الاذان بين الاصالة والتحريف

الاذان بين الاصالة والتحريف0%

الاذان بين الاصالة والتحريف مؤلف:
الناشر: لسان الصدق
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 470

الاذان بين الاصالة والتحريف

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السید علی الشهرستانی
الناشر: لسان الصدق
تصنيف: الصفحات: 470
المشاهدات: 37768
تحميل: 5871

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 470 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 37768 / تحميل: 5871
الحجم الحجم الحجم
الاذان بين الاصالة والتحريف

الاذان بين الاصالة والتحريف

مؤلف:
الناشر: لسان الصدق
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثمّ دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد.

ثمّ أعاد ما أعاد توكيداً، ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الجماعة وإظهار شعار الإسلام) (336) .

قال ابن خزيمة: فإذا كان المرء يطمع بالشهادة بالتوحيد للَّه في الأذان وهو يرجو أن يخلّصه اللَّه من النار بالشهادة للَّه بالتوحيد في أذانه، فينبغي لكلِّ مؤمن أن يتسارع إلى هذه الفضيلة طمعاً في أن يخلّصه اللَّه من النار، خلا في منزله وفي بادية وقرية ومدينة طلباً لهذه الفضيلة) (337) .

وقال القسطلانيّ - بعد نقله خبر أبي هريرة عن النبيِّ وقوله: (إذا نُودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتّى لا يُسمَع التأذين) -: (لعظيم أمره لما اشتمل عليه من قواعد الدين وإظهار شرائع الإسلام، أوحى: لا يشهد للمؤذِّن بما سمعه إذا استشهد يوم القيامة، لأنّه داخل في الجنّ والإنس المذكور في حديث: لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنّ ولا إنس ولا شي‏ء إلَّا شهد له يوم القيامة) (338) .

وأخرج عبد الرزّاق عن معمر، عن الزهريّ: أنَّ أبا بكر الصدّيق قال: الأذان شعار الإيمان (339) .

ونقل الصدوق بسنده إلى الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام)، قال: (كنّا جلوساً في المسجد، إذ صعد المؤذِّن المنارة، فقال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، فبكى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وبكينا لبكائه، فلمّا فرغ المؤذّن، قال: (أتدرون ما يقول

____________________

(336) فتح الباري 2: 61 كتاب أبواب الأذان، وعنه في بذل المجهود 4: 3 - 4. وعون المعبود 2: 127.

(337) صحيح ابن خزيمة 1: 208.

(338) إرشاد الساري 2: 5.

(339) مصنّف عبد الرزّاق 1: 483/ 1858.

١٤١

المؤذِّن؟).

قلنا: اللَّه ورسوله ووصيّه أعلم.

فقال: (لو تعلمون ما يقول لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فلِقوله: اللَّه أكبر، معانٍ كثيرة.

منها: أنَّ قول المؤذِّن: (اللَّه أكبر)، يقع على قِدَمِهِ، وأزليّته، وأبديّته، وعلمه، وقوّته، وقدرته، وحلمه، وكرمه، وجوده، وعطائه، وكبريائه.

فإذا قال المؤذِّن: اللَّهُ أكبر، فإنّه يقول: اللَّه الذي له الخلق والأمر، وبمشيّته كان الخَلق، ومنه كلّ شي‏ء للخلق، وإليه يرجع الخلق، وهو الأوّل قبل كلّ شي‏ء لم يَزَل، والآخِر بعد كلّ شي‏ء لا يزال، والظاهر فوق كلّ شي‏ء لا يُدرَك، والباطن دون كلّ شي‏ء لا يُحَدّ، فهو الباقي، وكلّ شي‏ء دونه فانٍ.

والمعنى الثاني: (اللَّه أكبر)، أي: العليم الخبير، عليم بما كان وما يكون قبل أن يكون.

والثالث: (اللَّه أكبر)، أي: القادر على كلّ شي‏ء، يقدر على ما يشاء، القويّ لقدرته، المقتدر على خلقه، القويّ لذاته، وقدرته قائمة على الأشياء كلّها، إذا قضى أمراً فإنّما يقول له: كن فيكون.

والرابع: (اللَّه أكبر) على معنى حلمه، وكرمه، يحلم كأنّه لا يعلم، ويصفح كأنّه لا يرى، ويستر كأنّه لا يُعصى، لا يَعجَل بالعقوبة كرماً وصفحاً وحلماً.

والوجه الآخر في معنى اللَّه أكبر: أي الجواد، جزيل العطاء، كريم الفِعال.

والوجه الآخر: اللَّه أكبر فيه نفي صفته وكيفيّته، كأنّه يقول: اللَّه أجَلُّ من أن يُدرِك الواصفون قدرَ صفته، الذي هو موصوف به، وإنّما يصفه الواصفون على قدرهم لا على قدر عظمته وجلاله، تعالى اللَّه عن أن يُدرِك الواصفون صفته علوّاً

١٤٢

كبيراً.

والوجه الآخر: اللَّه أكبر، كأنّه يقول: اللَّه أعلى وأجلّ، وهو الغنيُّ عن عباده، لا حاجة به إلى أعمال خلقه.

وأمّا قوله: (أشهد أن لا إله إلّا اللَّه): فإعلام بأنَّ الشهادة لا تجور إلَّا بمعرفة من القلب، كأنّه يقول: أعلمُ أنّه لا معبود إلَّا اللَّه (عزّ وجلّ)، وأنَّ كلّ معبود باطل سوى اللَّه (عزّ وجلّ)، وأقِرُّ بلساني بما في قلبي من العلم بأنّه لا إله إلَّا اللَّه، وأشهد أنّه لا ملجأ من اللَّه (عزّ وجلّ) إلّا إليه، ولا منجى من شرّ كلّ ذي شرّ، وفتنة كلّ ذي فتنة إلّا باللَّه.

