• البداية
  • السابق
  • 142 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14060 / تحميل: 4079
الحجم الحجم الحجم
السنة في الشريعة الاسلامية

السنة في الشريعة الاسلامية

مؤلف:
العربية

٢١

سنة الصحابة:

يقول الشاطبي: سنة الصحابةرضي‌الله‌عنه سنة يعمل عليها ويرجع اليها، والدليل على ذلك أمور(١) ».

والأمور التي ذكرها لاتنهض باثبات ما يريده نعرضها ملخصة:

أحدهما: «ثناء الله عليهم من غير مثنوية، ومدحهم بالعدالة وما يرجع اليها كقوله تعالى :( كنتم خير أمة أخرجت للناس (٢) ) ، وقوله:( وَ کَذٰلِکَ جَعَلْنَاکُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَکُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَکُونَ الرَّسُولُ عَلَيْکُمْ شَهِيداً (٣) ) ، ففي الأولى اثبات الأفضلية على سائر الأمم، وذلك يقضي باستقامتهم على كل حال، وجريان أحوالهم على الموافقة على دون المخالفة، وفي الثانية اثبات العدالة مطلقا، وذلك يدل على ما دلت عليه الاولى(٤) ».

والجواب على الآية الأولى يقع من وجوه:

أ - ان اثبات الأفضلية لهم على سائر الأمم، كما هو مفاد أفعل التفضيل في كلمة (خير أمة) لاتستلزم الاستقامة لكل فرد منهم على كل حال، بل تكفي الاستقامة النسبية لأفرادها، فيكون معناها ان هذه الأمة مثلا في مفارقات أفرادها، أقل من الأمم التي سبقتها فهي خيرهم من هذه الناحية، هذا اذا لم نقل أن الآية انما فضلتهم من جهة تشريع الأمر بالمعروف لهم والنهي عن المنكر، كما هو ظاهر تعقيبها بقوله تعالى : تأمرون

____________________

(١) ص٧٤، الموافقات ج/٤.

(٢) آل عمران/١١٠.

(٣) البقرة/١٤٢.

(٤) ص٧٤، الموافقات ج/٤.

٢٢

بالمعروف وتنهون عن المنكر، فلاتكون واردة في مقام جعل الحجية لأقوالهم أصلا.

ب - ان التفضيل الوارد فيها انما هو بلحاظ المجموع - ككل - لا بلحاظ تفضيل كل فرد منها على كل فرد من غيرها لنلتزم لهم بالاستقامة على كل حال، ولذا لانرى أية منافاة بين هذه الآية وبين مايدل - لو وجد - على تفضيل حواري عيسى مثلا على بعض غير المتورعين من الصحابة.

ج - انها واردة في مقام التفضيل لامقام جعل الحجية لكل ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال وتقريرات اذ هي أجنبية عن هذه الناحية، ومع عدم احراز كونها واردة لبيان هذه الجهة لايمكن التمسك بها بحال.

د - ان هذا الدليل لو تم فهو أوسع من المدعى بكثير لكون الأمة أوسع من الصحابة ولايمكن الالتزام بهذا التعميم.

وقد تنبه الشاطبي لهذا الاشكال ودفعه بقوله: «ولايقال ان هذا عام في الأمة فلايختص بالصحابة دون من بعدهم».

«لأنا نقول أولا ليس كذلك بناء على انهم المخاطبون على الخصوص، ولايدخل معهم من بعدهم الا بقياس وبدليل أخر، وثانيا على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب، فانهم أول ما تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهم المباشرون للوحي؛ وثالثا انهم أولى بالدخول من غيرهم اذا الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال الاهم، فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح(١) ».

ولكن هذه المناقشات لايتضح لها وجه، أما الأولى فلأن اختصاص الخطاب بهم مبني على ما سبقت الاشارة اليه من اختصاص الحجية بخصوص المشافهين لامتناع خطاب المعدوم وقد تقدم ما فيه بالاضافة الى ان هذا

____________________

(١) الموافقات، ج٤ ص٧٥.

