الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد10%

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 563

الجزء ١ المقدمة الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 563 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 181991 / تحميل: 9882
الحجم الحجم الحجم
الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فصبَّ فيه ماءً فقالَ له: اشربْ، فأخذَ كلما شَربَ امتلأ القدحُ دماً مِنْ فيه فلا يقدر أن يشربَ، ففعلَ ذلكَ مرّةً ومرّتينِ، فلمّا ذهبَ في الثّالثةِ ليشربَ سقطتْ ثَنِيَّتاه في القدحِ، فقالَ: الحمدُ للّهِ، لوكانَ لي مِنَ الرِّزقِ المقسوم شربتهُ.

وخرجَ رسول ابَنِ زيادٍ فأمرَ بإِدخالهِ إِليه، فلمّا دخلَ لم يسلّمْ عليه بالأمرةِ، فقالَ له الحَرسِيُّ: ألا تُسلَمُ على الأميرِ؟ فقالَ: إِن كانَ يُريدُ قتلي فما سلامي عليه؟ وِان كانَ لا يُريدُ قتلي لَيَكثُرَنَ سلامي عليه. فقال له ابنُ زيادٍ: لَعَمْري لَتُقْتَلَنَّ ؛ قالَ: كذلكَ؟ قالَ: نعم ؛ قالَ: فدَعنْي أُوصِ(١) إِلى بعضِ قومي ؛ قالَ: افعلْ، فنظرَ مسلمٌ إِلى جُلَسائه وفيهم عُمَرُ بن سعدِ بنِ أبي وقّاصٍ فقالَ: يا عمر، إِنّ بيني وبينَكَ قرابةً، ولي إِليكَ حاجة، وقد يَجِبُ لي عليكَ نُجْحُ حاجتي وهي سِرّ ؛ فامتنعَ عُمَرُ أن يَسمعَ منه، فقالَ له عُبيدُاللّهِ: لمَ تَمتنعُ أن تنظرَ في حاجةِ ابنِ عمِّكَ؟ فقامَ معَه فجلسَ حيثُ يَنظرُ إِليهما ابنُ زيادٍ، فقالَ له: إِنَ عليَّ ديناً بالكوفةِ استدنتُه منذُ قَدمتُ الكوفةَ سبعمائةِ دِرهمٍ » فاقْضِها عنِّي، واذا قُتِلْتُ فاستوهِبْ جُثّتي من ابنِ زيادٍ فوارِها، وابعثْ إِلى الحسينِ من يَرُدُّه، فإِنِّي قد كتبتُ إِليه أُعْلِمُه أنّ النّاسَ معَه، ولا أراه إلاّ مُقبلاًَ؟ فقالَ عُمَرُ لابنِ زيادٍ: أتَدري أيُّها الأميرُ ما قالَ لي؟ إِنّه ذَكرَ كذا وكذا، فقالَ له ابنُ زيادٍ: إِنّه لا يَخونُكَ الأمين ولكنْ قد يؤتَمَنُ(٢) الخائنٌ! أمّا مالُكَ فهو لكَ ولسنا نَمْنَعُكَ أن تَصنعَ به ما أحببتَ، وأمّا جُثّتًه فإِنّا لا نُبالي إِذا قتلْناه ما صُنِعَ بها، وأمّا حسينٌ فإِنْ هو لم يُرِدْنا لم

__________________

(١) في «ش» وهامش «م»: أوصي.

(٢) في «م» وهامش «ش»: يُتَّمَن.

٦١

نرده.

ثمّ قالَ ابنُ زيادٍ.إِيهٍ يا ابنَ عقيلٍ، أَتيتَ النّاسَ وهم جميعٌ فشتَّتَّ بينَهم، وفرّقتَ كلمتَهم، وحملتَ بعضَهم على بعضٍ.

قالَ: كلاّ، لستُ لذلكَ أتيتُ، ولكنّ أهلَ المصرِ زعموا أنّ أباكَ قتلَ خيارَهم وسفكَ دماءهم، وعملَ فيهم أعمالَ كِسرىَ وقَيْصَر، فأتيْناه لنأْمرَ بالعدلِ، وندعوَ إِلى حكمِ الكتابِ.

فقالَ له ابن زيادٍ: وما أنتَ وذاكَ يا فاسقَ؟ َلم لَمْ تَعملْ فيهم بذاك إِذ أَنتَ بالمدينةِ تشربُ الخمرَ؟

قالَ: أنا أَشربُ الخمرَ؟! أَمَ واللّهِ إِنّ اللهَّ لَيَعلم أَنّكَ تَعلمُ أَنّكَ غيرُ صادقٍ، وأنَّكَ قد قلتَ بغيرعلمٍ، وانِّي لستُ كما ذكرتَ، وانّكَ أحقُّ بشرب الخمرِ منِّي، وأَوَلى بها من يَلِغُ في دماءِ المسلمينَ وَلْغاً، فيقتلُ النّفس الّتي حرّمَ اللّه قتلَها، ويسفكُ الدّم الحرامَ على الغصب والعداوةِ وسوء الظّنِّ، وهو يلهو ويلعبُ كأَنْ لم يصنعْ شيئاً.

فقالَ له ابنُ زيادٍ: يا فاسقُ، إِنّ نفسَكَ تُمنِّيكَ ما حالَ اللّه دونَه، ولم يرك الله له أهلاً.

فقالَ مسلمٌ: فمَنْ أَهلُه إِذا لم نكنْ نحن أَهلَه؟!

فقالَ ابنُ زيادٍ: أَميرُ المؤمنينَ يزيدُ.

فقالَ مسلمٌ: الحمدُ للّهِ على كلِّ حالٍ، رضيْنا باللّهِ حَكَماً. بينَنا وبينَكم.

فقالَ له ابنُ زيادٍ: قتلَني اللّه إن لم أَقتلْكَ قِتلةً لم يُقتَلْها أحدٌ في.

٦٢

الإسلام منَ النّاسِ.

قالَ له مسلمٌ: أَما إِنّك أَحقًّ مَنْ أَحدثَ في الإسلام ما لم يكنْ، وِانّك لاتَدَعُ سوءَ القِتلةِ وقُبحَ المُثلةِ وخبثَ السِّيَرةِ ولُؤْمَ الغلبةِ.

فأَقبل ابن زيادٍ يشتمُه ويشتمُ الحسين وعليّاً وعقيلاً عليهم الصّلاةُ والسّلامُ، وأَخذَ مسلمٌ لا يُكَلِّمُه.

ثمّ قالَ ابنُ زيادٍ: اصعدوا به فوقَ القصرِ فاضربوا عُنقَه، ثم أتبعوه جسدَه. فقالَ مسلمُ بنُ عقيلٍ رحمة اللهِ عليهِ: لو كانَ بيني وبينَكَ قرابةٌ ما قَتَلْتَني ؛ فقالَ ابنُ زيادٍ: أَينَ هذا الّذي ضَربَ ابنُ عقيلٍ رَأْسَه بالسّيفِ؟ فدًعِيَ بكرُ بنُ حُمرانَ الأحمريّ فقالَ له: اصعدْ فلتكنْ(١) أنتَ الّذي تضربُ عُنقَه. فصُعِدَ به وهو يُكبِّرُ ويَستغفرُ اللهَ ويُصلِّي على رسولِه ويقولُ: اللّهمّ احكمْ بينَنا وبينَ قومٍ(٢) غَرُّونا وكَذَبونا وخَذَلونا. وأَشرفوا به على موضع الحَذّائيينَ اليومَ، فضُرِبتْ عُنقُه وأتبعَ (جسدُه رَأُسَه )(٣) .

وقامَ محمّدُ بنُ الأشعثِ إِلى عُبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ فكلّمهَ في هانئ بنِ عُروةَ فقالَ: إِنّكَ قد عرفتَ منزلةَ هانئ في المصرِ وبيته في العشيرةِ، وقد علمَ قومُه أنِّي أنا وصاحِبَيَّ سُقناه إِليكَ، فأَنْشُدُكَ اللّهَ لمّا وهبتَه لي، فإِنَي أكرهُ عداوةَ المصرِ وأَهلِه. فوعدَه أَن يفعلَ، ثمّ بدا له فأَمرَ بهانئ في

__________________

(١) كذا في النسخ، وهو استعمال نادر، والاولى «فكن ». كما في الطبري ٥: ٣٧٨، ومروج الذهب ٣: ٦٩.

(٢) في هامش «ش» و «م»: قومنا.

(٣) في هامش «ش» و «م»: رأسه جسده.

٦٣

الحالِ فقالَ: أَخرِجوه إِلى السُّوقِ فاضربوا عنقَه. فأخرِجَ هانئ حتّى انتهِيَ به إِلى مكانٍ منَ السُّوقِ كانَ يُباعً فيه الغنمُ، وهو مكتوفٌ، فجعلَ يقولُ: وامَذْحِجَاه! ولا مَذْحِجَ لي اليومَ، يا مَذْحِجَاه! يا مَذْحِجَاه! وأَينَ مَذْحِجُ؟! فلمّا رأَى أنّ أحداً لا ينصرُه جَذبَ يدَه فنزعَها مِنَ الكِتافِ، ثمّ قالَ: أَما من عصاً أَوسِكِّين أوحجرٍ أَو عظمٍ يُحاجِزُ به رجلٌ عن نفسِه؟ وَوثبوا إِليه فشدُّوه وَثاقاً، ثمّ قيلَ له امدُدْ عُنقَكَ، فقالَ: ما أَنا بها سخيٌّ، وما أَنا بمُعِينكم على نفسي، فضربَه مولىً لعُبيدِاللّهِ - تركيٌ يقُالُ له رُشَيد - بالسّيفِ فلم يَصنعْ شيئاً، فقالَ هانئ: إِلى اللهِ المعَادُ، اللّهمّ إِلى رحمتِكَ ورضوانِكَ ؛ ثمّ ضربَه أُخرى فقتلَه.

وفي مسلمِ بنِ عقيلٍ وهانئ بن عروة - رحمة الله عليهما - يقولُ عبدُاللهّ بن الزّبيرِ الأَسديّ:

إِنْ كُنْتِ لا تَدْرِيْنَ مَا اْلمَوْتُ فَانْظُري

إِلى هانئ فِيْ السُّوْقِ وَابْنِ عَقِيْلْ

إِلى بَطَلٍ قَدْ هَشَّمَ السَّيْفُ وَجْهَه

وآخَرَ يَهْوِيْ مِنْ طَمَارِ(١) قَتِيْلُ

أصابَهما أَمْرُ الأَمِيرِ فأَصْبَحَا

أحَادِيْثَ مَنْ يَسْرِيْ بكُلِّ سَبِيْلِ

تَرَيْ جَسَدَاً قَدْ غَيَّرَاْلموتُ وَجْههُ(٢)

ونَضْحَ دَم قَد ْسَالً كُلَّ مَسِيْلِ

فَتَىً هُوَ أَحْيَا مِنْ فَتَاةٍ حَيِيّة

وأقْطَع مِنْ ذًيْ شَفْرَتَيْنِ صَقِيْلٍِ

أيَرْكَبُ أسْمَاءُ(٣) الْهَمَالِيْجَ(٤) امِنَا

وَقَدْ طَلَبَتْهُ مَذحِجٌ بِذُحُوْلًِ

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: يقال هوى فلان من طَمَارِ اذ سقط من مكان عال. قال الاصمعي: انصب عليه من طمار اي من مكان عال مثل قَطام.

(٢) في «م» وهامش «ش»: لونه.

(٣) هو أسماء بن خارجة أحد الثلاثة الذين ذهبوا بهانئ إلى ابن زياد.

(٤) الهملاج: من البراذين الحسنة السير في سرعة وبخترة. «تهذيب اللغة - هملج - ٦: ٥١٤، لسان العرب ٢: ٣٩٣».

