ابنِ زيادٍ من قِبَلِ دارِ الرُّومييّنَ ودخلَ القوم معَهم، فقالَ له كَثِيرُبنُ شهابٍ: اصلح اللهُّ الأَميرَ، معَكَ في القصرِ ناسٌ كثيرٌ من أشرافِ النّاسِ ومن شُرَطِكَ واهلِ بيتِكَ ومَواليكَ، فاخرُجْ بنا إِليهم، فأبى عُبيدُاللّهِ؟ وعقدَ لشَبَث بن رِبْعيٍّ لواءً فأَخرجَه.

وأقامَ النّاس معَ ابنِ عقيلٍ يَكثرونَ حتّى المساءِ وأَمرُهم شديدٌ، فبعثَ عُبيدُاللهِّ إِلى الأَشرافِ فجمعَهم، ثمّ أَشرفوا على النّاسِ فَمَنَّوا أَهلَ الطّاعةِ الزِّيادةَ والكرامةَ، وخَوَّفوا أهلَ العصيانِ(٢) الحرمانَ والعقوبةَ، وأَعلَموهم وصولَ(٣) الجندِ منَ الشّام إِليهم. وتكلّمَ كَثِيرٌ حتّى كادتِ الشّمسُ ان تَجبَ، فقالَ: أيُّها النّاسَُ الحقوا بأهاليكم ولا تَعَجَّلوا الشّرَّ، ولا تُعَرِّضواَ أنفسَكم للقتل، فإِنَّ هذه جنودُ أميرِ المؤمنينَ يزيدَ قد أقبلتْ، وقد أعطى اللهَّ الأميرُ عهدا ً: لئن تَمَّمْتًم على حربه ولم تَنصرِفوا من عشيّتِكم (أن يَحْرِم )(٤) ذُرِّيَّتَكم العطاءَ، ويُفرِّقَ مُقاتِلتًكم في مَغازي الشّامِ، وأن يأخذَ البريءَ بالسّقيمِ والشّاهدَ بالغائبِ، حتّى لا

__________________

(١) في النسخ: فخذّل، وما في المتن من هامش «ش» و «م».

(٢) في « م » وهامش « ش »: المعصية.

(٣) في «م» وهامش « ش »: فصول.

(٤) في هامش «ش»: ليحرمن.

٥٣

تبقى له بقيّةٌ من أَهلِ المعصيةِ إلاّ أذاقَها وبالَ ما جنتْ أيديها. وتكلّمَ الأشرافُ بنحوٍ من ذلكَ.

فلمّا سمعَ النّاسُ مقالَهم أخذوا يتفرّقونَ، وكانتِ المرأةُ تأْتي ابنَها أَو أَخاها فتقولُ: انْصَرِفْ، النّاسُ يَكفونَكَ ؛ ويجيءُ الرّجلُ إِلى ابنهِ وأَخيه فيقولُ: غداً يأْتيكَ أَهلُ الشّام، فما تَصنعُ بالحرب والشّرِّ؟ انْصَرِفْ ؛ فيذهبُ به فينصرفُ. فما زالَوا يتفرّقون حتّى أمسَى ابنُ عقيلِ وصلّى المغربَ وما (معَه إلاّ ثلاثونَ )(١) نَفْساً في المسجدِ، فلمّا رأى أَنّه قد أًمسى وما معَه إلاّ أُولئكَ النّفرُ، خرجَ منَ المسجدِ متوجِّهاً نحوَ أَبواب كِنْدةَ، فما بلغَ الأَبوابَ ومعَه منهم عشرة، ثمّ خرجِ منَ الباب فإذا لَيسَ معَه إِنسانٌ، فالتفتَ فإِذا هو لا يُحِسُّ أَحداًَ يَدُلّه علىَ الطّريقِ، ولا يَدُلًّه على منزلِه، ولا يُواسيه بنفسِه إِن عرضَ له عدوّ.

فمضى على وجهِه مُتَلدَداً(٢) في أَزِقّةِ الكوفةِ لا يدري أينَ يذهبُ، حتّى خرجَ إِلى دورِ بني جَبَلَةَ من كنْدَةَ، فمشى حتّى انتهى إِلى بابِ امرأةٍ يُقالُ لها: طَوْعَةُ، أُمُّ ولدٍ كانتْ للأَشعثِ بنِ قيسٍ فأعتقَها، فتزوّجَها أسَيْدٌ الحضرميُّ فولدتْ له بِلالاً، وكان بِلالٌ قد خرجَ معَ النّاسِ فأُمُّه قائمةٌ تنتظرة ؛ فسلّمَ عليها ابنُ عقيلٍ فردّت عليه فقالَ لها: يا أَمةَ اللّهِ اسقيني ماءً، فسقتْه وجلسَ وأَدخلتِ ألإناءَ، ثمّ خرجتْ فقالتْ: يا عبدَاللّهِ ألم تشربْ؟ قالَ: بلى، قالتْ: فاذهبْ إِلى أَهلِكَ، فسكتَ ثمّ أعادتْ مثلَ ذلكَ، فسكتَ، ثمّ قالتْ له في الثّالثةِ: سُبحانَ اللهِّ! يا

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: معه ثلاثون.

(٢) في هامش «ش»: التلدد: النظر الى أليمين والشمال.

٥٤

عبدَاللّهِ قُمْ عافاكَ اللّهُ إِلى أَهلِكَ فإِنّه لا يَصلحُ لكَ الجلوسُ على بابي، ولا أُحِلُّه لكَ.

فقامَ وقالَ: يا أَمةَ اللهِّ ما لي في هذا المِصر منزلٌ ولا عشيرةٌ، فهل لكِ في(١) اجرٍ ومعروفٍ، لعلِّي مُكافئًكِ بعدَ اليوم، فقالتْ: يا عبدَاللّهِ وما ذاكَ؟ قالَ: أَنا مسلمُ بنُ عقيلٍ كَذَبَني هؤَلاءِ القومُ وغَرُّوني وأَخرجوني؟ قالتْ: أَنتَ مسلمٌ؟ قالَ: نعم ؛ قالتْ: ادخُلْ، فدخلَ بيتاً في دارِها غيرِ البيتِ الّذي تكونُ فيه، وفرشتْ له وعرضتْ عليه العَشاءَ فلم يَتَعَش.

ولم يكنْ بأَسرعَ أَن جاءَ ابنها، فرآها تُكثِرُ الدُّخولَ في البيتِ والخروجَ منه، فقالَ لها: واللّهِ إِنّه لَيَرِيبُني كثرةُ دخولكِ هذا البيتَ منذُ الليلةِ وخروجِكِ منه ؛ إِنّ لكِ لَشأناً؛ قالتْ: يا بُنَيَّ الْه عن هذا؛ قالَ: واللهّ لَتخبرينني(٢) ؛ قالتْ: أَقبلْ على شأْنِكَ ولا تسأَلنْي عن شيءٍ، فَألح عليها فقالتْ: يا بُنَيّ لاَ تُخْبرَنَ أَحدآً منَ النّاسِ بشيءٍ مما أُخبركُ به ؛ قالَ: نعم، فأَخذتْ عليه اَلأَيمانَ فحلفَ لها، فأَخبرتْه فاضطجعَ وسكتَ.

ولمّا تفرّقَ النّاسُ عن مسلمِ بنِ عقيلٍ طالَ على ابنِ زيادٍ وجعلَ لا يَسمعُ لأَصحاب ابن عقيل صوتاً كما كانَ يَسمع قبلَ ذلكَ ؛ قال لأصحابه: أشرِفُوا فانظُرُوا، هل تَرَوْنَ منهم أحداًَ؟ فأشرفوا فلم يَرَوْا أَحداً، قالَ: فانظُرُوا لعلّهم تحتَ الظلالِ وقد كَمنوا لكم،

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: الى.

(٢) في هامش «ش» و «م»: لَتُخْبرنِّي.

