السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)0%

السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مؤلف:
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 178

  • البداية
  • السابق
  • 178 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 19115 / تحميل: 5821
الحجم الحجم الحجم
السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وكنّا نحبّ له أن يقرأ النصوص جيّداً، وأن يُقارن بينها، لا أن يأخذ منها ما يتّفق وهواه، ثُمّ يفسّر هذا الذي أخذه بهواه، مرّة أُخرى فتضيع منه الحقائق بين هواه وهواه، ولو كان السند الذي استند إليه هذا المُستشرق - كما يقول الأُستاذ العقاد - واضحاً مُلزماً، لقلنا أنّها أمانة العِلم، ولا حيلة للعالم في الأمانة العلمية، لكنّ السند كلّه قائم على أنّ الزهراء قد تزوّجت في الثامنة عشرة من عمرها، وتقابله أسانيد أُخرى تنقضه، وتتراءى للمستشرق حيثما نظر حوله، ولكنّه لا يحبّ أن يراها؛ لأنّه يحبّ أن يرى ما يعيب، ولا يحب أن يرى مالا عيب فيه.

وعلى أيّ حال، فإنّ تقويض رأي لامانس سهل؛ لأسباب كثيرة:

منها (أولاً): إنّ المشهور المتواتر - كما رأينا من قبل - أنّ السيّدة فاطمة الزهراء وُلدت لأبوين جميلين، وأنّ أخواتها تزوّجن من ذوي غنى وجاه، كأبي العاص بن الربيع وعثمان بن عفان، وليس المألوف أن يكون الأبوان والأخوات موصوفين بالجمال، وأن تُحرم منه إحدى البنات.

ومنها (ثانياً): إنّ السيدة الزهراء - كما هو مشهور - قد بلغت سنّ الزواج، والدعوة المحمديّة في إبانها، والمسلمون بين مُهاجر أو مقيم غير آمن، والحال قد تبدّلت بعد الدعوة المحمديّة، فأصبحت خطبة المسلمين مقصورة على المسلمين، وهُم قلّة، منهم المتزوج ومنهم من لا طاقة له بالزواج.

ومنها (ثالثاً): ما أشرنا من أنّ هناك الكثير من الآراء التي لا تجعل الزهراء تبلغ الثامنة عشرة، يوم بنيت بالإمام.

ومنها (رابعاً): إنّنا لا نستطيع أن نستبعد أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخص بها ربيبه وابن عمّه عليّ بن أبي طالب (وهو أرجح الأسباب في رأينا)، وينتظر بها يوم البتّ في هذا الأمر، وذلك حين تهدأ الحال، ويستعدّ ابن عمّه للزواج.

ولعلّ مما يعضد هذه الفكرة ما رويناه من قبل، من أنّ الصديق والفاروق قد خطبا الزهراء قبل الإمام علي، وأنّ ردّ النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهما قوله لكلّ منهما:(انتظر بها القضاء) ، أو قال:(إنّها صغيرة) .

ومنها (خامساً): إنّ الأب لامانس تجاهل كثيراً من النصوص التي تُشير إلى أنّ السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام إنّما كانت تتمتّع بقسط وافر من الجمال، من ذلك ما رواه أنس بن مالك عن أُمّه: إنّ فاطمة كانت كأنها القمر ليلة البدر. ومنه

١٢١

ما رواه الحاكم في المستدرك، بسنده عن أنس بن مالك قال: سألت أُمّي عن صفة فاطمة رضي الله عنها، فقالت: كانت أشدّ الناس شبها برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بيضاء مشربة بحمرة، لها شَعر أسوَد يتعفّر لها.

 وإنّ الروايات كلّها مُجمعة على أنّ السيدة الزهراء كانت أشبه الناس برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصفات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موجودة في كُتب السيرة، وقد قرأها لامانس، وكلّها تُشير بوضوح إلى ما كان يتمتّع به سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جمال الخليقة والخُلق.

ومنها (سادساً): إنّ السيّدات اللواتي لا يبكّرن إلى الزواج في المجتمع الإسلامي إنّما هنّ مِن اللواتي يتنعّمن بالجمال الرائع، والحذق البارع، والذكاء الحاد، وشرف المحتد، وشغف الوالدين بهنّ والضنّ بهنّ، وكان هذا أمر الزهراء إلى حدّ كبير، هذا إذا افترضنا جدلاً أنّ الزواج في سنّ الثامنة عشرة، إنّما هو سنّ متأخرة لزواج الفتاة، فما بالك إذا لم يكن الأمر كذلك، فضلاً عن أنّ كثيراً من الروايات تحدّد سنّ الزهراء يوم زواجها بالخامسة عشرة، وروايات أُخرى تنزل بها إلى سن أقلّ من ذلك.

ومنها (سابعاً): ما تذهب إليه الدكتورة عائشة عبد الرحمان في كتابها (بنات النبي) من أنّ تأخّر زواجها إنّما كان عن تهيّب لها، فلقد بُعث أبوها صلّى الله عليه وسلّم، وهي وحدها التي لم تتزوج، إذ كان عمرها خمس سنوات والناس بعد البعث أحد رجُلين: إمّا كافر بنبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهيهات أن يُفكّر في مصاهرته، وإمّا مسلم يؤمن بنبوة محمّد صلّى الله عليه وسلّم ويصدّق برسالته، وقد عرفنا موقف المسلمين من نبيّهم وإلى أيّ مدى كانوا يُجلّونه ويُعظّمونه ويفتدونه بالمُهَج والأرواح، فغير مستغرب ألاّ يروا أنفسهم كُفؤاً لمصاهرته، وأن يغضّوا الطرف عن (أُم أبيها، الزهراء)، أجلالاً وتهيّباً، ولا يرد على هذا بأنّ (عثمان بن عفان) رأى في نفسه كُفؤاً لرقيّة، فلقد قلّ في أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم - بل في قريش بعامّة - مثل عثمان ثراءً وشرفاً وجاهاً، وهو بعد قد طمع من الزواج من بنت النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن طلّقها ابن أبي لهب كيداً وحقداً، وليس الأمر كذلك مع الزهراء، ونحن - حتى يومنا هذا - نرى بنات الأُسر الكريمة يتأخر زواجهنّ في انتظار الأكفّاء، وهُم عادةً القلّة؛ إذ القاعدة المُطّردة هي أنّه كلّما تميّزت الفتاة لعلمها أو ثرائها أو عزّتها؛ قلّ أكفّاؤها.