٦٤

تُطِيْفُ حَوَالَيْهِ مُرَادٌ وكلهُمْ

عَلَى رِقْبَةٍ(١) مِنْ سَائِلٍ وَمَسُوْلِ

فَإِنْ أَنْتُمُ لَمْ تَثْأَرُوْا بِأَخِيْكُمُ

فَكُوْنُوْا بَغَايَا أُرْضِيَتْ بِقَلِيْل

 ولمّا قُتِلَ مسلمٌ وهانئ - رحمةُ اللّهِ عليهما - بعثَ عُبيدُاللّهِ بن زيادٍ برؤوسِهما معَ هَانئ بنِ أبي حيَّةَ الوادعيّ والزُّبير ِبنِ الأرْوَحِ التّميميّ إِلى يزيد ابن معاويةَ، وأمرَ كاتبَه أن يكتبَ إلى يزيدَ بما كانَ من أمرِ مسلمٍ وهانئ، فكتبَ الكاتبُ - وهو عمرو بنُ نافعٍ - فأطالَ، وكانَ أوّلَ من أطالَ في الكَتْب، فلمّا نظرَ فيه عُبيدُاللهِ تكرّهَه(٢) وقالَ: ما هذا التّطويلُ؟ وما هذه الفُصَول(٣) ؟ اكتبْ:

أَمّا بعدُ: فالحمدُ للّهِ الّذي أَخذَ لأميرِ المؤمنينَ بحقِّه، وكفاه مُؤْنةَ عدوه ؛ أخبرُ أميرَ المؤمنينَ أنّ مسلمَ بنَ عقيلٍ لجأ إِلى دارِ هانئ بنِ عروةَ المراديِّ، وأَنّي جعلتْ عليهما العيونَ ودسستُ إِليهما الرِّجالَ وكِدتُهما حتّى استخرجتُهما، وأمكنَ اللّهُ منهما، فقدّمتُهما وضربتُ أعناقَهما، وقد بعثتُ إِليكَ برؤوسِهما معَ هانئ بنِ أَبي حَيَّةَ والزُّبيربنِ الأَرْوَحِ التّميمِّي، وهما من أهلِ السّمعِ والطّاعةِ والنّصيحةِ، فليسأَلْهما أَميرُ المؤمنينَ عمّا أحب من أمرِهما، فإِنّ عندَهما علماً وصدقاً وورعاً، والسّلامُ.

فكتبَ إِليه يزيدُ:

أمّا بعدُ: فإِنّكَ لم تَعْدُ أن كنتَ كما أُحبُّ، عملتَ عملَ الحازمِ، وصُلْتَ صَوْلةَ الشُّجاعِ الرّابطِ الجَأْشِ، وقد أغنيتَ وكفيت

__________________

(١) في هامش «ش»: اي هم يراقبون احوال من يسألهم ويسألونه عن هذه الواقعة.

(٢) في «م» وهامش «ش»: كرهه.

(٣) في الطبري: الفضول، ولكل وجه.

٦٥

وصدّقْت ظنِّي بك ورأْيي فيك، وقد دعوتُ رسولَيْكَ فسألتهما وناجيتهما، فوجدتُهما في رأْيهما وفضلِهما كما ذكرتَ، فاستوصِ بهما خيراً، وِانّه قد بلغني أنّ حسيناً قد توجّهَ إِلى(١) العراقِ فضَعِ المنَاظِرَ والمسَالحَ واحترِسْ، واحبسْ على الظِّنّةِ واقتُلْ على التُّهمةِ، واكتُبْ إِليَّ فيما يَحدثُ من خبرٍ إن شاءَ اللّهُ(٢) .

فصل

وكانَ خروجُ مسلمِ بنِ عقيلٍ - رحمةُ اللّهِ عليهما - بالكوفةِ يومَ الثُّلاثاءِ لثمانٍ مضينَ من ذي الحجّةِ سنةَ سِتِّينَ، وقَتْلُه يَومَ الأربعاءِ لتسعٍ خلونَ منه يومَ عرفة؛ وكانَ توجُّهُ الحسينِعليه‌السلام من مكّةَ إِلى العراقِ في يومِ خروجِ مسلمٍ بالكوفةِ - وهو يومُ التّرويةِ - بعدَ مُقامِه بمكّةَ بقيّةَ شعبانَ(٣) وشهرَ رمضانَ وشوّالاً وذا القعدةِ وثمانيَ ليالٍ خلونَ من ذي الحجّةِ سنةَ سِتِّينَ، وكانَ قدِ اجتمعَ إِليهِ مدّةَ مُقامِه بمكّةَ نفرٌ من أهلِ الحجازِ ونفرٌ من أَهلِ البصرة، انضافوا إِلى أهلِ بيتهِ ومَواليه.

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: نحو.

(٢) كل ما مر في هذا الفصل فهو في تاريخ الطبري ٥: ٣٤٧ - ٣٨١، ومقاطعه في فتوح ابن اعثم ٥: ٣١ الاخبار الطوال: ٢٢٧، وقعة الطف: ٧٧، مقاتل الطالبيين: ٩٥، مقتل الخوارزمي ١: ١٨٠، مناقب ابن شهرآشوب ٤: ٨٧، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ٣٢٤ / ٢

(٣) مبدؤه ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، وهويوم دخوله مكة.

٦٦

ولمّا أرادَ الحسينُعليه‌السلام التّوجُّهَ إلى العراقِ، طافَ بالبيتِ وسعى بينَ الصّفا والمروةِ، وأحلَّ من إِحرامِه وجعلَها عُمرةً، لأنّه لم يتمكّنْ من تمامِ الحجِّ مخافةَ أن يُقبَضَ عليه بمكّةَ فيُنفَذَ إِلى يزيد بن معاويةَ، فخرجَعليه‌السلام مُبادِراً بأهلِه وولدِه ومنِ انضمَّ إِليه من شيعتِه، ولم يكنْ خبرُ مسلمٍ قد بلغَه لخروجِه يومَ خروجِه على ما ذكرْناه.

فروِيَ عن الفَرَزْدَقِ الشّاعرِ أنّه قالَ: حَجَجْتُ بأُمِّي في سنةِ سِتِّينَ، فبينا أنا أسوقُ بعيرَها حينَ دخلتُ الحرمَ إِذ لقيتُ الحسينَ بنَ عليٍّعليهما‌السلام خارجاً من مكّةَ معَه أسيافُه وتِراسُه(١) فقلتُ: لمن هذا القِطارُ؟ فقيلَ: للحسينِ بنِ عليٍّ، فأتيتُه فسلّمتُ عليه وقلتُ له: أعطاكَ اللّهُ سُؤْلَكَ وأمَلَكَ فيما تُحبُّ، بأبي أنتَ وأُمِّي يا ابنَ رسولِ اللّهِ، ما أعجلَكَ عنِ الحجِّ؟ فقالَ: « لو لم أعْجَلْ لأخِذْتُ» ثمّ قالَ لي: «مَنْ أنتَ؟» قلتُ: امرؤٌ منَ العربِ، فلا واللّهِ ما فتّشَني عن أكثرَ من ذلكَ، ثمّ قالَ لي: «أخبِرْني عنِ النّاسِ خلفَكَ» فقلتُ: الخبيرَسألْتَ، قلوبُ النّاسِ معَكَ وأسيافُهم عليكَ، والقضاءُ ينزلُ منَ السّماءِ، واللهُّ يفعلُ ما يشاءُ، فقالَ: «صدقتَ، للّهِ الأمرُ، وكلَّ يومٍ ربنُّا هو في شَأْنٍ، ( إِنْ نزلَ القضاءُ )(٢) بما نُحِبُ فنحمدُ اللّهَ على نعمائه، وهو المُستعان على أداءِ الشُّكرِ، وان حالَ القضاءُ دونَ الرّجاءِ، فلم يُبْعِدْ مَنْ كانَ الحقُّ نيّتَه والتّقوى سريرتَه» فقلتُ له: أجل، بلّغَكَ اللّهُ ما تُحبُّ وكفاكَ ما تحذرُ، وسألتُه

__________________

(١) تِراس: جمع ترس، وهو ما يستتربه المقاتل من عدوه في الحرب، انظر «الصحاح - ترس - ٩١٠:٣».

(٢) في هامش «ش»: ان ينزل القضاء.

٦٧

عن أشياء من نذورٍ ومناسكَ فأخبرَني بها، وحرّكَ راحلتَه وقالَ: «السّلامُ عليكَ» ثمّ افترقْنا(١) .

وكانَ الحسينُ بنُ عليٍّعليهما‌السلام لمّا خرجَ من مكّةَ اعترضَه يحيى بن سعيدِ بن العاص، ومعَه جماعةٌ أرسلهم عمرُو بنُ سعيدٍ(٢) إِليه، فقالوا له: انصرف، إِلى أَينَ تذهبُ، فأبى عليهم ومضى وتدافعَ الفريقانِ واضطربوا بالسِّياطِ، وامتنعَ الحسينُ وأصحابُه منهم امتناعاً قوياً. وسارَ حتّى أتى التّنعيمَ(٣) فلقيَ عِيراً قد أقبلتْ منَ اليمن، فاستأْجرَ من أهلِها جمالاً لرحلِه وأصحابِه، وقالَ لأصحابِها: «من احبَّ أن ينطلقَ معَنا إِلى العَراقِ وفيناه كراءه وأحسنّا صحبتَه، ومن أحبَّ أن يفارقَنا في بعضِ الطرّيقِ أعطيناه كراءً على قدرِ ما قطعَ منَ الطّريقِ» فمضى معَه قومٌ وامتنعَ اخرون.

وألَحقَه عبدُاللهّ بن جعفرٍ رضيَ اللهّ عنه بابنيه عونٍ ومحمّدٍ، وكتبَ على أيديهما إِليه كتاباً يقولُ فيه:

أمّا بعدُ: فإِنِّي أسألكَ بالله لمّا انصرفتَ حينَ تنظرُ في كتابي، فإِنِّي مشفقُ عليكَ منَ الوجهِ الّذي توجّهتَ له أن يكونَ فيه هلاكُكَ واستئصال أهلِ بيتِكَ، إِن هلكتَ اليومَ طفئَ نورُ الأرضِ، فإِنّكَ

__________________

(١) ذكره ابن اعثم في الفتوح ٥: ٧٧، والخوارزمي في مقتله ١: ٢٢٣، والطبري في تاريخه ٥: ٣٨٦، باختلاف يسير، ومختصراً في مناقب ابن شهراشوب ٤:٩٥، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤:٣٦٥.

(٢) في هامش «ش»: كان امير مكة من قبل يزيد.

(٣) التنعيم: موضع بمكة في الحل، وهوبين مكة وسرف، على فرسخين من مكة وقيل على أربعة «معجم البلدان ٢: ٤٩».

٦٨

عَلَمُ المهتدينَ ورجاءُ المؤمنينَ، فلا تعجلْ بالمسير فإِنِّي في أثر كتابي، والسّلامُ.

وصارَ عبدُاللهّ بن جعفرِ إِلى عمرو بن سعيدٍ فسألَه أن يكتبَ للحسينِ أماناً ويُمنيه ليرجعَ عن وجهه، فكتبَ إليه عمرو بنُ سعيدٍ كتاباً يُمنِّيه فيه الصِّلةَ ويؤُمِنهُ على نفسِه، وأنفذَه معَ أخيه يحيى بن سعيدٍ، فلحقَه يحيى وعبدُاللّه ابن جعفرٍ بعدَ نفوذِ ابنيه ودفعا إِليه الكتابَ وجهدا به في الرُّجوعِ فقالَ: «إِنِّي رأيت رسولَ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام، وأمرَني بما انا ماضٍ له » فقالا له: فما تلكَ الرُّؤيا؟ قالَ:»ما حدّثتُ أحداً بها، ولا أنا مُحدِّثٌ أحداً حتّى ألقى ربِّي جلّ وعزَّ« فلما أيسَ منه عبدُاللهّ بن جعفرٍ أمرَ ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومهِ والمسيرِمعَه والجهادِ دونَه، ورجعَ معَ يحيى بن سعيدٍ إِلى مكّةَ.

وتوجّهَ الحسينُعليه‌السلام نحوَ العراقِ مُغِذّاً(١) لا يلوي على شيءٍ حتى نزلَ ذاتَ عِرق(٢) .

ولمّا بلغَ عبيدَاللهّ بن زيادٍ إِقبالُ الحسينِعليه‌السلام من مكّةَ إِلى الكوفةِ، بعثَ الحُصينَ بنَ نُمَيرٍ صاحبَ شُرَطِهِ حتّى نزلَ القادسيّةَ(٣) ، ونظمَ الخيلَ بينَ القادسيّةِ إِلى خفّانَ(٤) ، وما بينَ القادسيّةِ إِلى القُطْقُطانَةِ(٥) .

