الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ٢

الإمام جعفر الصادق عليه السلام0%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 163

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

مؤلف: العلامة الجليل الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 163
المشاهدات: 59994
تحميل: 5835


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 163 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 59994 / تحميل: 5835
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء 2

مؤلف:
العربية

كان يحرم فيهما، وفي قميص من قمصه، وفي عمامة كانت لعلي بن الحسينعليه‌السلام ، وفي بُرد اشتراه بأربعين ديناراً(١) .

وأمر بالسراج في البيت الذي كان يسكنه أبو عبد اللّهعليه‌السلام الى أن اُخرج الى العراق كما فعل أبو عبد اللّهعليه‌السلام من قبل في البيت الذي كان يسكنه أبوه الباقرعليه‌السلام (٢) .

وقال أبو هريرة(٣) لمّا حُمل الصادقعليه‌السلام على سريره واُخرج الى البقيع ليُدفن :

أقول وقد راحوا به يحملونه

على كاهل من حامليه وعاتق

أتدرون ماذا تحملون الى الثرى

ثبير ثوى(٤) من رأس علياء شاهق

غداة حثا الحاثون فوق ضريحه

تراباً وأولى كان فوق المفارق

أيا صادق ابن الصادقين إِليه

بآبائك الأطهار حلفة صادق

لحّقاً بكم ذو العرش أقسم في الورى

فقال تعالى اللّه رب المشارق

نجوم هي اثنا عشرة كن سبقا

الى اللّه في علم من اللّه سابق

ودُفنعليه‌السلام في البقيع مع جدّه لاُمّه الحسن وجده لأبيه زين العابدين، وأبيه الباقر عليهم جميعاً صلوات اللّه، وهو آخر من دُفن من الأئمة في البقيع، فإن أولاده دُفنوا بالعراق إِلا الرضا في خراسان.

______________________

(١) الكافي، باب مولد الصادقعليه‌السلام : ١/٤٧٥/٨.

(٢) نفس المصدر.

(٣) الظاهر أنه العجلي وقد عدّه ابن شهراشوب في شعراء أهل البيت المجاهدين، وروي أن الصادقعليه‌السلام ترحّم عليه، وهذا يقتضي أن يكون موته قبل الصادق، إِلا أن يكون الترحّم عليه وهو حي، أو أن الكاظم هو المترحّم ونسب الى الصادق خطأً.

(٤) الأنسب أن يكون - هوى - ولعلّ الخطأ من النسّاخ.

١٠١

كناه وألقابه

كان يُكنَّى بأبي عبد اللّه، وأبي إِسماعيل، وأبي موسى، وأوّلها أشهرها، ويُلقَّب بالصادق، والفاضل، والقائم، والكافل، والمنجي، وغيرها وأوّلها أيضاً أشهرها.

لقَّبه بالصادق أبوه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في الخرائج والجرائح، وكما في البحار ج ١١ في أحوالهعليه‌السلام عن علل الشرائع، وكما في كفاية الأثر لعلي بن محمّد بن علي الخزاز عند ترجمة الصادقعليه‌السلام مسنداً عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث طويل، ومنه أنه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلّم : ويخرج اللّه من صُلبه - أي صُلب محمّد الباقر - كلمة الحق، ولسان الصدق، فقال له ابن مسعود : فما اسمه يا نبيّ اللّه ؟ قال : يقال له جعفر، صادق في قوله وفعله، الطاعن عليه كالطاعن عليّ، والرادّ عليه كالرادّ عليَّ، الحديث.

وبلغ من شهرته بهذا اللقب أنه صار كالاسم له، حتّى أنه ليُستغنى به عن ذكر اسمه، ويُعرف به اذا اُطلق، ومن ثمّ جعلناه عنوان كتابنا.

وكذلك كنيته بأبي عبد اللّه صارت كالاسم له يُستغنى بها عن اسمه ولقبه لا سيّما في الأحاديث.

صفته

قال ابن شهراشوب في المناقب في أحواله : وكانعليه‌السلام ربع القامة أزهر الوجه، حالك الشعر جعده(١) أشمّ الأنف(٢) أنزع(٣) رقيق البشرة(٤) على خدّه خالٌ اسود على جسده خيلان حمرة(٥) .

______________________

(١) الجعد في الشعر خلاف البسط.

(٢) الشمم : ارتفاع قصبة الأنف وحسنها وارتفاع في أعلاها وانتصاب الأرنبة - طرف الأنف، ويكنّى به عن الإباء.

(٣) النزع : انحسار الشعر عن جانبي الجبهة.

(٤) وفي نسخة : دقيق المسربة، والمسربة : الشعر وسط الصدر الى البطن.

(٥) أي يخال أن على جسده حمرة، هذا اذا قرئ بفتح الخاء المعجمة، وأما اذا قرئ بالكسر فهي جمع خال، ومعناه أن الخال الذي على جسده هو من الحمرة، وفي نسخة حبلان حمرة، بحاء مهملة وباء موحّدة.

١٠٢

زيارته

إِن لزيارة المؤمن في اللّه حيّا وميّتاً من الفضل ما لا يبلغ مداه، كما يشهد به النقل، فكيف بإمام المؤمنين، على أن في زيارة مراقد الأنبياء والأوصياء إِحياء لذكرهم واشادة بفضلهم، وجمعاً للقلوب عليهم، وترغيباً للناس على الاقتداء بأعمالهم، وذلك ما تحبّذه جميع عقلاء الاُمم لإحياء مآثر العظماء وتجديد ذكرى فضلهم والتشجيع على الاحتذاء بهديهم، مضافاً الى أن في زيارة مراقد النبيّ والأئمة تعظيماً لشعائر اللّه تعالى وهو من تقوى القلوب.

