المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام0%

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 312

المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ حسن الصفار
تصنيف: الصفحات: 312
المشاهدات: 107545
تحميل: 5589

توضيحات:

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 312 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107545 / تحميل: 5589
الحجم الحجم الحجم
المرأة العظيمة  قراءة في حياة السيِّدة زينب  بنت علي عليهما السلام

المرأة العظيمة قراءة في حياة السيِّدة زينب بنت علي عليهما السلام

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وتثبّتْ السيّدة زينب في خطابها قضيّة تداولتْ، نقلها بعضُ المصادر مِن أنّ السماء أمطرتْ دماً يوم متقل الحسين، وحينما تقول ذلك السيّدة زينب يصبح إخباراً حقيقيّاً صادقاً، وهي بذلك تذكّر مَن قد يكون غافلاً عن الربط بين القضيّتين أي قتل الحسين، وإمطار السماء دماً، كما تخلّد هذا الحادث للتاريخ والأجيال.

* رابعاً: منزلة الحسين ومقامه:

لا بدّ وأنّ الإعلام الأموي سيسعى جاهداً للتقليل من شأن الحسين والافتراء على شخصيّته، كما حصل لأبيه الإمام علي؛ لذلك ركّزتْ السيّدة زينب في خطابها على التأكيد على منزلة الحسين ومقامه فهو: (سليل خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيّد شاب أهل الجنّة ).

خامساً: الإنذار بالانتقام:

فعدالة الله تعالى تأبى أنْ تمر تلك الجريمة النكراء دون عقاب يتناسب مع خطورتها، لكنّ العقاب قد لا يأتي فوريّاً (فلا يستخفِّنَّكم المهل، فإنّه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر، وإنّ ربّكم لبالمرصاد ).

وكان الانتقام الإلهي من قَتَلَةِ الحسين ومن المجتمع المتواطئ معهم شديداً وقويّاً، حيث لم يعرف ذلك المجتمع بعدها أَمْناً ولا استقراراً.

٢٢١

٢٢٢

في مواجهة ابن زياد

إمعاناً منه إذلال سبايا أهل البيت، استجابةً لأحقاده الكامنة ضدّ آل الرسول، ولاستعراض القوّة، وتمكين الرعب في قلوب الناس.. فقد عقد في قصره ومجلس حكمه مهرجاناً ضخماً أحضر فيه رجالات جيشه وقادة عسكره وزعماء الكوفة الملتفّين حوله، وأمر بإحضار رأس الحسين بين يديه، وإدخال السبايا عليه.

وجلس ابن زياد على أريكة حكمه الجائر، منتشياً بانتصاره الزائف، وبيده عصاة يعبث بها في رأس الحسين، وينكث بين شفتَيه.

فلمّا رآه (زيد بن أرقم) لا ينجم عن نكته بالقضيب،قال له : اعل بهذا القضيب عن هاتَين الثنيّتين، فوالذي لا آله غيره، لقد رأيتُ شفتَي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على هاتَين الشفتَين يقبّلهما! ثمّ انفضخ الشيخ يبكي.

فقال له ابن زياد : أبكى الله عينيك، فوالله لولا أنّك شيخ قد خرفتْ وذهب عقلك لضربتُ عنقك!

قال : فنهض فخرج، فلمّا خرج سمعتُ الناس يقولون: والله لقد قال

٢٢٣

زيد بن أرقم قولاً لو سمعه ابنُ زياد لقتله!

قال :فقلتُ : ما قال؟

قالوا : مرّ بنا وهو يقول: (ملك عبد عبدا، فاتّخذهم تلدا، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتُم بالذل، فبُعداً لِمَنْ رضي بالذل)(٢٠) .

وأُدخِلَتْ السبايا عليه، وكنّ في حالة يُرثى لها من الإرهاق والعناء والألم، وكانت في الطليعة زينب وهي تلبس أرذل الثياب، وقد تنكّرتْ وانحازتْ إلى ناحية من المجلس، تحفّ بها النساء المسبيّات.

وابن زياد يعلم مكانة السيّدة زينب في البيت العلوي؛ لذلك أراد أنْ يصوّب إليها بسهام الشماتة، وأنْ يتلذّذ بإذلالها في مجلسه وأمام الملأ.

فالتفتَ نحوها قائلاً: من هذه الجالسة؟

فلم تكلّمه، استهانةً به، واحتقاراً لشأنه.