__________________

(١) الاغذاذ في السير: الاسراع فيه. «الصحاح - غذذ - ٢: ٥٦٧».

(٢) ذات عرق: مكان في طريق مكة وهو الحد بين نجد وتهامة. «معجم البلدان ٤: ١٠٧».

(٣) القادسية: موضع بالعراق. «معجم البلدان ٤: ٢٩١».

(٤) خفّان: موضع فوق القادسية. «معجم البلدان ٢: ٣٧٩».

(٥) القطقطانة: موضع قرب الكوفة، كان به سجن النعمان بن المنذر (معجم

٦٩

وقالَ النّاسُ: هذا الحسينُ يُريدُ العراقَ.

ولمّا بلغَ الحسينعليه‌السلام الحاجرَ من بطنِ الرُّمةِ(١) ، بعثَ قيسَ بنَ مُسْهرٍ الصّيداويّ، - ويُقالُ: بل بعثَ أخاه منَ الرّضاعةِ عبدَاللّه بن يَقْطُر(٢) - إِلى أهلِ الكوفةِ، ولم يكنعليه‌السلام عَلِمَ بخبرِمسلمِ ابنِ عقيلٍ رحمةُ اللهِّ عليهما وكتبَ معه إِليهم:

«بسمَ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

منَ الحسينِ بنِ عليٍّ إِلى إِخوانِه منَ المؤمنينَ والمسلمينَ، سلامٌ عليكم، فإِنِّي أحمدُ إِليكم اللّهَ الّذي لا إِلهَ إلّا هو.

أمّا بعدُ: فإِنّ كتابَ مسلمِ بنِ عقيلِ جاءَني يُخبرُ فيه بحسنِ رأيِكم واجتماعِ مَلَئكم على نصرِنا والطّلب بحقِّنا، فسألتُ اللّهَ أن يُحسنَ لنا الصّنيعَ، وأن يُثيبَكم على ذلكً أعظمَ الأجرِ، وقد شخصتُ إِليكم من مكّةَ يومَ الثُلائاءِ لثمانٍ مضينَ من ذي الحجّةِ يومَ التّرويةِ، فإِذا قدمَ عليكم رسولي فانكمِشوا(٣) في أمرِكم وجِدُّوا، فإِنِّي قادمٌ عليكم في أيّامي هذه، والسّلامُ عليكم ورحمةُ اللّهِ».

__________________

البلدان ٤: ٣٧٤».

(١) بطن الرمة: منزل يجمع طريق البصرة والكوفة الى المدينة المنورة «مراصد الاطلاع ٢: ٦٣٤».

(٢) كذا في النسخ الخطية وكذا ضبطه علماؤنا الاً ان ابن داود ذكر قولاً بالباء - بًقطر -: ١٢٥ / ٩٢٠، وهو قول الطبري في تاريخه ٥: ٣٩٨، وضبطه ابن الاثير بالباء كما في الكامل ٤: ٤٢، وفي القاموس المحيط: ٣٧٦: بُقْظَر - كعصفر - رجل.

(٣) في هامش «ش» و «م»: فأكْمِشوا. وكلاهما بمعنى أسرعوا.

٧٠

وكانَ مسلمٌ كتبَ إِليه قبلَ أن يُقتلَ بسبعٍ وعشرينَ ليلةً، وكتبَ إِليه أهلُ الكوفةِ: انّ لكَ هاهنا مائةَ ألفِ سيف فلا تتأخّرْ. فأقبلَ قيسُ بنُ مُسْهرٍ إلى الكوفةِ بكتابِ الحسينِعليه‌السلام حتّى إِذا انتهى إِلى القادسيّةِ أخذَه الحُصينُ بن نُمَيرٍ فأنفَذَه(١) إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ، فقالَ له عُبيدُاللّهِ: اصعدْ فسُبَّ الكذّابَ الحسينَ بنَ عليٍّ ؛ فصعدَ قيسٌ فحمدَ اللهَّ وأثنى عليه ثمّ قالَ: أيُّها النّاسُ، إِنّ هذا الحسينَ بنَ عليٍّ خيرُ خلقِ اللّهِ ابنُ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللّهِ وأنا رسولهُ إليكم فاجيبوه، ثمّ لعنَ عُبيدَاللهّ بن زيادٍ وأباه، واستغفرَ لعليّ بنِ أبي طالبِعليه‌السلام وصلّى عليه. فأمرَ به عُبيدُاللهِ أن يُرمى به من فوقِ القصرِ، فرَمَوا به فتقطّعَ.

فصل

ورُوِيَ: أنّه وقعَ إِلى الأرضِ مكتوفاً فتكسّرَتْ عظامُه وبقيَ به رمقٌ، فجاءَ رجلٌ يُقالُ له عبد الملك بن عُميرٍ اللخميّ فذبحَه، فقيلَ له في ذلكَ وعِيِبَ عليه، فقالَ: أردتُ أن أُريحَه(٢) .

ثمّ أقبلَ الحسينُعليه‌السلام منَ الحاجرِ يسيرنحوَالكوفةِ فانتهى إِلى ماءٍ من مياهِ العرب، فإِذا عليه عبدُاللّه بن مُطيعٍ العَدويّ وهو نازلٌ به، فلمّا راى الحسينَعليه‌السلام قامَ إِليه فقالَ: بأبي أنتَ وأُمِّي - يا ابنَ رسولِ

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: فبعث به.

(٢) تاريخ الطبري ٥: ٣٩٨، كامل ابن الاثير ٤: ٤٣، مقتل الحسين للخوارزمي ١: ٢٢٨، مناقب ابن شهرآشوب ٤:٩٥، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ٣٧٠.

٧١

اللّهِ - ما أقدَمَكَ؟ واحتملَه وأنزلَه، فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «كانَ من موتِ معاويةَ ما قد بلغَكَ، فكتبَ إِليَّ أهلُ العراقِ يدعونَني إِلى أنفسِهم» فقالَ له عبدُاللّهِ بنِ مُطيعٍ: أُذكرُكَ اللهَّ يا بنَ رسولِ اللهِّ وحرمةَ الأسلامِ أن تُنتَهَكَ، أنْشُدُكَ اللهَّ في حرمةِ قُريشٍ، أنشُدُكَ اللّهَ في حرمةِ العرب، فواللّهِ لئن طلبتَ ما في أيدي بني أُمّيةَ لَيَقْتُلُنَّكَ، ولئن قتلوكَ لا يهابوَا(١) بعدَكَ أحَداً أبداً، واللّهِ إِنّها لحُرمةُ الأسلام تُنْتَهَك، وحرمةُ قريشٍ وحرمةُ العرب، فلا تَفعلْ، ولا تأْتِ الكوَفَة، ولا تُعرِّضْ نفسَكَ لبني أُميّةَ. فأبى اَلحسينُعليه‌السلام إلاّ أن يَمضيَ.

وكانَ عُبيدُاللّه بن زيادٍ أمرَ فأُخِذَ ما بينَ واقِصَةَ(٢) إِلى طريقِ الشّام إِلى طريقِ البصرةِ، فلا يَدَعونَ أحداً يَلِجُ ولا أحداً يخرجُ، وأقبلَ الحسينُعليه‌السلام لا يَشعرُ بشيءٍ حتّى لقيَ الأعرابَ، فسألهَم فقالوا: لا واللّهِ ما ندري، غيرإنّا لا نستطيعُ أن نَلِجَ ( أو نَخرج )(٣) . فسارَتِلقاءَ وجهِهعليه‌السلام .

وحدَّثَ جماعةٌ من فَزارةَ ومن بَجيلة قالوا: كُنّا معَ زُهَيرِ بنِ القَيْنِ البَجَليِّ حينَ أقبلنْا من مكّةَ، فكنّا نُسايرُ الحسينَعليه‌السلام فلم يكَنْ شيءٌ أبغضَ إِلينا من أن نُنَازلَه في منزلٍ، فإِذا سارَ الحسينُعليه‌السلام ونزلَ منزلاً لم نجدْ بُدّاً من أن نُنازلَه، فنزلَ الحسينُ في جانبِ ونزلْنا في جانبٍ، فبينا نحن جُلوس نتغذّى من طعامٍ لنا إِذْ أقبلَ رَسولُ الحسينِعليه‌السلام حتّى سلّمَ ثمّ دخلَ، فقالَ: يا

__________________

(١) كذا في النسخ وله وجه، والاولى«لايهابون»كما في الطبري.

(٢) واقصة: موضع في طريق مكة الى العراق «معجم البلدان ٥: ٣٥٤».

(٣) في «ش» و «م»: ولا نخرج، وما أثبتناه من هامشهما.

٧٢

زُهيرَ بنَ القَيْنِ إِنَّ أبا عبدِاللّهِ الحسينَ بعثَني إِليكَ لتأْتِيَه. فطرحَ كلُّ إِنسانٍ منّا ما في يدِه حتّى كأنّ على رُؤُوسنا الطّيرَ، فقالتْ له امرأتهُ: سبحانَ اللّهِ، أيبعثُ إِليكَ ابنُ رسولِ اللّهِ ثمّ لا تأْتيه، لو أتيتَه فسمعتَ من كلامِه، ثمّ انصرفتَ. فأتاه زُهيرُ بنُ القينِ، فما لبثَ أن جاءَ مُستبشراً قد أشرقَ وجهُه، فأمرَبفسطاطِه وثقله ورحلِه ومتاعِه فقُوِّضَ وحُمِلَ إِلى الحسينِعليه‌السلام ، ثمّ قالَ لامرأَتِه: أنتِ طالقٌ، الحقي بأهلِكَ، فإنِّي لا أُحبُّ أن يًصيبَكِ بسببي إلّا خيرٌ، ثمّ قالَ لأصحابه: من أحَبَّ منكم أن يتبعَني، وإلاّ فهو آخرُ العهدِ، إِنيِّ سأُحدِّثُكم حديثا ً: إِنّا غَزَوْنا البحر(١) ، ففتحَ اللّهُ علينا وأصبْنا غنائمَ، فقالَ لنا سلمان الفارسيُّ رضيَ اللهُّ عنه: أفرِحْتُم بما فتحَ اللهُ عليكم، وأصبْتم منَ الغنائم؟ فقلنا: نعم، فقال: إِذا أدركْتُم شباب آلِ محمّدٍ فكونوا أشدَّ فرحاً بقتالِكم معَهم ممّا أصبتُمُ اليومَ منَ الغنائم. فامّا أنا فأستودعُكمُ اللّه. قالوا: ثمّ واللهِّ ما زالَ في القومِ معَ الحسينِعليه‌السلام حتّى قُتِلَ رحمةُ اللّهِ عليه(٢) .

وروى عبدُاللهّ بن سليمانَ والمُنْذِرُ بنُ المُشْمَعِلِّ الأسَدِيّانِ قالا: لمّا قَضَيْنا حجَّنا لم تكنْ لنا همةٌ إلاّ اللحاق بالحسينِعليه‌السلام في الطّريقِ، لننظرَ ما يكونُ من أمرِه، فأقبلْنا تُرْقِلُ(٣) بنا

__________________

(١) كذا في النسخ، وفي وقعة الطف لابي مخنف وتاريخ الطبري: (بلنجر): وهي مدينة ببلاد الروم. انظر«معجم ما استعجم ١: ٣٧٦».

(٢) وقعة الطف لابي مخنف: ١٦١، تاريخ الطبري ٥: ٣٩٦، الكامل في التاريخ ٤: ٤٢، ومختصراً في مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي ١: ٢٢٥، عن أحمد بن اعثم.

(٣) أرَقلَتْ في سيرها: أسرعت. «مجمع البحرين - رقل - ٥: ٣٨٥».