والنقل في فضل زيارتهعليه‌السلام من وجهين، الأوّل : ممّا جاء في فضل زيارة قبورهم عامّة، الثاني : ممّا جاء في فضل زيارة قبره خاصّة.

أمّا الأوّل فكثير جداً، ومنه قول الرضاعليه‌السلام : إِن لكلّ إِمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإِن من تمام الوفاء بالعهد زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة(١) .

وقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : أتمّوا برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذا خرجتم الى بيت اللّه الحرام، فإن تركه جفاء، وبذلك اُمرتم، واُتمّوا بالقبور التي ألزمكم اللّه حقّها وزيارتها واطلبوا الرزق عندها(٢) .

وقول الصادقعليه‌السلام : من زار إِماماً مُفترض الطاعة وصلّى عنده أربع ركعات كتب اللّه له حجّة وعمرة(٣) الى ما لا يحصى من أمثال هذه الأحاديث، وقد ذكرت كثيراً منها كتب المزارات.

وأمّا الثاني فمثل قول الصادقعليه‌السلام : من زارني غُفرت له ذنوبه ولم يمت فقيراً(٤) .

وقول العسكريعليه‌السلام : من زار جعفراً أو أباه لم تشتك عينه، ولم يصبه سقم، ولم يمت مبتلى(٥) ، الى كثير سواها.

______________________

(١) وسائل الشيعة : ٥/٢٥٣/٥.

(٢) وسائل الشيعة : ٥/٢٥٥/١٠.

(٣) وسائل الشيعة، كتاب المزار من كتاب الحج : ٥/٢٦٠/٢٥.

(٤) المُقنعة للشيخ المفيد : ص ٧٣.

(٥) وسائل الشيعة ٥/٤٢٦/٢.

١٠٣

أولاده

إِختلفوا في عدد أولاده والمشهور فيهم ما ذكره الشيخ المفيد طاب ثراه في الإرشاد، قال : وكان أولاد أبي عبد اللّهعليه‌السلام عشرة : إِسماعيل وعبد اللّه وامّ فروة امّهم فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن عليعليهما‌السلام وموسىعليه‌السلام وإِسحاق ومحمّد لاُمّ ولد(١) والعبّاس وعليّ وأسماء وفاطمة لاُمّهات شتّى.

إِسماعيل

كان إِسماعيل اكبر أولاد الصادقعليه‌السلام ، وكان شديد المحبّة له والبرّ به والاشفاق عليه(٢) .

حتّى أنهعليه‌السلام قال للمفضّل بن عمر وهو من وكلائه وخواصّ أصحابه الثقات وأبو الحسن موسىعليه‌السلام غلام : هذا المولود - يعني موسى الكاظم - الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه، ثمّ قال : لا تجفُ

______________________

(١) وتكنى اُمّ حميدة.

(٢) إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه : ٢٨٤.

١٠٤

إِسماعيل(١) .

إِن هذا الكلام يدلّ على صرف الإمامة عن إِسماعيل الى موسى، ولكن لمّا خشي أن يكون ذلك أيضاً صارفاً عن اكرامه قال : لا تجفُ إِسماعيل.

وقالعليه‌السلام : كان القتل قد كتب على إِسماعيل مرّتين فسألت اللّه تعالى في رفعه عنه فرفعه(٢) ، وأقواله وأعماله التي كانت تنبئ عن ذلك الحبّ والعطف كثيرة، وحتّى ظنّ قوم من الشيعة أنه القائم بعد أبيه بالإمامة لذلك البرّ وتلك الرعاية ولأنه اكبر اخوته سنّاً، واكبر الاخوة سنّاً أحد علائم الإمامة، ولكن موته أيام أبيه أزال ذلك الظن.

وأظهر الصادقعليه‌السلام بموت إِسماعيل عجباً، فإنه بعد أن مات وغطّي أمر بأن يكشف عن وجهه وهو مسجّى، ثمّ قبَّل جبهته وذقنه ونحره، ثمّ أمر به فكشف وفعل به مثل الأوّل، ولمّا غُسّل واُدرج في اكفانه أمر به فكشف عن وجهه ثمّ قبّله في تلك المواضع ثالثاً، ثمّ عوَّذه بالقرآن، ثمّ أمر بإدراجه.

وفي رواية اُخرى أنه اُمر المفضّل بن عمر فجمع له جماعة من أصحابه حتّى صاروا ثلاثين، وفيهم أبو بصير وحمران بن أعين وداود الرقي، فقال لداود : اكشف عن وجهه، فكشف داود عن وجه إِسماعيل، فقال : تأمّله يا داود فانظره أحيّ هو أم ميّت ؟ فقال : بل هو ميّت، فجعل يعرض على رجل رجل حتّى أتى على آخرهم، فقال : اللّهمّ اشهد، ثمّ أمر بغسله وتجهيزه، ثمّ قال : يا مفضّل احسر عن وجهه، فحسر عن وجهه، فقال : حيّ هو أم ميّت ؟ انظروه

______________________

(١) الكافي، كتاب الحجّة، باب النصّ على الكاظمعليه‌السلام : ١/٣٠٩/٨.

(٢) رجال الشيخ أبي علي.