٥٥

فنزعوا تَخاتجَ(١) المسجدِ وجعلوا يخفضونَ شُعَلَ النّارِ(٢) في أَيديهم ويَنظرونَ، فكانتْ أَحيانا تُفيءُ لهم واحياناً تُضيءُ كما يُريدونَ، فدلَّوُا القناديلَ ( وأَطنانَ القصب تٌشَدُّ )(٣) بالحبالِ ثمّ تُجعلُ فيها النيرانُ ثمّ تُدلّى حتّى تنتهيَ إِلى الأَرَض، ففعلوا ذلكَ في أقصى الظَلال(٤) وأَدناها وأَوسطِها حتّىٍ فُعِلَ ذلكَ بالظُّلّةِ الّتي فيها المنبر، فلمّا لم يَرَوْا شيئاً أعلموا ابنَ زيادٍ بتفرّقِ القومِ، ففتحَ بابَ السُّدّةِ(٥) الّتي في المسجدِ ثمّ خرجَ فصعدَ المنبرَ وخرجَ أَصحابهُ معَه، فأمرَهم فجلسوا قُبَيل العَتَمةِ وأَمرَ عمرو بنَ نافع فنادى: أَلا بَرِئَتِ ألذِّمّةُ من رجلٍ منَ الشّرَطِ والعُرفَاءِ والمنَاكب(٦) أَو المقاتِلةِ صلّى العتمة إلاّ في المسجدِ، فلم يكنْ إلاّ ساعة حتى امتَلأ المسجدُ منَ النّاسِ، ثمّ أَمرَ مناديَه فأَقامَ الصّلاةَ، وأَقامَ الحرسَ خلفَه وأَمرَهم بحراسته من أَن يَدخلَ عليه أَحدٌ يَغتالهُ، وصلىّ بالنّاس ثمّ صعدَ المنبرَ فحمدَ اللهَّ وأَثنى عليه ثمّ قالَ:

أمَّا بعدُ: فإِنّ ابن عقيلٍ السّفيهَ الجاهلَ قد أَتى ما قد رأَيتم منَ

__________________

(١) قال العلامة المجلسي في البحًار ٤٤: ٣٦٢: التختج: لعله معرب «تخته » اي نزعوا الأخشاب من سقف المسجد لينظروا هل فيه أحد منهم. وان لم يرد بهذا المعنى في اللغة.

(٢) في هامش «ش»: النيران.

(٣) في هامش «ش» و «م»: وانصاف الطنان تشد.

والطنان والأطنان: جمع طُنّ، وهو حزمة القصب «الصحاح - طنن - ٦: ٢١٥٩».

(٤) الظلال: جمع ظلة وهي السقيفة يستتر بها من الحر والبرد انظر «مجمع البحرين - ظلل - ٥: ٤١٧».

(٥) السدّة: السقيفة فوق الباب، وقيل هي الساحة بين يدي الباب. «مجمع البحرين - سدد - ٣: ٦٧.

(٦) المناكب: جمع منكب، وهو رئيس العرفاء«الصحاح - نكب - ١: ٢٢٨ ».

٥٦

الخلافِ والشِّقاقِ، فبَرئَتْ ذمّةً اللهِّ من رجلٍ وجدناه في دارِه، ومن جاءَ به فله دِيَتُه، واتّقوا(١) اللّهَ عبادَ اللّهِ والزموا طاعتَكم وبيعتَكم، ولا تجعلوا على أنفسِكم سبيلاًَ. يا حُصَينَ بنَ نُميرٍ، ثكلتْكَ أُمُّكَ إِن ضاعَ باب سكّةٍ من سككِ الكوفةِ، أوخرجَ هذا الرجلُ ولم تأْتِني به، وقد سلّطتُكَ على دورِ أَهلِ الكوفةِ، فابعثْ مراصدَ على أهلِ السِّككِ، وأصبحْ غداً فاسْتبِرِ(٢) الدُّورَ وجُسْ خلالَها حتّى تأْتيني بهذا الرّجلِ. وكانَ الحُصينُ بنُ نُميرٍ على شرَطِه وهومن بني تميم.

ثمّ دخلَ ابنُ زيادٍ القصرَ، وقد عقدَ لعمرو بنِ حُرَيثٍ رايةً وأمَّره على النّاسِ. فلمّا أصبحَ جلسَ مجلسَه وأَذنَ للنّاسِ فدخلوا عليه، وأقبلَ محمّدُ بنُ الأَشعثِ، فقالَ: مرحباً بمن لا يُسْتَغَشُّ ولا يُتَّهَمُ، ثمّ أقعدَه إِلى جنبِه.

وأصبحَ ابنُ تلكَ العجوز فغدا إِلى عبدِ الرحمنِ بنِ محمّدِ بن الأشعثِ فأخبره بمكانِ مسلمِ بنِ عقيلٍ عندَ أُمِّه، فأَقبلَ عبدُ الرّحمنِ حَتّى أَتى أباه وهو عندَ ابنِ زيادٍ فسارَّه، فعرفَ ابنُ زيادٍ سِراره فقالَ له ابنُ زيادٍ بالقضيب في جنبِه: قُمْ فائتني به السّاعةَ، فقامَ وبعثَ معَه قومه، لأنّه قد علمَ أنَّ كلَّ قومٍ يَكرهونَ أن يصابَ فيهمِ (مسلمُ بنُ عقيل )(٣) ، فبعثَ معَه عبيدَاللّه بن عبّاسٍ السُّلميّ في سبعين رجلاً من قيسٍ، حتّى أتَوُا الدّارَ الّتي فيها مسلمُ بنُ عقيلٍرحمه‌الله ، فلمّا سمعَ وَقْعَ حوافرِ

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: اتقوا.

(٢) في هامش «ش» و «م»: فاستبرئ، أو استَبرْ أمر من استبار، وبار اذا اختبر أو استَبرْ افتعل من السَبر.

(٣) في هامش «ش» و «م»: مِثل ابن عقيل.

٥٧

الخيلِ وأَصواتَ الرِّجالِ علمَ أَنّه قد أُتيَ، فخرجَ إِليهم بسيفِه، واقتحموا عليه الدًارَ، فشدَّ عليهم يَضرِبُهم بسيفهِ حتّى أَخرجَهم منَ الدّارَ، ثمّ عادوا إِليه فشدَّ عليهم كذلكَ، فاختلفَ هو وبكرُ بنُ حُمرانَ الأَحمريّ فضربَ فمَ مسلمٍ فشقً(١) شفتَه العُليا وأَسرعِ السّيفُ فِى السًّفلى ونَصَلَتْ(٢) له ثَنِيَّتاه، وضربَه مسلمٌ في رأسِه ضربةَ مُنكَرةً وثنّاه بأخرى على حبلِ العاتقِ(٣) كادتْ تَطلعُ على جوفِه، فلمّا رأوا ذلكَ أشرفوا عليه من فوقِ البيتِ فأَخذوا يَرمونَه بالحجارةِ، ويُلهِبونَ النّارَ في أطنانِ القصبِ ثمّ يُلقونَها عليه من فوقِ البيتِ، فلمّا رأَى ذلكَ خرجَ عليهم مُصلِتاً بسيفِه في السِّكّةِ، فقالَ له محمّدُ بنُ الأشعثِ: لكَ الأمانُ، لا تَقتلْ نفسَكَ؟ وهو يُقاتِلهُم ويقولُ:

أقْسَمْتُ لا أُقْتَلُ إِلا حُرُّا

إِنِّيْ(٤) رَأَيْتُ المْوَتَ شَيْئَاً نُكْرَاُ

ويجعَلُ(٥) الْبَارد َسُخْنَا ًمُرًا

رُدَّ(٦) شُعَاعُ الشَّمْسِ فاستقرَّا

كلّ امْرِىءٍ يَوْمَاً مُلاَقٍ شرًّا

أَخَافُ أَنْ أُكْذَبَ أَوْ أُغَرَّا

فقالَ له محمّدُ بنُ الأَشعثِ: إِنّكَ لا تُكذَب ولا تُغَّرُ، فلا تَجزعْ، إِنّ القومَ بنو عمِّكَ وليسوا بقاتِليكَ ولا ضائريكَ(٧) . وكانَ قد أُثْخِنَ بالحجارةِ

__________________

(١) في « م » وهامش « ش »: فقطع.