٧٣

نِياقنا (١) مُسرِعَيْنِ حتّى لحقْنا بِزَرُوْدَ(٢) ، فلمّا دنونا منه إِذا نحن برجلٍ من أهلِ الكوفةِ قد عدلَ عنِ الطّريقِ حينَ رأى الحسينَعليه‌السلام ، فوقفَ الحسينُ كأنّه يُريدُه ثمّ تركه ومضى، ومضينا نحوَه، فقالَ أحدُنا لصاحبه: اذهب بنا إِلى هذا لنسألَه فإِنّ عندَه خبرَ الكوفةِ، فمضينا حتَّى انتهينا إِليه فقلنا: السّلامُ عليكَ، فقالَ: وعليكم السّلامُ، قلنا: ممّنِ الرّجلُ؟ قالَ: أسَدِيٌّ، قلنا: ونحن أسَدِيّانِ، فمن أنتَ؟ قالَ: أنا بكرُ بنُ فُلانٍ، وانتسبْنا له ثمّ قلنا له: أخبِرْنا عنِ النّاسِ وراءَك ؛ قالَ: نعم، لم أخرجْ منَ الكوفةِ حتّى قُتِلَ مسلمُ بنُ عقيلٍ وهانئُ بنُ عُروةَ، ورأَيتُهما يُجَرّانِ بأرجلِهما في السُّوقِ.

فأقبلْنا حتّى لحقْنا الحسينَ صلوات اللهِّ عليه فسايرْناه حتّى نزلَ الثَّعْلَبيَّةَ مُمْسِياً، فجئناه حينَ نزلَ فسلّمْنا عليه فردَّ علينا السّلامَ، فقلناَ له: رحمَكَ اللّه، إِنّ عندَنا خبراً إِن شئتَ حدّثْناكَ علانيةً، وِانْ شئتَ سِرّاً ؛ فنظرَ إِلينا ِ والى أصحابِه ثمّ قالَ: «ما دونَ هؤلاءِ سترٌ» فقلنا له: رأيتَ الرّاكبَ الّذي استقبلتَه عشيَّ أمسِ؟ قالَ: «نعم، وقد أردتُ مسألَتَه» فقلنا: قد واللّهِ استبرأْنا لكَ خبرَه، وكفيناكَ مسألَتَه، وهو امِرؤٌ منّا ذو رأْي وصدقٍ وعقلٍ، وِانّه حدّثَنا أنّه لم يخرجْ منَ الكوفةِ حتّى قُتِلَ مسلمٌ وهانئ، ورَآهما يُجَرّانِ في السُّوقِ بأرجلِهما: فقالَ: «إِنّا للهِّ وِانّا اليه راجعونَ، رحمةُ اللهِّ عليهما»

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: ناقتانا.

(٢) زَرُود: موضع على طريق حاج الكوفة بين الثعلبية والخزيمية. «معجم البلدان ٣: ١٣٩».

٧٤

يكرِّر(١) ذلكَ مِراراً، فقلنا له: نَنْشُدُكَ اللّهَ في نفسِكَ وأهلِ بيتِكَ إلّا انصرفتَ من مكانِكَ هذا، فإِنّه ليسَ لكَ بالكوفةِ ناصرٌ ولا شيعةٌ، بل نَتخوّفُ أن يكونوا عليكَ. فنظرَ إِلى بني عقيلٍ فقالَ: «ماتَرَوْنَ؟ فقد قتِلَ مسلمٌ» فقالوا: واللهِّ لا نَرجعُ حتّى نُصيبَ ثأْرَنا أَو نذوقَ ما ذاقَ، فأقبلَ علينا الحسينُعليه‌السلام وقالَ: «لا خيرَ في العيشِ بعدَ هؤلاءِ» فعلمْنا أنّه قد عزمَ رأْيَه على المسيرِ، فقلنا له: خارَ اللّهُ لكَ، فقالَ: «رحمَكُما اللّهُ». فقالَ له أصحابُه: إِنّكَ واللّهِ ما أَنتَ مثل مسلمِ ابن عقيل، ولو قدمتَ الكوفةَ لكانَ النّاسُ إِليكَ أسرعَ. فسكتَ ثمّ انتظرَ حتّى إِذا كانَ السّحرُ قالَ لفتيانِه وغلمانِه: «اكْثِرُوا منَ الماءِ» فاسْتَقَوْا وأكْثَرُوا ثمّ ارتحلوا، فسارَ حتّى انتهى إِلى زُبالةَ(٢) فأَتاه خبرُ عبدِاللّهِ بنِ يَقْطُرَ، فأخرجَ إِلى النّاسِ كتاباً فقرأه عليهم(٣) :

«بسم اللّهِ الرّحمنِ الرّحميمِ

أمّا بعدُ: فإِنّه قد أتانا خبرٌ فظيعٌ قَتْلُ مسلمِ بنِ عقيلٍ، وهانيِ بنِ عُروةَ، وعبدِاللّهِ بنِ يَقْطُرَ، وقد خَذَلَنا شيعتُنا، فمن أحبَّ منكم الانصرافَ فلينصرفْ غيرَحَرِجٍ، ليسَ عليه ذمامُ»

فتفرّقَ النّاسُ عنه وأخذوا يميناً وشمالاً، حتّى بقيَ في أصحابِه

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: يردّد.

(٢) زبالة: منزل بطريق مكة من الكوفة. «معجم البلدان ٣: ١٢٩».

(٣) رواه الطبري في تاريخه ٥: ٣٩٧، والخوارزمي في مقتل الحسينعليه‌السلام ١: ٢٢٨، وذكره أبو الفرج في مقاتله: ١١٠ مختصراً، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ٣٧٢.

٧٥

الّذينَ جاؤوا معَه منَ المدينةِ، ونفرٍ يسيرٍ ممّنِ انضَوَوْا إِليه. ِوانّما فعلَ ذلكَ لأنّهعليه‌السلام علمَ أنّ الأعرابَ الّذينَ اتّبعوه إِنّما اتّبعوه وهم يظنُّون أنّه يأتي بلداً قدِ استقامتْ له طاعةُ أهلهِ، فكرهَ أن يسيروا معَه إلاّ وهم يعلمونَ على ما(١) يقدمونَ.

فلمّا كانَ السّحرُ أمرَ أصحابَه فاستقَوْا ماءً وأكثروا، ثمّ سارَ حتّى مرَّ ببطنِ العَقَبةِ (فنزلَ عليها )(٢) ، فلقيَه شيخٌ من بني عِكْرِمةَ يقالُ له عمرُو بن لوذانَ، فسألهَ: أينَ تريدُ؟ فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «الكوفةَ» فقال الشّيخُ: أنشدُك اللّهَ لمّا انصرفتَ، فواللهِّ ما تقدمُ إلاٌ على الأسنّةِ وحدِّ السُّيوفِ، وِانّ هؤلاءِ الّذينَ بعثوا إِليكَ لو كانوا كَفَوْكَ مؤونةَ القتالِ ووطّؤوا لكَ الأَشياءَ فقدمتَ عليهم كانَ ذلكَ رأْياً، فأمّا على هذه الحالِ الّتي تَذْكُرُ فإنّي لا أرى لكَ أن تفعلَ. فقالَ له: «يا عبدَاللّهِ، ليس يخفى عليَّ الرأْيُ، ولكنَّ اللّهَ تعالى لا يُغلَبُ على أمرِه، ثمّ قالَعليه‌السلام : واللّهِ لا يَدَعُوني حتّى يستخرجوا هذه العلقةَ من جوفي، فإِذا فعلوا سلّطَ اللهُّ عليهم من يُذلُّهم حتّى يكونوا أذلَّ فِرَقِ الأممَ»(٣) .

ثمّ سارَعليه‌السلام من بطنِ العَقَبةِ حتّى نزلَ شَراف(٤) ، فلمّا كانَ في السّحرِ أمرَ فتيانَه فاسْتَقَوْا منَ الماءِ فأكْثَروا، ثمّ سارَ منها حتّى

__________________

(١) كذا في النسخ، والأصح: علامَ.

(٢) في النسخ الخطية: فنزل عنها، وما في المتن من هامش«ش».

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي ١: ٢٢٨، عن ابن اعثم، ولم نجده في الفتوح ولعله عن غيره، تاريخ الطبري ٥: ٣٩٧، عن ابي مخنف عن عبدالله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديّين، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ٣٧٢.

(٤) شراف: موضع بنجد «معجم البلدان ٣: ٣٣١».

٧٦

انتصفَ النّهارُ، فبينا هو يسيرُ إِذ كبّرَ رجلٌ من أصحابه فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «اللهُّ أكبرُ، لِمَ كَبَّرت؟» قالَ: رأيت النّخلَ، فقالَ له جماعةٌ من أصحابه: واللهِّ إِنّ هذا المكانَ ما رأينا به نخلةً قطّ، فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «فما تَرَوْنَه؟» قالوا: نراه واللّهِ آذانَ(١) الخيلِ، قالَ: «أنا واللهِ أرى ذلكَ» ثمّ قالَعليه‌السلام : «ما لنا(٢) ملجأُ نلجأ إِليه فنجعله في ظهورِنا، ونستقبل القومَ بوجهٍ واحدٍ؟» فقلنا: بلى، هذا ذو حُسمى(٣) إِلى جنبِكَ، تميلُ إِليه عن يسارِكَ، فإِن سبقتَ إِليه فهوكما تُريدُ.

فأخذَ إِليه ذاتَ اليسارِ ومِلْنا معَه، فما كانَ بأسرعَ من أن طلعتْ علينا (هوادي الخيل )(٤) فتبيّنّاها وعدلْنا، فلمّا رأوْنا عدلْنا عن الطريقِ عدلوا إِلينا كأنّ أسنّتَهم اليعاسيبُ(٥) ، وكأنّ راياتِهم أجنحةُ الطّيرِ، فاستبقْنا إِلى ذي حسمى فسبقْناهم إِليه، وأمرَ الحسينُعليه‌السلام بأبنيتهِ فضربَتْ.

__________________

(١) في «م»: أداني، وقد كتب تحتها: جمع ادنى.

(٢) في هامش «ش»: أما لنا.

(٣) في هامش «م»: حُسْمى - هكذا في نسخة الشيخ.

وهامش آخر في «ش» و «م»: حِسْمَى بكسر الحاء جبال شواهق بالبادية، قد ذكرها النابغة في شعره قال:

فاصبح عاقلاً بجبال حسمى

دقاق الترب مخترم القتام

وفي هامشهما كتبت: ذوجشَم، ذوجَشَم، جُسَم، حُسْم، وفي «م»: ذي حُسىً.

(٤) اقبلت هوادي الخيل: اذا بدت أعناقها. «الصحاح - هدى - ٦: ٢٥٣٤».

(٥) اليعسوب: طائر أطول من الجرادة لا يضم « الصحاح - عسب - ١: ٨١ » وفي هامش «ش»: الاصل في اليعسوب فحل النحل.

٧٧

وجاءَ القومُ زُهاءَ ألفِ فارسٍ معَ الحُرِّبن يزيدَ التّميميّ حتّى وقفَ هو وخيلُه مُقابلَ الحسينِعليه‌السلام في حَرًّ الظّهيرةِ، والحسينُ وأصحابُه معتمُّونَ متقلِّدوأسيافِهم، فقالَ الحسينُعليه‌السلام لفتيانِه: «اسقوا القومَ وأرْوُوْهُم منَ الماءِ، ورَشِّفُوا الخيلَ ترشيفاً» ففعلوا وأقبلوا يملؤون القِصاعَ والطّساسَ(١) منَ الماء ثمّ يُدنونَها منَ الفَرَسِ، فإِذا عبَّ فيها ثلاثاً أوأربعاً أَو خمساً عُزِلَتْ عنه وسَقَوا آخرَ، حتّى سَقَوْها كلَّها.

فقالَ عليُّ بنُ الطعَّانِ المُحاربي: كنتُ معَ الحُرِّ يومئذٍ فجئتُ في اخرِ من جاءَ من أصحابِه، فلمّا رأى الحسينُعليه‌السلام ما بي وبفرسي منَ العطشِ قالَ: «أنَخِ الراويةَ» والراويةُ عندي إلسِّقاءُ، ثمّ قالَ: «يا ابنَ أخي أنِخِ الجملَ» فأنَخْتُه فقالَ: «اشربْ» فجعلتُ كلَّما شربتُ سالَ الماءُ منَ السِّقاءِ، فقالَ الحسينعليه‌السلام : «اخنِثِ السِّقاءَ» أي اعطفْه، فلم أدْرِ كيفَ أفعل، فقامَ فخنثَه فشربتُ وسقيتُ فرسي.