١٠٥

جميعكم، فقالوا : بل هو يا سيّدنا ميّت، فقال : شهدتم بذلك وتحققتموه ؟ قالوا : نعم، وقد تعجّبوا من فعله، فقال : اللّهمّ اشهد عليهم، ثمّ حُمل الى قبره فلمّا وُضع في لحده قال : يا مفضّل اكشف عن وجهه، فكشف فقال للجماعة : انظروا أحيّ هو أم ميّت ؟ فقالوا : بل ميّت يا وليّ اللّه، فقال : اللّهمّ اشهد، ثمّ أعاد عليهم القول في ذلك بعد دفنه، فقال لهم : الميّت المكفّن المحنّط المدفون في هذا اللحد من هو ؟ فقالوا : إِسماعيل ولدك، فقال اللّهمّ اشهد(١) .

قد يعجب المرء من إِصرار الإمام على أن يعرف الناس موت إِسماعيل حتّى لا تبقى شبهة ولا ريب بموته، ولكن لا عجب من أمر الإمام العالم بما سيحدث في هذا الشأن، إِنه يعلم أن قوماً سيقولون بإمامته لأنه الأكبر زعماً منهم أنه لم يمت، فما فعل ذلك إِلا ليقيم الحجّة عليهم، وقد كشف بنفسهعليه‌السلام عن هذا السّر، فإنه قال بعد أن وُضع إِسماعيل في لحده وأشهد القوم على موته : فإنه سيرتاب المبطلون، يريدون إِطفاء نور اللّه، ثمّ أومى الى موسىعليه‌السلام ، ولمّا أن دُفن إِسماعيل وأشهدهم أخذ بيد موسى فقال : هو حقّ والحقّ معه الى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها(٢) .

وظهر على الصادق الحُزن الشديد حين حضر إِسماعيل الموت وسجد سجدة طويلة، ثمّ رفع رأسه فنظر الى إِسماعيل قليلاً ونظر الى وجهه، ثمّ سجد اُخرى أطول من الاُولى، ثمّ رفع رأسه فغمضه وربط لحييه وغطّى عليه ملحفته، ثمّ قام ووجهه قد دخله شيء عظيم حتّى أحسّ ذلك منه من رآه، وعلى أثر ذلك دخل المنزل فمكث ساعة، ثمّ خرج على القوم مدهناً مكتحلاً وعليه ثياب

______________________

(١) بحار الأنوار : ٤٧/٢٥٤.

(٢) بحار الأنوار : ١/١٨٨.

١٠٦

غير التي كانت عليه، ووجهه قد تسرّى عنه ذلك الأثر من الحزن فأمر ونهى، حتّى اذا فرغ من غسله دعا بكفنه فكتب في حاشيته : إِسماعيل يشهد أن لا إِله إِلا اللّه(١) .

فتعجّب الناس من انقلاب حاله وذهاب ذلك الحُزن الشديد فبدر اليه بعض أصحابه قائلاً : جعلت فداك لقد ظننا أننا لا ننتفع بك زماناً لما رأيناه من جزعك، فقالعليه‌السلام : إِنّا أهل بيت نجزع ما لم تنزل المصيبة فاذا نزلت صبرنا.

وقدّم لأصحابه المائدة وعليها أفخر الأطعمة وأطيب الألوان ودعاهم الى الأكل وحثّهم عليه، ولا يرون للحزن أثراً على وجهه، فقيل له في ذلك، فقال : وما لي لا اكون كما ترون وقد جاء في خبر أصدق الصادقين : إِنّي ميّتٌ وإِيّاكم.

ولكنه لمّا حُمل ليدفن تقدم سريره بغير حذاء ولا رداء، وهذا أعظم شعار للحزن، وكان يأمر بوضع السرير على الأرض يكشف عن وجهه يريد بذلك تحقيق موته لدى الناس، فعل ذلك مراراً الى أن انتهوا به الى قبره(٢) .

ولمّا فرغ من دفنه جلس والناس حوله وهو مُطرق، ثمّ رفع رأسه فقال : أيها الناس إِن هذه الدنيا دار فراق، ودار التواء، لا دار استواء على أن لفراق المألوف حرقة لا تُدفع، ولوعة لا تُرد، وإِنما يتفاضل الناس بحسن العزاء وصحّة الفكرة، فمن لم يثكل أخاه ثكله أخوه، ومن لم يقدم ولداً كان هو المقدم دون الولد، ثمّ تمَثل بقول أبي خراش الهذلي :

ولا تحسبن أني تناسيت عهده

ولكن صبري يا اميم جميل(٣)

______________________

(١) وما زال الناس يكتبون الشهادة على اكفان الموتى من ذلك اليوم، اقتداءً بعمل الإمام، وقد بلغني عن بعض أهل الجمود أنهم يكتبون لكل ميّت منهم : إِسماعيل يشهد...

(٢) ارشاد الشيخ المفيد طاب ثراه : ٢٨٥.

(٣) اكمال الدين : ١/١٦٣، والأمالي للشيخ الصدوق : ٢٣٧.

١٠٧

ولمّا مات إِسماعيل استدعى الصادقعليه‌السلام بعض شيعته وأعطاه دراهم وأمره أن يحجّ بها عن ابنه إِسماعيل، وقال له : إِنك اذا حججت عنه لك تسعة أسهم من الثواب ولإسماعيل سهم واحد(١) .

ومات إِسماعيل بالعريض(٢) وحُمِل على الرقاب الى المدينة(٣) وقبره فيها معروف، وهدمه ابن السعود كما هدم قبور آبائه الأئمة في البقيع والى اليوم لم يسمح بإعادة البناء عليها.