وفي المرّة الثانية: (أشهد أن لا إله إلَّا اللَّه)، معناه: أشهد أن لا هادي إلّا اللَّه، ولا دليل إلى الدين إلّا اللَّه، وأُشهِدُ اللَّه بأني أشهَدُ أن لا إله إلّا اللَّه، وأُشهد سُكَّان السماوات، وسكّان الأرضين، وما فيهنّ من الملائكة والناس أجمعين، وما فيهنّ من الجبال، والأشجار، والدوابّ، والوحوش، وكلّ رطب ويابس، بأنّي أشهد أن لا خالق إلَّا اللَّه، ولا رازق، ولا معبود، ولا ضارّ، ولا نافع، ولا قابض، ولا باسط، ولا معطي، ولا مانع، ولا ناصح، ولا كافي، ولا شافي، ولا مُقدّم، ولا مُؤخّر إلّا اللَّه، له الخلق والأمر، وبيده الخير كلّه، تبارك اللَّه ربّ العالمين.

وأمّا قوله: (أشهدُ أن محمّداً رسول اللَّه)، يقول: أشهد اللَّه أنّه لا إله إلّا هو، وأنَّ محمّداً عبده ورسولُه، ونبيُّه، وصفيُّه، ونجيبُه، أرسله إلى كافّة الناس أجمعين بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون، وأشهد مَن في السماوات والأرض، من النبيّين والمرسلين، والملائكة والناس أجمعين أنَّ محمّداً سيّد الأوّلين والآخرين.

وفي المرّة الثانية: (أشهد أنَّ محمّداً رسول اللَّه)، يقول: أشهد أن لا حاجة لأحد [ إلى أحد ] إلَّا إلى اللَّه الواحد القهّار الغنيّ عن عباده والخلائق والناس أجمعين، وأنّه

١٤٣

أرسل محمّداً إلى الناس بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللَّه بإذنه وسراجاً منيراً، فمن أنكره وجحده ولم يؤمن به أدخله اللَّه (عزّ وجلّ) نار جهنّم خالداً مُخَلَّداً، لا ينفكُّ عنها أبداً.

وأما قوله: (حيّ على الصلاة)، أي هلمّوا إلى خير أعمالكم، ودعوة ربّكم، وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم، وإطفاء ناركم التي أوقدتموها على ظهوركم، وفكاك رقابكم التي رَهَنتموها، ليكفّر اللَّه عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ويبدّل سيئاتكم حسنات، فإنّه مَلِكٌ كريم، ذو الفضل العظيم، وقد أذِن لنا - معاشرَ المسلمين - بالدخول في خدمته، والتقدّم إلى بين يديه.

وفي المرة الثانية: (حيّ على الصلاة)، أي قوموا إلى مناجاة ربّكم وعرض حاجاتكم على ربكم، وتوسّلوا إليه بكلامه، وتشفعوا به وأكثروا الذكر والقُنوت، والركوع والسجود، والخضوع والخشوع، وارفعوا إليه حوائجكم، فقد أذن لنا في ذلك.

وأمّا قوله: (حيّ على الفلاح)، فإنّه يقول: أَقْبِلُوا إلى بقاءٍ لا فناءَ معه، ونجاةٍ لا هلاك معها، وتعالوا إلى حياةٍ لا موت معها، وإلى نعيم لا نفاد له، وإلى مُلك لا زوال عنه، وإلى سرور لا حزن معه، وإلى أُنس لا وحشة معه، وإلى نور لا ظلمة معه، وإلى سعة لا ضيق معها، وإلى بهجة لا انقطاع لها، وإلى غِنى لا فاقة معه، وإلى صحّة لا سقم معها، [ وإلى عِزّ لا ذلّ معه ]، وإلى قوّة لا ضعف معها، وإلى كرامة يا لها من كرامة، وعَجِّلُوا إلى سرور الدنيا والعقبى، ونجاة الآخرة والأُولى.

وفي المرّة الثانية: (حيّ على الفلاح)، فإنّه يقول: سابقوا إلى ما دعوتكم إليه، وإلى جز يل الكرامة، وعظيم المِنَّة، وسنيّ النِّعمة، والفوز العظيم، ونعيم الأبد في جوار محمّد (صلَّى الله عليه وآله) في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

١٤٤

وأمّا قوله: (اللَّهُ أكبر، اللَّهُ أكبر)، فإنّه يقول: اللَّه أعلى وأجلّ من أن يعلم أحد من خلقه ما عنده من الكرامة لعبد أجابه وأطاعه، وأطاع أمره وعبدَهُ وعرف وعيده، واشتغل به وبذكره، وأحبّه وآمن به، واطمأنَّ إليه ووثق به وخافه ورجاه، واشتاق إليه، ووافقه في حكمه وقضائه، ورضي به.

وفي المرّة الثانية: (اللَّهُ أكبر)، فإنّه يقول: اللَّه أكبر: وأعلى وأجَلُّ من أن يَعلم أحدٌ مبلغ كرامته لأوليائه وعقوبته لأعدائه، ومبلغ عفوه وغفرانه ونعمته لمن أجابه وأجاب رسوله، ومبلغ عذابه ونَكاله وهوانه لمن أنكره وجحده.