وكانَ مجيءُ الحُرِّ بن يزيدَ منَ القادسيّةِ، وكَانَ عُبيدُاللّه بن زيادٍ بعثَ الحُصينَ بنَ نمُيرٍ وأًمرَه أن ينزلَ القادسيّة، وتقدّمَ الحُرُّ بينَ يديه في ألفِ فارسٍ يستقبلُ بهم حسيناً، فلم يَزَلِ الحُرًّ مُواقِفاً للحسينِعليه‌السلام حتّى حضرتْ صلاةُ الظُّهرِ، وأمرَ الحسينُ الحجّاجَ بنَ مسرورٍ أن يُؤَذِّنَ، فلمّا حضرتِ الأقامةُ خرجَ الحسينُعليه‌السلام

__________________

(١) الطساس: جمع طسٌ وهومعرّب طست وهو اناء معروف «مجمع البحرين - طست - ٢: ٢١٠ ».

٧٨

في إِزارٍ ورداءٍ ونعلينِ، فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه ثمّ قالَ: «أيًّها النّاسُ، إِنِّي لم آتِكم حتّى أتَتْني كتبُكم وقدمتْ عليّ رسلُكم: أنِ اقدمْ علينا فإِنّه ليس لنا إِمام، لعلَّ اللهَّ أن يجمعَنا بكَ على الهدى والحقِّ ؛ فإِن كنتم على ذلكَ فقد جئتُكم فاعطوني ما أطمئنًّ إِليه من عهودِكم ومواثيقِكم، وِان لم تفعلوا وكنتم لمَقدمي كارهينَ انصرفتُ عنكم إِلى المكانِ الّذي جئتُ منه إِليكم» فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحدٌ منهم بكلمةٍ.

فقالَ للمؤذِّنِ: «أقِمْ» فأقامَ الصّلاةَ فقالَ للحُرِّ: «أتُريدُ أن تُصليَ بأصحابكَ؟» قالَ: لا، بل تُصلِّي أنتَ ونُصلِّي بصلاتِكَ. فصلّى بهم الحسينَُ بن عليٍّعليهما‌السلام ثمّ دخلَ فاجتمعِ إِليه أصحابُه وانصرفَ الحُرُّ إِلى مكانِه الّذي كانَ فيه، فدخلَ خيمةَ قد ضُرِبَتْ له واجتمعَ إِليه جماعةٌ من أصحابِه، وعادَ الباقونَ إِلى صفِّهم الّذي كانوا فيه فأعادوه، ثمّ أخذَ كلُّ رجلٍ منهم بعنانِ دابّتهِ وجلسَ في ظلِّها.

فلمّا كانَ وقتُ العصرِ أمرَ الحسينُ بنُ عليِّعليه‌السلام أن يتهيّؤوا للرّحيلِ ففعلوا، ثمّ أمرَ مناديَه فنادى بالعصرِ وَأقامَ، فاستقامَ(١) الحسينُعليه‌السلام فصلّى بالقومِ ثمّ سلّمَ وانصرفَ إِليهم بوجهه، فحمدَ اللّهَ وأَثنى عليه ثمّ قالَ:

«أمّا بعدُ: أيُّها النّاس فإِنّكم إِن تتّقوا اللّهَ وتعرفوا الحقَّ لأهلهِ يكنْ أرضى للهِ عنكم، ونحن أهلُ بيتِ محمّدٍ، وأولى بولايةِ هذا الأمرِعليكم من هؤلاءِ المدَعينَ ما ليسَ لهم، والسّائرينَ فيكم بالجورِ والعدوانِ؟

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: فاستقدم.

٧٩

واِن أبيتم إلّا كراهيةً(١) لنا والجهلَ بحقِّنا، فكانَ رأْيُكم الان غيرَ ما أتتني به كتبُكم وقَدِمَتْ به عليَّ رسلُكم، انصرفتُ عنكم».

فقالَ له الحُرُّ: أنا واللّهِ ما أدري ما هذه الكتب والرُّسل الّتي تَذْكرُ، فقالَ الحسينُعليه‌السلام لبعضِ أصحابِه: «يا عُقْبَةَ بنَ سِمْعانَ، أخرِج الخُرْجَينِ اللَذينِ فيهما كتبُهم إِليَّ» فأخرجَ خُرْجَينِ مملوءَينِ صحفاً فنُثرتْ بينَ يديه، فقالَ له الحُرُ: إِنّا لسنا من هؤلاءِ الّذينَ كتبوا إِليكَ، وقد أُمِرْنا إِذا نحن لقيناكَ، ألاّ نفارِقَكَ حتّى نُقْدِمَكَ الكوفةَ على عُبيدِ اللّهِ. فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «الموتُ أدنى إِليكَ من ذلكَ» ثمّ قالَ لأصحابه: «قوموا فاركبوا» فركبوا وانتظرَ حتّى رَكِبَ نساؤهم، فقالَ لأَصَحابه: «انصرفوا» فلمّا ذهبوا لينصرفوا حالَ القومُ بينَهم وبينَ الانصرافِ، فقالَ الحسينُعليه‌السلام للحُرِّ: «ثكلتْكَ أُمُّك، ما ترُيدُ؟» فقالَ له الحرًّ: أما لو غيرُك منَ العرب يقولهُا لي وهو على مثلِ الحالِ الّتي أنتَ عليها، ما تركتُ ذكرَأُمِّه بالثُّكَلِ كائناً من كانَ، ولكنْ واللّهِ ما لي إِلى ذكرِ أُمِّكَ من سبيلٍ إلاّ بأحسنِ ما يقْدَرُ عليه؟ فقالَ له الحسينعليه‌السلام : «فما تُريدُ؟» قالَ: أُريدُ أن أنطلقَ بكَ إِلى الأميرعُبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ ؛ قالَ: «إِذاً واللهِّ لا أتبعكَ» قالَ: إِذاً واللّهِ لا أدعكَ. فترادَّا القول ثلاثَ مرّاتٍ. فلمّا كثر الكلامُ بينهَما قالَ له الحُرُّ: إِنِّي لم اُؤمَرْ بقتالِكَ، إِنّما أُمِرْتُ ألاّ أُفارِقَكَ حتّى أُقدمَكَ الكوفَة، فإِذ أبيتَ فخذْ طريقاً لا يُدخلُكَ الكوفةَ ولا يَردُّكَ إِلى المدينةِ، تكونَ بيني وبينَكَ نصفاً، حتّى أكتبَ إِلى الأميرِ وتكتَب الى يزيدَ أو إِلى عُبيدِاللّهِ فلعلّ اللهَّ إِلى ذلكَ أن يأْتيَ بأمرٍ يرزقُني فيه العافيةَ من أَن أُبتلى

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: الكراهية.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

٨ - فصل:

في بيان ظهور آياته في الاخبار بالغائبات

وفيه: ستة أحاديث

٢٢٦ / ١ - عن ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه ، قال: قلت لأمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله وسلم، وهو متوجه إلى البصرة: يا أمير المؤمنين، إنّك في نفر يسير، فلو تنحّيت حتّى يلحق بك الناس. فقال: « يجيئكم من غد في فجكم هذا، من ناحية الكوفة ثلاثة كراديس، في كلّ كردوس خمسة آلاف وستمائة وخمس وستون رجلاً ».

قال: قلت: ما أصابني والله أعظم من [ تلك ] الضيقة.

قال: فلمّا أن صلّيت الفجر قلت لغلامي: اسرج لي. قال: فتوجّهت نحو الكوفة، فإذا بغبرة قد ارتفعت، فسرت نحوها، فلمّا أن دنوت منهم صيح بي: من أنت؟ قلت: أنا ابن عبّاس؛ فكفوا، فقلت لهم: لمن هذه الراية؟ قالوا: لفلان. قلت: كم أنتم؟ فقالوا: طوي الديوان عند الجسر على خمسة آلاف وستمائة وخمسة وستين رجلا.

قال: فمضوا، ومضيت على وجهي، فإذا أنا بغبرة قد ارتفعت، قال: فدنوت منهم، فصيح بي: من أنت؟ فقلت: أنا ابن عبّاس.

__________________

١ - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢: ١٨٧ نحوه. وعنه مدينة المعاجز: ١٤١ و ٣٩٨.

٢٦١

فأمسكوا، فقلت: لمن هذه الراية؟ قالوا: لربيعة. فقلت: من رئيسها؟ قالوا: زيد بن صوحان العبديّ. فقلت: كم أنتم؟ قالوا: طوي الديوان عند الجسر على خمسة آلاف وستمائة وخمسة وستين رجلاً.

قال: فمضوا، ومضيت على وجهي، فإذا بغبرة قد ارتفعت، فأخذت نحوها، فصيح بي من أنت؟ قلت: أنا ابن عبّاس. فسكتوا عنّي، فقلت: لمن هذه الراية؟ فقالوا: لفلان، رئيسها الأشتر، قال: قلت: كم أنتم؟ قالوا: طوي الديوان عند الجسر على خمسة آلاف وستمائة وخمسة وستين رجلاً.

فرجعت إلى العسكر، فقال لي أمير المؤمنين: « من أين أقبلت؟ » فأخبرته، وقلت له: إنّي لمّا سمعت مقالتك اغتممت، مخافة أن يجيء الأمر على خلاف ما قلت.

قال: فقال: « نظفر بهؤلاء القوم غداً إن شاء الله تعالى، ثمّ نقسّم مالهم فيصيب كلّ رجل منا خمسمائة ».

قال: فلمّا أن كان من الغد أمرهم أمير المؤمنين صلوات الله عليه أن لا يحدثوا شيئاً حتّى يكون المبتدأ منهم، فأقبلوا يرمون رجال أمير المؤمنين صلوات الله عليه فأتوه، فقال لهم: « ما رأيت أعجب منكم! تأمروني بالحرب والملائكة لم تنزل بعد؟! ».

فلمّا كان الزوال دعا بدرع رسول الله (ص) فلبسها وصبها عليه، ثمّ أقبل على(١) القوم، فهزمهم الله تعالى، فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه للخزان: « اقسموا المال على الناس خمسمائة خمسمائة » فقسّموها، ففضل من المال ألفا درهم، فقال للخازن: « أي شيء بقي عندك؟ » فقال: ألفا درهم.

فقال: « أعطيت الحسن والحسين ومحمّد بن الحنفية خمسمائة

__________________

(١) في ر، ع: ثمّ قاتل.

٢٦٢

خمسمائة، وعزلت لي خمسمائة؟ » قال: لا.

قال: « فهذه لنا » فلم تزدد(١) درهم، ولم تنقصن درهم.

٢٢٧ / ٢ - عن عليّ بن النعمان، ومحمّد بن سنان، رفعاه إلى أبي عبد الله صلوات الله عليه، قال: « إنّ عائشة قالت: التمسوا لي رجلاً شديد العداوة لهذا الرجل، حتّى ابعثه إليه. فأتيت برجل، فمثل بين يديها، فرفعت رأسها وقالت: ما بلغ من عداوتك لهذا الرجل؟ قال لها: كثيراً ما أتمنى على ربّي أنّه وأصحابه في وسطي فَضُرِبتُ ضربة بالسيف، فيسبق السيف الدم.

ثمّ قالت: فأنت له، فاذهب بكتابي هذا، فادفعه إليه، ظاعناً رأيته أو مقيماً، أما إنّك إن وافيته ظاعناً رأيته راكباً على بغلة رسول الله (ص) متنكباً قوسه، معلقاً كنانته بقربوس سرجه، وأصحابه خلفه كأنّهم طيور صواف.

ثمّ قالت له: إن عرض عليك طعامه وشرابه فلا تتناول(٢) منه شيئاً فإنّ فيه السحر فمضيت واستقبلته راكباً، فناولته الكتاب ففض خاتمه، ثمّ قرأه وقال: « هذا والله ما لا يكون » فثنى رجله ونزل، فأحدق به أصحابه، ثمّ قال: أسألك، قال: نعم. قال: « وتجيبني » قال: نعم.