٢٣

الاشكال لو تم فهو لا ينفع المستدل لاختصاصه بخصوص الحاضرين في مجلس الخطاب لامتناع خطاب غير الحاضر؛ واذن تختص الآية بخصوص من حضروا المجلس عند نزول الآية، وليس كل الصحابة، على ان دليل المشاركة وحده كاف في التعميم.

وأما المناقشتان الثانية والثالثة، فهما واضحتا البطلان لانكار الأولية والأولوية في القضايا التي يكون مساقها مساق القضية الحقيقية لأن نسبتها الى الجميع تكون نسبة واحدة من حيث الدلالة اللفظية؛ على أن أولية الدخول أو أولويته لايستلزم صرف الخطاب اليهم وقصره عليهم، لأن مقتضاها يوجب مشاركة الغير لهم في الدخول مع تأخر في الزمان أو الرتبة، فما ذكره من الاختصاص بهم من هذه الجهات لايخلو من مؤاخذة.

ومع ثبوت التعميم لايمكن اثبات أحكام النسبة لجميع الأمة كما هو واضح.

وما يقال عن هذه الأية يقال عن الآية الثانية فهي، بالاضافة الى هذه المؤاخذات على الاستفادة منها والغض عن تسليم افادتها لعدالتهم جميعا، ان مجرد العدالة لايوجب كون كل ما يصدر عنهم من السنة والا لعممنا الحكم الى كل عادل سواء كان صحابيا أم غير صحابي، لورود الحكم على العنوان كما هو الفرض، وغاية ما تقتضيه العدالة هو كونهم الحكم على العنوان كما هو الفرض، وغاية ما تقتضيه العدالة هو كونهم لايتعمدون الخطيئة، أما مطابقة مايصدر عنهم للأحكام الواقعية ليكون سنة، فهذا أجنبي عن مفهوم العدالة تماما.

«والثاني ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم، وان سننهم في طلب الاتباع كسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كقوله: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ»، وقوله:تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار الا واحدة؛ قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: /ما أنا عليه وأصحابي. وعنه أنه قال: أصحابي مثل الملح لا

٢٤

يصلح الطعام الا به، وعنه أيضا: «ان الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي منهم أربعة: أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، فجعلهم خير أصحابي وفي أصحابي كلهم خير». ويروي في بعض الأخبار: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، الى غير ذلك مما في معناه(١) ».

والجواب عن هذه الأحاديث ونظائرها - بعد التغافل عن أسانيدها وحساب ما جاء في بعضها من الطعون أمثال ما ذكره ابن حزم عن حديث أصحابي كالنجوم من أنه «حديث موضوع مكذوب باطل، وقال أحمد: حديث لايصح، وقال البزار: لايصح هذا الكلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) » - ان هذه الروايات لايمكن الأخذ بظاهر بعضها، ولادلالة للبعض الآخر على المدعى.

وأول ما يرد على الرواية الأولى ونظائرها من الروايات الآمرة بالاقتداء بهم استحالة صدور مضمونها من المعصوم لاستحالة ان يعبدنا الشارع بالمتناقضين، وتناقض سيرة الخلفاء في نفسها من أوضح الأمور لمن قرأ تأريخهم واستقرأ ما صدر عنهم من أحداث.

وحسبك ان سيرة الشيخين مما عرضت على الامام عليعليه‌السلام يوم الشورى ، فأبى التقيد بها ولم يقبل الخلافة لذلك، وقبلها عثمان وخرج عليها باجماع المؤرخين، وفي أيام خلافة الامام، نقض كل ما أبرمه الخليفة عثمان، وخرج على سيرته سواء في توزيع الأموال أو المناصب أم اسلوب الحكم، والشيخان نفسهما مختلفا السيرة، فأبو بكر ساوى في توزيع الأموال الخراجية وعمر فاوت فيها، وابو بكر كان يرى طلاق الثلاث

____________________

(١) الموافقات، ج/٤ ص٧٦.