وأعاد السؤال مرّة ثانية وثالثة دون أنْ يظفر منها بجواب، إلاّ أنّ إحدى السيّدات المسبيّات انبرتْ إليه مجيبة: هذه زينب ابنة فاطمة بنت رسول الله.

وانفعل ابن زياد - مع ترفّع السيّدة زينب عن إجابته - واندفع يخاطبها غاضباً متشمّتاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم!!

ومع أنّ السيّدة زينب كانت تحبّذ التسامي والتعالي على حقارة ابن زياد، وأنْ لا تَدخل معه في حديث استهانةً به.. إلاّ أنّ الموقف كان يتطلّب من السيّدة زينب ممارسة دورها الرسالي في الدفاع عن ثورة أخيها الحسين، وتأكيد موقعيّة أهل بيتها العظيمة في الأمّة، وتمزيق هالة السلطة والقوّة التي أحاط بها ابن زياد

____________________

(٢٠) تاريخ الأمم والملوك: الطبري: ج ٦، ص ٢٦٢.

٢٢٤

نفسه؛ لذلك بادرتْ إلى الرد عليه قائلة: (الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمّد، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يُفْتَضَحُ الفاسق ويُكذَّب الفاجر، وهو غيرنا يا ابن مرجانة ).

وما كان ابن زياد يتوقّع هذا الرد الشجاع القوي من امرأة تعيش أفظع مأساة وأسوأ حال، فأراد أنْ يلفتها إلى مأساتها ومصيبتها حتّى تفقد جرأتها وتنهار معنويّاتها، فقال لها متشفياً:فكيف رأيتِ صنع الله بأهل بيتك؟

لكنّ العقيلة أفشلتْ محاولته، وانطلقتْ تجيبه بكلّ بسالة وصمود: (ما رأيتُ إلاّ جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القَتْل، فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجّ وتُخاصَم، فانظر لِمَنْ الفَلَج يومئذ، ثكلتك أُمّك يا ابن مرجانه!! ).

إنّه لموقف إيماني بطولي عظيم، يندر أنْ يحتفظ تاريخ البشريّة بمثيل له، لقد تجاوزت السيّدة زينب بإرادتها وبصيرتها النافذة كلّ ما أحاط بها من الآم المأساة، ومظاهر قوّة العدو الظالم، ولم تبالِ بجبروته وعساكره، بل جابهتْه بالتحدّي وجهاً لوجه أمام أعوانه وجمهوره، معلنةً أنّها لا يساورها أي شعور بالهزيمة والهوان، فما حدث لأسرتها شيء جميل بمنطق الرسالة التي يحملونها، والمسألة لا تعدو أنْ تكون استجابة لأمر الله تعالى الذي فرض الجهاد ضدّ الظلم والعدوان، وهي واثقة أنّ المعركة بدأتْ ولم تَنْتَهِ، ونهايتها الحاسمة يوم القيامة بين يدي الله، وهناك سيكون النصر الحقيقي حليفاً لها ولأسرتها الكريمة.

ثمّ تختم كلامها بالدعاء بالهلاك للطاغية المتجبّر أمامها مخاطبة له: (ثكلتك أمّك يابن مرجانة ).

وكان ردّها عليه قاسياً شديداً أسقط هيبته الزائفة في أعين الحاضرين جميعاً، بل حطّم كبرياءه وغروره، واستبدّ به الغضب متوعّداً السيّدة زينب بالعقوبة والتنكيل.. فتدارك الموقف عمرو بن حريث ليخفّف من غلواء غضب ابن زياد

٢٢٥

قائلاً: أصلح الله الأمير إنّما هي امرأة ! وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها؟ إنّها لا تؤاخَذ بقولٍ ولا تُلام على خطل!

فتراجع ابن زياد عن تهديده بالعقوبة والتنكيل الجسدي مستبدلاً به العقاب النفسي حيث توجّه إلى السيّدة زينب ليلذع قلبها بعبارات الشماتة والتشفّي قائلاً:

(لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك، فأثار بهذا الكلام شجون السيّدة زينب، وأشعل الحزن والألم في قلبها، ولعلّها أرادتْ حينئذٍ استخدام سلاح العاطفة وإعلان المظلوميّة، فأجابتْه بلوعة وأسى:

(لعمري لقد قتلتَ كهلي، وأبدتَ أهلي، وقطعتَ فرعي، واجتثثتَ أصلي، فإنْ يُشْفِكْ َهذا فقد أشتفيتَ).

وشعر ابن زياد بالضعف والصغار أمام منطق العقيلة زينب فغيّر دفّة الحديث قائلاً: هذه سجّاعة، لعمري لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً.