(٢) نصل: أي زال. انظر«الصحاح - نصل - ٥: ١٨٣٠».

(٣) في هامش «ش» و « م »: عاتقه.

(٤) في هامش «ش» و «م»: وان.

(٥) في هامش «ش» و « م »: ويخلط.

(٦) في هامش «ش» و « م »: ذر.

(٧) في « م » وهامش « ش »: ولاضاربيك.

٥٨

وعجزَ عنِ القتالِ، فانبهرَ وأَسندَ ظهرَه إِلى جنب تلكَ الدّارِ، فأَعادَ ابنُ الأَشعثِ عليه القولَ: لكَ الأَمانُ، فقالَ: آمِنٌ أَنا؟ قالَ: نعم. فقالَ للقوم الّذينَ معَه: لي(١) الأمانُ؟ فقالَ القومُ له: نعم، إلاّ عبيدَاللّه بن العبّاسَِ السُّلميّ فإِنّه قالَ: لا ناقةَ لي في هذا ولا جَمل، وتنحّى؟ فقالَ مسلمٌ: أَما لو لم تُؤَمِّنوني ما وضعتُ يدي في أَيديكم.

وأُتِيَ ببغلةٍ فحُمِلَ عليها، واجتمعوا حولَه وانتزعوا سيفَه، فكأَنّه عندَ ذلكَ أيِسَ(٢) من نفسهِ ودمعتْ عيناه، ثمّ قالَ: هذا أوّلُ الغدرِ، قالَ له محمّدُ بنُ الأشعثِ: أَرجوألاّ يكونَ عليكَ باْسٌ، فقالَ: وما هوإلاّ الرّجاءُ، أَينَ أمانُكم؟ إِنّا للهِّ وِانّا إِليه راجعونَ! وبكى، فقالَ له عبيدُاللّه ابن العبّاسِ السُّلمي:إنّ من(٣) يَطلبُ مثلَ الّذي تطلبُ، إِذا نزلَ به مثلُ الّذي نزلَ بكَ لم يبك. قالَ: إنِّي واللّهِ ما لنفسي بكيت، ولا لها منَ القتل أرثي، وان كنتُ لم أحبّ لها طرفةَ عينٍ تلفاً، ولكنْ(٤) أبكي لأهلي المُقبِلينَ إِليّ، أَبكي للحسينِعليه‌السلام والِ الحسين.

ثمّ أقبلَ على محمّدِ بنِ الأشعثِ فقالَ: يا عبدَاللّهِ إِنِّي أَراكَ واللّهِ ستعجزُ عن أَماني، فهل عندَكَ خيرٌ؟ تَستطيعُ أَن تَبعثَ من عندِكَ رجلاً على لساني أَن يُبلِّغَ حسيناً؟ فإنِّي لا أَراه إِلاّ قد خرجَ إِليكمُ اليومَ مقبلاً أو هو خارجٌ غداً وأَهل بيتهِ، ويقولَ له: إِنّ ابنَ عقيلٍ بعثَني إِليكَ وهو أسيرٌ في أيدي القوم، لا يرى أَنّه(٥) يمسي حتّى يُقتَل، وهو يقولُ:

__________________

(١) في هامش «ش»: الّي.

(٢) في هامش «ش» و «م»: أحس.

(٣) في هامش «ش» و «م»: ان الذي.

(٤) في هامش «ش» و «م»: لكني.

(٥) في هامش «ش»: ان.

٥٩

ارجعْ فداكَ أبي وأُمِّي بأهلِ بيتِكَ ولا يَغُرَّكَ(١) أهلُ الكوفةِ، فإِنّهم أصحابُ أَبيكَ الّذي كانَ يتمنّى فراقَهم بالموتِ أوِ القتلِ، إِنّ أهلَ الكوفة قد كَذَبوكَ وليسَ لمكذوب(٢) رأْيٌ. فقالَ ابنُ الأشعثِ: واللّهِ لأفعلَنَ ولأعْلِمَنَّ ابنَ زيادٍ أنِّي قد آمنْتُكَ.

وأقبلَ ابنُ الأشعثِ بابنِ عقيلٍ إِلى باب القصرِ، فاستاْذنَ فأُذِنَ له فدخلَ على ابنِ زيادٍ فأَخبرَه خبرَ ابنِ عقيلٍَ وضَرْبَ بَكْرٍ إِيّاه وما كانَ من أَمانِه له، فقالَ له عبيدُاللهِّ: وما أنتً والأمانَ، كأنّا أرسلناكَ لِتُؤمنَه! إِنمّا أرسلناكَ لتأْتينا به، فسكتَ ابن الأَشعثِ، وانتُهِيَ بابنِ عقيلٍ إِلى بابِ القصرِ وقدِ اشتدَّ به العطشُ، وعلى باب القصرِ ناسٌ جلوسٌ ينتظرونَ الإذنَ، فيهم عُمارةُ بنُ عقبة بن أبي مُعَيْطٍ، وعمرُو بن حُرَيثٍ، ومسلمُ بنُ عمرو، وكثيرُ بنُ شهابِ ؛ ِواذا قُلّةٌ باردةٌ موضوعة على الباب، فقالَ مسلمٌ: اسقوني من هذا المَاء ِ، فقالَ له مسلمُ بنُ عمرو: أتَراها؟َ ما أبردَها! لا واللّهِ لا تذوقُ منها قطرةً أبداً حتّى تذوقَ الحميمَ في نار ِجهنّمَ. فقالَ له ابنُ عقيلٍ رضيَ اللّهُ عنه: ويلَكَ مَنْ أنت؟ قالَ: أنا مَنْ عَرفَ الحقَّ إِذ أنكرتَه، ونصحَ لإمامِه إِذ غَشَشْتَه، وأطاعَه إِذ خالفتَه، أنا مسلمُ ابنً عمرو الباهليّ، فقالَ له مسلمُ بنُ عقيلٍ: لأمِّكَ الثّكلُ، ما أجفاكَ وأفظَّكَ وأقسى قلبَكَ! أنتَ يا ابنَ باهلةَ أولى بالحميمِ والخلودِ في نارِ جهنّمَ منِّي. ثمّ جلسَ فتساندَ إِلى حائطٍ.

وبعثَ عمرُو بنُ حُرَيثٍ غلاماً له فجاءه بقُلّةٍ عليها مِنديلٌ وقدح،

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: يغررك.

(٢) في هامش «ش»: لمن كذب.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

العبادة ، فلا يجب عليه الدم ، كما لو أحرم منه ، أمّا إذا عاد بعد فعل شي‌ء من أفعال الحج فقد عاد في غير وقت إحرامه ؛ لأنّ الإِحرام يتقدّم أفعال الحج.

وقد بيّنّا أنّ فعله لا اعتداد به ، فلا فرق بينهما.

وقال أبو حنيفة : إن رجع إلى الميقات ، سقط عنه الدم ، وإن لم يلبّ لم يسقط(١) .

وقال مالك : يجب الدم مطلقاً - وبه قال أحمد وزفر وابن المبارك - لقول ابن عباس : من ترك نسكاً فعليه دم(٢) .

ونمنع كون قوله حجةً أو العموم.

إذا عرفت هذا ، فلو لم يرجع مع قدرته ، بطل إحرامه وحجّه.

وقال الشافعي : إن لم يتمكّن من الرجوع ، جاز أن يُحْرم من مكانه ، ويجب الدم ، وإن لم يكن له عذر ، وجب الرجوع ، فإن لم يرجع أثم ، ووجب الدم ، وصحّ إحرامه(٣) .