(٢) اقرأ ما كتبه الشيخ عبد الله دراز في تعليقه على هذا الحديث في نفس المصدر، وما جاء فيه من تضعيف وتصحيح.

٢٥

واحدا، وعمر شرعه ثلاثا، وعمر منع عن المتعتين، ولم يمنع عنهما الخليفة الأول ونظائرها ذلك اكثر من أن تحصى

وعلى هذا، فأية هذه السير هي السنة؟ وهل يمكن ان تكون كلها سنة حاكية عن الواقع، وهل يتقبل الواقع الواحد حكمين متناقضين؟! وما أحسن ما ناقش الغزالي أمثال هذه الروايات بقوله: «فان من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ، وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة، وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف، وكيف يختلف المعصومان، كيف، وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه، فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الاختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة(١) ».

على أن بعض هذه الروايات أضيق من المدعى لاختصاصها بالخلفاء الراشدين كالرواية الأولى ، فتعميمها الى مختلف الصحابة لايتضح له وجه، والروايات الباقية أجنبية عن افادة اثبات جعل الحجية لما يصدر عنهم وغاية ما تدل عليه - لو صحت أسانيدها - مدحهم والثناء عليهم، والمدح والثناء لايرتبطان بعالم جعل الحجية للممدوحين.

على ان هذه الروايات - على تقدير تمامية دلالتها - مخصصة بما دل على ارتداد اكثرهم، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «بينا أنا قائم اذا زمرة حتى اذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم؛ فقلت: أين؟ قال الى النار والله؛ قلت: وما

____________________

(١) المستصفى ، ج١ ص١٣٥.

٢٦

شأنهم؟ قال: انهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقهرى ؛ ثم اذا زمرة حتى اذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم؛ فقال: هلم؛ فقلت: أين؟ قال: الى النار والله؛ قلت: ما شأنهم؟ قال: انهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراه يخلص منهم الا مثل همل النعم(١) » وفي روايته الأخرى عن سهل بن سعد قال: «قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : اني فرطكم على الحوض من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم؛ قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش، فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم؛ فقال: اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها، فأقول: انهم مني، فيقال انك لاتدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي(٢) ».

وفي روايته الثالثة عن انس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول أصحابي، فيقول: لاتدري ما أحدثوا بعدك(٣) ».

آلي غير هذه الروايات مما عرضها البخاري في باب الحوض وغيره، كما عرضها غيره من اصحاب الصحاح وسائر السنن(٤) ، ولايهم عرضها، وطبيعة الجمع بين الأدلة تقتضي تقييد تلكم الأدلة بغير المرتدين فمع الشك في ارتداد أحد الصحابة لايمكن التمسك بتلكم العمومات لعدم احراز موضوعها وهو الصحابي غير المرتد، ويكون التمسك بها من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية، والتحقيق انه لايسوغ لأن القضية لا

____________________

(١) البخاري، ج٨ ص١٢١.

(٢) البخاري، ج٨ ص١٢٠.

(٣) البخاري، ج٨ ص١٢٠.

(٤) أجوبة مسائل جار الله للامام شرف الدين، ص١٤.

٢٧

تثبت موضوعها بل تحتاج الى اثباته من خارج نطاق الدليل.

وقال يقال ان المراد بالمرتدين هم اصحاب الردة الذين قاتلهم الخليفة أبو بكر،وهم معلومون فلا تصل النبوة الى الشك والتوقف عن التمسك بتلكم العمومات، ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا لمنافاته بصراحة لرواية ابي هريرة السابقة التي صرحت بقولها: «فلا أراه يخلص الا مثل همل النعم» وهي أبلغ كناية عن القلة، ومعنى ذلك أنها حكمت على أكثرهم بالارتداد، ومعلوم ان هؤلاء المرتدين الذين حاربهم الخليفة لايشكلون الا أقل القليل.

ولولا أننا في مقام التماس الأدلة الى أحكام الله عز وجل، وهو يقتضينا ان لانترك ما نحتمل مدخليته في مقام الحجية رفعا او وضعا لكنا في غنى عن عرض هذه الأخبار والأحاديث والتحدث فيها.

