السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)0%

السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مؤلف:
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 178

  • البداية
  • السابق
  • 178 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 18932 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الاستئصال، ما دام فيهم أهل البيت، فهُم الشموع المُنيرة في الظُلمات، والحصون التي يركن إليها في المُلمّات، يُجيرون كلّ مَن لاذ بحماهم، ويكرمون كلّ مَن نزل بساحتهم، وقد جاء في تفسير القرطبي، عن ابن عباس أنّه قال: (لم يعذّب أهل قرية حتى يُخرجوا النبي صلّى الله عليه وسلّم منها والمؤمنون، ويلحقوا بحيث أمروا)، فإذا كان وجود المؤمنين بقرية ما سبب رحمة لها، فكيف بوجود أهل البيت، وهُم من خاصّة المؤمنين وخيارهم، وأقربهم إلى الله ورسوله، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم، فيما يروي الطبراني وأبو يعلى من حديث سلمة بن الأكوع:(النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأُمتي) .

هذا وقد أجمع المسلمون على أنّ الإمامين الحسن والحسين أبناء السيدة فاطمة من الإمام علي، وذريتهما رضي الله عنهم أجمعين إنّما هُم - كما يقول ابن قيم الجوزية في جلاء الأفهام - ذرية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، المطلوب لهم من الله الصلاة؛ وذلك لأنّ أحداً من بناته لم يعقب غيرها، فمَن انتسب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أولاد بناته إنّما هُم من أولاد السيدة فاطمة الزهراء، وهكذا أكرم الله تعالى الزهراء عليها السلام، بأن حفظ ذريّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم في ذرّيتها، وأبقى عقبه في عقبها، فهي وحدها - دون بناته وبنيه - أُمّ السلالة الطاهرة، والعترة الخيرة، والصفوة المختارة من عباد الله من أُمته صلّى الله عليه وسلّم؛ ذلك لأنّ أبناء النبي الذكور ماتوا جميعاً وهُم أطفال لم يشبّوا عن الطوق، ولم يبلغوا الحُلم بعد.

وأمّا بناته صلّى الله عليه وسلّم، فلم يتركن وراءهن أطفالاً، ما عدا السيدة زينب، رضي الله عنها، التي لم تنجب سوى علي الذي مات صغيراً وأُمامة التي تزوجها الإمام علي بعد الزهراء، بوصيّة منها، ولكنّها لم تنجب له أولاداً، ولم يبقَ من بناته الطاهرات غير الزهراء البتول، قد أنجبت من الإمام علي الحسن والحسين (ومحسن الذي مات صغيراً) وأُم كلثوم وزينب الكبرى، الشهيرة بعقيلة بني هاشم، رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن لسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَقب إلاّ من الزهراء، وأعظِم بها مفخرة، وهكذا كان من ذريّة الزهراء، من أبناء الحسن والحسين جميع السادة الأشراف، ذرية سيّدنا ومولانا وجدّنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

١٠١

وروى الطبراني والخطيب، عن ابن عباس، قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(لم يبعث الله نبيّاً قط، إلاّ جعل ذريّته من صُلبه، غيري، فإنّ الله جعل ذريتي من صُلب علي رضي‌الله‌عنه ) .

وروى الإمام أحمد والطبراني وأبو يعلى والمُحب الطبري أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه خَطب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أُم كلثوم، فاعتلّ عليّ بصغرها، فقال: إنّي لم أرد الباه، ولكنّي سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:(كل سَبَبٍ ونسبٍ منقطع يوم القيامة، ماخلا سببي ونسبي، وكلّ وِلد أب فإنّ عصبتهم لأبيهم، ما خلا وِلد فاطمة، فأنا أبوهم وعُصبتهم).

وأخرج الطبراني، عن عمر بن الخطاب، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم:(كلّ بني أُنثى فإنّ عصبتهم لأبيهم، ما خلا وِلد فاطمة، فإنّي عُصبتهم، وأنا أبوهم)، وعن فاطمة عليها السلام، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:(لكلّ بني أُنثى عصبة ينتمون إليه، إلاّ وِلد فاطمة، فأنا وليّهم وأنا عصبتهم) ، وروى الحاكم، عن جابر أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال:(لكلّ بني أُم عُصبة، إلاّ بني فاطمة، فأنا وليّهم وعصبتهم) .

وعن ابن عباس رضي الله عنه، قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(خُلق الناس من أشجار شتّى، وخُلقت أنا وعلي بن أبي طالب من شجرة واحدة، فما قولكم في شجرة أنا أصلها، وفاطمة فرعها، وعليّ لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها، وشيعتنا أوراقها؟ فمَن تعلّق بغصن من أغصانها ساقه إلى الجنّة، ومَن تركها هوى إلى النار).

وفي رواية:(أنا شجرة، وفاطمة فرعها، وعليّ لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها، وشيعتنا ورقها، فالشجرة أصلها في جنّة عدن، والأصل والفرع واللقاح والثمر والورق في الجنّة) . وهكذا كان نسلُ فاطمة وعلي نسلاً مُباركاً للنبي صلّى الله عليه وسلّم.

ثُمّ إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم إنّما كان يدعو الحسن والحسين ابنيه، فيقول صلّى الله عليه وسلّم في الحسن:(إنّ ابني هذا سيّد) .