وقد بيّنّا بطلانه.

مسألة ١٥٥ : لو تجاوز الميقات ناسياً أو جاهلاً ، أو لا يريد النسك ثم تجدّد له عزم ، وجب عليه الرجوع إلى الميقات ، وإنشاء الاحرام منه مع القدرة ، ولا يكفيه المرور بالميقات ، فإن لم يتمكن ، أحرم من موضعه ، ولو أحرم من موضعه مع إمكان الرجوع ، لم يجزئه.

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ١٧٠ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٦٥ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ٢٢٥ ، الحاوي الكبير ٤ : ٧٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٧٢ ، المجموع ٧ : ٢٠٨.

(٢) المغني والشرح الكبير ٣ : ٢٢٥ ، بداية المجتهد ١ : ٣٢٤ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٤٨ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٦٥ ، الحاوي الكبير ٤ : ٧٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٧١ ، المجموع ٧ : ٢٠٨.

(٣) فتح العزيز ٧ : ٨٩ ، المجموع ٧ : ٢٠٦.

٢٠١

وقد وافقنا العامّة على وجوب الرجوع إلى الميقات للناسي والجاهل(١) .

أمّا غير مُريد النسك فقد وافقنا أحمد أيضاً في إحدى الروايتين(٢) على وجوب الرجوع ؛ لأنّه متمكّن من الإِتيان بالنسك على الوجه المأمور به ، فيكون واجباً عليه.

ولما رواه الحلبي - في الحسن - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل نسي أن يُحْرم حتى دخل الحرم ، قال : « عليه أن يخرج إلى ميقات أهل أرضه ، فإن خشي أن يفوته الحج أحرم من مكانه ، وإن استطاع أن يخرج من الحرم فليخرج ثم ليحرم »(٣) .

وسأل أبو الصباح الكناني الصادقعليه‌السلام عن رجل جهل أن يحرم حتى دخل الحرم كيف يصنع؟ قال : « يخرج من الحرم يهلّ بالحج »(٤) .

وقال مالك والثوري والشافعي وأبو يوسف ومحمد : يحرم من موضعه ، لأنّه حصل دون الميقات على وجه مباح ، فكان له الإِحرام منه كأهل ذلك المكان(٥) .

والفرق ظاهر ؛ لقولهعليه‌السلام : ( ومَنْ كان منزله دون الميقات فمهلّه من أهله )(٦) .

إذا عرفت هذا ، فلو لم يتمكّن من الرجوع إلى الميقات وتمكّن من‌

____________________

(١) المغني ٣ : ٢٢٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٤.

(٢) المغني ٣ : ٢٢٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ٧٥ ، حلية العلماء ٣ : ٢٧٢ ، المجموع ٧ : ٢٠٤.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٨٣ - ٢٨٤ / ٩٦٥.

(٤) الكافي ٤ : ٣٢٥ / ٧ ، التهذيب ٥ : ٢٨٤ / ٩٦٦.

(٥) الكافي في فقه أهل المدينة : ١٤٨ ، التفريع ١ : ٣١٩ ، المغني ٣ : ٢٢٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢١٠ ، المجموع ٧ : ٢٠٣ و ٢٠٤ ، حلية العلماء ٣ : ٢٧٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ٧٥.

(٦) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ٢٢٧ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٢٢.

٢٠٢

الخروج إلى خارج الحرم ، وجب عليه ، لما رواه عبد الله بن سنان - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل مرّ على الوقت الذي يُحْرم منه الناس ، فنسي أو جهل فلم يُحْرمْ حتى أتى مكة فخاف إن يرجع إلى الوقت فيفوته الحج ، قال : « يخرج من الحرم فيحرم منه ويجزئه ذلك »(١) .

ولأنّه بخروجه إلى خارج الحرم يكون جامعاً بين الحلّ والحرم ، بخلاف ما لو أحرم من موضعه مع المكنة من الخروج.

ولو لم يتمكّن من الخروج ، أحرم من موضعه ، وأجزأه إجماعاً ، ولا يجب عليه دم ، خلافاً للشافعي(٢) .

ولو أسلم بعد مجاوزة الميقات ، وجب عليه الرجوع إلى الميقات والإِحرام منه مع المكنة ، وإن لم يتمكّن ، أحرم من موضعه ، ولا دم عليه - وبه قال عطاء ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي(٣) - لأنّه أحرم من الموضع الذي وجب عليه الإِحرام منه ، فأشبه المكّي ومَنْ كان منزله دون الميقات.

وقال الشافعي : يجب الدم(٤) .

وعن أحمد روايتان(٥) .

والصبي والعبد إذا تجاوزا الميقات من غير إحرام ثم بلغ أو تحرّر وتمكّنا من الحجّ ، وجب عليهما الرجوع إلى الميقات ، والإِحرام منه ، وإن لم‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ٣٢٤ / ٦ ، التهذيب ٥ : ٥٨ / ١٨١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢١٠ ، المجموع ٧ : ٢٠٦.

(٣) المغني ٣ : ٢٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٧٣ ، المجموع ٧ : ٦٢.

(٤ و ٥) حلية العلماء ٣ : ٢٧٣ ، المجموع ٧ : ٦١ - ٦٢ ، المغني ٣ : ٢٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٣.

٢٠٣

يتمكّنا ، أحرما من موضعهما ، ولا دم عليهما ، خلافاً للشافعي(١) .

ولو منعه مرض من الإِحرام عند الميقات ، قال الشيخرحمه‌الله : جاز له أن يؤخّره عن الميقات ، فإذا زال المنع ، أحرم من الموضع الذي انتهى إليه(٢) .

والظاهر أنّ مقصوده تأخير نزع الثياب وكشف الرأس وشبهه ، فأمّا النية والتلبية مع القدرة عليهما فلا يجوز له ذلك ؛ إذ لا مانع منه.

ولو زال عقله بإغماء وشبهه ، سقط عنه الحج ، فلو أحرم عنه رجل ؛ جاز ، لما رواه بعض أصحابنا عن أحدهماعليهما‌السلام في مريض أُغمي عليه فلم يعقل حتى أتى الموقف ، قال : « يحرم عنه رجل »(٣) .

إذا عرفت هذا ، فإنّ الإِحرام يجزئ عنه بمعنى لو أفاق ، كان مُحْرماً ، ويجب عليه إتمام الحج ، فإن زال قبل الموقفين ، أجزأه عن حجّة الإِسلام ، وإن زال بعده ، لم يجزئه عن حجّة الإِسلام.

مسألة ١٥٦ : المواقيت التي يجب الاحرام منها هي التي وقّتها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو كان الميقات قرية فخربت ونقلت عمارتها إلى موضع آخر ، كان الميقات موضع الاُولى وإن انتقل الاسم إلى الثانية ، لأنّ الحكم تعلّق بذلك الموضع ، فلا يزول عنه بخرابه.

وقد روي أنّ سعيد بن جبير رأى رجلاً يريد أن يُحْرم من ذات عِرْقٍ ، فأخذ بيده حتى أخرجه من البيوت وقطع به الوادي وأتى به المقابر ، ثم قال : هذه ذاتُ عِرْق الاُولى(٤) .

مسألة ١٥٧ : لو سلك طريقاً لا يؤدّي إلى شي‌ء من المواقيت ، روى‌

____________________

(١) انظر : المجموع ٧ : ٥٩.

(٢) النهاية : ٢٠٩.

(٣) التهذيب ٥ : ٦٠ / ١٩١.

(٤) الاُم ٢ : ١٣٩ ، الحاوي الكبير ٤ : ٦٩ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ٢١٥.

٢٠٤

العامّة عن عمر لمـّا قالوا له : وقِّتْ لأهل المشرق ، قال : ما حيال طريقهم؟ قالوا : قرن المنازل ، قال : قيسوا عليه ، فقال قوم : بطن العقيق ، وقال قوم : ذات عِرْق ، فوقَّت عمر ذات عِرْقٍ(١) .