وما يقال عن هذه الأحاديث، يقال عن آية( وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا (١) ) وكأن هذه الأحاديث واردة مورد التفسير لهذه الآية، ومؤكدة لتحقق مضمونها بعد وفاته.

الثالث «ان جمهور العلماء قدموا الصحابة عند ترجيح الاقاويل، فقد جعل طائفة قول أبي بكر وعمر حجة ودليلا، وبعضهم عد قول الخلفاء الأربعة دليلا، وبعضهم يعد قول الصحابة على الاطلاق حجة ودليلا؛ ولكل قول من هذه الأقوال متعلق من السنة؛ وهذه الآراء وان ترجح عند العلماء خلافها ففيها تقوية تضاف الى امر كلي هو المعتمد في المسألة، وذلك ان السلف والخلف من التابعين ومن بعدهم يهابون مخالفة الصحابة ويتكثرون بموافقتهم، وأكثر ما تجد هذا المعنى في علوم الخلاف الدائر بين الأئمة المعتبرين؛ فتجدهم اذا عينوا مذاهبهم قووها بذكر من

____________________

(١) آل عمران/١٤٤.

٢٨

ذهب اليها من الصحابة، وما ذاك الا لما اعتقدوا في أنفسهم وفي مخالفيهم من تعظيمهم وقوة مآخذهم دون غيرهم وكبر شأنهم في الشريعة، وانهم مما يجب متابعتهم وتقليدهم فضلا عن النظر معهم فيما نظروا فيه، وقد نقل عن الشافعي أن المجتهد قبل ان يجتهد لايمنع من تقليد الصحابة ويمنع من غيره وهو المنقول عنه في الصحابي كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته، ولكنه مع ذلك يعرف لهم قدرهم(١) ».

والجواب على هذا النوع من الاستدلال أنه أجنبي عن اعتبار ما يصدر عنهم من السنة، وغاية ما يدل عليه - لو صح - ان جمهور العلماء كانوا يرونهم في مجالات الرواية أو الرأي أوثق أو أوصل من غيرهم، والصدق والوثاقة واصالة الرأي شيء وكون ما ينتهون اليه من السنة شيء آخر، وقول الشافعي الذي نقله نفسه يبعدهم عن هذا المجال اذ كيف يمكن له ان يحج من كان قوله سنة، وهل يستطيع ان يقول مثل هذا الكلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟.

على ان هذا النوع من الترجيح لأقوالهم لايعتمد أصلا من أصول التشريع، والعلماء لم يتفقوا عليه ليشكل اتفاقهم اجماعا يركن اليه.

الرابع: «ماجاء في الأحاديث من ايجاب محبتهم، وذم من أبغضهم، وان من أحبهم فقد أحب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه فقط اذ لا مزية في ذلك، وانما هو لشدة متابعتهم له وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته، ومن كان بهذه المثابة حقيق ان يتخذ قدوة وتجعل سيرته قبلة(٢) ».

____________________

(١) الموافقات، ج٤ ص٧٧ ومابعدها.

(٢) الموافقات ج٤ ص٧٩ ومابعدها.

٢٩

والجواب عن هذا الاستدلال أوضح من سابقه لأن ما ذكره من التعليل لايكفي لاعطائهم صفة المشرعين أو الحاق منزلتهم بمنزلة النبوة، وغاية ما يصورهم أنهم أناس لهم مقامهم في خدمة الاسلام والالتزام بتعاليمه، ولكنه لاينفي عنهم الخطأ أو السهو أو الغفلة؛ على ان لارباب الجرح والتعديل حسابا مع الكثير من روايات هذا الباب لايهم عرضها الآن.

هذا كله من حيث اعتبار ما يصدر عنهم من السنة، أما جعل الحجية لأقوالهم من حيث كونهم رواة ومجتهدين فلذلك حساب آخر يأتي موضعه في مبحث (مذهب الصحابي).