١٢٢

ومع ذلك فلم يكن (علي) أوّل مَن طمح في الزواج من (فاطمة)، بعد تهيّب وتردّد، فقد تسامى إلى ذلك الشرف قبله، صاحبا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر، على ما روى البلاذري في (أنساب الإشراف)، فردّهما أبوها ردّاً كريماً.

2 - بيت الزهراء

كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُحبّ الزهراء ويحنو عليها حنوا كبيرا، وما يكاد يُطيق فراقها، فلما زُفّت إلى الإمام عليّ وتحوّلت إلى بيته، لم تمضِ سوى أيّام معدودة حتى ذهب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الزهراء، فقال لها:(إني أُريد أن أُحوّلك إلي) ، فقالت:(فكلّم حارثة بن النعمان أن يتحوّل عنّي) ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(قد تحوّل حارثة بن النعمان عنّا حتى استحييتُ منه) . فبلغ ذلك حارثة، وجاء النبي فقال: يا رسول الله، إنّه بلغني أنّك تحوّل فاطمة إليك، وهذه منازلي، وهي أسبق بيوت بني النجّار إليك، وإنّما أنا ومالي لله ولرسوله، والله يا رسول الله، لَلمال الذي تأخذ منّي أحبّ إليّ من المال الذي تدع. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(صدقت، بارك الله فليك) ، فحوّلها رسول الله إلى بيت حارثة.

وهكذا اتّخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم للزهراء والإمام بيتاً وسط بيوته وكانا يسكنانه كلّ أيام عليّ وفاطمة، ثُمّ كلّ أيام الإمام عليّ في المدينة، ثُمّ سكنه من بعده أولاده وأحفاده إلى أيام عبد الملك بن مروان، فاغتاظ من وجوده وأراد هدمه بحجّة توسع المسجد، وكان يسكنه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فطلبوا منه أن يخرج، فرفض وقال: لا أخرج ولا أُمكّن من هدمه، فضُرب بالسياط، وأُخرج قهراً وهُدم الدار وزِيد في المسجد.

هذا ويذهب السمهودي في (وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى) إلى أنّ بيت فاطمة رضي الله عنها إنّما هو في الزور الذي في القبر، بينه وبين بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم خوخة، وكانت فيه كوّة - أي بيت عائشة رضي الله عنها - فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام اطّلع من الكوّة إلى فاطمة فعلم خبرهم، وإنّ فاطمة رضي الله عنها قالت لعليّ يوماً:(إنّ ابنيَّ أمسَيا عليلين، فلو نظرت لنا أدماً نستصبح به) ، فخرج عليّ إلى السوق فاشترى لهم أدماً، وجاء به إلى فاطمة فاستصبحت به، فأبصرت عائشة

١٢٣

المصباح عندهم في جوف الليل، وذِكر كلاماً وقع بينهما، فلمّا أصبحوا سألت فاطمة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسدّ الكوة، فسدّها.

هذا وقد روى السمهودي أنّ بيت فاطمة على زمانه (844 - 911 ه‍) كان حوله مقصورة، وفيه محراب خلف حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم.

وعلى أيّة حال، فالثابت المؤكّد أنّ بيت الزهراء والإمام علي إنّما كان أوسط بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم. روى البخاري في صحيحه، عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عُمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله، قال: لعلّ ذاك يسوءك، قال: نعم، قال: فأرغم الله بأنفك، ثُمّ سأله عن عليّ فذكر محاسن عمله، قال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثُمّ قال: لعلّ ذاك يسوءك، قال أجل، قال: فأرغم الله بأنفك، انطلِق فأجهد على جهدك.

ولعلّ من الأهميّة بمكان الإشارة إلى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد، إلاّ باب علي وفاطمة. روى النسائي، عن ابن عباس: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمَر بأبواب المسجد فسُدّت إلاّ باب علي رضي الله عنه، وفي رواية: (وسدّ أبواب المسجد غير باب علي رضي الله عنه، فكان يدخل المسجد وهو جُنُب، وهو طريقه ليس له طريق غيره)، وروى ابن عساكر، عن أُمّ سلمة قالت: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه حتى انتهى إلى صرحة المسجد، فنادى بأعلى صوته أنّه:(لا يحلّ المسجد لجُنُب ولا لحائض، إلاّ لمحمد وأزواجه، وعليّ وفاطمة بنت محمّد، ألاّ هل بيّنت لكم الأسماء أن تضلّوا؟) .

وأخرج الترمذي والبيهقي والبزار، عن أبي سعيد، قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي:(لا يحلّ لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك) ، وروى الطبراني في الكبير عن أُمّ سلمة قالت، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(ألا إنّ هذا المسجد لا يحلّ لجُنب ولا لحائض، إلاّ للنبي وأزواجه، وفاطمة بنت محمّد وعلي، ألا بيّنت لكم أن تضلّوا؟) .

وأخرج أبو يعلى، عن عمر بن الخطّاب، قال: لقد أُعطي عليّ ثلاث خصال، لأن تكون لي خصلة منها أحبّ إليّ من أن أُعطى حُمر النِعَم: تزويجه فاطمة، وسُكناه المسجد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا يحلّ لي فيه ما يحلّ له، والراية يوم خيبر.

وأخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة، عن أبي حازم

١٢٤

الأشجعي، قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:(إنّ الله أمر موسى أن يبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاّ هو وهارون، وإنّ الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاّ أنا وعلي وابنا علي) ، وروى النسائي، عن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: كنّا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده قوم جلوس، فدخل عليّ كرّم الله وجهه، فلمّا دخل خرجوا، فلمّا خرجوا تلاوموا، فقالوا: والله ما أخرجنا إذ أدخله، فرجعوا فدخلوا، فقال:(والله ما أنا أدخلته وأخرجتكم، بل الله أدخله وأخرجكم) (وذكره الهيثمي في مجمعه، وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات).

هذا وروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ:( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) ، فقام إليه رجل وقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ فقال:(بيوت الأنبياء) ، فقام إليه أبو بكر وقال: يا رسول الله، هذا البيت منها وأشار إلى بيت علي وفاطمة؟ فقال الرسول:(نعم، من أفضلها) .