ومن طريق الخاصة : ما رواه عبد الله بن سنان - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : «مَنْ أقام بالمدينة وهو يريد الحج شهراً أو نحوه ثم بدا له أن يخرج في غير طريق المدينة ، فإذا كان حذاء الشجرة مسيرة ستة أميال فليحرم منها »(٢) .

ولو لم يعرف محاذاة الميقات المقارب لطريقة ، احتاط وأحرم من بُعْدٍ بحيث يتيقّن أنّه لم يجاوز الميقات إلّا مُحْرماً ، ولا يلزمه الإِحرام حتى يعلم أنّه قد حاذاه أو يغلب على ظنّه ذلك ؛ لأنّ الأصل عدم الوجوب ، فلا يجب بالشك.

ولو أحرم بغلبة الظنّ بالمحاذاة ثم علم أنّه قد جاوز ما يحاذيه من الميقات غير مُحْرم ، الأقرب : عدم وجوب الرجوع ؛ لأنّه فعل ما كلّف به من اتّباع الظن ، فكان مجزئاً.

ولو مرّ على طريق لم يحاذ ميقاتاً ولا جاز به ، قال بعض الجمهور : يُحْرم من مرحلتين ، فإنّه أقلّ المواقيت وهو ذات عِرْق(٣) .

ويحتمل أنّه يُحْرم من أدنى الحِلّ.

مسألة ١٥٨ : أهل مكة يُحرمون للحجّ من مكة ، وللعمرة من أدنى الحلّ ، سواء كان مقيماً بمكة أو غير مقيم ؛ لأنّ كلّ مَنْ أتى على ميقات كان ميقاتاً له ، ولا نعلم في ذلك خلافاً ، ولهذا أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

____________________

(١) راجع : صحيح البخاري ٢ : ١٦٦ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٧ ، الحاوي الكبير ٤ : ٦٨ ، المغني ٣ : ٢١٤ ، والمحلّى ٧ : ٧٢.

(٢) الفقيه ٢ : ٢٠٠ / ٩١٣.

(٣) الوجيز ١ : ١١٤ ، فتح العزيز ٧ : ٨٨ ، المجموع ٧ : ١٩٩.

٢٠٥

عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم ، وكانت بمكة(١) .

وإنّما لزم الإِحرام من الحِلّ ، ليجمع في النسك بين الحِلّ والحرم ، فإنّه لو أحرم من الحرم ، لما جمع بينهما فيه ؛ لأنّ أفعال العمرة كلّها في الحرم ، بخلاف الحجّ ، فإنّه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة فيجتمع له الحِلّ والحرم ، والعمرة بخلاف ذلك.

ومن أيّ الحِلّ أحرم جاز ، كما أنّ المـُحْرم من مكة يُحْرم من أيّ موضع شاء منها ؛ لأنّ المقصود من الإِحرام الجمع في النسك بين الحِلّ والحرم.

وعن أحمد رواية : أنّ من اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة أنّه يُهلّ بالحجّ من الميقات ، فإن لم يفعل ، فعليه دم(٢) .

ولو أحرم بالعمرة من الحرم ، لم يُجْزئه ، خلافاً للعامّة ؛ فإنّهم جوّزوه ، وأوجبوا عليه الدم ؛ لتركه الإِحرام من الميقات(٣) .

ثم إن خرج إلى الحِلّ قبل الطواف ثم عاد ، أجزأه ؛ لأنّه قد جمع بين الحِلّ والحرم.

وإن لم يخرج حتى قضى عمرته صحّ أيضاً عندهم ؛ لأنّه قد أتى بأركانها ، وإنّما أخلّ بالإِحرام من ميقاتها وقد جبره ، وهذا قول أبي ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي ، والقول الثاني : لا تصح عمرته ؛ لأنّه نسك ، فكان من شرطه الجمع بين الحِلّ والحرم ، كالحجّ ، فعلى هذا وجود هذا الطواف كعدمه ، وهو باقٍ على إحرامه حتى يخرج إلى الحِلّ ، ثم يطوف بعد ذلك ويسعى ، وإن حلق قبل ذلك فعليه دم(٤) .

____________________

(١) كما في المغني ٣ : ٢١٥ ، والشرح الكبير ٣ : ٢١٧ ، وراجع : صحيح البخاري ٣ : ٤ ، وصحيح مسلم ٢ : ٨٧١ / ١١٣ ، وسنن البيهقي ٤ : ٣٥٧ ، ومسند أحمد ٣ : ٣٠٥.

(٢) المغني ٣ : ٢١٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢١٨.

(٣) المغني ٣ : ٢١٨ ، المجموع ٧ : ٢٠٩ ، فتح العزيز ٧ : ٩٨.

(٤) المغني ٣ : ٢١٨ - ٢١٩ ، فتح العزيز ٧ : ٩٩ ، المجموع ٧ : ٢٠٩.

٢٠٦

مسألة ١٥٩ : مَنْ لا يريد النسك لو تجاوز الميقات ، فإن لم يُرِدْ دخول الحرم ، بل أراد حاجةً في ما سواه ، فهذا لا يلزمه الإِحرام إجماعاً ، ولا شي‌ء عليه في ترك الإِحرام ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أتى هو وأصحابه بَدْراً مرّتين ، وكانوا يسافرون للجهاد وغيره ، فيمرّون بذي الحليفة فلا يُحْرمون ، ولا يرون بذلك بأساً(١) .

ثم لو تجدّد له عزم الإِحرام ، احتمل الرجوع إلى الميقات والإِحرام منه ، وهو قول إسحاق وإحدى الروايتين عن أحمد(٢) .

وفي الاُخرى : يُحْرم من موضعه ولا شي‌ء عليه ، وبه قال مالك والثوري والشافعي وأبو يوسف ومحمد(٣) .

وأمّا إن أراد دخول الحرم إمّا إلى مكة أو إلى غيرها ، فأقسامه ثلاثة :

الأول : مَنْ يدخلها لقتال مباح ، أو من خوف ، أو لحاجة متكرّرة ، كالحشّاش والحطّاب وناقل المِيرَة(٤) ، ومَنْ كانت له ضيعة يتكرّر دخوله وخروجه إليها ، فهؤلاء لا إحرام عليهم ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دخل يوم الفتح مكة حلالاً وعلى رأسه المِغْفَر(٥) ، وكذا أصحابه(٦) .

ولأنّ في إيجاب الإِحرام على مَنْ يتكرّر دخوله مشقّةً عظيمةً ؛ لاستلزامه‌

____________________

(١) انظر : المغني ٣ : ٢٢٦ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٢١.

(٢) المغني ٣ : ٢٢٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ٧٥ ، المجموع ٧ : ٢٠٤.

(٣) المغني ٣ : ٢٢٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢١ - ٢٢٢ ، المدوّنة الكبرى ١ : ٣٧٣ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٤٨ ، الحاوي الكبير ٤ : ٧٥ ، المجموع ٧ : ٢٠٤.

(٤) المِيرَة : الطعام. المفردات في غريب القرآن : ٤٧٨ « مور ».

(٥) المِغفَر : زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة. والزّرد : حلق المغفر والدرع. لسان العرب ٥ : ٢٦ و ٣ : ١٩٤.

(٦) صحيح مسلم ٢ : ٩٨٩ - ٩٩٠ / ١٣٥٧ ، سنن النسائي ٥ : ٢٠١ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٢١ ، المغني ٣ : ٢٢٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٢.

٢٠٧

أن يكون مُحْرماً في جميع زمانه. وبهذا قال الشافعي وأحمد(١) .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز لأحد دخول الحرم بغير إحرام إلّا مَنْ كان دون الميقات ؛ لأنّه يجاوز الميقات مُريداً للحرم ، فلم يجز بغير إحرام ، كغيره(٢) .