سنة اهل البيت

تمهيد ما يصلح للدليلية، أدلتهم من الكتاب: آية التطهير ودلالتها على العصمة، شبهات حول الآية ودفعها، آية أولي الأمر، استدلال الرازي بها على العصمة، شبهات حول تعيين أولي الأمر ودفعها، ادلتهم من السنة، حديث الثقلين، سند الحديث، دلالته على العصمة، مناقشات أبي زهرة للحديث، حديث حول المناقشات، من هم أهل البيت، الأدلة العقلية ومدى دلالتها على ذلك.

تمهيد

وقد استدل الشيعة على حجية سنة أهل البيت بادلة كثيرة، يصعب استعراضها جميعا واستيفاء الحديث فيها، وحسبنا ان نعرض منها الآن نماذج لاتحتاج دلالتها الى مقدمات مطوية ليسهل استيعاب الحديث فيها.

وأهم ما ذكروه من أدلتهم - على اختلافها - ثلاثة:

الكتاب، السنة النبوية، العقل.

والذي يهمنا من هذه الأدلة التي عرضوها لاثبات مرادهم هو كل ما دل أو رجع الى لزوم التمسك بهم، والرجوع اليهم، واعتبار قولهم حجة يستند اليها في مقام اثبات الواقع.

ومجرد مدحهم والثناء عليهم من قبل الله عز وجل أو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكفي في اعتبار الحجية لما يصدر عنهم وان قربت دلالته في كتب الشيعة الكلامية بعد ذكر مقدمات مطوية قد لايخلو بعضها من مناقشة، وقد سبق ان تحدثنا فيما يشبه الموضوع مع الشاطبي عندما استدل على اعتبار سنة الصحابة بأخبار المدح والثناء عليهم، وما قلناه هناك نقوله هنا، وان كان نوع المديح يختلف لسانه، وربما كان في لسان بعضه هنا ما يشعر بالحجية، ولايهم اطالة الحديث فيه.

٣٠

ثم ان الأحاديث التي وردت عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واستدلوا بها على الحجية، تختلف في أسانيدها، فبعضها يرجع الى أهل البيت أنفسهم، وينفرد أو يكاد بروايته شيعة أهل البيت، وبعضها الآخر مما يتفق على روايته الشيعة وأهل السنة على السواء.

والذي يحسن ان نذكره في أحاديثنا هذه منها هو خصوص ما اتفق

٣١

٣٢

٣٣

٣٤

عليه الطرفان، ووثقوا رواته، اختصارا لمسافة الحديث وابعادا لشبهة من لايطمئن الى غير أحاديث أرباب مذهبه لاحتمال تحكم بعض العوامل الشعورية أو اللاشعورية في صياغتها، وتخلصا من شبهة الدور التي أثارها فضيلة الاستاذ الشيخ سليم البشري في مراجعاته القيمة مع الامام شرف الدين، فقد جاء في احدى مراجعاته له:

١ - هاتها بينة من كلام الله ورسوله تشهد لكم بوجوب اتباع الأئمة من أهل البيت دون غيرهم، ودعنا في هذا المقام من كلام غير الله ورسوله.

٢ - فان كلام أئمتكم لايصلح لئن يكون حجة على خصومهم والاحتجاج به في هذه المسألة دوري كما - تعلمون(١) ».

وربما قرب الدور بدعوى ان حجية أقوال أهل البيت موقوفة على اثبات كونها من السنة، واثبات كونها من السنة موقوف على حجية أقوالهم، ومع اسقاط المتكرر ينتج ان اثبات كونها من السنة موقوف على اثبات كونها من السنة، ونظير هذا الدور ما سبق أن أوردناه على من استدل بالسنة النبوية على حجية السنة.