فتلك الأعمال من الصادقعليه‌السلام مع ابنه إِسماعيل تدلّنا على كبير ما يحمل له من الحبّ والبرّ والعطف، وعلى ما كان عليه إِسماعيل من التقوى والفضل، ولكن هناك أحاديث قدحت في مقامه ووصمت قدسيّ ذاته، وإِني لا أراها تعادل تلك الأحاديث السالفة، بل إِن بعض الأخبار كشفت لنا النقاب عن كذب هذه الأخبار القادحة، أو انها صدرت لغايات مجهولة لنا، فمن تلك الأحاديث الكاشفة، ما رواه في الخرائج والجرائح عن الوليد بن صبيح(٤) قال : جاءني رجل فقال لي : تعال حتّى اُريك ابن إِلهك(٥) فذهبت معه فجاء بي الى قوم يشربون، فيهم إِسماعيل بن جعفر، فخرجت مغموماً فجئت الى الحجر فاذا إِسماعيل بن جعفر متعلّق بالبيت يبكي قد بَلَّ أستار الكعبة بدموعه، فرجعت أشتد فاذا إِسماعيل جالس مع القوم، فرجعت فاذا هو آخذ بأستار الكعبة قد بَلَّها بدموعه، قال : فذكرت ذلك لأبي عبد اللّهعليه‌السلام ، فقال : لقد ابتلي ابني بشيطان يتمثّل على صورته.

______________________

(١) بحار الأنوار : ٤٧/٢٥٥.

(٢) بضمّ أوله وفتح ثانيه، من أعمال المدينة.

(٣) إرشاد الشيخ المفيد : ٢٨٥.

(٤) أبي العباس الكوفي، كان من رواة الصادقعليه‌السلام وثقاتهم وله كتاب رواه الحسن بن محبوب عن ابنه العباس عنه.

(٥) يعني بالاله الصادقعليه‌السلام زعماً من هؤلاء أن الشيعة ترى الوهيّة الأئمة، ما اكبرها فريّة عليهم، وقد سبق منا «١/٥٤» ما كتبناه عن معتقد الاماميّة في الامام، وهذا سوى رسالتنا «الشيعة والامامة» نعم توجد بعض الفِرق الغالية ولكن الاماميّة بل والفِرق الاُخرى الشيعية تبرأ منهم.

١٠٨

فهل يا ترى زكاة لإسماعيل أفضل من هذا الحديث، فلا بدّ إِذن من طرح الأحاديث القادحة أو حملها على غايات غير ما دلّت عليه بظاهرها، ولو كان إِسماعيل كما قدحت فيه تلك الأحاديث لما لازمه الصادقعليه‌السلام في الحضر والسفر، ولنحّاه كما نحّى ابنه عبد اللّه.

ولمّا مات إِسماعيل انصرف عن القول بإمامته من كان يظنّ أن الإمامة فيه بعد أبيه وحدث القول بإمامته بعد أبيه الصادق، والقائلون بإمامته يسمّون بالاسماعيليّة، وقد أشرنا الى هذه الفرقة في ١ : ٥٢.

وذكر هنا الشيخ المفيد طاب ثراه في الإرشاد أن الذين أقاموا على حياته شرذمة لم تكن من خاصّة أبيه ولا من الرواة عنه وكانوا من الأباعد والأطراف، ولمّا مات الصادقعليه‌السلام انتقل فريق منهم الى القول بإمامة موسىعليه‌السلام بعد أبيه، وافترق الباقون فريقين، ففريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل، وقالوا بإمامة ابنه محمّد بن إِسماعيل، لظنّهم أن الامامة كانت في أبيه، وأن الإبن أحقّ بمقام الأب من الأخ، وفريق ثبتوا على حياة إِسماعيل، وهم اليوم شذّاذ لا يعرف منهم أحد يومى اليه، وهذان الفريقان يسمّيان بالاسماعيليّة، والمعروف منهم الآن من يزعم أن الامامة بعد إِسماعيل في ولده وولد ولده الى آخر الزمان.

عبد اللّه الأفطح

كان عبد اللّه اكبر ولد الصادقعليه‌السلام بعد إِسماعيل، ومن ثمّ اشتبه الأمر على فئة فقالوا بإمامته، لأن الإمامة في الأكبر وجهلوا أنها في الأكبر ما لم يكن ذا عاهة، وعبد اللّه كان أفطح الرجلين، ولذا سُمي الأفطح، والقائلون بإمامته - الفطحيّة -.

١٠٩

وكان متّهماً في الخلاف على أبيه في الاعتقاد، ويقال أنه يخالط الحشويّة ويميل الى مذهب المرجئة، ولذلك لم تكن منزلته عند أبيه كمنزلة غيره من ولده في الإكرام(١) .

ولربّما عاتبه أبوه ولامَه ووعظه، ولكن ما كان ليجدي معه ذلك الوعظ والعتب، وقد قال له يوماً: ما منعك أن تكون مثل أخيك فواللّه إِني لأعرف النور في وجهه، فقال عبد اللّه : لِمَ أليس أبي وأبوه واحداً ؟ واُمّي واُمّه واحدة، فقال له الصادقعليه‌السلام : إِنه من نفسي وأنت ابني(٢) .

أحسب أنه أراد الصادقعليه‌السلام من قوله - أخيك - إِسماعيل خاصّة ولذا أجابه عبد اللّه بقوله: أليس أبي أبوه واحداً ؟ واُميّ واُمّة واحدة ؟ لأن أخاه من الأبوين هو إِسماعيل لا موسى.

وكفى بهذا الحديث دلالة على فضل إسماعيل وعلوّ مقامه عند اللّه وعند أبيه، وعلى جهل عبد اللّه وانحطاط منزلته عند اللّه وعند أبيه.