فردّته السيّدة زينب بقولها: (إنّ لي عن السجاعة لشغلاً، ما للمرأة والسجاعة)(٢١) .

ونقل السيّد المقرّم عن (الكامل في التاريخ للمبرّد، ج ٣، ص ١٤٥، طبع سنة: ١٣٤٧ ه- ) قوله: لقد أفصحتْ زينب بنت علي وهي أسن من حمل إلى ابن زياد، وأبلغتْ، وأخذتْ من الحجّة حاجتها.

فقال ابن زياد لها: إنْ تكوني بلغتِ من الحجّة حاجتكِ فقد كان أبوك خطيباً شاعراً.

فقالت: ما للنساء والشعر!

____________________

(٢١) تاريخ الأمم والملوك: الطبري: ج ٦، ص ٢٦٢ - ٢٦٣. و الكامل في التاريخ: ابن الأثير: ج ٤، ص ٨١ و حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٤٣.

٢٢٦

وكان ابن زياد ألكناً يرتضخ الفارسيّة(٢٢) .

* تأثير زينب والسبايا في الكوفة:

كان هدف السلطة الأمويّة من التشهير بسبايا أهل البيت إرعاب الناس حتّى لا يفكّر أحدٌ في معارضة السلطة أوّلاً، وتعبئة الجمهور ضدّ الإمام الحسين وثورته ثانياً، بإظهاره خارجيّاً متمرّداً قد شقّ عصا المسلمين طمعاً في السلطة والحكم.

لكنّ وجود العارفين بفضل أهل البيت في الأمّة، والحالة المأساويّة للسبايا والتي كانت تثير مشاعر التعاطف معهم، والدور الرسالي الذي قامتْ به السيّدة زينب في الإعلام الصادق للثورة الحسينيّة، وكذلك الإمام زين العابدين وبعض نساء العائلة الحسينيّة كأُمّ كلثوم وفاطمة بنت الحسين.. كلّ ذلك أفشل مخطّط السلطة، بل وجعل آثاره ونتائجه معكوسة، حيث تأجّجتْ روح الثورة والرفض في أوساط الجماهير المسلمة ضدّ السلطة، وتعاطف الناس مع أهل البيتعليهم‌السلام .

* ففي الكوفة ينقل لنا التاريخ بعض الأحداث والمشاهد الرافضة لسياسات السلطة الأمويّة والمتعاطفة مع أهل البيت على إثر دخول السبايا:

- وقد تحدّث راوي خطاب السيّدة زينب عن تأثير خطابها على الناس كما سبق.

- وحينما خطبتْ السيّدة فاطمة بنت الحسين على صغر سنّها فقد أثار خطابها مشاعر الناس، فارتفعتْ الأصوات بالبكاء والنحيب وقالوا: (حسبك يا ابنة الطاهرين فقد حرقت قلوبنا وأنضجت نحورنا وأضرمت أجوافنا )(٢٣) .

- وعلى أثر خطاب السيّدة أُمّ كلثوم أيضاً: (ضجّ الناس بالبكاء ونشرن الشعور،

____________________

(٢٢) مقتل الحسين: المقرّم : ص ٣٢٥.

(٢٣) المصدر السابق: ص ٣١٥.

٢٢٧

وخمشن الوجوه، ولطمْنَ الخدود، ودعوْنَ بالويل والثبور، ولم يُرَ أكثر باكٍ ولا باكية من ذلك اليوم)(٢٤) .

- ولمّا سمع الناس خطاب الإمام علي بن الحسين قالوا بأجمعهم:

(نحن يا ابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنّا حرب لحربك، وسلم لسلمك، نبرأ ممّن ظلمك وظلمنا )(٢٥) .

- وزيد بن أرقم وهو صحابي معروف أعلن احتجاجه واعتراضه على ابن زياد لمّا رأى عبثه برأس الحسينعليه‌السلام كما سبق.

- وكان في مجلس ابن زياد رجل من بكر بن وائل يُقال له (جابر )، آلمه ما حصل لأهل البيت وأذهلتْه التصرّفات الطائشة لابن زياد، فانتفض معلناًً معارضته، وهو يقول مخاطباً ابن زياد: (لله عليّ أنْ لا أصيب عشرة من المسلمين خرجوا عليك إلاّ خرجتُ معهم ) (٢٦) .