3 - حياة الزهراء الزوجيّة

عاشت الزهراء في كنف النبي صلّى الله عليه وسلّم وتحت رعايته، يختصّها هي وزوجها ووُلدها بمحبّته، ويصطفيهم بمودّته، وكان من عادته صلّى الله عليه وسلّم أن يبيت عندهم حيناً بعد حين، ويتولّى خدمة الأطفال بنفسه، وأبواهم قاعدان، وفي إحدى هذه الليالي سمع الحسن يستسقي، فقام صلّى الله عليه وسلّم إلى قِربة، فجعل يعصرها في القدح ثُمّ جعل يعبعبه، فتناول الحسين فمنعه وبدأ بالحسن، فقالت فاطمة:(كأنّه أحبّ إليك) ، قال:(إنّما استسقى أوّلاً) وكان أحياناً يلفّهم جميعاً في بُردٍ واحد، ويقول لهم:(أنا وأنتم يوم القيامة في مكان واحد) ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سافر كان آخر الناس عهداً به فاطمة، وإذا قدِم من سفر كان أوّل الناس عهداً به فاطمة رضي الله تعالى عنها، روى الحاكم في المستدرك، بسنده عن أبي ثعلبة الخشبي، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رجع من سفر أو غزاة أتى المسجد فصلّى فيه ركعتين، ثُمّ ثنّى بفاطمة، ثُمّ يأتي أزواجه).

وفي ظلّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم انتظمت حياة الإمام والزهراء عيشة كفاف، وخدمة

١٢٥

يتعاون عليها ربّ البيت وربّته، فقد كان رزق الإمام من وظيفة الجندي وعطائه من فيء الجهاد، لكنّه، رغم ذلك، لم يكن بقادر على أن يستأجر للزهراء خادماً تُعينها أو تقوم عنها بالعمل الشاق، فكان الإمام هو الذي يُعينها.

روي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها البيت كعادته، فوجد عليّاً وفاطمة يطحنان، فقال:(أيكما أعيا - تعب -؟) فقال علي:(فاطمة يا رسول الله) ، فقال لها:(قومي يا بُنية) ، فقامت، وجلس يطحن مع علي.

وهكذا كانا يعيشان عيشة الكفاف، وكثيراً ما كان يجنّ الليل فيرقدان على فراشهما الخشن، ويُحاولان النوم فلا يجدان إليه سبيلاً؛ لفرط ما يشعران به من البَرد، ويُقبل عليهما النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد انكمشا في غطائهما مقرورين، إذا غطّيا رأسيهما بدت أقدامهما، وإذا غطّيا أقدامهما انكشفت رأساهما.

روى المتقي الهندي في كنز العمال، عن جابر: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى على فاطمة سلام الله عليها كساء من أوبار الإبل، وهي تطحن، فبكى وقال:(يا فاطمة اصبري على مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً) ، ونزلت:( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) . (قال: أخرجه ابن لآل وابن مردويه وابن النجّار والديلمي، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وقال: أخرجه العسكري في المواعظ)، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينصحهما بقوله:(كلمات علمنيهنّ جبرئيل، تسبّحان الله في دِبر كلّ صلاة عشراً، وتحمدان عشراً وتكبّران عشراً، وإذا آويتما إلى فراشكما تُسبّحان ثلاثاً وثلاثين وتحمدان ثلاثاً وثلاثين وتكبّران ثلاثاً وثلاثين)، ويقول الإمام علي:(والله ما تركتهنّ منذ علمنيهنّ) .

وروى الإمام البخاري في صحيحة، بسنده عن الحكم، سمعت ابن أبي ليلى قال، حدّثنا عليّ:(إنّ فاطمة عليها السلام شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم سبي، فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشة فأخبرتها، فلمّا جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم، فقال: على مكانكما، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال: ألا أُعلمكما خيراً مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما، تُكبّرا أربعاً وثلاثين، وتسبّحا ثلاثاً وثلاثين، وتحمدا ثلاثاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم) . وروى أبو داود بسنده عن أبي الورد بن ثمامة، قال علي عليه السلام لابن

١٢٦

أعبد:(ألا أُحدّثك عنّي وعن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت أحبّ أهله إليه، وكانت عندي، فجرّت بالرحى حتى أثّرت بيدها، واستقت بالقِربة حتى أثّرت في نحرها، وقَمَت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت القِدر حتى دكنت ثيابها وأصابها من ذلك ضُرّ، فسمعنا أنّ رقيقاً أُتي بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: لو أتيتِ أباكِ فسألتيه خادماً يكفيكِ، فأتته فوجدت حداثاً فاستحيت فرجعت، فغدا علينا ونحن في لفاعنا - الملحفة أو الكساء -فجلس عند رأسها، فأدخلتْ رأسها في اللفاع حياءً من أبيها، فقال: ما كان حاجتكِ أمْس إلى آل محمد، فسكتت مرّتين، فقلتُ: أنا والله أُحدّثك يا رسول الله، إنّ هذه جرّت عندي بالرحى حتى أثّرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثّرت في نحرها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وبلغنا أنّه أتاك رقيقٌ أو خَدَم فقلتُ لها: سليه خادماً) ، قال أبو داود: فذكر معنى حديث حَكم، ويعني بحديث حَكم ما تقدّم آنفاً عن البخاري ومسلم، من قوله صلّى الله عليه وسلّم:(ألا أُعلّمكما خيراً ممّا سألتماني ) إلى آخره. (ورواه أيضا أبو نعيم في حلية الأولياء).

على أنّ البيت سرعان ما سعد بالذريّة الصالحة، فلقد رُزق الأبوان نصيباً طيباً طاهراً من البنين والبنات: الحسن والحسين ومحسن وزينب وأُم كلثوم، وقد دعا النبي لكلّ منهما عند مولده:(اللّهمّ إنّي أُعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم) ، وعقّ عن كلّ منهما بكبش، وأمر بحلق شعره والتصدّق بوزنه فضّة، ثُمّ ختنهما لسبعة أيّام من المولد. وقد عاشوا جميعاً، ما عدا مُحسن، فقد مات صغيراً.

وبديهي أنّ حياة هذه الأسرة الطاهرة المطهّرة لم تخلُ من ساعات خلاف، وما خلت حياة آدمي قط من ساعات خلاف، وساعات شكاية، وكان الأب الأكبر يتولّى صُلحهما، وربّما ترك صلّى الله عليه وسلّم مجلسه بين أصحابه ليدخل إلى الزوجين المتخاصمين فيرفع ما بينهما من جفاء، والصحابة الذين يتتبّعون في وجه النبي كلّ خلجة من خوالج نفسه، ويتيحون لأنفسهم أن يسألوه؛ لأنّه لا يملك من ضميره ما يضمن به على المتعلم والمتبصر، يجرون معه على عاداتهم كلّما دخل البيت مهموماً، وخرج منه منطلق الأسارير، فيسألونه فيُجيب: (ولِمَ لا وقد أصلحت بين أحبّ الناس إلي).