وأخرج الترمذي، عن أنس بن مالك، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول لفاطمة:(ادعي ابنَيَّ، فيشمّهما ويضمّهما إليه). وروى الإمام أحمد والحاكم وأبو نعيم والطبراني، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:(حسين منّي وأنا مِن حُسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط)، هذا فضلاً عن أنّه لم

١٠٢

نزلت آية المباهلة (آل عمران 61)، دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم علياً وفاطمة والحسن والحسين وخرج للمباهلة.

وقد أشرنا من قبل إلى قصّة الفقيه (يحيى بن يعمر) مع الحجّاج الثقفي، كما جاءت عن الشعبي، وكما رواها الحاكم في المستدرك، عن عاصم بن بهدلة، وكيف أثبت يحيى للحجّاج من الآيتين الكريمتين 84، 85 من الأنعام أنّ الحسن والحسين من ذريّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن طريق أُمّهما فاطمة الزهراء، كما أنّ عيسى بن مريم من ذريّة إبراهيم عن طريق أُمّه مريم ابنة عمران، صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً.

١٠٣

١٠٤

القسم الثاني

السيّدة فاطمة الزهراء

قال النبي صلّى الله عليه وسلّم:(فاطمة سيّدة نساء أهل الجنة) (رواه البخاري)، وقال صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة:(أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنة - أونساء المؤمنين) . (رواه البخاري)، وقال صلّى الله عليه وسلّم:(فاطمة بضعة منّي، فمَن أغضبها فقد أغضبني) (رواه البخاري).

١٠٥

١٠٦

الفصلُ الأوّل: في رِحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم

1 - مولد الزهراء

رُزق النبي صلّى الله عليه وسلّم مِن زوجه الطاهرة خديجة رضي الله عنها في مكّة المكرمة بالزهراء في يوم الجمعة، العشرين من جمادى الآخرة، وقريش تبني الكعبة، وذلك قبل البعثة بخمس سنين، فيما يرى كبار كتّاب السِيرة من أمثال ابن إسحاق وابن هشام والطبري، وهي أصغر بنات النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا كانت قريش قد أعادت بناء الكعبة حوالي عام 606 م، فهذا يعني أنّ الزهراء قد وُلدت عام 606 م (18 قبل الهجرة)، على أنّ هناك مَن يرى أنّها ولدت قبل البعثة بستّة أشهر، وهناك وجه آخر للنظر يذهب إلى أنّ الزهراء إنّما وُلدت على أيّام النبوّة، وليس قبلها، فلقد روى الحاكم في المستدرك وابن عبد البَرّ في الاستيعاب أنّها وُلدت سَنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي بعد البعثة بسنة، (عام 611 / 612 م)، بل إنّ الشيخ الطوسي إنّما يذهب في مصباح المُتهجّد إلى أنّها وُلدت بعد المبعث بسنتين، بل إنّ هناك رواية تُنسب إلى الإمام الباقر، تذهب إلى أنّ مولد الزهراء عليها السلام، إنّما كان في العام الخامس من بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم (عام 614 / 615 م).

وهكذا اختلف العلماء في مولد الزهراء، وبالتالي فقد اختلفوا في سِنّها يوم زُفّت إلى الإمام علي، وفي سِنّها يوم انتقلت إلى الرفيق الأعلى في الثالث من رمضان عام 11 هـ ‍(أُخريات عام 632 م)، على أنّ أكثر العلماء من أهل البيت يرون أنّه

١٠٧

وُلدت قبل البعثة بخمس سِنين، وقد رُويَ أنّ العباس دخل على عليّ وفاطمة رضي الله عنهم، وأحدهما يقول للآخر: (أيّنا أكبر؟) فقال العبّاس: وُلدتَ يا علي قبل بناء قريش البيت بسنوات، وولدتِ أنتِ يا فاطمة وقريش تبني البيت.

وهكذا كان مولد الزهراء عليها السلام، بشير سلام وأمن لقريش جميعاً؛ ذلك لأنّ مولدها إنّما وافق اجتماع قُريش لبناء الكعبة، ويحدّثنا التاريخ أنّ القوم كادوا يقتتلون على من يَحوز شَرَف إعادة الحَجر الأسود إلى مكانه، لولا حِكمة سيّد الأوّلين والآخرين، سيّدنا ومولانا وجدّنا محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك بأن وضع الحجر في ثوب، ثُمّ أمر بأنْ تأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب، ثُمّ رفعوه جميعاً، فلمّا بلغوا موضعه، وضعه بيده الشريفة ثُمّ بنى عليه.

وهكذا استبشر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمولد الزهراء، إذ اقترن مولدها بإقامة البيت الحرام وتجديده، دون أن تختصم قريش، ودون أن تتفرّق كلمتها، وإنّما جمع الله شملها على يد أبي الزهراء في أيّام مولد الزهراء.

هذا وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد بُشّر بمولدها قبل أن تولد، روى أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال لزوجه خديجة:(يا خديجة، هذا جبرئيل يُبشرني أنّها أُنثى، وأنّها النسمة الطاهرة الميمونة، وأنّ الله سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة من الأُمّة، ويجعلهم خُلفاء في أرضه) .