- من أهمّ مواقف الرفض والمعارضة التي برزتْ في الكوفة ذلك اليوم، انتفاضة (عبد الله بن عفيف الأزدي الغامدي )، وكان ضريراً ذهبتْ إحدى عينيه يوم الجمل، والأخرى بصفّين مع الإمام أمير المؤمنين، وكان لا يفارق المسجد يتعبّد فيه.

وعند دخول السبايا إلى الكوفة اعتلى عبيد الله بن زياد منبر مسجد الكوفة؛ ليعلن فرحته وانتصاره بمقتل الحسين قائلاً: (الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد وحزبه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب ) الحسين بن علي وشيعته!

____________________

(٢٤) المصدر السابق: ص ٣١٦.

(٢٥) المصدر السابق: ص ٣١٧.

(٢٦) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٤٣، نقلاً عن مرآة الزمان في تواريخ الأعيان: ص ٩٨.

٢٢٨

وحينما طرقتْ هذه الكلمات الفاجرة مسامع عبد الله بن عفيف، انفتل من عبادته وصاح بابن زياد من وسط المسجد غاضباً:

(ياابن مرجانة الكذّاب ابن الكذّاب أنت وأبوك، والذي ولاّك وأبوه، ياابن مرجانة، أتقتلون أولاد النبيّين، وتتكلّمون بكلام الصدّيقين؟! )

وطاش لب الطاغية، فقد كانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأسه فصاح بأعلى صوته: مَن هذا المتكلّم؟

فأجابه ابن عفيف بكل شجاعة وبسالة:

أنا المتكلم يا عدوّ الله، أتقتلون الذرِّيَّة الطاهرة التي أذهب الله عنهم الرجس، وتزعم أنّك على دين الإسلام؟ واغوثاه أين أولاد المهاجرين والأنصار؟ لينتقموا من طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمّد رسول ربّ العالمين.

فصاح ابن زياد وقد امتلأ غضباً:عليّ به .

فبادرت الجلاوزة لإلقاء القبض عليه، فنادى بشعار أسرته (يا مبرور)، وكان في المجلس سبعمائة رجل من الأزد، وثبوا إليه وأنقذوه من أيدي الجلاوزة، ثمّ حصلتْ مناوشات بين جنود ابن زياد وأسرة عبد الله بن عفيف انتهتْ بإلقاء القبض عليه، وأمر ابن زياد بقتله وصلبه(٢٧) .

- وأشار الطبري إلى مواقف مشابهة لموقف ابن عفيف، قال: وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي، ثمّ الغامدي، ثمّ أحد بني والبة(٢٨) .

- وحتّى عائلة ابن زياد وأسرته ظهرتْ في أوساطهم أصوات ومواقف رافضة لقتل أهل البيت، حيث ينقل عن أُمّ عبيد الله بن زياد وهي مرجانة أنّها سخطتْ عليه ووبّختْه قائلة:

____________________

(٢٧) تاريخ الأمم والملوك: الطبري: ج ٦، ص ٢٦٣. حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٤٨.

(٢٨) تاريخ الأمم والملوك: الطبري: ج ٦، ص ٢٦٣.

٢٢٩

يا خبيث قتلتَ ابن رسول الله لا رأيتَ وجه الله أبداً (٢٩) .

- وأخوه عثمان بن زياد أيضاً أعلن رفضه وإنكاره لِمَا حصل، وخاطب أخاه عبيد الله بن زياد معنّفاً:والله لوددت أنّه ليس من بني زياد إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأنّ الحسين لم يقتل (٣٠) .

____________________

(٢٩) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٥٨، نقلاً عن عدّة مصادر.

(٣٠) تاريخ الأمم والملوك: الطبري: ج ٦، ص ٢٦٨.

٢٣٠

في مجلس يزيد

وكان موقف السيّدة زينب في مجلس يزيد بن معاوية من أروع مواقف الدفاع عن الحقّ، وتحدّي جبروت الطغيان والظلم.

فيزيد بن معاوية كان أمامها متربّعاً على كرسيّ ملكه، وفي أوج قوّته، وزَهْو انتصاره، تحفُّ به قياداتُ جيشه، ورجالات حكمه، وزعماء الشام، وتشير الروايات التاريخيّة إلى حضور بعض الدبلوماسيّين الأجانب كرسول قيصر ملك الروم، وبالتالي فقد كان يزيد حريصاً على التمتّع بكامل هيبته، والظهور بأعلى درجات القوّة والسيطرة.

وتعرف السيّدة زينب فظاظة يزيد وغلظته، وتهوّره في القمع والإرهاب، وإنّ أي استفزاز له يمكن أنْ يدفعه إلى أسوأ الإجراءات فليس له رادع من دين أو عقل.