يروى أنّه صلّى الله عليه وسلّم رؤيَ ذات مساء وهو يسعى إلى دار فاطمة بادي الهمّ والقَلق،

١٢٧

فأمضى وقتاً هُناك، ثُمّ خرج ووجهه الكريم يفيض بُشراً، فقال قائل من الصحابة: يا رسول الله، دخلت وأنت على حال، وخرجت ونحن نرى البشر في وجهك، فأجاب صلّى الله عليه وسلّم: (ولِمّ لا وقد أصلحت بين أحبّ الناس إلي).

وأخرج ابن سعد في الطبقات، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: كان بين علي وفاطمة كلام، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فألقى إليه مثالاً فاضطجع عليه، فجاءت فاطمة فاضطجعت من جانب وجاء علي فاضطجع من جانب، فأخذ رسول الله بيد علي فوضعها على سرّته، وأخذ بيد فاطمة فوضعها على سرّته، ولم يزل حتى أصلح بينهما، ثُمّ خرج. قال، فقيل له: دخلت وأنت على حال، وخرجت ونحن نرى البشر في وجهك، فقال: (وما يمنعني وقد أصلحت بين أحبّ اثنين إلي).

وأخرج ابن سعد في في الطبقات، عن عمرو بن سعد قال: كان في علي شدّة على فاطمة، فقالت: (والله لأشكونّك رسول الله)، فانطلقت وانطلق عليّ بأثرها، فقام حيث يسمع كلامها، فشكت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غلظ عليّ وشدّته عليها، فقال: (يا بُنيّة اسمعي واستمعي واعقلي، إنّه لا امرأة بامرأة لا تأتي هوى زوجها وهو ساكت)، فقال علي: (فكففتُ عمّا كنتُ أصنع، وقلت: والله لا آتي شيئاً تكرهينه ابداً).

على أنّ هناك ساعات خلاف كانت جدّ شديدة، شكايات لا شكّ أنّها إنّما كانت أكثر من شكاية بالنسبة للمرأة حتى وإن كانت بِنت المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومِن ثَمّ فقد بلغ العِتاب بين الزوجين ما يبلغه من خصومة بين زوجين، وذلك حين نُمي إلى الزهراء أنّ الإمام يهمّ بخطبة (جويرية بنت عُمرو بن هشام بن المغيرة، المعروف بأبي جهل) وفي حسبان الإمام علي أنّه يجري على مألوف عادة قومه في الجمع بين زوجتين وأكثر، ويفعل ما أباحه له الإسلام من تعدد الزوجات، بدون أن يخطر بباله أنّ هذا ما تُنكره بنت نبي الإسلام، وربّما كانت هذه الخطبة غضبة من غضبات الإمام، على أنفة من أنفات الزهراء، أو لعلّها نازعة من نوازع النفس البشريّة لم يكن في الدين ما يأباها، وإن أباها العُرف في حالة المودّة والصفاء، ومن ناحية أُخرى، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلم حقّ علي في الزواج، ولكنّ الرسول في أبوّته الرحيمة يؤذيه أن تروّع أحبّ بناته بضرّة، ويشفق عليها من تجربة قاسية

١٢٨

كهذه، يعلم أنّها لا قبيل لها باحتمالها.

ثُمّ إنّ عليّاً أراد أن يتزوج بنت أبي جهل، فهل يرضي الله أن يجمع بيت الإمام علي بين بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين بنت عدوّ الله ورسوله، وكُتُب السيرة مليئة بمواقفه المُخزية ضدّ الإسلام ورسول الإسلام، ولعلّ هذا هو السبب الذي من أجله ثار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّه من غير المعقول أن تكون ابنة هذا الرجل بالذّات، ضرّة للزهراء بنت نبي الله ورسوله، ولم يكن من المعقول، بل من المستحيل على وجه اليقين، أن يستبدل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا جهل بن هشام صِهراً، وليس عليّ بالذات هو الذي يؤذي نبيّه وأخاه وابن عمّه في أحبّ بناته إليه.

هذا ويُروى عن يحيى بن سعيد القطّان، قال: ذاكرت عبد الله بن داود الحريثي قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (ولا آذن إلاّ أن يحب علي بن أبي طالب أن يطلّق ابنتي وينكح ابنتهم)، قال ابن داود: حرّم الله على عليّ أن ينكح على فاطمة في حياتها؛ لقوله تعالى:( وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ، فلمّا قال النبي: (لا آذن)، لم يكن يحلّ لعلي أن ينكح على فاطمة، إلاّ أن يأذن رسول الله. قال: وسمعت عمر بن داود يقول: لمّا قال الرسول:(فاطمة بضعة منّي يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها) ، حرّم الله على عليّ أن ينكح على فاطمة، إذ إنّه بنكاحه عليها يؤذي الرسول، والله تعالى يقول:( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ) .

وأضاف الشيخ دحلان في السيرة: وألحق بعضُهم أخواتها بها، وإن رأى احتمال اختصاص الزهراء بذلك، وهذا ما نُرجّحه ونميل إلى الأخذ به، والله أعلم.

وأمّا قصة تلك الخطبة، فقد روى ابن إسحاق في السيرة: أنّ عليّ بن أبي طالب خطب ابنة أبي جهل من عمّها الحارث، واستأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: (عن أيّ شأنها تسألني، عن حَسَبها؟!) قال: (لا، ولكن تأمرني بها)، فقال صلّى الله عليه وسلّم: (فاطمة بضعة منّي، ولا أُحبّ أن تجزع)، فقال علي: (لا آتي شيئاً تكرهه).

وأخرج الإمام أحمد، عن الشعبي قال: خطب علي عليه السلام بنت أبي جهل إلى عمها الحارث بن هشام، فاستشار النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها، فقال: (أعن حسبها تسألني؟) قال علي: (قد أعلم ما حسبها، ولكن أتأمرني بها)، فقال: (لا، فاطمة بضعة منّي، ولا

١٢٩

أُحبّ أن تحزن أو تجزع)، فقال علي عليه السلام: (لا آتي شيئاً تكرهه).

وروى البخاري في صحيحه، عن المسور بن مخرمة قال: إنّ عليّاً خطب بنت أبي جهل فسمعت بذلك فاطمة، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: (يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح علَيّ بنت أبي جهل)، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسمعته حين تشهد يقول: (أمّا بعد، أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني وصدقني، وإنّ فاطمة بضعة منّي، وإنّي أكره أن يسوءها، والله لا يجتمع بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبنت عدو الله عند رجل واحد)، فترك علي الخطبة.

وفي رواية للشيخين، عن المسور أيضاً:(فإنّ ابنتي بضعة منّي يُريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها).