وادّعى عبد اللّه الإمامة بعد أبيه محتجّاً بأنه اكبر اخوته، ولقد أنبأ الصادق ولده الكاظمعليهما‌السلام بأن عبد اللّه سوف يدَّعي الإمامة بعده ويجلس مجلسه، وأمره ألا ينازعَهُ ولا يكلّمه لأنه أول أهله لحوقاً به، فكان الأمر كما أنبأعليه‌السلام (٣) .

______________________

(١) إرشاد الشيخ المفيد : ٢٨٥.

(٢) الكافي، كتاب الحجّة، باب النصّ على الامام الكاظمعليه‌السلام : ١/٣١٠/١٠.

(٣) بحار الأنوار : ٤٧/٢٦١/٢٩، والكشي : ١٦٥.

١١٠

ولما ادّعى الإمامة تبعه جماعة من أصحاب الصادقعليه‌السلام رجع اكثرهم بعد ذلك الى القول بإمامة موسى الكاظمعليه‌السلام ، لمّا تبيّنوا ضعف دعواه، وقوَّة الحجّة من أبي الحسنعليه‌السلام ودلالة إِمامته(١) .

وممّن دخل عليه مستعلماً صحّة دعواه هشام بن سالم ومؤمن الطاق، والناس مجتمعون حوله محدقون به، فسألاه عن الزكاة في كم تجب ؟ فقال : في مائتين خمسة، قالا : ففي مائة ؟ قال : درهمان ونصف، فقالا له : فواللّه ما تقول المرجئة هذا، فرفع يده الى السماء فقال : لا واللّه ما أدري ما تقول المرجئة، فعلما أنه ليس عنده شيء، فخرجا من عنده ضلالاً لا يدريان أين يتوجّهان فقعدا في بعض أزقّة المدينة باكيين حيرانين وهما يقولان : لا ندري الى من نقصد الى من نتوجّه الى المرجئة، الى القدريّة، الى الزيديّة، الى المعتزلة، الى الخوراج، فبينا هما كذلك إِذ رأى هشام شيخاً لا يعرفه يؤمي اليه بيده، فخاف أن يكون من عيون المنصور، لأنه كان له جواسيس وعيون بالمدينة ينظرون على من اتّفق شيعة جعفرعليه‌السلام فيضربون عنقه، فقال لمؤمن الطاق : تنحَّ عني فإني أخاف على نفسي وعليك، وإِنما يريدني ليس يريدك، فتنحَّ عني لا تهلك وتعين على نفسك، فتنحّى أبو جعفر غير بعيد، وتبع هشام الشيخ، فما زال يتبعه حتّى أورده باب أبي الحسن موسىعليه‌السلام ، ثمّ خلاه ومضى، فاذا خادم بالباب، فقال له : ادخل رحمك اللّه، فلمّا دخل قال له أبو الحسنعليه‌السلام ابتداءً : إِليّ إِليّ إِليّ، لا إِلى المرجئة، ولا الى القدريّة، ولا الى الزيديّة، ولا الى المعتزلة، ولا الى الخوارج.

ثمّ خرج هشام من عند الكاظمعليه‌السلام ولقي أبا جعفر مؤمن الطاق

______________________

(١) إرشاد الشيخ المفيد : ٢٨٥، والكشي : ١٦٥.

١١١

فقال له : ما وراك ؟ قال : الهدى، فحدّثه بالقصّة، ثمّ لقي المفضّل بن عمر وأبا بصير فدخلوا عليه وسلّموا وسمعوا كلامه وسألوه ثمّ قطعوا عليه، ثمّ لقي هشام الناس أفواجاً فكان كلّ من دخل عليه قطع عليه إِلا طائفة مثل عمّار الساباطي وأصحابه، فبقي عبد اللّه لا يدخل عليه إِلا قليل من الناس، فلمّا علم عبد اللّه أن هشاماً هو السبب في صدّ الناس عنه أقعد له بالمدينة غير واحد ليضربوه(١) .

وبقي عبد اللّه مصرّاً على دعوى الإمامة الى أن مات، وما كانت أيامه بعد أبيه إِلا سبعين يوماً، فلمّا مات رجع الباقون الى القول بإمامة أبي الحسنعليه‌السلام إِلا شاذاً منهم(٢) وهم الذين لزمهم لقب الفطحيّة، وإنما لزمهم هذا اللقب لقولهم بإمامة عبد اللّه وهو أفطح الرجلين(٣) أو أفطح الرأس، وانقطع أثر هذه الطائفة بعد ذلك العهد بقليل، وكان آخرهم بنو فضال.

إسحاق

كان من أهل الفضل والصلاح، والورع والاجتهاد، وروى عنه الناس الحديث والآثار، وكان ابن كاسب(٤) اذا حدّث عنه يقول :

حدَّثني الثقة الرضي إِسحاق بن جعفر، وكان يقول بإمامة أخيه موسىعليه‌السلام ،

______________________

(١) رجال الكشي : ١٦٥.

(٢) رجال الكشي : ١٦٥.

(٣) إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه : ٢٨٦.

(٤) لم أجد قدر الوسع في التتبّع ذكراً لابن كاسب في كتب الرجال وجعل الطريحي والكاظمي تمييز إِسحاق برواية ابن كاسب عنه ولم يذكرا اسمه ولا شيئاً من حاله، وهذه الكلمة في حقّ إِسحاق تنسب الى سفيان بن عيينة أيضاً وليس هو ابن كاسب.

١١٢

وروى عن أبيه النصّ على أخيه موسىعليه‌السلام ، كما روى النصّ بها عليه من اخوته علي بن جعفر أيضاً، وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه إِثنان(١) .