وأمّا قوله: (لا إله إلّا اللَّه)، معناه: للَّه الحجّة البالغة عليهم بالرسول والرسالة، والبيان والدعوة، وهو أجَلُّ من أن يكون لأحدٍ منهم عليه حجَّة، فَمَن أجابه فله النور والكرامة، ومَن أنكره فإنَّ اللَّهَ غنيٌّ عن العالمين، وهو أسرع الحاسبين.

ومعنى (قد قامت الصلاة) في الإقامة، أي حان وقت الزيارة والمناجاة، وقضاء الحوائج، ودرك المُنَى، والوصول إلى اللَّه (عزّ وجلّ)، وإلى كرامته وغفرانه وعفوه ورضوانه).

قال الصدوق: إنّما تَرَكَ الراوي ذِكر (حيّ على خير العمل) للتقيّة (340) ، وقد روي في خبر آخر أنَّ الصادق عليه السلام سئل عن معنى (حيّ على خير العمل) فقال: (خير العمل: الولاية).

____________________

(340) وعلّق القاضي نعمان بن محمد بن حسون (ت 363 هـ) في الإيضاح على الرواية التي ليس فيها ذكر (حي على خير العمل) بقوله: ولا أظن - واللَّه أعلم - أن ذلك ترك من الرواية إلّا لمثل ما قدمت ذكره في كتاب الطهارات من الوجوه التي من أجلها اختلفت الرواة عن أهل البيت [أي البقية، راجع دعائم الإسلام 1: 59 - 60] فإن لم يكن ذلك فقد ثبت أنه إذن بها على عهد رسول اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) توفَّاه اللَّه تعالى وأن عمر اقطعه...

١٤٥

وفي خبر آخر: (خير العمل: بِرُّ فاطمةَ وولدها) (341) .

قلتُ: سنفتح بإذن اللَّه ملابسات هذه الرؤية وما يتلوها عن ابن عبّاس في البابين الأوّل (حيّ على خير العمل، الشرعية والشعارية)، والثالث (أشهد أن عليّاً وليّ اللَّه بين الشرعية والابتداع) من هذه الدراسة إن شاء اللَّه تعالى. إذ لا خلاف عند جميع الفرق الشيعية إسماعيلية كانت، أم زيدية، أم إمامية اثني عشرية بجزئية الحيعلة الثالثة، وأكّد الدسوقي وغيره - كما سيأتي - على تأذين الإمام عليّ بن أبي طالب بها، فقد يكون - وكما احتمله الشيخ الصدوق - الراوي إنّما ترك ذكر (حيّ على خير العمل) للتقية وذلك للظروف التي كانت تمر بها الشيعة.

ويؤيد ما قلناه في شرعية الحيعلة الثالثة وأنّها موجودة في الأخبار المنقولة عن الإمام عليّ وابن عباس ما روي عند الزيدية عن ابن عبّاس عن عليّ بن أبي طالب قال: (سمعت رسول اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) يقول: لما انتُهي بي إلى سدرة المنتهى)... وفيه: (حيّ على خير العمل حيّ على خير العمل) (342) .

وروى الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن عطاء، قال: كنّا عند ابن عبّاس بالطائف، أنا وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وعكرمة، فجاء المؤذِّن فقال: (اللَّهُ أكبر اللَّهُ أكبر)، واسم المؤذِّن قثم بن عبد الرحمن الثقفيّ.

فقال ابن عبّاس: أتدرون ما قال المؤذِّن؟ فسأله أبو العالية، فقال: أخبرنا بتفسيره.

قال ابن عبّاس:) إذا قال المؤذِّن: (اللَّه أكبر، اللَّهُ أكبر)، يقول: يا مَشاغيلَ

____________________

(341) معاني الأخبار 38 - 41 والنصّ عنه، والتوحيد 238 - 241 كما في مستدرك وسائل الشيعة 4: 65 - 70 ح 4187/ 1، وانظر: بيان المجلسيّ في بحار الأنوار 81: 134 - 135، وتفسيره (عليه السلام) الأذان في جامع الأخبار: 171 كما في بحار الأنوار 81: 153 - 155.

(342) انظر: الخبر بتفصيله في كتاب الاعتصام بحبل اللَّه 1: 290.

١٤٦

الأرض، قد وجبت الصلاة، فتفرَّغوا لها.

وإذا قال: (أشهد أن لا إله إلَّا اللَّه)، يقول: يقوم يوم القيامة، ويشهد لي ما في السماوات وما في الأرض على أنّي أخبرتكم في اليوم خمس مرّات.

وإذا قال: (أشهد أنَّ محمّداً رسول اللَّه)، يقول: تقوم القيامة ومحمّد يشهد لي عليكم أنّي قد أخبرتكم بذلك في اليوم خمس مرّات، وحجّتي عند اللَّه قائمة.

وإذا قال: (حيّ على الصلاة)، يقول: دِيناً قيِّماً فأقيموه.

وإذا قال: (حيّ على الفلاح)، يقول: هَلمُّوا إلى طاعة اللَّه وخذوا سهمكم من رحمة اللَّه، يعني الجماعة.

وإذا قال العبد: (اللَّهُ أكبر، اللَّهُ أكبر)، يقول: حرّمت الأعمال.

وإذا قال: (لا إله إلَّا اللَّه)، يقول: أمانة سبع سماوات، وسبع أرضين، والجبال، والبحار وضعت على أعناقكم: إن شئتم فأقبلوا، وإن شئتم فأدبروا (343) .