وفي رواية جاءت في منهاج السنّة لابن تيمية، والمنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي: أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: (إنّ بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا ابنتهم عليَّ بن أبي طالب، وإنّي لا آذن ثُمّ لا آذن ثُمّ لا آذن، ثُمّ لا آذن، إنّما فاطمة بضعة منّي يُريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها، إلاّ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ابنتي وينكح ابنتهم).

وفي رواية: (إنّي أخاف أن تُفتن في دينها...، وإنّي لست أحل حراماً، ولا أُحرم حلالاً، ولكنّ والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدوّ الله عند رجل واحد أبداً).

وروى مسلم في صحيحه، بسنده عن محمد بن عمرو بن حلحلة الدولي، أنّ ابن شهاب حدّثه أنّ علي بن الحسين حدّثه: إنّهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، لقيه المسور بن مخرمة، فقال له: هل لك إليّ من حاجة تأمرني بها؟ قال: (فقلت له: لا)، قال له: هل أنت معطي سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّي أخاف أن يغلبك القوم عليه، وأيم الله لئن أعطيتنيه لا يخلص إليه أبداً حتّى تبلغ نفسي، إنّ عليّ بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة، فسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا، وأنا يومئذٍ محتلم، فقال: (إنّ فاطمة منّي، وإنّي أتخوّف أن تُفتن في دينها)، قال ثُمّ ذكر صهراً له من بني عبد شمس، فأثنى عليه في مُصاهرته إياه، فأحسن، قال: (حدّثني فصدّقني ووعدني فأوفى لي، وإنّي لست أُحرم حلالاً، ولا أحل حراماً، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله، مكاناً واحداً أبداً).

وقال النووي

١٣٠

في شرح صحيح مسلم، قال العلماء: في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم بكلّ حال، وعلى كلّ وجه، وإن تولّد الإيذاء مما كان أصله مُباحاً، وهو حي، وهذا بخلاف غيره، قالوا: وقد أعلم صلّى الله عليه وسلّم بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي، بقوله صلّى الله عليه وسلّم: لستُ أُحرم حلالاً، ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلّتين منصوصتين:

إحداهما: أنّ ذلك يؤدّي إلى أذى فاطمة، فيتأذى حينئذ النبي صلّى الله عليه وسلّم فيهلك من آذاه، فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وعلى فاطمة.

والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة، وقيل: ليس المُراد به النهي عن جمعهما، بل معناه: (أعلم من فضل الله أنّهما لا تجتمعان)، كما قال أنس: والله لا تكسر ثنيّة الربيع. ويحتمل أنّ المُراد تحريم جمعهما، ويكون معنى: (لا أُحرّم حلالاً)، أي: (لا أقول شيئاً يُخالف حُكم الله، فإذا أحلّ شيئاً لم أُحرّمه، وإذا حرّمه لم أحلله ولم أسكت عن تحريمه؛ لأنّ سكوتي تحليل له)، ويكون من جملة مُحرّمات النكاح، الجمع بين بنت نبي الله وبنت عدوّ الله.

على أنّ هناك وجها آخر للنظر يُنكر قصّة الخطبة من أساس، ويروى أنّها رواية لم يعرفها المؤرخون، وأنّ الإمام علي بالذات لا يُمكن أن يقف من النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بضعته الزهراء هذا الموقف، ويروي الأستاذ أبو علم، نقلاً عن الأستاذ محمد صادق الصدر أنّ ما نقله المسوّر عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن يصدر منه، كما أنّ الإقدام على الخطبة من الإمام أمرٌ مستحيل لا يمكن تصوّره والزهراء على قيد الحياة.

ثُمّ إنّ سيرة المسور - كما في الاستيعاب والإصابة - تشير إلى أنّه لم يكن من أصحاب الإمام، وأنّ الخوارج كانت تغشاه وأنّه كان من أنصار الزبير، غير أنّ قصة الخطبة إنّما جاءت في أكثر من كتاب، كما كتب الحديث وأخرجها أكثر من واحد، كما إنّها رُويت من غير المسور بن مخرمة، كما في رواية للإمام أحمد، عن عبد الله بن الزبير.

وعلى أية حال، فلقد حدثت في أغلب الظنّ في مستهل حياة الإمام والزهراء الزوجية، حيث لم تكن الزهراء قد ألِفت بعد شدّة الإمام وصرامته، ولم يروّض هو نفسه باحتمال ما كانت تجد من حزن لفقْد أُمّها، وشجوٍ لفُراق بيتها الأوّل، ومن ثَمّ فربما كانت الحادثة في العام الثاني من الهجرة، وقبل أن يأتيهما العام الثالث بأُولى الثمرات المُباركة للزواج، وأعني

١٣١

به الإمام الحسن رضي الله عنه.

وعلى أية حال، فلقد انقشعت السحابة التي ظلّلت أُفق الزهراء حيناً من الدهر، لا نستطع تحديده على وجه التحديد، وعاد البيت أصفى جوّاً مما كان قبل أن يمتحن بتلك التجربة القاسية، ومضت الحياة تسير بالزوجين الكريمين على ما يرجوان من تعاون ومودّة.

4 - الزهراء ووفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم

لقد أحبّت الزهراء أباها النبي حبّاً جمّاً، فقد كان بالنسبة لها النبع المتدفّق لا سيما بعد وفاة أمّها، فهو الأب الشفوق والأم الرءوف، ثُمّ كان لها بعد البعثة أباً ونبياً، والداً ورسولاً، فكانت تحبه حب البنت البارّة بأبيها، وحب المسلمة الصادقة لنبيها، فهو الأب وهو النبي، ومن ثَمّ فقد بكته حين انتقل إلى الرفيق الأعلى بقدر حبّه لها، وحزنت عليه بقدر تعلّقها به، وذرفت عليه من الدموع الحارّة على قدر ما كان يهديها من حبّ أبوي صادق، وحنان ملائكي رحيم، حتى أنّ الزهراء عليها السلام لم تضحك قط بعد وفاة أبيها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وروي عن الباقر أنّه قال:(ما رؤيت فاطمة ضاحكة قط، منذ قُبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قُبضت) ، وفي الواقع لولا أنّ الأب النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرها بموته وهو حي؛ لقضت نحبها حزنا عليه، ولصدمتها الفاجعة المروعة، والكارثة الموجعة، والخطب الأليم، فقد كانت الزهراء تظنّ وكأنّ أباها لا يموت، أو لا يموت وهي على قيد الحياة، وكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يدرك مكانته عندها، ويعلم منزلته في قلبها، ويحس مبلغ ما سوف تقاسيه عند فقده، ومن ثَمّ فقد أخبرها بموته وهو حي، وعزّاها عن فراقه وهو موجود، وبشّرها بلقائه القريب في رحاب الله.