ووضعت خديجة فاطمة طاهرة مُطهّرة، فلمّا سقطت إلى الأرض أشرق منها نور حتى دخل بيوت مكّة، ولم يبقَ من شرق الأرض ولا غربها موضع إلاّ أشرق فيه ذلك النور، وما أن عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بولادتها حتّى سجدَ شُكراً لله تعالى، وقد أُلهم بأنّه سيكون منها سلالته وعترته؛ فكانت أحبّ وُلده إليه، وأقرّهم لعينه.

2 - أسماءُ الزهراء

حملت فاطمة الزهراء عليها السلام تسعة أسماء، هُن: فاطمة والصديقة والمُباركة والطاهرة والزكيّة والراضيّة والمرضيّة والمُحدّثة والزهراء، كما كان سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلقّبها بـ ‍(أُمّ أبيها) لحنانها عليه وحبّها الدائم.

وأمّا اسمها الأوّل (فاطمة)، فهو اسم لم يكن غريباً عند العرب، فقد كانت زوج أبي طالب وأُم الإمام

١٠٨

عليّ تُسمّى فاطمة، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يُناديها (يا أُمّاه)، وهناك فاطمة بنت حمزة سيّد الشهداء وأسد الله ورسوله، وهناك فاطمة بنت عتبة وغيرهن، غير أنّ اسم فاطمة للزهراء إنّما كان له معنى خاصّاً، روى المُحب الطبري في (ذخائر العُقبى في مناقب ذوي القربى)، فقال: أخرج الحافظ الدمشقي، عن الإمام علي كرّم الله وجهه في الجنّة، قال:(قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة: يا فاطمة، أتدرين لِمَ سُمّيتِ فاطمة؟) قال علي:(يا رسول الله لِمَ سُمّيت فاطمة؟) قال:(إنّ الله عزّ وجل قد فطمها وذريّتها من النار يوم القيامة)، وعن ابن عبّاس، قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(إنّ ابنتي فاطمة حوراء، إذ لم تحِض ولم تطمث، وإنّما سمّاها فاطمة؛ لأنّ الله عزّ وجل فطمها ومُحبّيها من النار) .

وأمّا لقب (الزهراء)؛ فلأنّها - كما يقول الأُستاذ أبو علم - بيضاء اللون. وروي عن الإمام جعفر الصادق، عن أبيه الإمام محمّد الباقر، عن أبيه الإمام علي زين العادين، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام - أي مولانا الإمام الحسين - عن فاطمة، لِمَ سُمّيت الزهراء؟ فقال:(لأنّها كانت إذا قامت في محرابها يزهر نورها لأهل السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض) .

وروي أنّها عليها السلام سُمّيت الزهراء:(لأنّ الله عزّ وجل خلقها من نور عظمته) ، وقيل: إنّها حين وضعتها السيدة خديجة رضي الله عنها حدث في السماء نورٌ زاهر لم ترَه الملائكة قبل ذلك اليوم؛ وبذلك لُقّبت بالزهراء، وقيل: إنّها سمّيت الزهراء؛ لأنّها كانت لا تحيض، وكانت إذا ولدت طهرت من نفاسها بعد ساعة حتى لا تفوتها صلاة.

وأمّا لقب المُحدّثة؛ فلأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها، كما كانت تُنادي مريم ابنة عمران عليها السلام، ويحدّثها روح القدس.

وأمّا ألقاب الصديقة والمباركة والطاهرة والزكيّة والراضيّة والمرضيّة، فهي آيات على ما اتّسمت به الزهراء رضي الله عنها من الصدق والبركة والطهارة والرضا والطمأنينة.

وأما لقب (البتول)؛ فذلك لانقطاعها عن نساء زمانها فضلاً وديناً وحَسَباً، وقيل: لانقطاعها عن الدُنيا إلى الله تعالى، وفي تاج العروس للزبيدي: لقّبت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالبتول، تشبيهاً لها بمريم في المنزلة عند الله تعالى.

وأمّا ثعلب،

١٠٩

فالرأي عنده أنّها سُمّيت بالبتول؛ لانقطاعها عن نساء زمانها، وعن نساء الأُمّة، فضلاً وديناً، وحَسباً وعفافاً، وهي سيّدة نساء العالمين، وقيل: البتول من النساء المنقطة عن الدنيا إلى الله تعالى، وبه لُقّبت فاطمة رضي الله عنها، وعن عمر بن علي رضي الله عنهما، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم سُئل عن البتول، وقد قيل له: سمعناك يا رسول الله تقول: مريم بتول، وفاطمة بتول، فما ذاك؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم:(البتول التي لم ترَ حمرة قط) أي لم تحِض، فإنّ الحيض مكروه في بنات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وفي الواقع، فلقد كانت فاطمة الزهراء عليها السلام، إلى جانب إنسانيتها، تحمل صفات الملائكة وصفات الحور العِين، كانت إنسانة، وكانت حوراء، أو هي (حوراء إنسيّة).

3 - حياة الزهراء في مكّة المُكرّمة

وُلدت الزهراء ونشأت في بيتٍ ربّه محمد، وربّته خديجة، وأيّ أبٍ في تاريخ الإنسانيّة كلّها أعظم وأنبل وأكرم وأشرف من محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأيّ أُمّ أرفق وأحنّ وأشفق من خديجة رضي الله عنها، ثُمّ سرعان ما أصبح هذا البيت، بيت النبوة والرسالة، ومهبط الوحي والتنزيل، وهكذا تأديب الزهراء بأدب أبيها، النبي الذي أدّبه ربّه فأحسن تأديبه، ومِن ثَمّ فقد كانت سيّدتنا فاطمة الزهراء المَثل الأعلى في الخُلق الكريم والطبع والسليم، وقد عني بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عناية تامّة، فكان يُثقّفها ثقافة إسلاميّة، ويُروّضها على الهدي النبوي، والصراط المستقيم.