وقد مرّ عليك كلام الإمام الحسين (والأذان وجه دينكم)، وقول محمّد ابن الحنفيّة: (عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم الدين) (344) ، وما جاء في مَن لا يحضره الفقيه بإسناده عن الفضل بن شاذان فيما ذكره من العلل عن الرضا (عليه السلام) أنّه قال:

(إنّما أُمِرَ الناس بالأذان لعلل كثيرة، منها: أن يكون تذكيراً للناسي، وتنبيهاً للغافل، وتعريفاً لمن جهل الوقت واشتغل عنه؛ ويكون المؤذِّن بذلك داعياً لعبادة الخالق، ومرغِّباً فيها، ومُقِرَّاً له بالتوحيد، مجاهراً بالإيمان، معلناً بالإسلام...).

إلى أن يقول: (وجُعِل بعد التكبير الشهادتان، لأنَّ أوّل الإيمان هو التوحيد

____________________

(343) معاني الأخبار 41 كما في بحار الأنوار 81: 141 - 143 ومستدرك وسائل الشيعة 4: 71 - 72.

(344) جاء في كتاب الاعتصام بحبل اللَّه 1: 278: قال الهادي إلى الحقّ [من أئمّة الزيديّة]: والأذان من أصول الدين، وأصول الدين لا يتعلّمها رسول اللَّه على لسان بشر من العالمين.

١٤٧

والإقرار للَّه بالوحدانيّة، والثاني الإقرار للرسول بالرسالة، وأنَّ إطاعتهما ومعرفتهما مقرونتان، ولأنَّ أصل الإيمان إنّما هو الشهادتان، فجعل شهادتين شهادتين كما جُعِلَ في سائر الحقوق شاهدان، فإذا أقرّ العبد للَّه (عزّ وجلّ) بالوحدانيّة وأقرّ للرسول بالرسالة فقد أقرَّ بجملة الإيمان؛ لأنّ أصل الإيمان إنّما هو باللَّه وبرسوله. وإنّما جعل بعد الشهادتين الدعاء إلى الصلاة، لأنّ الأذان إنّما وضع لموضع الصلاة، وإنّما هو نداء إلى الصلاة في وسط الأذان ودعاء إلى الفلاح وإلى خير العمل، وجعل ختم الكلام باسمه كما فتح باسمه) (345) .

وفي العلل لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم بن هاشم، قال: علّة الأذان أن تكبّر اللَّه وتعظّمه وتقرّ بتوحيد اللَّه وبالنبوّة والرسالة وتدعو إلى الصلاة وتحثّ على الزكاة، ومعنى الأذان: الإعلام، لقوله تعالى: ( وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ ) (346) ، أي: إعلام، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (كنتُ أنا الأذان في الناس بالحجّ)، وقوله: ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) (347) ، أي: أعلِمهم وادعُهم.

فمعنى (اللَّه) أنّه يخرج الشي‏ء من حدِّ العدم إلى حدِّ الوجود ويخترع الأشياء لا من شي‏ء، وكلّ مخلوق دونه يخترع الأشياء من شي‏ء إلَّا اللَّه، فهذا معنى (اللَّه) وذلك فرق بينه وبين المحدَث.

ومعنى (أكبر)، أي: أكبر مِن أن يُوصَف في الأوّل، وأكبر من كلِّ شي‏ء لمّا خلق الشي‏ء.

ومعنى قوله: (أشهد أن لا إله إلَّا اللَّه): إقرار بالتوحيد، ونفي الأنداد وخلعها،

____________________

(345) مَن لا يحضره الفقيه 1: 299/ 914، علل الشرائع: 258/ 9 الباب 182، عيون أخبار الرضا 2: 103 - 105.

(346) التوبة: 2.

(347) الحجّ: 28.

١٤٨

وكلّ ما يعبدون من دون اللَّه.

ومعنى (أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه): إقرار بالرسالة والنبوّة، وتعظيم لرسول اللَّه (صلَّى الله عليه وآله)، وذلك قول اللَّه (عزّ وجلّ): ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (348) ، أي: تُذكَر معي إذا ذُكِرتُ.

ومعنى (حيّ على الصلاة)، أي: حثّ على الصلاة.

ومعنى (حيّ على الفلاح)، أي: حثّ على الزكاة.

وقوله: (حيّ على خير العمل)، أي: حثّ على الولاية، وعلّة أنّها خير العمل أنَّ الأعمال كلّها بها تقبل.

اللَّهُ أكبر، اللَّهُ أكبر، لا إله إلَّا اللَّه، محمّد رسول اللَّه، فألقى معاوية من آخر الأذان (محمّد رسول اللَّه)، فقال: أمَا يرضى محمّد أن يُذكر في أوّل الأذان حتّى يذكر في آخره؟!

ومعنى (الإقامة): هي الإجابة والوجوب، ومعنى كلماتها فهي التي ذكرناها في الأذان.

ومعنى (قد قامت الصلاة)، أي: قد وجبت الصلاة وحانت وأُقيمت. وأما العلّة فيها، فقال الصادق (عليه السلام): (إذا أذَّنتَ وصلّيتَ صلَّى خلفك صفٌّ من الملائكة، و إذا أذَّنت وأقمتَ صلَّى خلفك صفّان من الملائكة). ولا يجوز ترك الأذان إلّا في صلاة الظهر والعصر والعتمة، يجوز في هذه الثلاث الصلوات إقامة بلا أذان، والأذان أفضل، ولا تجعل ذلك عادة، ولا يجوز ترك الأذان والإقامة في صلاة المغرب وصلاة الفجر، والعلة في ذلك أنّ هاتين الصلاتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار (349) .

____________________

(348) الانشراح: 4.

(349) بحار الأنوار 81: 169. عن كتاب العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم.