والشافعي استدلّ : بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه عمامة سوداء(٣) .

إذا عرفت هذا ، فلو أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات ، رجع وأحرم منه ، فإن لم يتمكّن ، أحرم من موضعه.

وقالت العامّة : يحرم من موضعه مطلقاً(٤) .

الثاني : مَنْ لا يكلّف بالحجّ - كالصبي والعبد والكافر - إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات ، أو بلغ الصبي ، أو عُتق العبد ، وأراد الإِحرام ، فإنّهم يخرجون إلى الميقات ، ويُحْرمون منه ، فإن لم يتمكّنوا ، أحرموا من موضعه.

وقالت العامّة : يُحْرمون من موضعهم ثم اختلفوا :

فقال الشافعي : على كلّ واحد منهم دم(٥) .

وقال عطاء ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وأحمد : لا دم عليهم(٦) .

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٠٢ ، المغني ٣ : ٢٢٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٢.

(٢) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ١٦٧ ، المغني ٣ : ٢٢٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٢ ، المجموع ٧ : ١٦.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ٩٩٠ / ١٣٥٨ ، سنن النسائي ٥ : ٢٠١ ، سنن الترمذي ٤ : ١٩٦ / ١٦٧٩ ، وسنن الدارمي ٢ : ٧٤ ، وانظر : المغني ٣ : ٢٢٧ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٢٣ ، والمهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٠٢.

(٤) المغني ٣ : ٢٢٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢١.

(٥) المغني ٣ : ٢٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٣.

(٦) المدوّنة الكبرى ١ : ٣٨٠ ، المغني ٣ : ٢٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٣.

٢٠٨

وقال أصحاب الرأي : لا دم في الكافر يسلم والصبي يبلغ ، وأمّا العبد فعليه دم(١) .

الثالث : المكلّف الداخل لغير قتال ولا حاجة متكررة ، فلا يجوز له تجاوز الميقات غير مُحْرم ، وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي(٢) .

وقال بعضهم : لا يجب الإِحرام عليه - وعن أحمد روايتان(٣) - لأنّ ابن عمر دخلها بغير إحرام ، ولأنّه أحد الحرمين ، فلا يجب الإِحرام لدخوله ، كحرم المدينة(٤) .

والحقّ خلافه ؛ لأنّه لو نذر دخولها ، لزمه الإِحرام ، ولو لم يكن واجباً لم يجب بنذر الدخول، كسائر البلدان.

إذا ثبت هذا ، فمتى أراد هذا الإِحرام بعد تجاوز الميقات رجع فأحرم منه ، فإن أحرم من دونه مع القدرة ، لم يجزئه ، ولو لم يتمكّن ، أحرم من موضعه.

مسألة ١٦٠ : لو دخل الحرم من غير إحرام ممّن يجب عليه الإِحرام ، وجب عليه الخروج والإِحرام من الميقات ، فإن حجّ والحال هذه ، بطل حجّه ، ووجب عليه القضاء - والشافعي [ ما ](٥) أوجب القضاء(٦) - ؛ لأنّه أخلّ بركن من أركان الحجّ ، فوجب عليه الإِعادة.

وقال أبو حنيفة : يجب عليه أن يأتي بحجّة أو عمرة ، فإنّ أتى بحجّة الإِسلام في سنته أو منذورة أو عمرة ، أجزأته عن عمرة الدخول استحساناً ؛ لأنّ مروره على الميقات مريداً للحرم موجب للإِحرام ، فإذا لم يأت به ، وجب قضاؤه ، كالنذر(٧) .

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ١٧٣ ، المغني ٣ : ٢٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٣.

(٢ - ٤) المغني ٣ : ٢٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٣.

(٥) زيادة يقتضيها السياق.

(٦ و ٧) المغني ٣ : ٢٢٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٤.

٢٠٩

وقال أحمد : لا قضاء عليه ؛ لأنّ الإِحرام شُرّع لتحية البقعة ؛ فإذا لم يأت به ، سقط ، كتحية المسجد(١)

وليس بجيّد ؛ لأنّ تحية المسجد غير واجبة.

ولو تجاوز الميقات ورجع ولم يدخل الحرم ، فلا قضاء عليه بلا خلاف نعلمه ، سواء أراد النسك أو لم يرده.

ومَنْ كان منزله دون الميقات خارجاً من الحرم فحكمه في مجاوزة قريته إلى ما يلي الحرم حكم المجاوز للميقات في الأحوال الثلاث السابقة ؛ لأنّه موضعه ميقاته ، فهو في حقّه كالمواقيت الخمسة في حقّ الآفاقي.

مسألة ١٦١ : إذا ترك الإِحرام من الميقات عامداً ، أثم ، ووجب عليه الرجوع إليه والإِحرام منه ، فإن لم يتمكّن من الرجوع ، بطل حجّه.

ولو تركه ناسياً أو جاهلاً ، وجب عليه الرجوع مع القدرة ، فإن لم يتمكّن ، أحرم من موضعه إن لم يتمكّن من الخروج إلى خارج الحرم ، سواء خشي فوات الحجّ برجوعه إلى الميقات أم لا - وقالت العامّة : يُحْرم من موضعه(٢) . وابن جبير(٣) وافقنا - لأنّه ترك ركنا من أركان الحج.

واحتجاج العامّة على أنّه ليس بركن : بإختلاف الناس والأماكن ، ولو كان ركناً لم يختلف ، كالوقوف والطواف(٤) .

والملازمة ممنوعة.

ويستحب لمن يُحْرم من ميقات أن يُحْرم من أول جزء ينتهي إليه منه ، ويجوز أن يُحْرم من آخره؛ لوقوع الاسم عليه.

ومَنْ سلك طريقاً لا يُفضي إلى هذه المواقيت في برٍّ أو بحرٍ ، فقد قلنا :

____________________

(١) المغني ٣ : ٢٢٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٤.

(٢) المغني ٣ : ٢٣٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٦.

(٣) المغني ٣ : ٢٣٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٦ ، المجموع ٧ : ٢٠٨ ، حلية العلماء ٣ : ٢٧١.

(٤) المغني ٣ : ٢٣٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٦.

٢١٠

إنّ ميقاته حيث يُحاذي واحداً منها.

ولو حاذى ميقاتين ، فأظهر وجهي الشافعية : أنّه يُحْرم من الموضع المحاذي لأبعدهما ، والثاني : يتخيّر(١) .

مسألة ١٦٢ : قد بيّنّا في ما تقدّم أنواع الحجّ ، وأنّها ثلاثة : تمتّع وقران وإفراد ، وأنّ الإِفراد أن يأتي بالحجّ وحده من ميقاته وبالعمرة مفردةً من ميقاتها في حقّ الحاضر بمكة ، ولا يلزمه العود إلى ميقات بلده عند الشافعي(٢) .

وعن أبي حنيفة أنّ عليه أن يعود ، وعليه دم الإِساءة لو لم يعُدْ(٣) .

والقران عند الشافعي : أن يُحْرم بالحجّ والعمرة معاً ، ويأتي بأعمال الحجّ ، فتحصل العمرة أيضاً ، ويتّحد الميقات والفعل(٤) .

وعند أبي حنيفة : يأتي بطوافين وسَعْيَيْن(٥) .

ولو أحرم بالعمرة أوّلاً ثم أدخل عليها الحج ، لم يجز عندنا.

وقال الشافعي : إن أدخله في غير أشهر الحج ، فهو لغو و [ إحرام ](٦) العمرة بحاله ، وإن أدخله عليها في أشهر الحجّ ، فإن كان إحرامه بالعمرة قبل أشهر الحج ثم أراد إدخال الحجّ عليها في الأشهر ليكون قارناً ، فوجهان :

أحدهما : يجوز ؛ لأنّه إنّما يدخل في الحجّ من وقت إحرامه به ، ووقت إحرامه به صالح للحج ، فعلى هذا له أن يجعله حجّاً بعد دخول الأشهر ، وان يجعله قراناً.