ومن ثَمّ فقد نشأت الزهراء نشأة كانت المَثل الأعلى في الكمال والجلال، فهي إنّما تُمثّل أشرف ما في المرأة من إنسانيّة وكرامة وعفّة وقداسة ورعاية إلى ما كانت عليه من ذكاء وقّاد، وفطنة حادّة، وعِلم واسع، وكفاها فخراً أنّها تربّت في مدرسة النبوّة، وتخرّجت في معهد الرسالة، وتلقّت عن أبيها الرسول الأمين صلّى الله عليه وسلّم ما تلقّاه عن ربّ العالمين، وبديهي أنّ الزهراء تعلمت في دار أبوَيها، ما لم تتعلمه طفلة غيرها في مكّة، بل وفي الدنيا كلّها، وصدقت أُمّ المؤمنين أُمّ سلمة حيث تقول: (تزوجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفوّض أمر ابنته إلي، فكنت أُؤدّبها وأدلّها، وكانت والله آدب منّي، وأعرف بالأشياء كلّها)، أوَ ليست هي يا أُمّ المؤمنين بضعة رسول الله؟

١١٠

أوّ ليست هي (أُمّ أبيها) كما كان يُسمّيها سيّد المرسلين؟ أوَ ليست هي التي اصطفاها الله؛ لتكون التيّار الذي يحمل نور النبي صلّى الله عليه وسلّم عبر أسلاك الزمن؟ ولتضاء البشريّة بعد ذلك من هذا النور الفيّاض، وصدق الأستاذ العقّاد حيث يقول: (في كلّ دين صورة للأُنوثة الكاملة المُقدّسة، يتخشّع بتقديسها المؤمنون، كأنّما هي آية الله فيما خلق من ذَكر وأُنثى، فإذا تقدّست في المسيحيّة صورة مريم العذراء، ففي الإسلام، لا جرم، تتقدّس صورة فاطمة البتول).

كانت الزهراء عليها السلام، أصغر بنات النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن ثَمّ فما أن انتقلت السيدة خديجة رضي الله عنها إلى جوار ربّها الكريم، راضية مرضية، حتى أصبحت الطفلة الصغيرة فاطمة الزهراء، مسؤولة عن رعاية أبيها والسهر عليه، ولكنّه لم يكن أباً عاديّاً، وإنّما هو رسول الله الذي أرسله للناس كافّة، ومن ثَمّ فقد كان على الزهراء - وهي ما تزال صغيرة لا تكاد تتحمل مسؤوليّة بيت ورعاية أُسرة، فضلاً عن أن يكون هذا البيت وتلك الأُسرة، بيت محمد صلّى الله عليه وسلّم، تأخذ نصيبها من أعباء الدعوة، وأثقال الرسالة، وسوف يكون لها ولزوجها، ولأبنائها وبناتها من بعدها - النصيب الأوفر، فلقد أخذت حتى الآن نصيبها من الحصار الرهيب في شعْب أبي طالب، حيث حُصر أهلها من بني هاشم، ولمُدّة سنوات ثلاث، إلاّ أن يُسلّموا أباها فتقتله قريش، وسوف تأخذ نصيبها من أحداث الهجرة، وتنال حظّها من خطوب (أُحد) والأحزاب، وسوف تشارك أباها كلّ ما يُلاقيه من أذى قريش، وتقاسمه كلّ همومه، بقدر ما نالته من الحظوة عنده، والمكانة لديه.

4 - حياة الزهراء في المدينة المُنوّرة

هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ثُمّ تبعته الزهراء وأُمّ كلثوم، وهناك روايتان عن هجرتهما، تذهب الأولى إلى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قد بعث زيد بن حارثه وأبا رافع، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأُم كلثوم ابنتيه، وسودة بنت زمعة زوجته، وأُسامة بن زيد، وأمَته أُمّ أيمن. وتذهب الرواية الثانية