قال: « أنشدك بالله، هل قالت: التمسوا لي رجلاً شديد العداوة لهذا الرجل؟ » قال: نعم. « فأتيت بك، فقالت لك: ما بلغ من عداوتك لهذا الرجل؟ قلت: كثيراً ما أتمنى على ربّي أنّه وأصحابه في وسطي وأضرب بالسيف ضربة فيسبق السيف الدم؟ »

__________________

(١) في ص: يبق.

٢ - بصائر الدرجات: ٢٦٣ / ٤، الخرائج والجرائح ٢: ٧٢٤ / ٢٨، مناقب ابن شهرآشوب ٢: ٢٦٠، مدينة المعاجز: ١١٦ / ٣١٢، اثبات الهداة ٢: ٤٣٤ / ١٠٠.

(٢) في ر، ك، م: تبغي.

٢٦٣

ثمّ قال: « أنشدك بالله، أقالت لك اذهب بكتابي هذا فادفعه إليه ظاعناً كان أو مقيماً، أما إنّك إن وافيته ظاعناً رأيته راكباً بغلة رسول الله (ص)، متنكباً قوسه، معلقاً كنانته بقربوس سرجه، وأصحابه خلفه كأنهم طير صواف؟ » قال: اللهم نعم.

قال: « أنشدك بالله، هل قالت لك: إن عرض عليك طعامه وشرابه، فلا تتناول(١) منه شيئاً، فإنّ فيه السحر؟ » قال: اللّهم نعم.

قال: « أفمبلغ أنت عني؟ » قال: اللّهمّ نعم، فإنّي قد أتيتك وما على وجه الأرض خلق أبغض إليَّ منك، وأنا الساعة ما على وجه الأرض خلق أحبّ إليّ منك، فمرني بما شئت.

قال: « ادفع إليها كتابي، وقل لها: ما أطعت الله ولا رسوله حيث أمرك بلزوم بيتك، فخرجت تترددين في العساكر. وقل لطلحة والزبير: ما أنصفتما الله ولا رسوله حيث خلّفتما حلائلكما في بيوتكما وأخرجتما حليلة رسول الله (ص) ».

فجاء بكتابه حتّى طرحه إليها(٢) ، وبلّغها رسالته، ثمّ رجع إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فأصيب بصفين، فقالت: ما نبعث إليه أحد إلاّ أفسده علينا.

٢٢٨ / ٣ - عن صعصعة بن صوحان العبديّ، قال: لمّا قاتل أبو بكر مسيلمة. وأسرت الحنفية، وجيء بها إلى المدينة، ووقفت بين يدي أبي بكر.

٢٢٩ / ٤ - وقد روي عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضي الله

__________________

(١) في ر، ك، م: تبغي.

(٢) في ر، ك، م: عندها.

٣ - الخرائج والجرائح ٢: ٥٨٩، عن دعبل الخزاعي مفصلاً، مدينة المعاجز: ٣٥٠ / ٨٩.

٤ - الخرائج والجرائح ٢: ٥٨٩، عن دعبل الخزاعي مفصلاً، مدينة المعاجز: ٣٥٠ / ٨٩.

٢٦٤

عنه ذلك أيضاً، في حديث طويل، وأنا أذكر منه نقاوته: فقال: لمّا وقفت دنا إليها طلحة والزبير فطرحا عليها ثوبهما، فلمّا رأت ذلك قامت وقالت: لست بعريانة فتكسواني فقيل لها: إنّهما يتزايدان عليك، فأيّهما زاد عليك أخذك من السبي. قالت: لا يكون ذلك أبداً، ولا يملكني، ولا يكون لي بعل إلاّ من يخبرني بالكلام الذي قلته ساعة خروجي من بطن أمّي.

فسكت الناس ينظر بعضهم إلى بعض، وورد عليهم ما بهر عقولهم، وبقوا في دهشة، فقال أبو بكر: مالكم ينظر بعضكم إلى بعض؟ فقال الزبير: لقولها الذي سمعت، جارية من سادات قومها ولم يكن لها عادة بما لقيت، وقد داخلها الفزع فلا تلوموها إذ قالت ما لا تحصله.

قالت: والله ما داخلني الفزع ولا الجزع، وما قلت إلاّ حقاً ولا نطقت إلاّ فصلاً وما كذبت ولا كذّبت. فأخذ أبو بكر وعمر يتحاوران الكلام وأخذ ثوبه من طرحه عليها، وجلست ناحية من القوم، فجاء أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه وآله فوقف ونظر إليها، ثمّ ناداها: « يا خولة » فوثبت فقالت: لبيك.

قال: « لمّا كانت أمّك حاملاً بك، وضربها الطلق، واشتدّ بها الأمر دعت الله وقالت: اللّهمّ سلّمني من هذا الولد(١) سالماً كان أو هالكاً؛ وسبقت الدعوة لك بالنجاة، فناديت من تحتها: لا إله إلاّ الله، يا أمّاه لم تدعين عليَّ وعمّا قليل سيملكني سيّد، يكون لي منه ولد؟! فكتبت أمّك ذلك الكلام في لوح نحاس، فدفنته في الموضع الذي سقطت فيه، فلمّا كانت تلك الليلة التي قبضت فيها أمّك أوصت إليك بذلك، فلمّا كان في وقت سبيك أخذت اللوح وشددتيه على عضدك

__________________

(١) في ع: المولود.

٢٦٥

الأيمن؛ هاتي اللوح فأنا صاحبه، وأنا أبو ذلك الغلام الميمون واسمه ( محمّد ) ».

قال: فأخرجته، فأخذه أبو بكر ودفعه إلى عمر(١) حتّى قرأه عليهم، فلمّا قرأ بكت طائفة، وحركت أخرى، واهتدت(٢) إليه، فما خالف ما في اللوح كلام عليّ صلوات الله عليه حرفاً وقالوا بأجمعهم: صدق الله، وصدق رسوله إذ قال: « أنا مدينة العلم وعليّ بابها ».

فقال أبو بكر: خذها يا أبا الحسن، بارك الله لك فيها.

وفي الحديث طول، وأنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه قد تزوّجها وأمهرها، ولم يطأها بملك اليمين.

٢٣٠ / ٥ - عن عبد الله بن عبّاس، قال: جلس أمير المؤمنين صلوات الله عليه لأخذ البيعة بذي قار، وقال: « يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون ولا ينقصون » فجزعت لذلك وخفت أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدون عليه، ويفسد الأمر علينا، حتّى ورد أوائلهم، فجعلت أحصيهم فاستوفيت عددهم تسعمائة رجل وتسعاً وتسعين رجلاً، ثمّ انقطع مجيء القوم. فقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ماذا حمله على ما قال؟ فبينما أنا متفكر في ذلك إذ رأيت شخصاً قد أقبل حتّى دنا، وإذا هو رجل عليه قباء صوف، ومعه سيفه وترسه وإداوته، فقرب من أمير المؤمنين صلوات الله عليه فقال: امدد يدك أبايعك، فقال له أمير المؤمنينعليه‌السلام : « وعلى ما تبايعني؟ »

__________________

(١) في هامش ر، ك: عثمان.

(٢) في ر، م: واهتزت.

٥ - ارشاد المفيد: ١٦٦، الخرائج والجرائح ١: ٣٠٠، ارشاد القلوب: ٢٢٤، باختصار، إعلام الورى: ١٧٠، رجال الكشي ١: ٣١٥ / ١٥٦، اثبات الهداة ٢: ٤٥٢ / ١٦٧، مدينة المعاجز: ١٤١ ح ملحق ح ٣٩٧.

٢٦٦

قال: على السمع والطاعة، والقتال بين يديك حتّى أموت أو يفتح الله على يديك.

فقال: « ما اسمك؟ » فقال: أويس القرني قال: « أنت أويس القرني؟ » قال: نعم.

قال: « الله أكبر، أخبرني حبيبي رسول الله (ص) أنّي أدرك رجلاً من أمّته يقال له ( أويس القرني ) يكون من حزب الله وحزب رسوله، يموت على الشهادة، ويدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر » قال ابن عباس: فسرى ذلك عنّي.

٢٣١ / ٦ - عن سويد بن غفلة، قال: إنّ رجلاً جاء إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أمير المؤمنين إنّي مررت بوادي القرى فرأيت خالد بن عرفطة قد مات بها، فاستغفر له. فقال أمير المؤمنين: « إنّه لم يمت، ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة، صاحب لوائه حبيب بن جماز » فقام رجل من تحت المنبر فقال: والله يا أمير المؤمنين، إنّي لك شيعة، وإنّي لك محب!. فقال: « ومن أنت؟ » قال: أنا حبيب بن جماز: قال: « إياك أن تحملها، ولتحملنها، فتدخل بها من هذا الباب » وأومى بيده إلى باب الفيل، فلمّا مضى أمير المؤمنين، ومضى الحسن بن عليّ من بعده صلوات الله عليهم، وكان من أمر الحسينعليه‌السلام ما كان من ظهوره، بعث ابن زياد لعنه الله عمر بن سعد إلى الحسين صلوات الله عليه، وجعل خالد بن عرفطة على مقدّمته(١) وحبيب بن جماز صاحب رايته، فسار بها حتّى دخل

__________________

٦ - بصائر الدرجات: ٣٩٨ / ١١، الاختصاص: ٢٨٠، الخرائج والجرائح ٢: ٧٤٥ / ٦٣، مناقب ابن شهرآشوب ٢: ٢٧٠، ارشاد القلوب: ٢٢٥، اعلام الورى: ١٧٥، الهداية الكبرى: ١٦١، شرح نهج البلاغة ٢: ٢٨٦، ارشاد المفيد: ١٩٠، مدينة المعاجز: ١١٩ ح ٣١٩.

(١) في هامش ر، ص، ع: ميمنته.

٢٦٧

المسجد من باب الفيل.

وحديث رشيد الهجري وميثم التمار مشهور عند عامّة الأصحاب، فلا نذكره.

وكذلك حديث حبيب بن عبد الله الأزديّ في أخبار أصحاب النهروان.

وحديث الإخبار عن كربلاء، والإشارة إلى موضع القتال ومصارع الرجال، وغير ذلك.

وقد اقتصرنا على طرف من آياته صلوات الله عليه، وقليلٍ من معجزاته.

٢٦٨

٩ - فصل:

في بيان ظهور آياته في أشياء شتى

وفيه: اثنا عشر حديثاً

٢٣٢ / ١ - عن رزين الأنماطيّ، عن أبي عبد الله صلوات الله عليه، عن أبيه، عن آبائه،عليهم‌السلام : « أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه دخل الكوفة فأقام بها أياماً، فبينما هو يدور في طرقها، فإذا هو بيهوديّ قد وضع يده على رأسه، وهو يقول: معاشر الناس، أفبحكم الجاهلية تحكمون، وبه تأخذون، وطريقاً لا تحفظون. فدعا به أمير المؤمنين صلوات الله عليه فوقف بين يديه، وقال له: « ما حالك يا أخا اليهود؟ » فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي رجل تاجر خرجت من ساباط المدائن ومعي ستون حماراً، فلمّا حضرت موضع كذا أخذ ما كان معي اختطافاً، ولا أدري أين ذهب بها.

فقال أمير المؤمنين: « لن يذهب منك شيء؛ يا قنبر اسرج لي فرسي »(١) فأسرج له فرسه، فلمّا ركبه قال: « يا قنبر، ويا أصبغ بن نباتة، خذا بيدي اليهوديّ وانطلقا به أمامي » فانطلقا به حتّى صارا إلى الموضع الذي ذكره فخطَّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه بسوطه خطة،

__________________

١ - عنه في مدينة المعاجز: ٤٩ / ٩٥.

(١) في في ر، ش، ص، ع، ك: دابتي.

٢٦٩

فقال لهم: « قوموا في وسط هذه الخطة، ولا تجاوزوها فتخطفكم الجنّ ».

ثمّ قنع فرسه واقتحم في الصحراء وقال: « والله معاشر ولد الجنّ من ولد الحارث بن السيّد - وهو إبليس - إن لم تردّوا عليه أحمره لنخلعن ما بيننا وبينكم من العهد والميثاق، ولأضربنكم بأسيافنا حتّى تفيئوا إلى أمر الله ». فإذا أنا بقعقعة اللجم، وصهيل الخيل، وقائل يقول: الطاعة لله ولرسوله ولوصيه. ثمّ انحدر في الصحراء ستون حمارا بأحمالها، لم يذهب منها شيء، فأدّاها إلى اليهوديّ.