١٤٩

وقال الشيخ جعفر كاشف الغطاء - ضمن بيانه لحكم وفضل الأذان -: (.. ولأنّه وضع لشعائر الإسلام دون الإيمان) (350) .

فهذه النصوص تشير بوضوح إلى أنّ الأذان لم يكن إعلاماً بوقت الصلاة فقط، بل هو بيان لكلّيّات الإسلام وأصول العقيدة والعقائد الحقة.

فلو كان بياناً لوقت الصلاة خاصّة؛ لكان للشارع أن يكتفي بتشريع علامة كي تكون معلماً للوقت والمكان كما تفعله اليهود والنصارى والمجوس بالبوق والناقوس وإشعال النار وغير ذلك.

وعليه، لم يكن الأذان لإعلام وقت الصلاة خاصّة، و يؤيّد قولنا شموليّة التأذين لكثير من الأُمور الاجتماعيّة والحياتيّة، ولو سلّطنا الضوء على آثار الأذان في الشريعة لوقفنا على جواب سؤالنا.

الأذان وآثاره في الحياة الاجتماعية

من الثابت في الشريعة الإسلامية استحباب الأذان والإقامة لأمور حياتيّة واجتماعيّة كثيرة غير الصلاة، نذكر موارد منها:

الأذان والمولود

عن عليّ (عليه السلام): (مَن وُلِد له مولود فليؤذِّن في أُذنه اليمنى بأذان الصلاة، وليقم في

____________________

(350) كشف الغطاء، الطبعة القديمة 227 في بيان كيفيّة الأذان، وسنعلِّق في الباب الثالث (أشهد أن عليّاً ولي اللَّه بين الشرعية والابتداع) على كلامه رحمه اللَّه تعالى.

١٥٠

اليسرى، فإنَّ ذلك عصمة من الشيطان الرجيم والإفزاع له) (351) .

وفي سنن أبي داود بسنده عن عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن أبيه، قال: (رأيت رسول اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) أذّن في أُذن الحسن بن عليّ حين ولدته فاطمة بالصلاة) (352) .

الأذان والعقم

شكا هشام بن إبراهيم إلى الرضا (عليه السلام) سقمه وأنّه لا يولد له، فأمره أن يرفع صوته بالأذان في منزله، قال: ففعلتُ ذلك، فأذهب اللَّهُ عني سقمي، وكثر ولدي (353) .

الأذان والمرض

عن جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أنّه دخل عليه رجل من مواليه وقد وعك، فقال له (عليه السلام): (ما لي أراك متغيِّر اللون؟)، فقلتُ: جُعِلتُ فداك، وعكتُ وعكاً شديداً منذ شهر، ثمّ لم تنقلع الحمّى عنّي، وقد عالجتُ نفسي بكلّ ما وصفه لي المترفّقون فلم أنتفع بشي‏ء من ذلك. فقال له الصادق (عليه السلام): (حلَّ أزرار قميصك، وأدخل رأسك في قميصك وأذِّن وأقِم واقرأ سورة الحمد سبع مرات).

____________________

(351) النصّ في الجعفريّات (الأشعثيّات): 32، وقريب منه في دعائم الإسلام 1: 147، وعنه في بحار الأنوار 84: 162 - 163. وانظر: وسائل الشيعة 21: 405 - 406 كتاب النكاح باب استحباب الأذان في أذن المولود.

(352) سنن أبي داود 4: 328 كتاب الأدب باب في الصبيّ يولد فيؤذّن في أذنه ح 5105، وسنن الترمذي 4: 97 كتاب الأضاحي باب الأذان في أذن المولود ح 1514، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(353) الدعوات للقطب الراونديّ: 189 - 190، وعنه في بحار الأنوار 81: 156. ومستدرك وسائل الشيعة 4: 39 كتاب الصلاة وانظر: كلام الشيخ يحيى بن سعيد في جامع الشرائع 73، والصدوق في من لا يحضره الفقيه 1: 292 ح 903.

١٥١

قال: ففعلتُ ذلك، فكأنّما نشطتُ من عقال (354) .

وحكى العجلوني في كشف الخفاء عن الفقيه محمّد السيابا - فيما حكى عن نفسه - أنّه هبّت ريح فوقعت منه حصاة في عينه وأعياه خروجها وآلمته أشدّ الألم، وأنّه لمّا سمع المؤذّن يقول: أشهد أن محمّداً رسول اللَّه، قال ذلك، فخرجت الحصاة من فوره (355) .

الأذان وسعة الرزق

شكا رجل لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام) الفقر، فقال: (أذِّن كلَّما سمعتَ الأذان كما يُؤذّن المؤذّن) (356) .

وقال سليمان بن مقبل المدينيّ: قلتُ لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): [لأيّ] علّة يستحبّ للإنسان إذا سمع الأذان أن يقول كما يقول المؤذِّن، و إن كان على البول والغائط؟

فقال (عليه السلام): (لأنَّ ذلك يزيد في الرزق) (357) .

الأذان ووجع الرأس

ذكر الشيخ الطبرسيّ في عدّة السفر وعمدة الحضر: روي عن الأئمَّة: أنّه: (يكتب الأذان والإقامة لرفع وجع الرأس و يُعَلَّق عليه) (358) .

____________________

(354) طبّ الأئمّة 52، كما في بحار الأنوار 81: 75.

(355) كشف الخفاء 2: 206 - 207.

(356) بحار الأنوار 81: 174 عن الدعوات للراوندي.

(357) وسائل الشيعة 1: 315 كتاب الطهارة أبواب أحكام الخلوة، وانظر: 15: 347 - 348 عن الإمام عليّ، كتاب الجهاد أبواب جهاد النفس.