١١١

إلى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا هاجر إلى المدينة نزل في بني عمرو بن عوف في قباء، ومن هناك كتب إلى علي رضي الله عنه، مع أبي واقد الليثي، يأمره بالقدوم إليه، فخرج علي بالفواطم (فاطمة الزهراء وفاطمة بنت أسد أُمّ علي، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب) وأُم كلثوم، ومعه أيمن ابن أُمّ أيمن مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو واقد الليثي، وسار الركب، وعلى رأسه فتى الإسلام علي بن أبي طالب، حتى إذا ما كانوا على مقربة من (ضحنان) - وهي حرة بمكّة على مبعدة 54 ميلاً في طريق المدينة، تُعرف اليوم بحرّة المحسنيّة - أدركهم الطَلَب، وهُم ثمانية فُرسان مُلثّمون، ومعهم مولى لحرب بن أُمية يُدعى جناح، فقال عليٌّ لأيمن وأبي واقد:(أنيخا الإبل واعقلاها) ، وتقدّم فأنزلَ النسوة، ودنا القوم فاستقبلهم الإمام، فقالوا: ظننت أنّك يا غدّار ناجٍ بالنسوة، ارجع لا أبا لك، قال عليّ:(فإن لم أفعل؟) قالوا لترجعن راغماً، أو لترجعن بأكثرك شَعراً - أي رأسك - وأهوِن بك من هالك، ودنا الفوارس من المطايا ليثيروها، فحال عليّ بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه، فراغ عليٌّ عن ضربته، وضربه ضربة على عاتقه، فقدّه نصفين حتى وصل السيف إلى كتَف فرَسِه، وشدّ على أصحابه، وهو على قدميه، فتفرّقوا، ثُمّ سار ظافراً حتى نزل منزلاً بعد ضحنان، فبات فيه يومه وليلته، ولحق به نفرٌ من المستضعفين من المؤمنين، فيهم أُمّ أيمن مولاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثُمّ ساروا في طريقهم نحو المدينة حتى وصلوها بعد أيّام، وفرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوصول أهل بيته، وأنزل الزهراء وأُم كلثوم معه منزلاً كريماً، على أُمّ أيوب الأنصارية الخزرجية امرأة أبي أيوب الأنصاري - خالد بن زيد النجاري - وهو ممَن شهد العقبة وبدراً وأُحداً والخندق وسائر المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان مع الإمام عليّ، ومِن خاصّته، وشهد معه الجَمل وصِفّين، وكان على مُقدّمته يوم النهروان.

وبقيت الزهراء مع أبيها النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيت أبي أيّوب، حتى إذا ما تزوج الرسول صلّى الله عليه وسلّم سودة بنت زمعة القرشية بعد خديجة، واتخذ لها داراً بالمدينة، فانتقلوا جميعاً إلى تلك الدار، فكانت سودة تتولّى الزهراء وتقوم بحاجتها، ثُمّ تزوج نبي الله أُمّ سلمة بنت أُميّة المخزومية، فانتقلت الزهراء إلى بيت أُمّ سلمة رضي الله

١١٢

عنها، وهي صاحبة القول المشهور: (تزوجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفوّض إليّ أمر ابنته فاطمة، فكنت أؤدّبها وأدلّها، وكانت والله آدب منّي، وأعرف بالأشياء كلّها)، إلى أن تزوج بها علي رضي الله عنه، فانتقل بها إلى بيت مستقلٍّ في موضع الزور، فخرج رسول الله صلى الله عله وسلم، وقد كان السلف الصالح ومَن اقتدى بهم لا ينسون حظّهم من الصلاة إلى الاسطوانة التي خلف الاسطوانة المواجهة للزور، فإنّها كانت باب فاطمة التي كان يدخل إليها عليّ منها، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتيه ويأخذ بعضادتي الباب، ويقول:(السلام عليكم أهل البيت، الصلاة الصلاة (ثلاث مرات)) ، ثُمّ يقرأ:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .

5 - مُشابهة الزهراء للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم

روى الحاكم في المستدرك، بسنده عن أنس بن مالك أنّه قال: سألت أُمّي عن صفة فاطمة رضي الله عنها، فقالت: (كانت أشدّ الناس شبهاً برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بيضاء مُشربة بحمرة، لها شعر أسود يتعفّر لها).

وأخرج الإمام أحمد في مُسنده، عن أنس بن مالك قال: (لم يكن أحد أشبه برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحسن بن علي، وفاطمة صلوات الله عليهم أجمعين).

وأخرج الترمذي، عن عائشة أُمّ المؤمنين قالت: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: وكانت إذا دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا دخل عليها قامت من مجلسها، فقبّلته وأجلسته في مجلسها).

وأخرج ابن سعد في الطبقات الكُبرى، عن أُمّ سلمة، قالت: كانت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشبه الناس وجهاً برسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

ورويَ أنّها عندما وضعتها السيّدة خديجة ورأت في وليدتها الزهراء أنّها صورة من أبيها النبي الأعظم سرّها ذلك الشبه، ورأته بركةً من بركات الله عليها وعلى آل البيت الكرام.

وروى البخاري في صحيحه، بسنده عن عائشة رضي الله عنها، قالت:

١١٣

أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:(مرحباً بابنتي) ، ثُمّ أجلسها عن يمينه أو شماله... الحديث.

وروى الإمام مسلم في صحيحه، بسنده عن عائشة، قالت: كنّ أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم عنده، لم يُغادر منهنّ واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئاً، فلمّا رآها رحّب بها، فقال:(مرحباً بابنتي) ، ثُمّ أجلسها عن يمينه أو شماله... الحديث.

١١٤

الفصل الثاني: مع الإمام علي

1 - زواجُ الزهراء بالإمام علي

يُروى أنّ أبا بكر وعمر رضي الله عنها، خطبا الزهراء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لكلٍّ منهما:(أنتظر بها القضاء) ، أو قال:(إنّها صغيرة) ، كما جاء في سُنن النسائي، عن بريدة رضي الله عنها، قال: خطب أبو بكر وعمر فاطمة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(إنّها صغيرة)، فخطبها عليّ فزوّجها منه.