روى البخاري، عن عائشة قالت: دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم فاطمة ابنته في شكواه الذي قبض فيه، فسارّها بشيء فبكت، ثُمّ دعاها فسارّها فضحكت، قالت: فسألتها عن ذلك، فقالت:(سارّني النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبرني أنه يُقبض في وجعه الذي توفّي فيه فبكيت، ثُمّ سارّني فأخبرني أنّي أول أهل بيته أتبعه فضحكت) .

أخرج مثله مسلم وأحمد وابن

١٣٢

سعد وابن ماجة وابن راهوية.

وأخذت الزهراء تُهدّئ من روعها، وتمسح دموعها حتى لا يراها والدها النبي صلّى الله عليه وسلّم فيحزنه جزعها، ولكن أنّى لها ذلك، وهي أمام هول عظيم، فهذا أبوها وحبيبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ثقل عليه مرضه، وفتحت له أبواب السماء، وأقبلت عليه ملائكة الله عزّ وجل بروح من الله ورضوانه، تُبشّره بلقاء ربه عزّ وجل، وما أعدّ له من الوسيلة والدرجة العظيمة والمقام المحمود، وما يلقاه في الخُلد من نعيم مقيم، فلم يلبث أن صعدت روحه الكريمة الطاهرة المطهّرة الراضية المرضية إلى ملئها الأعلى، وإلى جوار ربّ العالمين، فبكت الزهراء عليها السلام، وتغشّاها الأسى والاكتئاب، ولذعها الجوى، وتولّتها غصة وفجيعة.

أخرج البخاري عن أنس قال: لمّا ثقل النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل يتغشّاه، فقالت فاطمة عليها السلام:(وا كرباه) ، فقال لها:(ليس على أبيك كرب بعد اليوم) ، فلمّا مات قالت:(يا أبتاه، أجاب ربه دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه) فلمّا دُفن، قالت فاطمة عليها السلام:(يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التراب؟) .

وأخرج الإمام أحمد، عن أنس قال: لمّا قالت فاطمة ذلك - يعني لما وَجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كرب الموت ما وجد، قالت فاطمة:(وا كرباه) - قال رسول الله:(يا بنيه، إنّه قد حضر بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحد الموافاة يوم القيامة) ، وروي أنّ الزهراء أخذت قبضة من تراب القبر الشريف، فجعلتها على عينها ووجهها، ثُمّ أنشأت تقول:

ماذا على مَن شمّ تربة أحمد

أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائب لو أنّها

صبّت على الأيّام صرْن لياليا

وقالت على قبره الشريف:

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

وغاب مذ غبت عنّا الوحي والكُتب

فليت قبلك كان الموت صادفنا

لما نعيت وحالت دونك الكتب

وروى ابن حجر في فتح الباري، عن الطبراني، أنّه روى عن عائشة أنّ رسول

١٣٣

الله صلّى الله عليه وسلّم قال لفاطمة:(إنّ جبريل أخبرني أنه ليس امرأة من نساء المسلمين أعظم رزيّة منكِ، فلا تكوني أدنى امرأة منهن صبراً) .

وروي أنّه لمّا قُبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم امتنع بلال عن الأذان، وقال: لا أُؤذن لأحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأنّ فاطمة رضي الله عنها، قالت ذات يوم:(أشتهي أن أسمع صوت مؤذّن أبي بالأذان) ، فبلغ ذلك بلالاً رضي الله عنه، فأخذ يؤذّن، فلمّا قال: الله أكبر الله أكبر، ذكرت أباها وأيامه، فلم تتمالك نفسها من البكاء، فلمّا بلغَ قوله: (وأشهد أنّ محمداً رسول الله) شهقت فاطمة رضي الله عنها، وسقطت لوجهها وغُشي عليها، فقيل لبلال: امسك، قد فارقت ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحياة الدنيا، وظنوا أنّها قد ماتت، فلم يُتمّ الأذان فأفاقت، فسألته إتمامه، فلم يفعل، وقال لها: يا سيدة النساء، إنّي أخشى عليكِ مما تُنزليه بنفسكِ إذا سمعتِ صوتي بالأذان، فأعفته من ذلك.

وعن الإمام عليّ قال:(غسّلت النبي صلّى الله عليه وسلّم في قميصه، فكانت فاطمة رضي الله عنها تقول: أرني القميص، فإذا شمّته غُشي عليها، فلمّا رأيت ذلك منها غيّبته).

هذا وقد اعتادت الزهراء رضي الله عنها أن تزور الروضة الشريفة، كما اعتادت أن تزور قبر والدتها السيدة خديجة رضي الله عنها في مكة، وروي عن الباقر رضي الله عنه، أنّه قال:(إنّ فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت تزور قبر حمزة رضي الله عنه ترمّه وتصلحه، وقد علَّمته بحجَر) ، وعن رزين: قال الإمام أبو جعفر محمّد الباقر رضي الله عنه:(إنّ فاطمة رضي الله عنها كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة، فتصلّي هناك وتدعو وتبكي)، وروى الحاكم في المستدرك، عن علي رضي الله عنه قال:(إنّ فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزة كلّ جمعة، فتصلّي وتبكي عنده) .

١٣٤

الفصل الثالث: موقف الزهراء من الخلافة وميراث الرسول صلّى الله عليه وسلّم

1 - الزهراء والخلافة

من المعروف أنّ الإمام عليّ وآل البيت الكرام قد انشغلوا بعد انتقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الرفيق الأعلى مباشرة بتجهيزه صلّى الله عليه وسلّم، وكان علي، وهو مشغول بالجهاز، تفيض دموعه على وجهه في صمت، وهو يُتمتم(بأبي أنت وأُمي يا رسول الله... طبت حيّاً وميّتاً...، ولولا أنّك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع...، بأبي أنت وأمي...)، (إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك...، اذكرنا عند ربك، واجعلنا من همك) ، وفي هذه الأثناء، وقبل أن تُشيّع جنازة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو ما يزال بعد مُسجّى في فراشه، وقد أغلق أهله دونه الباب، حدث أمر جدّ خطير، فلقد اجتمع الخزرج بقيادة سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، وخفّ إليهم رجال الأوس؛ ليختاروا من بينهم رجلاً يكون على رأس المسلمين، بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلقد اعتقد الأنصار أنّهم أَولى بهذا الأمر، بعد أن آوى الإسلام إليهم وأذن الله لرسوله بالهجرة إليهم؛ ليتّخذ مدينتهم موطناً له، ومنطلقاً لرسالته، فأتى الخبر أبا بكر، فأسرع ومعه عُمر، ثُمّ لقيا أبا عبيدة فانطلقوا جميعاً إلى سقيفة بني ساعدة، وبعد جدال طال ولم يستطل، انتهى المجتمعون إلى اختيار الصدّيق خليفة للمسلمين. وكان الإمام علي في تلك الساعات العصيبة بجوار الجثمان الطاهر المُسجّى