فلمّا دخل الكوفة قال له اليهودي: ما اسم محمّد ابن عمك في التوراة؟ وما اسمك فيها؟ وما اسم ولديك؟ فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله: « سل استرشاداً ولا تسأل تعنتاً، عليك بكتاب التوراة، اسم محمّد فيها طاب طاب، واسمي ايليا، واسم ولديَّ شبر وشبير ».

فقال اليهوديّ: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّك وصيه من بعده، وأنّ ما جاء به وجئت به حق.

٢٣٣ / ٢ - عن عمّار بن الحضرميّ، عن زاذان(١) أبي عمرو أنّ رجلاً حدّث عليّاً صلوات الله عليه وآله بحديث، فقال: « ما أراك إلاّ كذبتني » فقال: « لم أفعل. فقال: « أدعو الله عليك إن كنت كذبتني » قال: ادع. فدعا عليه، فما برح حتّى أعمى الله عينيه.

٢٣٤ / ٣ - عن عباد بن عبد الله الأسديّ، قال: سمعت عليّاً

__________________

٢ - عنه في مدينة المعاجز: ١٣٩ / ٣٩٢.

(١) زاذان، اختلف في كنيته على أقوال: أبو عمرة، أبو عمروة، وفي ك: أبو عمير، راجع « معجم رجال الحديث ٧: ٢١٢ ».

٣ - مناقب ابن شهرآشوب ٢: ٣٣٢ نحوه، مدينة المعاجز: ١٣٨ / ٣٨٦، شرح النهج لابن أبي الحديد ٢: ٢٨٧، صدر الرواية.

٢٧٠

صلوات الله عليه يقول - وهو في الرحبة -: « أنا عبد الله وأخو رسول الله، ولا يقولها بعدي إلاّ كاذب »(١) .

قال: فقام رجل من غطفان وقال: أنا أقول كما قال هذا الكاذب، أنا عبد الله وأخو رسول الله فخنق(٢) مكانه.

٢٣٥ / ٤ - قال أبو جعفر محمّد بن عمر الجرجانيّ: حدّثني ابن البواب، عن الحسن بن زيد، وحدّثنيه ابن أبي السلميّ، قال: قال: إن ابن أبي غاضية طلبنا نشتم أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله فهربت، فبعث إليّ محمّد بن صفوان - من ولد أبي خلف الجمحيّ - أن أعرني بغلتك. فقلت: لئن أعرتك بغلتي إنّي لكم شبه.

قال: فمشى - والله - على رجليه أربعة أميال، فوافى خالداً عامل هشام بن عبد الملك على المدينة فشتم أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله على المنبر، فقال لابن صفوان: قم يا ابن صفوان. فقام وصعد مرقاة من المنبر، ثمّ استقبل القبلة بوجهه وقال: اللّهمّ من كان يسب عليّاً لترة(٣) يطلبها عنده، أو لذحل(٤) فإنّي لا أسبه إلاّ فيك ولقد كان صاحب القبر يأتمنه وهو يعلم أنّه خائن.

وكان في المسجد رجل فغلبته عينه، فرأى أنّ القبر انفرج(٥) ، وخرجت منه كف قائل يقول: إن كنت كاذباً فعليك لعنة الله(٦) ، وإن

__________________

(١) في هامش ر، ع، ك: كافر.

(٢) في ش، ص، ع، م: فمسخ.

٤ - مناقب ابن شهرآشوب ٢: ٣٢٣، مختصراً، مدينة المعاجز: ١٣٨ / ٨٧.

(٣) الترة: التبعة أو الثأر « النهاية - وتر - ٥: ١٤٩، لسان العرب - وتر - ٥: ٢٧٤ ».

(٤) الذحل: الثأر، وقيل: العداوة والحقد « لسان العرب - ذحل - ١١: ٢٥٦ ».

(٥) في م: انفتح.

(٦) في ع: فلعنك الله.

٢٧١

كنت كاذبا فأعماك الله.

فنزل الجمحيّ من المنبر فقال لابنه، وهو جالس إلى ركن البيت: قم. فقام إليه فقال: أعطني يدك أتكئ عليها. فمضى به إلى المنزل.

فلمّا خرجا من المسجد نحو المنزل قال لابنه: هل نزل بالناس شرّ وغشيهم ظلمة؟ قال: كيف ذلك؟ قال: لأنّي لا أبصار شيئاً.

قال: ذلك والله بجرأتك على الله، وقولك الكذب على منبر رسول الله (ص). فما زال أعمى حتّى مات، لعنة الله عليه.

٢٣٦ / ٥ - عن أنس، قال: كنت عند رسول الله (ص) أنا وأبو بكر وعمر في ليلة ظلماء مكفهرة، فقال (ص): « ائتوا باب عليّ » فأتيناه(١) فنقر أبو بكر الباب نقراً خفياً، فخرج عليّ صلوات الله عليه وآله متأزرا بإزار من صوف، مرتديا بمثله، في كفّه سيف رسول الله (ص)، فقال لنا: « أحدث حدث؟ » فقلنا: خير، أمرنا رسول الله (ص) أن نأتي بابك، وهو بالأثر.

فإذا قد أقبل رسول الله (ص) فقال: « يا عليّ » قال: « لبيك ».

قال: « أخبر أصحابي بما أصابك البارحة ». قال عليّ: « يا رسول الله إنّي لاستحيي » فقال رسول الله (ص): « إنّ الله لا يستحيي من الحقّ ».

فقال عليّ صلوات الله عليه وآله: « يا رسول الله، أصابتني جنابة البارحة من فاطمة، وطلبت في البيت ماءً فلم أجده، فبعثت الحسن

__________________

٥ - مناقب المغازلي: ٩٤، مناقب الخوارزمي: ٢١٦، مثله، الطرائف: ٨٥ / ١٢٠، مصباح الأنوار: ١٦٥ / ٣٥، غاية المرام: ٦٣٧، وعنه معالم الزلفى: ٤١٠ ح ٩١.

(١) في ص، ك: اطلبوا عليّاً فخرجنا إليه.

٢٧٢

كذا والحسين كذا، فأبطا عليّ، فاستلقيت على قفاي، فإذا أنا بهاتف من سواد البيت: قم يا عليّ وخذ السطل؛ واغتسل، وإذا أنا بسطل مملوء من الماء، وعليه منديل من سندس، فأخذت السطل، واغتسلت، ومسحت بدني بالمنديل، ورددت المنديل على رأس السطل، فقام السطل في الهواء، فأصابت قطرة منه هامتي، فوجدت بردها على فؤادي ».

فقال النبيّ (ص): « بخ بخ يا ابن أبي طالب، أصبحت وخادمك جبرئيل، أمّا الماء فمن نهر الكوثر، وأمّا السطل والمنديل فمن الجنّة، كذا أخبرني جبرئيلعليه‌السلام ».

٢٣٧ / ٦ - عن أحمد بن عمّارة، عن عبد الله بن عبد الجبّار، قال: أخبرني مولاي وسيّدي الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ صلوات الله عليهم، قال: « كنت مع أبي على شاطئ الفرات، فنزع قميصه وغاص في الماء، فجاء موج فأخذ القميص، فخرج أمير المؤمنينعليه‌السلام وإذا بهاتف يهتف: يا أمير المؤمنين، خذ ما عن يمينك. فإذا منديل فيه قميص ملفوف، فأخذ القميص ولبسه، فسقطت من جيبه رقعة، مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هدية من الله العزيز الحكيم إلى عليّ بن أبي طالب، هذا قميص هارون بن عمران( كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ) (١) ».

٢٣٨ / ٧ - عن الحسين بن عبد الرحمن التمّار، قال: انصرفت

__________________

٦ - مناقب ابن شهرآشوب ٢: ٢٢٩، مائة منقبة: ٩٦، مدينة المعاجز: ١٦ / ١٤، إثبات الهداة ٢: ٤٦٠ / ٢٠١.

(١) سورة الدخان / الآية: ٢٨.

٧ - تأويل الآيات ٢: ٨٣٧ / ٥، عنه مدينة المعاجز ١١٠ ح ٢٩٣.

٢٧٣

عن مجلس بعض الفقهاء، فمررت بسليمان الشاذكونيّ، فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من مجلس فلان العالم. قال: فما قوله؟ قلت: شيئاً من مناقب أمير المؤمنين صلوات الله عليه. فقال: والله لأحدثنك بفضيلة سمعتها من قرشي عن قرشي.

قال: رجفت قبور البقيع على عهد عمر بن الخطّاب فضجّ أهل المدينة من ذلك، فخرج عمر ومعه أهل المدينة إلى المصلى يدعون الله تعالى ليسكن عنهم الرجفة، فما زالت تزيد في كلّ يوم إلى أن تعدى ذلك إلى حيطان المدينة، وعزم أهلها بالنقلة عنها، قال عمر انطلقوا بنا إلى أبي الحسن عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه وآله. فمضى إليه ودخل عليه ومعه أهل المدينة، فلمّا بصر به قال: يا أبا الحسن، أما ترى إلى قبور البقيع ورجفتها، حتّى قد تعدى ذلك إلى حيطان المدينة، وقد عزم أهلها بالنقلة عنها، والخروج منها؟

فقال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه: « عليّ بمائة من أصحاب رسول الله (ص) » فجاؤوا بهم، فاختار من المائة عشرة، فجعلهم خلفه، وجعل التسعين خلفهم، ودعا سلمان، وأبا ذر، والمقداد بن الأسود الكنديّ، وعمّاراً فجعلهم أمامه، فلم يبق بالمدينة بنت عاتق إلاّ خرجت إلى البقيع، حتّى إذا توسطه ضرب الأرض برجله، وقال: « مالك مالك مالك » ثلاثاً فسكنت الرجفة، وقال أمير المؤمنين: « صدق حبيبي رسول الله (ص)، فلقد أنبأني بهذا الخبر، وبهذا اليوم، وباجتماع الناس له ».

٢٣٩ / ٨ - في كلام آخر عن التمّار، رفعه بإسناده، قال: كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام مع بعض أصحابه في مسجد الكوفة، فقال له رجل: بأبي أنت وأمّي، إنّي لأتعجب من هذه الدنيا

__________________

٨ - بصائر الدرجات: ٣٩٥ / ٣، الاختصاص: ٢٧٠.

٢٧٤

التي في أيدي هؤلاء القوم(١) ، وليست عندكم؟! فقال: « أترى أنّا نريد الدنيا ولا نعطاها؟ ».

ثمّ قبض قبضة من الحصى، فإذا هي جواهر، فقال: « ما هذا؟ » قال: هذا من أجود الجواهر. فقال: « لو أردنا هذا لكان، ولكنا لم نرد » ثمّ رمى بالحصى فعاد كما كان.

٢٤٠ / ٩ - عن الحسن البصريّ، قال: أتانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله - وكنت يومئذ غلاماً قد أيفعت - فدخل منزله - في حديث طويل - ثمّ خرج وتبعه الناس، فلمّا صار إلى الجبانة نزل واكتنفه الناس، فخطَّ بسوطه خطة، فأخرج منها ديناراً، ثمّ خطَّ خطة أخرى فأخرج منها ديناراً آخر، حتّى أخرج منها ثلاثة دنانير، فقلّبها في يده حتّى أبصارها الناس، ثمّ ردّها وغرسها بابهامه، ثمّ قال: « ليليك بعدي محسن أو مسيء ».

ثمّ ركب بغلة رسول الله (ص) وانصرف إلى منزله، وأخذنا العلامة(٢) وصرنا إلى الموضع حتّى إذا بلغنا الرشح(٣) فلم نصب شيئا، فقلنا للحسن: ما ترى ذلك من أمير المؤمنينعليه‌السلام ؟ فقال: « أمّا أنا فلا أرى أن كنوز الأرض تسير إلاّ لمثله ».

٢٤١ / ١٠ - عن إبراهيم بن محمّد الأشعريّ، عمّن رواه، قال: إنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله وسلّم أراد أن يبعث بمال إلى البصرة، فعلم بذلك رجل من أصحابه، فقال في نفسه: لو أتيته فسألته

__________________

(١) في ص: الناس، وفي ر: الفلاح.