وروى ابن الأثير في (أُسد الغابة): أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لمّا رفض زواجها لأبي بكر وعُمر، قال عمر: أنت لها يا علي، قال علي:(فقمت أجرّ ردائي فرحاً بما نبّهت إليه، حتى أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: تُزوّجني فاطمة، قال: أوَ عندك شيء؟ قلت: فرَسي وبَدَني - أي درعه -قال: أمّا فرسك فلا بُد منها، وأمّا بدَنك فبِعها، فبعتها لعثمان بن عفّان بأربعمئة درهم وثمانين) ، قال الزرقاني: ثُمّ إنّ عثمان ردّ الدرع إلى عليّ، فجاء بالدرع والدراهم إلى المصطفى صلى الله عليه وسلّم، فدعا لعثمان بدعوات، ولمّا جاء علي بالدراهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وضعها في حِجر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقبض منها قبضة فقال:(أي بلال، ابتغِ لنا طيباً) ، وأمرهم أن يُجهّزوها.

وفي رواية أُخرى عن الإمام أحمد، عن عكرمة: أنّ علياً خطبَ فاطمة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم:(ما تصدقها؟) قال:(ما عندي ما أصدقها) ، قال:(فأين درعك الحطمية التي كنتُ منحتُك؟) قال:(عندي) ، قال:(أصدقها إياها) ، قال: فأصدقها وتزوجها.

وجاء في أنساب الأشراف للبلاذري: فباع بعيراً ومتاعاً، فبلغ من ذلك

١١٥

أربعمئة وثمانين، يقال أربعمئة درهم، فأمره أن يجعل ثُلثها في الطِيب، وثُلثها في المتاع، ففعل.

وروى ابن عساكر، عن أنس أنّه قال: خطب عليّ فاطمة، بعد أن خطبها أبو بكر وعمر، فقال صلّى الله عليه وسلّم لعلي:(قد أمرني ربّي أن أُزوجها منك) ، وروى الطبراني، مرفوعاً برجال ثقات: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(إنّ الله أمرني أن أُزوّج فاطمة من علي) .

في طبقات ابن سعد: أنّ أبا بكر وعُمر لمّا خطبا فاطمة، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:(هي لك يا علي، لستُ بدجّال) ، يعني لستُ بكّذاب؛ لأنّه كان قد وعد عليّاً بها قبل أن يخطبها.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فغشيه الوحي، فلمّا أفاق قال لي:(يا أنس، أتدري ما جاء جبرئيل عليه السلام من صاحب العرش عزّ وجل؟) قلت: بأبي أنت وأمي، ما جاء به جبرئيل؟ قال:(قال لي: إنّ الله تبارك وتعالى يأمرك أن تُزوّج فاطمة من علي) ، ثُمّ إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له:(انطلق وادعُ لي أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير، وبعدّتهم من الأنصار) ، قال: فانطلقت فدعوتهم، فلمّا أخذوا مجالسهم، قال صلّى الله عليه وسلّم - بعد أن حَمد الله وأثنى عليه -:(إنّ الله جعل المصاهرة سبباً لاحقاً، وأمراً مُفترضاً، أوشج به الأرحام، وألزم الأنام، فقال عزّ من قائل: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ) ، فأمرُ الله تعالى يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قَدَرِه، ولكلّ قدرٍ أجل، ولكلّ أجل كتاب ( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ،ثُمّ إنّ الله تعالى أمرني أن أُزوّج فاطمة بنت خديجة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا عليّ أنّي زوجته على أربعمئة مثقال فضّة، إن رضي بذلك، على السنة القائمة والفريضة الواجبة، فجمع الله شملهما، وبارك لهما، وأطال نسلهما، وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة، ومعادن الحكمة وأمن الأُمّة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم). قال أنس: وكان عليّ عليه السلام غائباً في حاجة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعثه فيها، ثُمّ أمر لنا بطبق فيه تمر، فوُضع في أيدينا، فقال صلّى الله عليه وسلّم:(انتبهوا) ، فبينما نحن كذلك، إذ أقبل علي، فتبسّم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال:(يا علي، إنّ الله أمرني أن

١١٦

أُزوّجك فاطمة، وإنّي زوجتكما على أربعمئة مثقال فضة) ، فقال علي:(رضيت يا رسول الله)، ثُمّ إنّ عليّاً خرّ ساجداً شكراً لله، فلمّا رفع رأسه، قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم:(بارك الله لكما وعليكما، وأسعد جِدّكما، وأخرج منكما الكثير الطيب) ، قال أنس: (ووالله لقد أخرج منهما الكثير الطيّب).

وروى الطبراني والخطيب، عن ابن عباس، قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(لم يبعث الله نبيّاً قط، إلاّ جعل ذريّته من صُلبه، غيري؛ فإنّ الله جعل ذريتي من صُلب عليّ رضي الله عنه).

وأرجح الأقوال أنّ هذا الزواج كان بعد الهجرة وقبل غزوة بدر، كان في رمضان، (وربما في محرّم أو صفر أو رجب) من السنة الثانية للهجرة، ومضى على هذا القِران شهور ثلاثة، حتى إذا كان ذو الحجّة من السنة نفسها دخل عليّ بها، وكان جهاز فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريراً من الخوص مشدوداً بالحبال، ووسادتين حشْوُهما ليف، وبساط صوف، وجلد كبش يُقلب على صوفه فيصير فراشاً، وإناء به سمن جاف يُطبخ به، وقِربة للماء، وجرّة وكوزاً، ورملاً مبسوطاً ورحى أو رحاتين. وخفّت بعض نساء الأنصار الثريّات فأهدين الزهراء رداءين جميلين للزفاف، وبعض حقاق من الطيب والعطور، وأقرضنها بعض الحُلي.