كما أنّ أجواء المجلس كانت مهيّأة ومعدّة ليكون الاجتماع مهرجاناً للاحتفال بانتصار الحاكم على ثورة أهل البيت.

من ناحية أخرى فقد كانت السيّدة زينب في ظروف بالغة القسوة والشدّة، جسديّاً ونفسيّاً، فهي لا تزال تعيش تحت وطأة الفاجعة وتأثيرها الهائل على

٢٣١

أحاسيسها ومشاعرها، ولأجواء الشماتة والإذلال - التي استقبلتْها في الشام - وقع كبير على نفسها، ومجرّد حضورها سبيّة أسيرة في مجلس عدو ظالم حاقد قد ارتضع وتوارث عداء أسرتها منذ عهود وعقود، وهي مَن هي في خدرها وصونها وعزّها، إنّ ذلك وحده كفيل بتحطيم المعنويّات وهزيمة الروح.

وجسديّاً فإنّ السفر كان مرهقاً وشاقّاً، حيث كان السير حثيثاً تنفيذاً لرغبة السلطة في الوصول بأسرع وقت إلى الشام، ومراكب السفر وهي الجِمَال لم تتوفّر لها أدنى وسائل الراحة التي اعتادها المسافرون في ذلك الزمن.

والمرافقون العسكريّون لقافلة السبايا كانوا جفاة صلفين في تعاملهم مع النساء والأطفال، ك-: (زجر بن قيس، وشمر بن ذي الجوشن )، حيث يقذفون السبايا بالشتم والسب ويضربونهم بالسياط لأدنى مناسبة.

وعامل الجوع والعطش كان له دور في إنهاك السيّدة زينب وإرهاقها، حيث كان الجنود يقتّرون على السبايا في الطعام والشراب، ممّا يدفع السيّدة زينب للتنازل عن حصّتها لسدّ جوع وعطش الأطفال، متحمّلةً مضاضة الجوع والعطش.

ويصف الأستاذ عبد الباسط الفاخوري حالة قافلة السبايا إلى الشام بقوله:

(ثمّ إنّ عبيد الله جهّز الرأس الشريف وعلي بن الحسين ومَن معه مِن حَرَمِهِ بحالة تقشعرّ منها ومِن ذكرها الأبدان، وترتعد منها مفاصل الإنسان بل فرائص الحيوان) (٣١) .

إضافةً إلى كلّ ذلك فقد أحيط دخول السبايا إلى الشام وحضورهم في مجلس يزيد بإجراءات بالغة الصعوبة قصد منها إيقاع أكبر قدر من الإذلال والهوان بنفوس السبايا.

وقبل إدخالهم على يزيد أوقفوهم فترة على درج باب المسجد، حيث مكان إيقاف سبي الكفّار، ثمّ أتوا إليهم بحبل أوثقوهم به كتافاً وقد كانت بداية الحبل في عنق

____________________

(٣١) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٦٧.

٢٣٢

علي بن الحسين ونهايته في عنق السيّدة زينب، كما تربق الأغنام، وساقوهم بإذلال، وكلّما قصّروا عن المشي ضربوهم بالسياط، والسبايا يكبّرون ويهلّلون، حتّى أوقفوهم بين يدي يزيد في مجلسه وهو متربّع على سريره، فالتفتَ إليه علي بن الحسين قائلاً: (ما ظنّك بجدّنا رسول الله لو يرانا على مثل هذه الحالة؟).

فتأثّر يزيد ولم يبقَ أحد في مجلسه إلاّ وبكى، وأمر يزيد بالحبال فقُطّعتْ(٣٢) .

ودعا يزيد برأس الحسين ووضعه أمامه في طست من ذهب(٣٣) ومع يزيد قضيب فهوى ينكت به في ثغره، ثمّ قال: إنّ هذا وإيّانا كما قال الحصين بن الحمام المرى:

يفلقنَ هاماً من رجال أحبّة

إلينا وهم كانوا أعقّ وأظلما

فقام رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقال له (أبو برزة الأسلمي ) فقال: أتنكتَ بقضيبك في ثغر الحسين؟ أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربّما رأيتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرشفه! أَمَا أنّك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله شفيعه، ثمّ قام فولّى(٣٤) .

وتمادى يزيد في إظهار شماتته وفرحه، وصرّح بما في مكنون نفسه مِن أنّه ينتقم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومِن أهل بيته، حيث صار يتمثّل بأبيات شعر لعبد الله بن الزبعرى جاء فيها:

لَيتَ أَشياخي بِبَدرٍ شَهِدوا

جَزَعَ الحزرجِ مِن وَقعَ الأَسَل

____________________

(٣٢) مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣٥٠. حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٧٦.