١٣٥

في حُجرته، ومن ثَمّ فلم يحضر هو وبنو هاشم هذا الاجتماع، ولو شهد الإمام علي اجتماع السقيفة هذا؛ لكان له فيه مقال، ولربّما أخذت الأمور في هذا اليوم اتجاهاً آخر، غير اتجاهها الذي سارت فيه، وعندما علمت الزهراء عليها السلام بما حدث في اجتماع سقيفة بني ساعدة، وأبوها سيّد المرسلين لم يُدفن بعد، بكت بكاء حارّاً، حتى أنّه لمّا جاءها بعض الصحابة، وفيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، مُعزّين، قالت:(تركتم رسول الله صلّى الله عليه وسلمّ جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم ولم تستأمرونا!!) ، فبكى أبو بكر حتى علا نشيجه، وبكى مَن كان في الدار من المهاجرين الذين كانوا يساعدون عليّاً في تجهيز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير وعمّار. ومن ثَمّ فقد خاصمت أبا بكر وعمر؛ لأنّهما أخذا البيعة لأبي بكر في وقت انشغال زوجها بتجهيز أبيها المتوفّى صلّى الله عليه وسلّم.

ومن ثَمَّ فقد استأخرت يمين الإمام علي عن البيعة للصدّيق، وتذهب الروايات في تفسير ذلك مذاهب شتّى، لسنا الآن بصدد مناقشتها، فمجال ذلك إن شاء الله، كتابنا عن (الإمام علي بن أبي طالب)، وإن كان هذا لا يمنعنا من الإشارة إلى أنّ الإمام علي إنّما كان يعتقد أنّه ما دام الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يعهد بالخلافة إلى أحد بذاته، فإنّ البيت الذي اختارته السماء ليكون منه النبي المصطفى، هو البيت الذي يختار المسلمون منه خليفتهم، ما دام في هذا البيت من يتمتّع بالكفاية الكاملة لشغل منصب الخلافة، أو كما قال الإمام في حواره مع الصحابة، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر:(إنّكم تدفعون آل محمد عن مقامه ومقامهم في الناس، أما والله لنحن أحقّ منكم بالأمر ما دام فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله المضطلع بأمر الرعية، القاسم بينهم بالسوية) .

هذا وقد كانت الزهراء عليها السلام، ترى أنّ زوجها الإمام علي كرّم الله وجهه في الجنّة أحقّ الناس بالخلافة، فهو ربيب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وابن عمّه، وزوج ابنته، وأبو سبطيه الحسن والحسين، وأوّل الناس إسلاماً، وأطولهم في الجهاد باعاً، وهو فتى قريش شجاعة وعِلماً وفضلاً، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يُحبه أشدّ الحُب، ويؤثره أعظم الإيثار، استخلفه حين هاجر على ما كان عنده من الودائع حتى ردّها

١٣٦

إلى أصحابها، وأمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله، فكان أول من شرى نفسه في سبيل الله، ثُمّ هاجر حتى لحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، فآخى النبي بينه وبين نفسه، ثُمّ شهد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم مشاهده كلّها، وكان صاحب رايته في أيام البأس، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر:(لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله) ، فتطلّع إليها كبار الصحابة، غير أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم دفعها إلى علي. وقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم استخلفه على المدينة وعلى أهله، عندما سار إلى غزوة تبوك:(أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي)، وأعطاه سورة براءة ليقراها على أهل الموسم، فلمّا قيل له: لو بعث بها لأبي بكر، قال:(لا يؤدِّ عنّي إلاّ رجل من أهل بيتي)، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين وهو في طريقه إلى المدينة بعد حجّة الوداع:(مَن كنتُ مولاه، فعليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ مَن عاداه) .

وهكذا كانت الزهراء، كما كان بنو هاشم جميعاً، وجمهرة من أهل المدينة، يرون أنّ الإمام عليّ أحق الناس بخلافة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن ثَمّ فقد خرج الإمام يحمل فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على دابة ليلاً، في مجالس الأنصار، تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجكِ وابن عمّكِ سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول عليّ كرم الله وجهه في الجنة:(أكنتُ أدع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا أدفنه، وأخرج أُنازع الناس سلطانه؟!) ، فقالت فاطمة:(ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه) .

هذا وقد روي أنّ أبا بكر قام على المنبر يخطب، فما هو إلاّ أن حمد الله، وأخذ في خطبته، حتى سمع وسمع الحاضرون صوتاً نحيلاً يهتف:(ليس هذا منير أبيك، انزل عن منبر أبي) ، والتفتوا فإذا بالصائح هو الحسن بن علي، ولمّا يبلغ الثامنة، فابتسم الصدّيق، وقال، والحنوّ يشعّ في نفسه: (ابن بنت رسول الله صدقتَ والله، ما كان لأبي منبر، وإنّه لمنبر أبيك)، فلمّا سمع الإمام بالخبر أرسل إلى أبي بكر يقول له: (اغفر ما كان من الغلام، فإنّه حَدَث ولم نأمره)، فقال أبو بكر: (إنّي أعلم، وما اتهمت يا أبا الحسن).

وظلّت الزهراء متمسّكة برأيها، وما كانت رضي الله عنها لتتزحزح عن

١٣٧

رأي اقتنعت به، ورأته صواباً، وكان رأيها الذي لا تحيد عنه: (أنّ علياً أحقّ بالخلافة من غيره)، ومن هنا ذهب البعض إلى أنّ الإمام توقّف عن البيعة للصدّيق مُجاملة للزهراء، فلمّا انتقلت إلى جوار ربها، راضية مرضياً عنها، بايع الإمامُ الصديقَ، وذهب آخرون أنّ تلك البيعة لم تكن الأُولى، إنّما كانت تجديداً لها، غير أنّ ما قاله الإمام للصدّيق تدلّ على أنّها الأُولى، حيث استدعاه في بيته وحوله بنو هاشم، ثُمّ قال له: (يا أبا بكر، إنّه لم يمنعنا أن نُبايعك إنكارا لفضلك، ولا نفاسة عليك لخيرٍ ساقه الله إليك، ولكنّا كنّا نرى أنّ لنا في هذا الأمر حقّا أخذ تموه).