(358) مستدرك وسائل الشيعة 4: 76، مستدرك سفينة البحار 1: 65 في مادة (أذن)، الطبعة القديمة.

١٥٢

الأذان وسوء الخُلق

عن الصادق (عليه السلام): (إن لكلّ شي‏ء قَرَماً، وأنَّ قَرَم الرجل اللحم، فَمَن تركه أربعين يوماً ساء خُلقه، ومَن ساء خلقه فأذِّنّوا في أُذنه اليمنى) (359) .

الأذان وطرد الشيطان

روى سليمان الجعفريّ أنّه سمع الإمام الصادق (عليه السلام)، يقول: (أذِّن في بيتك، فإنّه يطرد الشيطان، و يستحبّ من أجل الصِّبيان) (360) .

الأذان والغول

في دعائم الإسلام عن عليّ (عليه السلام) قال: (قال رسول اللَّه: إذا تَغَوّلت لكم الغِيلان (361) فأذِّنوا بالصلاة) (362) .

وعن أبي سعيد الخدريّ: قال رسول اللَّه (صلَّى الله عليه وآله): (لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنّ ولا إنس ولا شي‏ء إلَّا وشهد له يوم القيامة) (363) .

وقال الخطاب الرعيني في مواهب الجليل نقلاً عن الناشري من الشافعيّة في الإيضاح: يستحبّ الأذان لمزدَحَم الجنّ، وفي أُذُن الحزين، والصبيّ عندما يولد في اليمنى ويقيم في اليسرى، والأذان خلف المسافر والإقامة (364) .

____________________

(359) المحاسن 2: 256 كتاب المآكل ح 1808، بحار الأنوار 81: 151.

(360) الحدائق النضرة 7: 366.

(361) الغول: نوع من الجنّ يغتال الإنسان - بحار الأنوار 81: 119.

(362) دعائم الإسلام 1: 147 كما في بحار الأنوار 81: 162، ومستدرك وسائل الشيعة 4: 62.

(363) صحيح البخاري 1: 306 كتاب الأذان باب رفع الصوت بالأذان ح 575، سنن النسائي 2: 12 كتاب الأذان باب رفع الصوت بالأذان.

(364) مواهب الجليل 2: 85. وانظر فتح المعين لشرح قرة العين المطبوع في هامش إغاثة الطالبين 1: 230.

١٥٣

فتلخّص مما سبق ومن أقوال بعض علماء أهل السنّة والجماعة، وجميع الشيعة بفرقها الثلاث أنَّ تشريع الأذان كان في المسرى وأنَّ تشريعه لم يكن لتعيين وقت الصلاة خاصّة؛ لاكتناف هذه الشعيرة الإسلاميّة أسراراً عالية ومعاني باطنيّة عميقة ذكرنا بعضها، وستقف على غيرها لاحقاً، وستعرف بأنَّ السِّرَّ في رفع (حيّ على خير العمل) لم يكن لِما علّلوه، وكذا المقصود من جملة (الصلاة خير من النوم) لم يكن كما يفهمه عامّة الناس من العبارة، بل هناك أسرار ومسائل تكتنف هذه الفصول سنرفع الستار عنها بإذن اللَّه تعالى.

2 - توقيفيّة الأذان

وصل البحث بنا إلى طرح سؤال آخر وهو: هل الأذان توقيفيّ بمعنى لزوم إتيان فصوله كما هي، أم إنّ لنا الحق في الزيادة والنقصان حسب ما تقتضيه المصلحة وهو المعني بعدم توقيفيته كما مرّت الإشارة إليه؟ وهل هناك فرق بين الأمور التوقيفية العباديّة وغيرها، وبين الواجبات والمستحبات، أم لا؟ بل ما هو حكم الأذان، وهل توقيفيته كالقرآن لا يمكن الزيادة والنقيصة فيها؟ أم أن توقفيته هي بشكل آخر؟

من الثابت المعلوم أن الأذان توقيفيّ، وقد مرت عليك نصوص أهل بيت النبيّ الدالّة على أنّه شرّع في الإسراء والمعراج، ومثله جاء في كتب بعض أهل السنة والجماعة.

لكن من حقّنا أن نتساءل: لو كان كذلك فكيف لنا أن نتعامل مع بعض الأحاديث والنصوص المشعرة بعدم التوقيفية، وذلك لما فيها من الزيادة والنقصان، وعلى أيّ شي‏ء تدل، هل على التخيير أم الرخصة أم على شي‏ء آخر؟

١٥٤

روى أبو بصير عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال: (لو أنّ موّذناً أعاد في الشهادة وفي حيّ على الصلاة أو حيّ على الفلاح المرتين والثلاث وأكثر من ذلك إذا كان إماماً يريد به جماعة القوم ليجمعهم لم يكن به بأس) (365) .

وعن أبي عبيدة الحذَّاء، قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) يكبّر واحدة واحدة في الأذان، فقلت له: لِمَ تكبر واحدة واحدة؟ فقال: (لا باس به إذا كنتَ مستعجلاً في الأذان) (366) .

وروى الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله عن المرأة تؤذّن للصلاة؟ فقال: (حَسَنٌ إن فعلت، وان لم تفعل أجزأها أن تكبّر وأن تشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وأن محمّداً رسول اللَّه) (367) .

وعن أبي مريم الأنصاري في الصحيح، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إقامة المرأة أن تكبّر وتشهد أن لا إله إلَّا اللَّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله (صلَّى الله عليه وآله)) (368) .