(٣٣) مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣٥٤.

(٣٤) تاريخ الأمم والملوك: الطبري: ج ٦ ص ٢٦٧.

٢٣٣

لأهلّوا واستهلّوا فَرَحَاً

ثُمّ قالوا يَا يَزيد لا تُشَل

قَد قَتَلْنَا القرن مِن ساداتِهم

وعَدَلْنَاه بِبَدْرٍ فَاعْتَدَل

لَعِبَتْ هَاشِمُ بالمُلْكِ فَلا

خَبَرٌ جَاءَ وَلا وَحْيٌ نَزَل

لَسْتُ مِن خَندف إنْ لَمْ أَنْتَقِم

مِن بَنِي أحمد مَا كَانَ فعل

وسمعتْ العقلية زينب ترنّم يزيد بهذه الأبيات، التي يعلن فيها كفره بالرسالة والوحي، وإنّ دافعه إلى قتل أهل البيت هو الانتقام وأخْذ ثأر قتلى المشركين في بدر، ورأتْه كذلك يعبث برأس أخيها الحسين.. هنا قرّرتْ السيّدة زينب أنْ تتحمّل مسؤليّتها في مواجهة هذا الكفر الصريح، وأنْ تمارس دورها الرسالي في إعلان الحق، فتفجّر بركان إرادتها الإيمانيّة، ووقفتْ خطيبةً قائلةً:

(الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول: ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) (٣٥) .

أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تُساق الأُسارى، أنّ بنا على الله هواناً، وبك عليه كرامة؟

وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟ فشمختَ بأنفك، ونظرتَ في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيتَ الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفالك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً، لا تطش جهلاً، أنسيتَ قول الله تعالى: ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (٣٦) .

____________________

(٣٥) سورة الروم: آية: ١٠.

(٣٦) سورة آل عمران: آية: ١٧٨.

٢٣٤

أَمِنَ العَدْلِ يَابْنَ الطُلَقَاء تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا! قد هتكتَ ستورهنّ، وأبديتَ وجوههنّ، تحدو بهنّ مِن بلدٍ إلى بلدٍ، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمعاقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهنّ مِن حماتهنّ حَمِي، ولا مِن رجالهنّ وَلِي؟

وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟

وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأظغان؟

ثمّ تقول غير مستأثم ولا مستعظم:

لأهلّوا وأستهلّوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشل

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنّة، تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك؟ وقد نكأت القرحة، واستأصلتَ الشأفة، بإراقتك دماء ذرِّيَّة محمّد، ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب.

وتهتف بأشياخك، زعمتَ أنّك تناديهم، فلتردن وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شللتَ وبكمتَ، ولم تكن قلتَ ما قلتَ وفعلتَ.

اللهمّ خُذ لنا بحقّنا، وانتقم مِمَّن ظلمنا، واحْلُل غضبك بِمَنْ سفك دماءنا وقَتَلَ حماتنا.

فوالله ما فريتَ إلاّ جلدك، ولا حززتَ إلاّ لحمك، ولتردن على رسول الله بما تحمّلتَ من سفك دماء ذرِّيَّته، وانتهكتَ من حرمته في ذرِّيَّته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقّهم:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (٣٧) .

____________________

(٣٧) سورة آل عمران: آية: ١٦٩.

٢٣٥

وحسبك بالله حاكماً، وبمحمّد خصيماً وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم مَن سوّل لك، ومكّنك من رقاب المسلمين ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) (٣٨) أيّكم ( شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ) (٣٩) ؟

ولئن جرتْ عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون عبرى، والصدور حَرّى! ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء!! فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي، تنتابها العواسل، وتعفّرها أمّهات الفراعل!! ولئنْ اتخذْتَنَا مغنماً، لتجدنّا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلاّ ما قدّمتْ يداك، وما ربّك بظلاّم للعبيد، والى الله المشتكى وعليه المعوّل.

فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وَحْيَنا، ولا يرحض عنك عارها.

وهل رَأْيُكَ إلاّ فَنَد؟ وأيّامك إلا عدد؟ وجمعك إلا بدد؟ يوم ينادي المنادي: أَلاَ لعنة الله على الظالمين.

والحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة، والرحمة ونسأل الله أنْ يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل)(٤٠) .