____________________

(١) فتح العزيز ٧ : ٨٦ ، الحاوي الكبير ٤ : ٧٢ ، المجموع ٧ : ١٩٩.

(٢) فتح العزيز ٧ : ١١٤ - ١١٥.

(٣) فتح العزيز ٧ : ١١٥.

(٤) فتح العزيز ٧ : ١١٨ ، المجموع ٧ : ١٧١ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٦٤.

(٥) الهداية - للمرغيناني - ١ : ١٥٤ ، فتح العزيز ٧ : ١١٨.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطية والحجرية : إدخال. وما أثبتناه يقتضيه السياق. والمراد : لم يتغيّر إحرامه بالعمرة.

٢١١

والثاني : لا يجوز ؛ لأنّ ابتداء الإِحرام متلبّس بإحرامٍ ، ولذلك لو ارتكب محظوراً ، لم يلزمه إلّا فدية واحدة ، فلو انعقد الحجّ وابتداء الإِحرام سابق على الأشهر ، لانعقد الإِحرام بالحجّ قبل أشهره ، فعلى هذا لا يجوز أن يجعله حجّاً.

وإن كان إحرامه في أشهر الحجّ ، فإن لم يشرع بَعْدُ في الطواف ، جاز ، وصار قارناً ؛ لقضية عائشة لمـّا حاضت وخافت فوت الحجّ ، فأمرها النبيعليه‌السلام بإدخال الحجّ على العمرة لتصير قارنة لتأتي بأعمال الحجّ ، وتؤخّر الطواف إلى أن تطهر.

وإن شرع فيه أو أتمّه ، لم يجز إدخال العمرة عليه ؛ لأنّه أتى بعمل من أعمال العمرة ، فيقع ذلك العمل عن العمرة ، ولا ينصرف بعدها إلى غيرها.

ولأنّه أخذ في التحلّل من العمرة ، ولا ينصرف بعدها إلى غيرها.

ولأنّه أخذ في التحلّل من العمرة ، فلا يليق به إدخال إحرام عليه ، والمتحلّل جارٍ إلى نقصان(١) .

وشبّهوه بما لو ارتدّت الرجعية ، فراجعها الزوج في العدّة ، فإنّه لا يجوز ؛ لأنّ الرجعة استباحة ، فلا يليق بحال التي تجري إلى تحريم.

ولو أحرم بالحجّ ثم أدخل عليه العمرة ، فقولان :

القديم - وبه قال أبو حنيفة - إنّه يجوز كإدخال الحجّ على العمرة.

والجديد - وبه قال أحمد - المنع ؛ لأنّ الحجّ أقوى من العمرة ؛ لاختصاصه بالوقوف والرمي والمبيت ، والضعيف لا يدخل على القويّ وإن كان القويّ قد يدخل على الضعيف ، كما أنّ فراش النكاح يدخل على فراش ملك اليمين حتى لو نكح اُخت أمةٍ(٢) حلّ له وطؤها ، وفراش ملك اليمين لا يدخل على فراش النكاح حتى لو اشترى اُخت منكوحةٍ(٣) لم يجز له وطؤها.

____________________

(١) أي : نقصان الإِحرام.

(٢) أي : أمته.

(٣) أي : منكوحته.

٢١٢

فإن جوّزنا إدخال العمرة على الحجّ فإلى متى يجوز؟ فيه لهم وجوه :

أحدها : يجوز ما لم يطف للقدوم ، ولا يجوز بعده ؛ لأنّه أتى بعمل من أعمال الحجّ.

والثاني : يجوز وإن طاف للقدوم ما لم يأت بالسعي ولا غيره من فروض الحجّ.

والثالث : يجوز ما لم يقف بعرفة ، فإنّ الوقوف أعظم أعمال الحجّ.

والرابع : يجوز وإن وقف ما لم يشتغل بشي‌ء من أسباب التحلّل من الرمي وغيره.

قالوا : ويجب على القارن دم ؛ لأنّ النبيعليه‌السلام أهدى عن أزواجه بقرةً وكنّ قارنات ، ودم القارن كدم المتمتّع ؛ لأنّه أكثر ترفّهاً ؛ لاستمتاعه بمحظورات الإِحرام بين النسكين ، فما يكفي المتمتّع أولى أن يكفي القارن.

وقال مالك : على القارن بدنة. وهو القول القديم للشافعي(١) .

وأمّا التمتّع : فأن يُحْرم بالعمرة من ميقات بلده ، ويأتي بأعمالها ، ثم ينشئ الحج من مكة ، سُمّي متمتّعاً ؛ لتمكّنه من الاستمتاع بمحظورات الإِحرام بينهما ، لحصول التحلّل(٢) . وهذا كمذهبنا.

وعند أبي حنيفة إن كان قد ساق الهدي لم يتحلّل بفراغه من العمرة ، بل يُحْرم بالحجّ ، فإذا فرغ منه ، حلّ منهما(٣) .

وإنّما يجب دم التمتّع عند الشافعي بشروط :

الأول : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ؛ لقوله تعالى :

____________________

(١) فتح العزيز ٧ : ١٢٠ - ١٢٧ و ٢٠٤ - ٢٠٥ ، وراجع : المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٠٨ - ٢٠٩ ، والمجموع ٧ : ١٧١ - ١٧٣ ، و ١٩٠ - ١٩١ ، والحاوي الكبير ٤ : ٣٨ و ٣٩ ، والشرح الكبير ٣ : ٢٤٥.

(٢) فتح العزيز ٧ : ١٢٧.

(٣) بدائع الصنائع ٢ : ١٤٩ ، فتح العزيز ٧ : ١٢٧.

٢١٣

( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) (١) والمعنى فيه أنّ الحاضر بمكة ميقاته للحج مكة ، فلا يكون بالتمتّع رابحاً ميقاتاً.

الثاني : أن يُحْرم بالعمرة في أشهر الحج ، فلو أحرم وفرغ من أعمالها قبل أشهر الحج ثم حجّ ، لم يلزمه الدم ؛ لأنّه لم يجمع بين الحجّ والعمرة في وقت الحجّ ، فأشبه المفرد لمـّا لم يجمع بينهما لم يلزمه دم ؛ لأنّ دم التمتّع منوط من جهة المعنى بأمرين :

أحدهما : ربح ميقات ، كما سبق.

والثاني : وقوع العمرة في أشهر الحجّ ، وكانوا لا يزحمون الحجّ بالعمرة في وقت إمكانه ، ويستنكرون ذلك ، فورد التمتّع رخصةً وتخفيفاً ؛ إذ الغريب قد يرد قبل عرفة بأيّام ، ويشقّ عليه استدامة الإِحرام لو أحرم من الميقات ، ولا سبيل إلى مجاوزته ، فجُوّز أن يعتمر ويتحلّل.

ولو أحرم بها قبل أشهر الحج وأتى بجميع أفعالها في أشهر الحجّ ، فللشافعي قولان :

أحدهما : يلزمه الدم - قاله في القديم - لأنّه حصل له المزاحمة في الأفعال وهي المقصودة ، والإِحرام كالتمهيد لها.

وأصحّهما : لا يلزم - وبه قال أحمد(٢) - لأنّه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحجّ ؛ لتقدّم أحد أركان العمرة عليها.

وقال مالك : مهما حصل التحلّل في أشهر الحجّ وجب الدم(٣) .

وقال أبو حنيفة : إذا أتى بأكثر أفعال العمرة في الأشهر ، كان متمتّعاً(٤) .

وإذا لم نوجب دم التمتّع في هذه الصورة ، ففي وجوب دم الإِساءة‌

____________________

(١) البقرة : ١٩٦.

(٢) الشرح الكبير ٣ : ٢٤٦ ، فتح العزيز ٧ : ١٣٩ - ١٤٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦١.

(٣) فتح العزيز ٧ : ١٤١ - ١٤٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦١.