وكان إِسحاق من شهود الوصيّة التي أوصى بها الكاظمعليه‌السلام الى ابنه الرضاعليه‌السلام ، وممّا يشهد لفضله وورعه مدافعته عن الرضاعليه‌السلام ، فإنه لمّا مضى الكاظمعليه‌السلام قدَّم أبناء الكاظم أخاهم الرضا الى القاضي فقال العبّاس بن موسىعليه‌السلام : أصلحك اللّه وأمتع بك إِن في أسفل الكتاب كنزاً وجوهراً، ويريد أن يحتجبه، ويأخذه هو دوننا، ولم يدع أبونا رحمه اللّه شيئاً إِلا ألجأه اليه وتركنا عالة، ولولا أني اكفّ نفسي لأخبرتك بشيء على رؤوس الملأ، فوثب اليه إِبراهيم بن محمّد(٢) فقال : إِذن واللّه تخبر بما لا نقبله منك، ولا نصدقك عليه، ثمّ تكون عندنا ملوماً مدحوراً، نعرفك بالكذب صغيراً وكبيراً، وكان أبوك أعرف بك لو كان فيك خير، وإِن كان أبوك لعارفاً بك في الظاهر والباطن، وما كان ليأمنك على تمرتين، ثمّ وثب اليه عمّه إِسحاق بن جعفر هذا فأخذ بتلبيبه فقال له : إِنك لسفيه ضعيف أحمق، أجمع هذا مع ما كان بالأمس منك، وأعانه القوم أجمعون(٣) .

وممّن روى عنه غير ابن كاسب وابن عيينة جماعة : منهم بكر بن محمّد الأزدي، ويعقوب بن جعفر الجعفري، وعبد اللّه بن إِبراهيم الجعفري، والوشا(٤) .

______________________

(١) إرشاد الشيخ المفيد في أحوال الصادق والكاظمعليهما‌السلام : ٢٨٩.

(٢) الظاهر أنه ابن اسماعيل بن الصادقعليه‌السلام .

(٣) الكافي، كتاب الحجّة، باب النصّ على الرضاعليه‌السلام : ١/٣١٨.

(٤) أما بكر فهو ممّن روى عن الصادق والكاظم والرضاعليهم‌السلام وكان من ثقات الرواة وروى عن الثقات، وأمّا يعقوب فهو يروي عن إسحاق وروى عنه الكليني في باب مولد أبي الحسن الكاظمعليه‌السلام وفي باب السحاق من أبواب النكاح، وهذا مما يشهد لوثاقته، ولكن أرباب الرجال لم يذكروا له ترجمة مستقلّة، وما اكثر من أهملوه، وهو ابن جعفر بن إبراهيم بن محمّد بن علي بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، وأما عبد اللّه فهو عمّ يعقوب المتقدم، وهو أبو محمّد الثقة الصدوق وأمّا الوشا فهو الحسن بن علي بن زياد من أصحاب الرضاعليه‌السلام ورواته الثقات.

١١٣

محمّد

كان محمّد سخيّاً شجاعاً، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وقالت زوجته خديجة بنت عبد اللّه بن الحسين(١) : ما خرج من عندنا محمّد يوماً قط في ثوب فرجع حتّى يكسوه، وكان يذبح كلّ يوم كبشاً لأضيافه(٢) وكان يسمّى الديباجة لحسن وجهه وجماله(٣) .

وكان يرى رأي الزيديّة في الخروج بالسيف، وخرج على المأموان في سنة ١٩٩ بمكّة واتبعته الزيديّة الجاروديّة(٤) .

ولمّا بويع له بالخلافة ودعا لنفسه، ودُعي بأمير المؤمنين، دخل عليه الرضاعليه‌السلام فقال له : يا عم لا تُكذّب أباك وأخاك، فإن هذا الأمر لا يتمّ، ثمّ لم يلبث قليلاً حتّى خرج لقتاله عيسى الجلودي فلقيه فهزمه، ثمّ استأمن اليه، فلبس السواد(٥) وصعد المنبر فخلع نفسه وقال : إِن هذا الأمر للمأمون وليس لي فيه حق(٦) .

______________________

(١) ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

(٢) إرشاد الشيخ المفيد في أحواله : ٢٨٦.

(٣) كتب الرجال في ترجمته.

(٤) الارشاد : ٢٨٦.

(٥) وهو شعار العبّاسيّين، فكأنه أراد أن يجعل شعاره كشعارهم، أمّا العلويّون فكان شعارهم الخضرة.

(٦) بحار الأنوار : ٤٧/٢٤٦/٥.

١١٤

ولمّا أراد الموافقة مع جيش الجلودي أرسل الرضا اليه مولاه مسافراً وقال له : قل له لا تخرج غداً فإنك إِن خرجت غداً هُزمت وقُتل أصحابك، وإِن قال لك من أين علمت غداً فقل رأيت في النوم، فلمّا أتاه ونهاه عن الخروج وسأله عن سبب علمه بذاك وقال له رأيت في النوم، قال محمّد : نام العبد فلم يغسل استه، فكان الأمر كما أعلمه به مسافر عن الامام(١) .

ولمّا خلع نفسه وتخلّى عن الأمر أنفذه الجلودي الى المأمون ولمّا وصل اليه اكرمه المأمون وأدنى مجلسه منه، ووصله وأحسن جائزته، فكان مقيماً معه بخراسان يركب اليه في موكب من بني عمّه، وكان المأمون يحتمل منه ما لا يحتمله السلطان من رعيّته.