٩ - بصائر الدرجات: ٣٩٥ / ٤، الاختصاص: ٢٧١.

(٢) في المخطوطات: الفلاح، وما أثبتناه من المصادر.

(٣) الرشح: أي وصلوا في الحفر إلى الماء في قعر الأرض.

١٠ - بصائر الدرجات: ٢٦٠ / ٢٠ نحوه.

٢٧٥

أن يبعث معي بهذا المال، فإذا دفعه إليّ أخذت طريق الكرخة(١) فذهبت به.

فأتاه وقال: بلغني أنّك تريد أن تبعث بمال إلى البصرة؟ قال: « نعم » قال: فادفعه إليّ فأبلغه، واجعل لي ما تجعل لمن تبعثه. فقد عرفت صحبتي.

قال: فقال له أمير المؤمنين صلوات الله عليه: « خذ طريق الكرخة »(٢) .

٢٤٢ / ١١ - حدّث أبو مهاجر زيد بن رواحة العبديّ، قال: دخلت الكوفة بعد موت الحجّاج فدخلت المسجد الجامع وأنا أقول: الحمد لله الذي أخلى منه الديار والآثار، وجعل مصيره إلى النار؛ فسمعني رجل كان هناك جالساً إلى بعض سواري المسجد، فقال لي: يا رجل، خف الله تعالى على نفسك، واحبس على لسانك، فإنّك في أرض مسبعة، وأوطان موحشة، فإن يك خائناً فقد هلك، وإن يك حامداً فقد ملك.

قال: فأنست به وجلست إليه فتحدّثنا ساعة، ورأيت جماعة منكبة على رجل وهو يحدّثهم، وهم يسمعون منه، ويكتبون عنه، فقلت لصاحبي: من هذا الرجل؟ فقال: رجل شهد مع أمير المؤمنين صلوات الله عليه البصرة وصفّين والنهروان، والناس يسمعون منه، ويأخذون عنه، وهو رجل له أصل وشرف ولب وعقل.

فقلت له: هل لك أن تدنو منه، فلعلنا نسمع منه شيئاً ننتفع به. قال: نعم. فدنونا منه، فإذا هو يحدِّث عن أمير المؤمنين صلوات الله

__________________

(١، ٢) في المخطوطات: المكرخة، وما أثبتناه من المصادر.

والكرخة: مدينة بخوزستان عامرة صغيرة، انظر « أحسن التقاسيم: ٣٦، ٣١٢ ».

١١ - مدينة المعاجز: ٩٨ / ٢٥١، ذيله الرواية.

٢٧٦

عليه، ويقول: سمعت، ورأيت؛ فاغتنمت(١) ، وأقبلت عليه، وأمهلته حتّى انفضَّ عنه أكثر من كان عنده، وقلت له: أنا رجل من أهل البصرة، خرجت لطلب العلم، وأحببت أن أسمع منك شيئاً أحدِّث به عنك.

فقال: يا أهل البصرة، ما أجرأ الناس على الله تعالى وعلى رسوله (ص)، وعلى هتك الدين وفتنة المسلمين! ألا بشر عليكم أهل الغدر والنكث، بتوثبكم على أهل الحقّ والصدق، وإنّ أوّل الفتنة في هذا الدين من بين أفنيتكم وأنديتكم ولمّا ضربت بجرانها وكنانها، تراغى إليها الأكابر، واصطلى بها الأصاغر، فأذكوا شواظَّها، وألكوا في دلاظها(٢) ، حتّى إذا عمّهم عارها وشنارها رماها الله تعالى بأمير المؤمنينعليه‌السلام وسيّد الوصيّين وأخي رسول ربّ العالمين، فأقشع به عنكم الإفك، وجلى به عنكم الشرك، وقتل به أهل النكث والإفك، وقامت به حجّة الحق، وما كنتم بررة راشدين، ولا جهلة مسترشدين، ولقد استبدلتم الذي هو أدنى بالذي هو خير، واستحببتم العمى على الهدى، فبعداً للقوم الظالمين.

قال: فأمسكت عنه حتّى فرغ من كلامه، ثمّ قلت: أيّها الشيخ، لقد عممت أهل البصرة، وقد كان فيهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والسعيد والشقي، ولقد نصر الله تعالى وليّه ودينه منهم بقوم كما قال الله تعالى:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) (٣) قد كشف الله لهم عن قلوبهم وأبصارهم حتّى

__________________

(١) في ر، ك: فاغتمدت، وفي م، وهامش ك: فاغتممت.

(٢) وألكوا في دلاظها: المراد أنهم لاكوا هذه الفتنة وعلكوها، انظر لسان العرب ٧ / ٤٤٤ مادة ( دلظ )، وج ١٠ / ٣٩١ ( الك )، وفي بعض النسخ: أفكوا. والمراد: تقلبوا أو احترقوا في نار هذه الفتنة. انظر لسان العرب: ١٠: ٣٩١ ( أفك ).

(٣) سورة ق الآية: ٣٧.

٢٧٧

عرفوا الحقّ من الباطل، والمحق من المبطل، فجاهدوا في الله مع وليّه حقّ الجهاد.

قال: صدقت ولقد كان معنا منهم يومئذ قوم صبروا ونصروا، فمن أنت؟ قلت: أنا رجل من عبد القيس. فقال: أهلاً بك ومرحباً، بأبي قومك ويومك. ثمّ أدناني وقرّبني، وأقبل عليّ، ثمّ قال لي: والله، لأحدّثنك بما تقرّ به عينك، وتقوى به بصيرتك، ويزداد به إيمانك.

ثمّ قال: قم بنا، وأخذ بيدي إلى منزله، وأكرمني، وأحسن ضيافتي، وقال: سمعت أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: « قيّدوا العلم بالكتابة » وقام، وأخرج صحيفة من جلد أبيض، فيه كتابة فقرأ عليَّ: « حدّثني ربيعة بن سالم الهمدانيّ، قال: لمّا كان اليوم الذي قتل فيه عمّار بن ياسررضي‌الله‌عنه وكان ابتدأنا من صفين حرباً وطعناً، فاستندت إلى قفة(١) كانت هناك، وأشرفت على الناس، وقد تزحزحوا عن مقاماتهم، وهم يتكفؤون تكفؤ السفينة بأهلها، فمن بين متقدّم لقتال، ومتأخر عن كلال، ما يسمع إلاّ صهيل الخيل، وغمغمة الرجال، وقعقعة اللجم، واصطكاك القنا باختلافها، وخفق الرايات، وقد أخذ العدو الماء، وحفظ الموارد، والناس معطشون، وقد مدّت الخيل أعناقها ولجمها، وعضت على الشكائم، وقلقلت في مواقفها، وقهقرت على أكفالها، وصهلت لأوجالها، وتداعى الناس بآبائهم ( واعتزوا بأنسابهم )(٢) والناس ملتفون، والنساء على المطايا خلال الصفوف يُحرضنّ الرجال على القتال، وقراء القرآن يتلون ما ذكره الله تعالى في كتابه من فضل الجهاد والمجاهدين والصبر عند مواقف الصدق، وقد سمحوا بالأنفس والأموال كأن قد عاينوا الثواب، واستيقنوا

__________________

(١) القفة: الشجرة اليابسة البالية. « النهاية - ٤: ٦١ ».

(٢) في هامش ر: واعتزلوا نسائهم.

٢٧٨

المآب، وأقبلت قبيلة همدان برايتها مع سعيد بن قيس كأنّها سحابة مودقة.

قال ربيعة: فاتكيت على رمحي، ورفعت(١) طرفي إلى السّماء، وقلت في نفسي: يا ربّ، هذا أخو نبيّك ووصيّه، وأحبّ الخلق(٢) إليه، وأزلفهم لديه، وأقربهم منه، وأنصرهم له، وأعلمهم بالدّين، وأنصحهم للمسلمين، وأهداهم للحقّ، وأعلمهم بالكتاب، وأعملهم به، وبما يأتي ويذر، فثبّت كلمته، وقصهم على دعوته، إنّ هذا الأمر ما يرد بهذا الخلق، ولله الخلق والأمر، يصيب برحمته من يشاء، اللهمّ وقد ضعفت عن حمل ذلك، فافتح اللهم لي ما تثبّت به قلبي، وتشرح به صدري، وتطلق به لساني، وتذهب به نزغ الشيطان الرجيم، وهمزه وكيده ووسوسته وخيله ورجله.

قال ربيعة: فلمّا استتم الدعاء إذا أنا بمقرعة بين كتفي، فالتفت فإذا أنا بأمير المؤمنينعليه‌السلام وهو على بغلة رسول الله (ص) وبيده عنزة(٣) رسول الله (ص)، وكأنّ وجهه كدائرة القمر إذا أبدر، فقال لي: « يا ربيعة، لشد ما جزعت، إنّما الناس رائح ومقيم، فالرائح من يحببه هذا اللقاء إلى جنّة المأوى، وإلى سدرة المنتهى، وإلى جنّة عرضها كعرض السّماء والأرض، أعدّت للمتقين؛ والمقيم بين اثنين: إمّا نعم مقلّة، أو فتنة مضلّة، يا ربيعة، حيّ على معرفة ما سألت ربا »

ومَرَّ يفري الأرض فرياً واتبعته حتّى خرج عن العسكر، وجازه بميل أو نحوه، وثنى رجله عن البغلة، ونزل وخر على الأرض للدُّعاء، يقلّب كفّيه بطناً وظهراً، فما ردّ يده حتّى نشأت قطعة سحابة كأنّها

__________________

(١) في ر: رجعت.

(٢) في ص، ع: الناس.

(٣) العنزة: مثل نصف الرمح أو أكبر. « النهاية ٣: ٣٠٨ ».

٢٧٩

هقل(١) نعام تدب بين(٢) السماء والأرض، حتّى أظلّتنا، فما عدا ظلّها مركبنا، حتّى(٣) هطلت بشيء كأفواه القرب، وشرب فرسي. من تحت حافره، وملأت مزادي، وارتويت، ورويت، فرسي، ثمّ عاد فركب بغلته، وعادت السحابة من حيث جاءت، وعدت إلى العسكر، فتركني وانغمس في الناس.

٢٤٣ / ١٢ - عن عاصم بن شريك، عن أبي البختري، عن أبي عبد الله الصادق، عن آبائهعليهم‌السلام ، قال: « أتى أمير المؤمنينعليه‌السلام منزل عائشة، فنادى: « يا فضة، ائتينا بشيء من ماء نتوضأ به، » فلم يجبه أحد، ونادى ثلاثاً، فلم يجبه أحد، فولّى عن الباب يريد منزل الموفقة السعيدة الحوراء الإنسية فاطمةعليها‌السلام ، فإذا هو بهاتف يهتف ويقول: يا أبا الحسن دونك الماء فتوضأ به. فإذا هو بإبريق من ذهب مملوء ماء عن يمينه، فتوضأ، ثمّ عاد الإبريق إلى مكانه، فلمّا نظر إليه رسول الله (ص) قال: « يا عليّ ما هذا الماء الذي أراه يقطر كأنّه الجمان(٤) ؟ ».

قال: « بأبي أنت وأمّي، أتيت منزل عائشة فدعوت فضة تأتينا بماء للوضوء ثلاثاً فلم يجبني أحد، فوليت، فإذا أنا بهاتف يهتف وهو يقول: يا عليّ دونك الماء. فالتفت فإذا أنا بإبريق من ذهب مملوء ماء ».

فقال: « يا عليّ تدري من الهاتف؟ ومن أين كان الإبريق؟ »

__________________

(١) الهقل: الغني من النعام. « القاموس المحيط - هقل - ٤: ٧١ ».

(٢) في م: بدت من.

(٣) في ر: ثم.

١٢ - أمالي الصدوق: ١٨٧ نحوه؛ مائة منقبة لابن شاذان: ٩٩ منقبة ٤٢ نحوه، عنه معالم الزلفى: ٤١١، ومدينة المعاجز: ٩٦ ح ٢٤٦.

(٤) الجمانة: حبّة تعمل من الفضة كالدرّة، وجمعها جمان. « الصحاح ٥: ٢٠٩٢ ».

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563