وجاء في رواية البخاري ومسلم، عن عبد الله بن الحارث، قال: خَطَبنا ابنُ عبّاس في يوم ذي رزغٍ، فأمرَ المؤذّن لمّا بلغ (حيّ على الصلاة) قال قل: (الصلاة في الرحال)، فنظر بعضهم إلى بعض، فكأنّهم أنكروا، فقال: كأنّكم أنكرتم هذا، إنَّ هذا فَعَلُه مَن هو خير منّي - يعني النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) - و إنّها عزمة، و إنّي كرهت أن أُحرجكم (369) .

____________________

(365) الكافي 3: 308 ح 34 والنصّ عنه، وعنه في وسائل الشيعة 5: 428.

(366) التهذيب 2: 62 ح 216، الاستبصار 1: 307/ 1140، وسائل الشيعة 5: 425.

(367) التهذيب 58: 58 ح 202، وسائل الشيعة 5: 405.

(368) الكافي 3: 305، كتاب الصلاة باب بدء الأذان والإقامة.

(369) صحيح البخاري 1: 324 - 325، كتاب الأذان باب هل يصلّي الإمام بمَن حضر... في المطر ح 629 وقرئت منه في باب (الرخصة في المطر والعلة أن يُصلي في رحله) وفي باب (الأذان

=

١٥٥

وجاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه كان يزيد في الفجر جملة (الصلاة خير من النوم) (370) !

فعلى أي شي‏ء تدل هذه النصوص؟ وما المعني بها؟ وكيف يمكن تطابقها مع القول بتوقيفية العبادات؟

وهل أنّ توقيفية الأذان تختلف عن غيره من الأحكام فيجوز إعادة (حيّ على الفلاح) ثلاث مرات أو أكثر في الأذان، ولا يجوز الزيادة والنقيصة في أمر عبادي آخر؟

وهل هناك فرق بين الواجب التوقيفيّ والمستحبّ التوقيفيّ؟

إن التوقيفيّ معناه هو التعبّديّ، أي التعبّد بما جاء به الشارع المقدّس دون زيادة ولا نقصان، فلو صحّ مجي‏ء (حيّ على الفلاح) في الأذان ثلاثاً فهو شرعيّ ويحمل إما على التخيير أو الرخصة لضرورة خاصة.

ولو لم يصح الخبر فلا يعمل به، وليس هناك فرق بين التوقيفيّ في العبادات والتوقيفيّ في المعاملات، وكذا لا فرق بين التوقيفيّ في الواجبات والمستحبّات، فعلى المكلف أن يؤدّي ما سمعه وعقله على الوجه الذي أمر به الشارع فقط، ففي كمال الدين للصدوق، عن عبد الله بن سنان، قال: قال الصادق (عليه السلام): (ستصيبكم شبهة فتبقون بلا عَلَم يُرى ولا إمام هدىً، لا ينجو منها إلَّا من دعا بدعاء الغريق).

قلت: وكيف دعاء الغريق؟

____________________

=

للمسافر إذا كانوا جماعة...) عن نافع قال أذّن ابن عمر في ليلة باردة بصحبنا ثمّ قال: صلوا في رحالكم... وانظر فتح الباري لابن رجب 3: 493، صحيح مسلم 1: 485 ح 699، كتاب صلاة المسافرين وقصرها.

(370) التهذيب 2: 63 ح 222.

١٥٦

قال: تقول: (يا اللَّه يا رحمن يا رحيم يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك..).

فقلت: يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلبي على دينك.

فقال (عليه السلام): (إن اللَّه عزّ وجلّ مقلّب القلوب والأبصار، ولكن قُل كما أقول: يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك) (371) .

بهذا النهج يتعلم المسلم لزوم التروّي والتأنّي والحيطة والحذر في النقل وضرورة رعاية النص كما هو دون زيادة ونقصان، هذا ما علّمنا الشارع المقدّس التمسّك به.

نعم، قد يختلف توقيفي عن توقيفي آخر، وبلحاظ زاوية خاصة، بمعنى أنّ توقيفية الأذان قد تختلف عن توقيفية الزواج والطلاق، أي: أنّ توقيفية الزواج والطلاق تتعلّق بأمر كلّي لا بجزئيته، أي يجب على المطلِّق أو العاقد أن يُنشئ عقدة الزواج والطلاق في كلامه دون التعبد بصيغة واحدةٍ خاصة، فله أن يقول: (أنكحت) أو (زوّجت) أو (متّعت)، فلو أتى العاقد بأي صيغة منها صح زواجه.

وكذا الحال بالنسبة إلى الطلاق فلو قال المطلِّق: زوجتي طالق، أو فاطمة طالق، أو امرأتي التي في ركن الدار طالق - لو كانت هناك مثلاً - صح طلاقه، لأنّ المطلوب هو إنشاء علقة الزوجية في الزواج، وقصد الإبانة في الطلاق دون التعبّد بصيغة مخصوصة، وهذا بخلاف التعبد بنصوص القرآن وما شابهه، لأن الثاني يأبى التغيير والتبديل، فلا يجوز تقديم جملة من القرآن على أخرى، فلا يجوز أن تقول: (الرحيم الرحمن) بدل (الرحمن الرحيم)؛ لأن المطلوب أداء النصّ السماوي كما هو.

إذا توقيفيات الأمور تختلف بحسب تعلّق الأحكام، فتارة: تتعلّق بالحقيقة وذات الأمر، وأخرى بلزوم التعبد بالنص المعهود دون زيادة ونقيصة، وقد وضّحنا

____________________

(371) كمال الدين وتمام النعمة 2: 351 باب 43 ح 49 وعنه في بحار الأنوار 52: 148 ح 73.