وأنكر المأمون يوماً ركوبه اليه في جماعة من الطالبيّين، الذين خرجوا على المأمون في سنة ٢٠٠ فأمنهم، فخرج التوقيع اليهم : لا تركبوا مع محمّد بن جعفر واركبوا مع عبد اللّه بن الحسين، فأبوا أن يركبوا ولزموا منازلهم، فخرج التوقيع : اركبوا مع من أحببتم، فكانوا يركبون مع محمّد بن جعفرعليه‌السلام اذا ركب الى المأمون وينصرفون بانصرافه(٢) .

ولمّا خرج على المأمون جفاه الرضاعليه‌السلام وقال : إِني جعلت على نفسي ألا يظلّني وإِيّاه سقف بيت، ويقول عمر بن يزيد وكان حاضراً عند أبي الحسنعليه‌السلام : فقلت في نفسي هذا يأمر بالبّر والصِلة، ويقول هذا لعمّه، فنظر إِليَّ فقال : هذا من البِرّ والصِلة، إنه متى يأتيني ويدخل عليَّ فيقول فيَّ فيصدقه الناس، واذا لم يدخل عليَّ ولم أدخل عليه لم يُقبل قوله اذا قال(٣) .

______________________

(١) الارشاد : ٣١٤.

(٢) الارشاد : ٢٨٦.

(٣) بحار الأنوار : ٤٧/٢٤٦/٤.

١١٥

ومن معاجز أبي الحسن الرضاعليه‌السلام في شأن محمّد أن محمّداً مرض فأخبروا الرضاعليه‌السلام أنه قد ربط ذقنه، فمضى اليه ومعه بعض أصحابه، واذا لحياه قد ربطا واذا إِسحاق أخو محمّد وولده وجماعة آل أبي طالب يبكون، فجلس أبو الحسن عند رأسه ونظر في وجهه فتبسّم، فنقم من كان في المجلس على أبي الحسن، فقال بعضهم : إِنما تبسّم شامتاً بعمّه، ولمّا خرج ليصلّي في المسجد قال له أصحابه : جعلنا فداك قد سمعنا فيك من هؤلاء ما نكرهه حين تبسّمت، قال أبو الحسنعليه‌السلام : إِنما تعجّبت من بكاء إِسحاق وهو واللّه يموت قبله ويبكيه محمّد، فبرئ محمّد ومات إِسحاق(١) .

ولمّا كانت خراسان دار مقرّه لم تخضع نفسه لوجود ذي الشوكة والتاج فيها - أعني المأمون - فكان إِباؤه يأبى له من الرضوخ وإِن كان سجين البلد ومغلوباً على أمره، فإنه أخبر يوماً بأن غلمان ذي الرياستين(٢) قد ضربوا غلمانه على حطب اشتروه، فخرج مُتَّزراً ببُردين ومعه هراوة(٣) يرتجز ويقول : - الموت خير لك من عيش بِذُلّ - وتبعه الناس حتّى ضرب غلمان ذي الرياستين وأخذ الحطب منهم، فرفعوا الخبر الى المأمون، فبعث الى ذي الرياستين فقال : ائتِ محمّد بن جعفر فاعتذر اليه وحكِّمه في غلمانك، فخرج ذو الرياستين الى محمّد، فقيل لمحمّد : هذا ذو الرياستين قد أتى، فقال : لا يجلس إِلا على الأرض، وتناول بساطاً كان في البيت فرمى به هو ومن معه ناحية، ولم يبق في البيت إِلا وسادة جلس عليها محمّد، فلمّا دخل عليه ذو الرياستين وسّع له محمّد على الوسادة فأبى أن يجلس عليها وجلس على الأرض فاعتذر اليه وحكَّمه في غلمانه.

______________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢/٢٠٦/٧.

(٢) هو الفضل بن سهل وزير المأمون، وسمّي ذا الرياستين لجمعه بين رياستي السيف والقلم.

(٣) عصا.

١١٦

وتوفي محمّد بن جعفر في خراسان فركب المأمون ليشهده فلقيهم وقد خرجوا به، فلمّا نظر الى السرير نزل فترجّل ومشى حتّى دخل بين العمودين فلم يزل بينهما حتّى وضع، فتقدّم وصلّى عليه، ثمّ حمله حتّى بلغ به القبر، ثمّ دخل قبره فلم يزل فيه حتّى بُني عليه، ثمّ خرج فقام على القبر حتّى دُفن، فقال له عبد اللّه بن الحسين ودعا له : يا أمير المؤمنين إِنك قد تعبت اليوم فلو ركبت، فقال المأمون : إِن هذه رحم قُطعت من مائتي سنة.

وكان عليه دَين كثير فأراد إِسماعيل بن محمّد اغتنام هذه الفرصة من المأمون ليسأله قضاء دَينه، فقال لأخيه وهو الى جنبه والمأمون قائم على القبر : لو كلّمناه في دَين الشيخ، فلا نجده أقرب منه في وقته هذا، فابتدأهم المأمون فقال : كم ترك أبو جعفر من الدَين ؟ فقال له إِسماعيل : خمسة وعشرين ألف دينار، فقال له : قد قضى اللّه عنه دَينه، الى مَن أوصى ؟ فقالوا له : الى ابن له يقال له يحيى بالمدينة، فقال : ليس هو بالمدينة هو بمصر، وقد علمنا بكونه فيها ولكن كرهنا أن نعلمه بخروجه من المدينة لئلا يسوءه ذلك، لعلمه بكراهتنا لخروجه عنها(١) .

علي

بلغ علي بن جعفر من الجلالة شأواً لا يلحق، ومن الفضل محلاً لا يسبق، وأمّا حديثه وثقته فيه، فهو ممّا لا يختلف فيه اثنان، ومن سبَر كتب الحديث عرف ما له من أخبار جمّة يرويها عن أخيه الكاظمعليه‌السلام تكشف عن علم ومعرفة.