(٤) فتح العزيز ٧ : ١٤٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦١.

٢١٤

للشافعية وجهان :

أحدهما : يجب ؛ لأنّه أحرم بالحج من مكة دون الميقات.

وأصحّهما : لا يجب ؛ لأنّ المسي‌ء مَنْ ينتهي إلى الميقات على قصد النسك ويتجاوزه غير مُحْرم ، وهنا قد أحرم بنسك ، وحافَظَ على حرمة البقعة.

الثالث : أن يقع الحجّ والعمرة في سنة واحدة ، فلو اعتمر ثم حجّ في السنة القابلة ، فلا دم عليه سواء أقام بمكة إلى أن حجّ ، أو رجع وعاد ؛ لأنّ الدم إنّما يجب إذا زاحم بالعمرة حجّةً في وقتها ، وترك الإِحرام بحجّة من الميقات مع حصوله بها في وقت الإِمكان ولم يوجد.

وهذه الشرائط الثلاثة عندنا شرائط في التمتّع.

الرابع : أن لا يعود إلى الميقات ، كما إذا أحرم بالحج من جوف مكة واستمرّ عليه ، فإن عاد إلى ميقاته الذي أنشأ العمرة منه وأحرم بالحجّ ، فلا دم عليه ؛ لأنّه لم يربح ميقاتاً.

ولو رجع إلى مثل مسافة ذلك الميقات وأحرم منه ، فكذلك لا دم عليه ؛ لأنّ المقصود قطع تلك المسافة مُحْرماً.

ولو أحرم من جوف مكة ثم عاد إلى الميقات مُحْرماً ، ففي سقوط الدم مثل الخلاف المذكور فيما إذا جاوز غير مُحْرم وعاد إليه مُحْرماً.

ولو عاد إلى ميقات أقرب إلى مكة من ذلك الميقات وأحرم منه كما إذا كان ميقاته الجحفة فعاد إلى ذات عرق ، فهو كالعود إلى ذلك الميقات للشافعية فيه وجهان :

أحدهما : لا ، وعليه الدم إذا لم يَعُدْ إلى ميقاته ولا إلى مثل مسافته.

والثاني : نعم ؛ لأنّه أحرم من موضع ليس ساكنوه من حاضري المسجد الحرام.

الخامس : اختلفت الشافعيّة في أنّه هل يشترط وقوع النسكين عن شخص واحد أم لا؟

٢١٥

فقال بعضهم : يشترط كما يشترط وقوعهما في سنة واحدة.

وقال الأكثر : لا يشترط ؛ لأنّ زحمة الحجّ وترك الميقات لا يختلف.

وهذا يفرض في ثلاث صُور :

إحداها : أن يكون أجيراً من شخصين استأجره أحدهما للحج والآخر للعمرة.

والثانية : أن يكون أجيراً للعمرة للمستأجر ثم يحجّ عن نفسه.

والثالثة : أن يكون أجيرا للحجّ ، فيعتمر لنفسه ثم يحجّ عن المستأجر.

فعلى قول الأكثر يكون نصف دم التمتّع على مَنْ يقع له الحجّ ونصفه على مَنْ تقع له العمرة.

وفصّل بعضهم ، فقال في الصورة الاُولى : إن أذنا في التمتّع ، فالدم عليهما نصفان ، وإن لم يأذنا ، فهو على الأجير ، وإن أذن أحدهما دون الآخر ، فالنصف على الآذن ، والنصف الآخر على الأجير.

وأمّا في الصورتين الأخيرتين : فإن أذن له المستأجر في التمتّع ، فالدم عليهما نصفان ، وإلاّ فالكلّ على الأجير.

السادس : في اشتراط نيّة التمتّع للشافعي وجهان :

أصحّهما عنده : أنّه لا يُشترط ، كما لا تُشترط نيّة القران ، وهذا لأنّ الدم منوط بزحمة الحجّ وربح أحد الميقاتين ، وذلك لا يختلف بالنيّة وعدمها.

والثاني : يشترط ؛ لأنّه جمع بين عبادتين في وقت إحداهما ، فأشبه الجمع بين الصلاتين.

وهذه الشروط الستّة معتبرة عنده في لزوم الدم ، وهل تعتبر في نفس التمتّع؟

قال بعض الشافعية : نعم ، فإذا تخلّف شرط ، كانت الصورة من صور الإِفراد.

وقال بعضهم : لا. وهو الأشهر عندهم ، ولهذا اختلفوا في أنّه يصحّ‌

٢١٦

التمتّع والقران من المكّي.

فقال بعضهم : نعم. وبه قال مالك.

وقال بعضهم : لا يصح. وبه قال أبو حنيفة(١) .

وعندنا يصحّ القران من المكّي دون التمتّع.

مسألة ١٦٣ : دم التمتّع نسك‌ - وبه قال أبو حنيفة وأصحابه(٢) - لقوله تعالى( وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) (٣) .

فأخبر أنّها من الشعائر ، فأمر بالأكل ، فلو كان جبراناً لما أمر بالأكل منها.

وقال الشافعي : إنّه دم جبران(٤) . وقد ظهر بطلانه.

إذا عرفت هذا ، فالمتمتّع إذا أحرم بالحجّ من مكة ، لزمه الدم إجماعاً ، فإن أتى الميقات وأحرم منه ، لم يسقط عنه فرض الدم عند علمائنا ؛ لأنّه متمتّع.

وقال جميع العامّة : يسقط عنه الدم(٥) .

مسألة ١٦٤ : من حضر الميقات ولم يتمكّن من الإِحرام لمرض أو غيره ، أحرم عنه وليّه‌ وجنّبه ما يجتنبه المحرم ، وقد تمّ إحرامه.

والحائض والنفساء إذا جاءتا إلى الميقات اغتسلتا وأحرمتا منه وتركتا صلاة الإِحرام.

____________________

(١) فتح العزيز ٧ : ١٢٨ و ١٣٦ - ١٤٩ و ١٥٢ - ١٥٥ و ١٦١ و ١٦٣ - ١٦٤ ، الحاوي الكبير ٤ : ٤٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٠٨ ، المجموع ٧ : ١٧٥ - ١٧٩ ، حلية العلماء ٣ : ٢٦٠ - ٢٦١.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ١ : ١٨٦ ، المجموع ٧ : ١٧٦ و ٨ : ٤١٩ ، التفسير الكبير ٥ : ١٦٨.

(٣) الحج : ٣٦.

(٤) فتح العزيز ٧ : ١٣٥ ، المجموع ٧ : ١٧٦ ، التفسير الكبير ٥ : ١٦٨.

(٥) انظر : فتح العزيز ٧ : ١٤٧ ، والمجموع ٧ : ١٧٧.

٢١٧

ويجرّد الصبيان من فخّ إذا أُريد الحجّ بهم ، ويجنّبون ما يجتنبه المحرم ، ويفعل بهم جميع ما يفعل به ، وإذا فعلوا ما تجب فيه الكفّارة ، كان على أوليائهم أن يكفّروا عنهم.

ولو كان الصبي لا يحسن التلبية أو لا يتأتّى له ، لبّى عنه وليّه ، وكذا يطوف به ، ويصلّي عنه إذا لم يحسن ذلك.

وإن حجّ بهم متمتّعين ، وجب أن يذبح عنهم إذا كانوا صغاراً ، وإن كانوا كباراً ، جاز أن يؤمروا بالصيام.

وينبغي أن يوقفوا الموقفين معاً ويحضروا المشاهد كلّها ويرمي عنهم ، ويناب عنهم في جميع ما يتولّاه البالغ بنفسه.

وإذا لم يوجد لهم هدي ولا يقدرون على الصوم ، كان على وليّهم أن يصوم عنهم.

٢١٨

٢١٩

المقصد الثاني

في أعمال العمرة المتمتّع بها إلى الحجّ‌

وفيه فصول‌

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563