١٥٧

قبل قليل بأنّ توقيفية الزواج والطلاق مثلاً تتعلق بالحقيقة الكلية دون التعبد بصيغة بخصوصها، بخلاف توقيفية القرآن فإنّها توقيفية بالنص فلا يجوز الزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، ومن القبيل الأوّل الأذكار المستحبة في القنوت، فالقنوت مستحبّ يقيناً لكن لا يلحظ فيه ذكر مخصوص، فللقانت أن يقنت بما شاء من تسبيح وتحميد وشكر و...

والآن نتساءل عن توقيفية الأذان وأنّه من أي القسمين، وهل يجوز فيه الزيادة والنقيصة وتبديل كلمة بأختها أم لا؟ ولو جاز فإلى أيّ حدّ يسمح لنا الشارع بالتصرف؟ وهل أنّه من قبيل الذكر المسموح به في القنوت، أو من قبيل اختلاف صيغ التشهد وصلاة الخوف عند أهل السنة والجماعة، أم هو شي‏ء آخر؟

نترك القارئ معنا إلى الأبواب اللاحقة كي نوقفه على حقيقة الأمر وما نريد قوله بهذا الصدد.

الخلاصة:

بعد أن بيّنّا معنى الأذان لغة واصطلاحاً، والأقوال التي قيلت في تأريخ تشريع الأذان، عرضنا أشهر الأقوال الموجودة عند أهل السنة والجماعة في بدء الأذان فكانت ستّة:

1 - تشريعه باقتراح من الصحابة وخصوصاً عمر بن الخطّاب.

2 - تشريعه بمنامات رآها بعض الصحابة. مثل أبي بكر وعمر وعبد الله بن زيد

١٥٨

وغيرهم.

3 - نزول الأذان تدريجياً، ثمّ إضافة عمر الشهادة بالنبوّة.

4 - الأذان وحي من اللَّه تلقّاه الرسول من جبرئيل في المعراج.

5 - إنّ عمر أوّل من سمع أذان جبرئيل في السماء ثمّ سمعه بلال.

6 - إنّ تشريع الأذان نزل به جبرئيل على آدم لمّا استوحش.

ثمّ أتينا برؤية أهل البيت في بدء الأذان، وأكّدنا اتّفاقهم على كون تشريعه كان في المعراج، ونقلنا نصوصاً عن:

1 - الإمام عليّ بن أبي طالب.

2 - الإمام الحسن بن عليّ.

3 - الإمام الحسين بن عليّ.

4 - محمّد بن عليّ بن أبي طالب (ابن الحنفية).

5 - الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين.

6 - الإمام محمّد بن عليّ الباقر.

7 - الإمام جعفر بن محمّد الصادق.

8 - الإمام عليّ بن موسى الرضا.

ثمّ ذكرنا أقوال بعض أعلام الإمامية كي نؤكّد إطباقهم على هذا الأمر وأنه مأخوذ من الوحي النازل على النبيّ دون الرؤيا.

وحيث إن القول بكونه وحياً قد ورد عند الفريقين بعكس القول بكونه مناماً الذي انفردت به أهل السنة والجماعة، ألقينا بعض الضوء على هذه الرؤية فكانت لنا وقفة مع أحاديث الرؤيا، ثمّ تحقيق في دواعي نشوء مثل هذه الفكرة عندهم، واحتملنا ارتباط هذا الأمر مع قوله تعالى ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً

١٥٩

لِلنَّاسِ ) المرتبط بلعن بني أميّة، موضحين هناك بعض معالم الخلاف وجذوره، مؤكدين على أن أهل البيت كانوا يشيرون في كلماتهم ومواقفهم إلى أن بني أميّة جدّوا للوقوف أمام انتشار ذكر محمّد وآله في الأذان والتشهد والخطبة، ساعين للتقليل من مكانة الإسراء والمعراج والادّعاء بأنّه كان بالروح فقط، أي أنّه كان في المنام لا في اليقظة، وذلك طمساً لذكر الرسول المستتبِع طمس ذكر مكارمه (صلَّى الله عليه وآله) وفضائله. والأنكى من ذلك أنهم أغفلوا وجود الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ضمن المضطجعين مع النبيّ عند العروج أو البعثة، وحرّفوا نصوصاً ومشاهدات أخرى كانت في المعراج وتسميتها بأسماء آخرين.

ومثله تناسيهم ذكر وجود مثاله في الجنَّة مع أنّهم ذكروا وجود أمثلة مَن هم أقلّ شأناً ومنزلة من عليّ بكثير. وقد قلنا بأن فكرة الرؤيا استحكمت عند القوم بعد صلح الإمام الحسن مع معاوية لقول سفيان بن الليل: فتذاكرنا عنده، فقال بعضنا: إنّما كان الأذان برؤيا عبد اللَّه بن زيد، فقال له الحسن بن عليّ: (أنّ شأن الأذان أعظم من ذلك، أذّن جبرئيل...).

ثمّ ذكرنا ما حكي عن الإمام الحسين وأنّه سئل عما يقول الناس فقال (عليه السلام): (الوحي ينزل على نبيكم وتزعمون أنّه أخذ الأذان عن عبد اللَّه بن زيد).

وما نقل عن محمّد بن الحنفية أنّه فزع لمّا سمع ما يُقال عن تشريع الأذان بالرؤيا وقوله: وعمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنّه كان رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه يحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام.

قال [ الراوي ]: فقلت: هذا الحديث قد استفاض في الناس؟

قال: هذا واللَّه هو الباطل.

١٦٠