____________________

(٣٨) سورة الكهف: آية: ٥٠.

(٣٩) سورة مريم: آية: ٧٥.

(٤٠) بحار الأنوار: المجلسي: ج٤٥، ص١٣٥.

٢٣٦

تأمّلات في الخطاب

إنّ خطاب السيّدة زينبعليها‌السلام في مجلس يزيد يعتبر وثيقة فكريّة سياسيّة تسلّط الأضواء على خلفيّات المعركة بين أهل البيت والأمويّين، كما تناقش بعض التفاصيل والقضايا الهامّة في تلك المعركة، وتقدّم استشرافاً وتصوّراً مستقبليّاً لآثار المعركة ونتائجها.

* ونشير فيما يلي إلى أبرز وأهم آفاق هذا الخطاب الرائع العظيم:

* أوّلاً المعركة في منظار القِيَم والمبادئ:

فالأمويّون وإنْ كانوا يتظاهرون بالإسلام، ويحكمون باسمه، إلاّ أنّهم يتعاملون مع الحياة، وينظرون للأمور حسب المعادلات المادِّيَّة، وضمن دائرة المصالح الدنيويّة العاجلة، بعيداً عن القِيَم والمبادئ.

ويريدون لجمهور الأمّة أنْ ينظر إلى واقعة كربلاء من منظارهم المادِّي الجاهلي، حيث يصرّح يزيد بأنّه قد قام بأخذ ثارات بدر ومعارك الإسلام الأولى ضدّ أسلافه المشركين، والمسألة في نظر الأمويّين لا تعدو أنْ تكون دفاعاً عن عرش السلطة وكرسي الحكم، وهو أمر مشروع بالعقليّة المصلحيّة.

ويرى الأمويّون أنّ القوّة التي بأيديهم، والانتصارات التي أحرزوها، تكفي

٢٣٧

دليلاً على أحقِّيَّتهم وشرعيَّتهم كواقع يفرض نفسه.

وفي مواجهة هذا المنطق الأموي المادّي الانتهازي كانت السيّدة زينب في خطابها تؤكّد على الرجوع إلى القِيَم والمبادئ الدينيّة والاحتكام إليها في تقويم الواقع وتفسير أحداثه، فلا بدّ من محاكمة ما يجري على ضوء كتاب الله، والنظر إلى المعركة من خلال الرؤية الدينيّة التي يريد الأمويّون تغييبها وإلغاءها في واقع حياة المسلمين.

لذلك تُذَكِّر يزيد بن معاوية بأنْ لا ينظر إلى نفسه من خلال ما يملك من قوّة وسلطة:(أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء) . فليس في ذلك دلالة على الأحقِّيّة والمشروعيّة والرضا الإلهي، فقد يفسح الله المجال واسعاً أمام الكافرين لتتضاعف قوّتهم وإمكانيّاتهم دون أنْ يعني ذلك أحقِّيَّتهم أو رضا الله عنهم، بل يكون ذلك سبباً لزيادة انحطاطهم وعذابهم عند الله.

والحسين وأهل بيته ليسوا مهزومين مغلوبين قد خسروا الحياة وابتلعهم الموت، بل هم وِفق مقياس المبادئ الإلهيّة شهداء خالدون وأحياء عند ربهم؛ لأنّهم قُتلوا في سبيل الله.

وإذا كانت المآسي قد حلّتْ بأهل البيت فإنّهم يحتسبونها عند الله، حيث لم تحدث لهم في سياق صراع دنيوي مصلحي؛ وإنّما لأنّهم يحملون رسالة الله ويدافعون عن دينه، وحسب المبادئ والقِيَم فهناك عدالة إلهيّة، وهناك دار أخرى تكون فيها النتائج الحاسمة: (وحسبك بالله حاكماً وبمحمّد خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً ولتردن على رسول الله).

والصراع بين أهل البيت والأمويّين في نظر السيّدة زينب ليس صراعاً قبليّاً على الزعامة، بل هو مظهر وامتداد للصراع الأبدي الدائم بين الخير والشر، بين حزب الله وحزب الشيطان.

٢٣٨

* ثانياً: إدانة الجرائم الأمويّة:

ففي مجلس يزيد وأمامه وبحضور أتباعه ومؤيِّديه، أعلنتْ السيّدة زينب الإدانة والاستنكار لِمَا ارتكبه من جرائم بحقّ أهل البيت، وأوضحتْ مظلوميّة أهل البيت وعمق مأساتهم ب-:

- قتل رجالات أهل البيت.

- وسَوْق نسائهم سبايا بتلك الحالة المفجعة.