ويروي ابن شهاب الزهري في المغاري، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لبلال:(إنّي زوّجت ابنتي ابن عمّي، وأنا أُحب أن يكون من سُنّة أُمّتي إطعام الطعام عند النِكاح، فأتِ الغنم، فخُذ شاة وأربعة أمداد - أوخمسة -فاجعل لي قصعة لعلّي أجمع المهاجرين والأنصار) ، وفي رواية أُخرى أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال:(يا علي إنّه لا بُدّ للعروس من وليمة) ، فقال أحد أغنياء الأنصار: عندي كبش. فأعدّه صاحبه، ودعا عليٌّ رهطاً من المهاجرين والأنصار وأحضروا الطيب والزبيب والتمر فطعموا

ويروي الأستاذ أبو علم أنّه في ليلة الزفاف هذه، أتى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ببغلته الشهباء، وثنى عليها قطيفة، وقال لفاطمة:(اركبي) ، فأركبها، وأمر سلمان أن يقود بها، ومشى صلّى الله عليه وسلّم خلفها ومعه حمزة وبنو هاشم مُشهرين سيوفهم، وأمر بنات عبد المُطلب ونساء الهاجرين والأنصار أن يمضين في صُحبة فاطمة، وأن يفرحنَ ويرجزن ويُكبّرن ويحمدن، ولا يقلنَ مالا يُرضي الله، ونساء النبي صلّى الله عليه وسلّم معها، حتى

١١٧

أوصلنها إلى بيت علي، وأوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّاً ألاّ يُحدث شيئاً حتّى يأتيه، ثُمّ جاءت العروس الطاهرة البتول، مع أُمّ أيمن بركة الحبشة مولاة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقعدت فاطمة في جانبٍ من البيت، وقعد علي في الجانب الآخر، ثُمّ جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:(ها هُنا أخي) ، فقالت أُم أيمن: بأبي أنت وأُمي يا رسول الله، أخوك؟ قال:(علي بن أبي طالب) ، قالت: وكيف يكون أخاك وقد زوّجته ابنتك؟! قال:(هو ذاك يا أُمّ أيمن) ، وفي رواية قال:(نعم)، أي: هو كأخي في المنزلة والمؤاخاة، فلا يمتنع عليّ تزويجي إياه ابنتي.

هذا وكانت النساء قد انصرفن بعد الوليمة، غير أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وجد امرأة مع الزهراء، فسألها الرسول صلّى الله عليه وسلّم عمّا يُبقيها، قالت: أنا التي أحرس ابنتك، إنّ الفتاة ليلة بنائها (زفافها) لا بدّ لها من امرأة قريبة منها، إنْ عرضت لها حاجة أو أرادت أمراً أفضت إليها بذلك، فقال صلّى الله عليه وسلّم للمرأة، وهي أسماء بنت عميس:(فإنّي أسأل إلهي أن يحرسكِ من بين يديكِ ومن خلفكِ وعن يمينكِ وعن شمالكِ من الشيطان الرجيم) ، ثُمّ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بماء فغسل فيه يديه، ثُمّ دعا عليّاً فجلس بين يديه فنضح على صدره من ذلك الماء وبين كتفيه، ثُمّ دعا فاطمة فجاءت بغير خمار تعثر في ثوبها، ثُمّ نضح عليها من ذلك الماء، ثُمّ قال:(ادخل بأهلك باسم الله والبركة) .

وفي رواية أنّه صلّى الله عليه وسلّم توضّأ في إناء ثُمّ أفرغه على عليّ وفاطمة، ثُمّ قال:(اللّهمّ بارك فيهما، وبارك لهما في شملهما)، وفي رواية:(وفي شبليهما) ، والشبل ولد الأسد، فيكون ذلك كشفاً وإطلاعاً منه صلّى الله عليه وسلّم على أنّ الزهراء تلد الحسن والحسين، فأطلق عليهما شبلَين.

هذا وقد روي أنّ السيدة الزهراء بكت تلك الليلة، ربما لعلّها تذكّرت أُمها الراحلة السيدة الطاهرة أُم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فتمنّت لو أنّها كانت معها في تلك الليلة الفريدة من العُمر، وأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يُطيّب خاطرها، فأقسم لها أنّه لم يألُ جهداً ليختار لها أصلح الأزواج، وما اختار لها إلاّ خير فتيان بني هاشم، وأضاف:(والذي نفسي بيده، قد زوجتكِ فتى سعيداً في الدنيا، وأنّه في الآخرة لمن الصالحين) ، وفي رواية للحاكم في المستدرك:(فقد أنكحتكِ أحبّ أهل

١١٨

بيتي إلي) ، وفي رواية ثالثة:(لقد زوجتكِ سيّداً في الدنيا والآخرة، وإنّه لأوّل أصحابي إسلاماً، وأكثرهم عِلماً، وأعظمهم حِلماً) .

وعن ابن عباس قال: بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أقبلت فاطمة وهي تبكي، فقال صلّى الله عليه وسلّم:(ما يُبكيكِ يا فاطمة؟) قالت:(يا رسول الله، عيّرتني نساء قريش آنفاً، زعمنَ أنّك زوجتني رجلاً معدماً، لا مال له) ، قال صلّى الله عليه وسلّم:(لا تبكي يا فاطمة، فوالله ما زوجتكِ حتى زوّجكِ الله تعالى من فوق عرشه، وأشهدَ على ذلك جبرئيل وميكائيل) .