وهكذا بايع الإمام الصديق، وفاءت نفسه إلى الرضا، خاصة وقد سار أبو بكر في خلافته تلك السيرة الراشدة، وقام في المسلمين هذا المقام المحمود، متأسّياً برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، متّبعاً هدْيه، مقتفياً أثره، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

2 - الزهراء وميراث الرسول صلّى الله عليه وسلّم

كان ميراث الزهراء في الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتضمن ميراثها فيما تركه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثُمّ فدك التي نحلها إيّاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثُمّ نصيبها في سهم ذَوي القربى.

أمّا الميراث، فلقد طلبت الزهراء ميراثها من أبيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فروى أبو بكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة).

وأخرج الترمذي، عن أبي هريرة، قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر، فقالت:(مَن يرثك؟) قال: أهلي ووُلدي، قالت:(فما لي لا أرِث أبي؟) فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (لا نورِّث)، ولكنّي أعول مَن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعوله. وأنفِق على مَن كان رسول صلّى الله عليه وسلّم يُنفق عليه.

وروى البلاذري في فتوح البلدان، بسنده عن أُمّ هانئ: أنّ فاطمة بنت رسول الله صلى لله عليه وسلم أتت أبا بكر رضي الله عنه، فقالت،(مَن يرثك إذا متّ؟) قال: وُلدي وأهلي، قالت:(فما بالك ورثْتَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دوننا؟!) فقال: يا بنت رسول الله، والله ما ورثت أباك ذهباً ولا فضّة ولا كذا ولا كذا، فقالت:(سهمنا بخيبر،

١٣٨

وصدقَتنا فدك) ، فقال: يا بنت الرسول، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (إنّما هي طعمة أطعمنيها الله عزّ وجل حياتي، فإذا متّ فهي بين المسلمين).

وأخرج البخاري، عن عائشة: إنّ فاطمة سألت أبا بكر الصدّيق بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقسّم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (لا نورّث ما تركناه صدقة)، فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفّيت، وعاشت بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستّة أشهر، قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لستُ تاركاً شيئاً كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعمل به إلاّ عملت به، فإنّي أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ، فأمّا صدقته بالمدينة، فدفعها عمر إلى علي والعبّاس، وأمّا فدك وخيبر فامسكها عُمر، وقال: هما صدقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت لحقوقه التي تعروه ونوائبه وأمرهما إلى من وليَ الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم.

وأمّا (فدك)، فهي أرض يهوديّة في شمال الحِجاز، فلمّا كانت السَنة السابعة من الهجرة، وحدثت غزوة خيبر، قذف الله في قلوب أهل فدك الرُعب، فصالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على النصف منها، ورُوي أنّه صالحهم عليها كلّها، ومِن هنا بدأ تاريخها الإسلامي، فكانت مِلكاً لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنّها لم يوجَف عليها بخيل ولا ركاب، ثُمّ غرس فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعض النخيل، ثُمّ وهبها لابنته الزهراء، وبقيت عندها حتّى توفّي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فكانت هي التي تتصرّف فيها، وكانت تتصدّق بكلّ خراجها، بعد أن تستبقي ما يسدّ حاجة الإمام، ورأى أبو بكر أن تكون فدك بيد وليّ الأمر - أي بيده هو - يوزّع خراجها على الناس، واحتجّ أبو بكر لرأيه بأنّه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول، (إنّا معشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صَدقة)، وأفتى الإمام علي بأنّ الأنبياء يورّثون، واستشهد بقوله تعالى: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) ، وقوله تعالى على لسان زكريا: ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ، واحتج عليّ بأنّ الحديث الشريف الذي يرويه أبو بكر هو من أحاديث الآحاد التي ينفرد بروايتها واحد فحسب من الصحابة، وأحاديث الآحاد لا تُقيّد

١٣٩

حُكماً أطلقه القرآن، ولو أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يخصص أو يقيّد هذا الحكم القرآني، لأخبر ورثته أنّهم لن يرثوه.

ثُمّ إنّ الزهراء قالت إنّ أباها صلّى الله عليه وسلّم وهبها أرض فدك، فهي إن لم تكن إرثاً، فهي هبة. روى السيوطي في تفسيره الدُرّ المنثور (5 / 273 - 274) أخرج البزار وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حاتم وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: لمّا نزلت هذه الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) (الإسراء آية 26) دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة فأعطاها فدك.

وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لمّا نزلت( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) أقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة فدكاً.

وروى الهيثمي في مجمعه، عن أبي سعيد قال: لمّا نزلت( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة فأعطاها فدكاً، قال: رواه الطبراني، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال، وصحّحه المُتّقي في كنز العمّال، عن أبي سعيد، قال: لمّا أنزلت( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يا فاطمة لك فدك، قال: أخرجه الحاكم في تاريخه وابن النجّار (واُنظر: فضائل الخمسة 3 / 136).

ومن هذا المنطلق الأخير طلبت الزهراء فدكاً من الصدّيق، على أنّها هبة لها من أبيها صلّى الله عليه وسلّم، فلقد جاء في شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة: أنّ الزهراء قالت لأبي بكر:(إنّ فدكاً وهبها لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) ، قال فمَن يشهد بذلك؟ فجاء عليّ ابن أبي طالب، فشهد بذلك، وجاءت أُمّ أيمن، فشهدت أيضاً، فجاء عمر بن الخطاب وعبد الرحمان بن عوف، فشهدا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقسّمها، فقال أبو بكر: صدقتِ يا ابنة رسول الله وصدق عليّ، وصدقت أُمّ أيمن، وصدق عُمر، وصدق عبد الرحمان، وذلك أنّ مالكِ لأبيك، كان رسول الله يأخذ من فدك قوتَكم، ويقسّم الباقي، ويحمل منه في سبيل الله، فما تصنعين بها؟ قالت: (اصنع بها كما كان يصنع بها أبي)، قال: فلكِ عليَّ أن أصنع كما كان يصنع أبوكِ، قالت: (الله لتفعلن)، قال: الله لأفعلن، قالت: (اللّهمّ فاشهد)، على أنّ رواية أُخرى تذهب إلى أنّ فاطمة طلبت نحلتها من رسول صلّى الله عليه وسلّم، وقالت: إنّه نحلها فدك، فطلب منها البينة،

١٤٠