وقال فيه الشيخ المفيد طاب ثراه في إِرشاده : وكان علي بن جعفر راوية للحديث، سديد الطريق، شديد الورع، كثير الفضل، ولزم أخاه موسىعليه‌السلام ، وروى عنه شيئاً كثيراً من الأخبار، وقال في النصّ عليه، وكان شديد التمسّك به، والانقطاع اليه، والتوفّر على أخذ معالم الدين منه، وله مسائل مشهورة عنه، وجوابات سماعاً عنه، والنصّ على أخيه الكاظمعليه‌السلام روى من أخويه إِسحاق وعلي ابني جعفر، وكانا من الفضل والورع على ما لا يختلف فيه إِثنان.

______________________

(١) إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه : ٢٨٧.

١١٧

ومن شدّة ورعه اعترافه بالأئمة بعد أخيه الكاظمعليه‌السلام مع كبر سنّه وجلالة قدره، وكبير فضله، ولم تثنه هذه الشؤون عن الاعتراف بالحقّ والعمل به، بل زادته بصيرة وهدى.

كان رجل يظنّ فيه علي بن جعفر أنه من الواقفة سأله عن أخيه الكاظم فقال له علي : إِنه قد مات، فقال له السائل : وما يدريك بذلك ؟ قال له : اقتسمت أمواله، ونكحت نساؤه، ونطق الناطق بعده، قال : ومن الناطق بعده ؟ قال علي : ابنه، قال : فما فعل ؟ قال له : مات، قال : وما يدريك أنه مات ؟ قال علي : قسّمت أمواله، ونكحت نساؤه، ونطق الناطق من بعده، قال : ومن الناطق من بعده ؟ قال علي : ابنه أبو جعفر، فقال له الرجل : أنت في سنّك وقدرك وأبوك جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ، تقول هذا القول في هذا الغلام، فقال له علي : ما أراك إِلا شيطاناً، ثمّ أخذ علي بلحيته فرفعها الى السماء ثمّ قال : فما حيلتي إِن كان اللّه رآه أهلاً لهذا ولم يرَ هذه الشيبة لهذا أهلاً(١) .

هذا لعمر الحقّ هو الورع، ورضوخ النفس للحق، وعدم الاغترار بشؤون التقدم من الفضل والسنّ والجلالة، التي قد تغترّ النفس الأمّارة بما دونها من الخصال العالية.

______________________

(١) الكشي : ص ٤٢٩/٨٠٣.

١١٨

وكان يعمل أبداً مع أبي جعفر عمل المأموم العارف بمنزلة الإمام، دون أن يحجزه عن هذا أنه عمّ أبيه، بل ربّما تمنّى أن يفديه بنفسه، أراد أبو جعفرعليه‌السلام ليفتصد ودنا الطبيب ليقطع له العرق، فقام علي بن جعفر فقال : يا سيّدي يبدأني لتكون حدَّة الحديد فيَّ قبلك، ثمّ أراد أبو جعفرعليه‌السلام النهوض فقام علي بن جعفر فسوّى له نعليه حتّى يلبسهما(١) .

ودخل أبو جعفرعليه‌السلام يوماً مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا بصر به علي بن جعفر وثب بلا حذاء ولا رداء فقبَّل يده وعظَّمه فقال له أبو جعفر : يا عمّ اجلس رحمك اللّه، فقال : يا سيّدي كيف أجلس وأنت قائم، فلمّا رجع أبو جعفر الى مجلسه جعل أصحابه يوبّخونه ويقولون : أنت عمّ أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل، فقال : اسكتوا اذا كان اللّه عزّ وجل - وقبض على لحيته - لم يؤهّل هذه الشيبة وأهل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه أنكر فضله، نعوذ باللّه ممّا تقولون، بل أنا له عبد(٢) .

هذه هي النفس القدسيّة التي عرفت الحقّ فاتّبعته، وما اقتفت أثر الحميّة والعصبيّة، واغترّت بالنفس، بل كان من حُبّ النفس أن يطيع المرء خالقه جلّ شأنه في أوليائه واُولي الأمر من عباده.

هذه بعض حال علي بن جعفر التي تكشف عمّا انطوى عليه ضميره من القدس والنسك والطاعة والعلم باللّه وبالحجج من خلقه.

______________________

(١) الكشي : ٤٢٩/٨٠٤.

(٢) الكافي، كتاب الحجّة، باب النصّ على أبي جعفر الثانيعليه‌السلام ، ولا يراد من العبوديّة في مثل المقام الرقية والملكيّة، بل الطاعة والإمتثال : ١/٣٢٢/١٢.

١١٩

وكان رضوان اللّه عليه يسمّى بالعريضي، نسبة الى العريض - بضم وفتح - محلّ قرب المدينة كان يسكنه، وبه مات إِسماعيل، ولعلي أولاد ينسبون اليه بعنوان العريضي.

العبّاس

قال الشيخ المفيد رحمه اللّه في إرشاده : وكان العبّاس بن جعفر رحمه اللّه فاضلاً نبيلاً(١) .

قلت : ولم أظفر بشيء من أحواله غير هذه النبذة التي أوردها الشيخ المفيد طاب رمسه.

موسى الكاظمعليه‌السلام

وهو الامام بعد أبيه الصادقعليه‌السلام على رأي الاماميّة وعسى أن نتوفّق يوماً لتأليف كتاب في حياته، ومنه تعالى نستمدّ المعونة والتوفيق.

______________________

(١) إرشاد الشيخ المفيد : ٢٨٧.

١٢٠