وعن بلال بن حمامة، قال: طلع علينا النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم ووجهه مشرق كدارة القمر، فقام عبد الرحمان بن عوف، فقال: يا رسول الله، ما هذا النور؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم:(بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمّي وابنتي، فإنّ الله زوّج عليّاً من فاطمة، وأمر رضوان خازن الجنان فهزّ شجرة طوبى فحملت رقاعاً - يعني صكاكاً -بعدد مُحبّي أهل بيتي، وأنشأ تحتها ملائكة من نور، ودفع إلى كلّ ملَك صكّاً، فإذا استوت القيامة بأهلها، نادت الملائكة في الخلائق، فلا تَلقى محبّاً لنا أهل البيت، إلاّ دفعت له صكّاً فيه فكاكه من النار، فأخي وابن عمّي وابنتي بهم فكاك رقاب رجال ونساء من أُمتي من النار) .

ولعل سائلاً يتساءل: ما في هذا الزواج من الزهراء ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يختصّ به الإمام وحده، دون صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودون غيره ممّن تزوّجوا من بنات النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ من البديهي أنّ الصهر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شرف عظيم، وقد تزوج عثمان بن عفّان رضي الله عنه بابنَتَي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - رقية وأمّ كلثوم - فاكتسب بذلك لقب (ذي النورين)، كما تزوج أبو العاص بن الربيع من زينب بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم، غير أنّ الزواج من الزهراء أمر آخر؛ ذلك لأنّ الزهراء قد اختصّت من بين أخواتها بهذه الدرجة التي رفعها الله إليها، فوصفها رسول الله بأنّها:(سيدة نساء المؤمنين) ، وبأنّها(سيدة نساء أهل الجنة) ، وبأنّها(سيّدة نساء العالمين) ، هذا فضلاً عن أنّ فاطمة وحدها من دون بنات النبي وأبنائه هي التي كان منها سبطا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحسن والحسين، وهما ابنا علي، وهكذا يصبح النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يرى له وِلداً غير وِلد فاطمة

١١٩

وعلي، ولا نسباّ متّصلاً إلاّ مَن كان من فاطمة وعلي، فإذا ما تذكّرنا كذلك، أنّه ما مِن أمرٍ كان يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم في شخصه، وفي خاصّة نفسه، إلاّ وكان الإمام علي هو الذي يندب للقيام بهذا الأمر، وليحلّ محلّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيه، وليأخذ مكانه الذي تركه وراءه، فمبيت عليّ في بُرد النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى فراشه ليلة الهجرة، وقراءته ما نزل من سورة براءة على أهل الموسم من المسلمين والمشركين، وخلافته للرسول على آل البيت من غزوة تبوك، أفلا يسوّغ لنا ذلك كلّه - كما يقول الأستاذ الخطيب - أن نذكر معه خلافة علي بن أبي طالب للرسول صلى اله عليه وسلم في أن يكون منه نسل النبي، وأن يكون وُلد علي وفاطمة نسلاً مباركاً للنبي ولعلي معاً، صلوات الله وسلامه عليم أجمعين.

ثُمّ إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو الحسن والحسين ابنيه، فيقول صلّى الله عليه وسلّم في الحسن:(إنّ ابني هذا سيد) ، وإنّه صلّى الله عليه وسلّم يقول في الحسين:(حسين منّي وأنا من حسين) .

وأخرج الترمذي، عن أنس بن مالك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول لفاطمة:(ادعي ابنَيَّ) ، فيشمّهما ويضمّهما إليه.

بقيت الإشارة إلى سِنّ الزهراء وقت الزواج، وفي الواقع أنّ هذا متوقّف على معرفة تاريخ ميلادها، وهو أمر قد اختلف فيه المؤرّخون، بين أن يكون قُبيل البعثة أو بُعيدها، ومن ثَمّ فهناك من رأى أنّ الزهراء قد تزوّجت وهي في الثامنة عشرة من عمرها، بينما ذهب آخرون إلى أنّها كانت في الخامسة عشرة وخمسة أشهر أو ستّة، بل إنّنا لو أخذنا بوجهة النظر التي ذهبت إلى أنّها قد وُلدت بعد البعثة بخمس سنين، لكان عمرها يوم زواجها في السنة الثانية من الهجرة، لا يعدو سنوات عشر. على أنّ أرجح الآراء أنّ الزهراء كانت فيما بين الخامس عشرة والثامنة عشرة من عمرها يوم زُفّت إلى الإمام علي.

ومِن عجبٍ أن يزعم المستشرق اليسوعي الأب هنري لامانس، أنّ الزهراء لم تتزوج قبل الثامنة عشرة؛ لأنّها كانت محرومة من الجمال، ولم تُصدّق أنّ أحداً يخطبها بعد تلك السن، وعندما خطبها عليّ سكتت هُنيهة، ثُمّ تكلمت فشكت من أن يخطبها رجل فقير، وفي الواقع ما كنّا نظنّ أن ينزلق الأب هنري - وهو رجل دين وعلم - إلى هذا المستوى في كراهيّته للإسلام ونبي الإسلام وآل بيته الكرام،

١٢٠