- وترك جثث أهل البيت دون مواراة.

كما توبّخه بشدّة على أقواله التي تنضح كفراً وتشكيكاً في الدين، وتعنّفه على ما فعله برأس أخيها الحسين.

ومَن يعرف مدى غرور يزيد وتجبّره يدرك وقْع هذا التوبيخ والإدانة على نفسه.

يقول المرحوم الأستاذ توفيق الفكيكي : وكان الوثوب على أنياب الأفاعي، وركوب أطراف الرماح، أهون على يزيد من سماع هذا الأحتجاج الصارخ(٤١) .

* ثالثاً: الجذور العائليّة الفاسدة:

فسياسات يزيد المنحرفة، ومواقفه الفاسدة، لم تنطلق من فراغ، وإنّما هي امتداد واستمرار لسلوكيّات أسلافه المشركين والمنافقين؛ لذلك تذكّره السيّدة زينب بجدّته (هند ) أمّ معاوية وزوج أبي سفيان، والتي قادتْ حملة التأليب والتحريض على قتال رسول الله والمسلمين، وأغرتْ (وحشي ) بقتل (الحمزة بن عبد المطّلب ) عمّ رسول الله، ثمّ مثّلتْ بجسمه وانتزعتْ كبده وحاولتْ مضغها بأسنانها؛ إظهاراً لحقدها البشع، وبغضها المتوحّش لرسول الله وذويه، ويزيد في اعتداءاته الأليمة على أهل البيت لم يأت بشيء غريب، وإنّما هو شر خلف لشر سلف، تقول عليها‌السلام : (وكيف يُرتجى مراقبة مَن لَفَظَ فوه أكبادَ الأزكياء ).

وتتوعّده السيّدة زينب بأنّ مصيره هو مصير أسلافه (عتبة، وشيبة، والوليد ) وأنّه

____________________

(٤١) حياة الإمام الحسين: القرشي: ج ٣، ص ٣٧٨ - ٣٨٠. مقتل الحسين: المقرّم: ص ٣٥٧ - ٣٥٩.

٢٣٩

لاحق بهم في نار جهنّم: (وتهتف بأشياخك زعمتَ أنّك تناديهم فلتردن وشيكاً موردهم ).

* رابعاً: الإشادة بأهل البيت:

في مجتمع تربّى على بغض أهل البيت، وفي أجواء معبّأة ضدّ الأسرة العلويّة، ووسط مجلس انعقد للشماتة بمقتل الحسين، تقف السيّدة زينب صادحة بالحقّ، مُشِيْدَة بفضائل أسرتها الكريمة.

فهي تخاطب يزيد معلنةً للأمّة أنّ هذه الدولة والكيان الإسلامي إنّما أشادته سيوف بني هاشم، وتضحيات آل الرسول بالدرجة الأولى: (وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ). فأهل البيت هم القادة الحقيقيّون لهذه الأمّة وهم الأَوْلَى بالسلطة والحكم.

ولأهل البيت فضل عظيم على يزيد بالذات، فأبوه وجده وأسرته هم طلقاء عفو رسول الله عند فتح مكّة؛ لذلك تخاطبه العقيلة: (أَمِنَ العدل يا ابن الطلقاء ).

أَمَّا شهداء كربلاء فتصفهم السيّدة زينب بأنّهم: (ذرِّيَّة محمّد ونجوم الأرض من آل عبد المطّلب) وتذكر أخاها الحسين باعتباره: (سيّد شباب أهل الجنّة).

وتعتزّ السيّدة زينب بفضل أسرتها وأمجادها العظيمة قائلة: (والحمد لله ربّ العالمين الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ).

* خامساً: المستقبل لمن؟

يتبختر يزيد بانتصاره على أهل البيت، ويظن أنّه كسب المعركة لصالحه، ووسائل أعلامه تكرّر وتجترِ هذا الوهم على مسامع الناس، لكنّ العقيلة زينب تنسف أوهامه، وتسفّه أحلامه، وتقرّر أمام مجلسه الحاشد أنّه قد تلطّخ بأوحال الهزيمة، وسقط في حضيض الهوان، وإنْ تظاهر بالنصر وتراءى له الظفر.

إنّها تتحدّى يزيد في أنْ يتمكّن من تحقيق هدفه بطمس خطّ أهل البيت، مهما جَنَّدَ مِن قواه واستخدم من قدراته: (فَكدْ كَيْدَكَ واسْعَ سَعْيَكَ، وَنَاصِبْ

٢٤٠