ولكن الجواب عن هذا الدور هنا اوضح اذا تصورنا أن حجية أقوال اهل البيت هذه لاتتوقف على كونها من السنة، وانما يكفي في اثبات الحجية لها كونها مروية من طريقهم عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وصدورها عنهم باعتبارهم من الرواة الموثوقين، واذن يختلف الموقوف عن الموقوف عليه فيرتفع الدور، ويكون اثبات كون ما يصدر عنهم من السنة موقوفا على روايتهم الخاصة لا على أقوالهم كمشرعين. نعم لو أريد من أقوال الأئمةأئمةأيفهثهثهيأئمة غير الرواية عن النبي، بل باعتبارها نفسها سنة، وأريد اثبات

____________________

(١) المراجعات لشرف الدين، ص١٩ المراجعة ١٣، ويحسن لكل مسلم ان يطلع على هذه المراجعات فان فيها من أدب المناظرة وعمق البحث ما يقل نظيره في هذا المجال.

٣٥

كونها سنة بنفس الأقوال لتحكمت شبهة الدور ولا مدفع لها.

وعلى أي حال فان الذي يحسن بنا - متى أردنا لأنفسنا الموضوعية في بحوثنا هذه - ان نتجنب هذا النوع من الأحاديث ونقتصر على خصوص ما اتفق الطرفان على روايته، ووجد في كتبهم المعتمدة لهم.

أدلتهم من الكتاب:

استدلوا من الكتاب بآيات عدة نكتفي منها بما اعتبروه دالا على عصمتهم لأنه هو الذي يتصل بطبيعة بحوثنا هذه، وأهمها آيتان:

الاولى آية التطهير وهي:( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهير ) .

وتقريب الاستدلال بها على عصمة اهل البيت ما ورد فيها من حصر ارادة اذهاب الرجس - أي الذنوب - عنهم بكلمة (انما)، وهي من أقوى أدوات الحصر واستحالة تخلف المراد عن الارادة بالنسبة له تعالى من البديهيات لمن آمن بالله عز وجل، وقرأ في كتابه العزيز:( انما أمره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون ) ، وتخريجها على أساس فلسفي من البديهيات أيضا لمن يدرك أن ارادته هي العلة التامة او آخر أجزائها بالنسبة لجميع مخلوقاته، واستحالة تخلف المعلول عن العلة من القضايا الأولية، ولا أقل من كونها من القضايا المسلمة لدى الطرفين كما سبقت الاشارة الى ذلك، وليس معنى العصمة الا استحالة صدور الذنب عن صاحبها عادة.

شبهات حول الآية:

١ - وقد يقال ان الارادة - كما يقسمها علماء الأصول - ارادتان:

٣٦

تكوينية وتشريعية، وهي وان كانت من حيث استحالة تخلف المراد عنها واحدة - الا انها تختلف بالنسبة الى المتعلق، فان كان متعلقها خصوص الأمور الواقعية من أفعال المكلفين وغيرها سميت تكوينية، وان كان متعلقها الأمور المجعولة على أفعال المكلفين من قبل المشرع سميت ارادة تشريعية.

والارادة هنا لاترتبط بالارادة التكوينية لأن متعلقها الأحكام الواردة على أفعالها فكأن الآية تقول:( انما شرعنا لكم الأحكام يا أهل البيت لنذهب بها الرجس عنكم ولنطهركم بها تطهير ) .

ولكن تفسير الارادة هنا بالارادة التشريعية يتنافى مع نص الآية بالحصر المستفاد من كلمة (انما) اذ لاخصوصية لأهل البيت في تشريع الأحكام لهم، وليست لهم أحكام مستقلة عن أحكام بقية المكلفين، والغاية من تشريعه للأحكام اذهاب الرجس عن الجميع، لا عن خصوص أهل البيت على أن حملها على الارادة التشريعية يتنافى مع اهتمام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأهل البيت وتطبيق الآية عليهم بالخصوص، كما يأتي ذلك فيما بعد.

٢ - وقد يقال أيضا ان حملها على الارادة التكوينية وان دل على معنى العصمة فيهم لاستحالة تخلف المراد عن ارادته تعالى ، الا ان ذلك يجرنا الى الالتزام بالجبر وسلبهم الارادة فيما يصدر عنهم من أفعال مادامت الارادة التكوينية هي المتحكمة في جميع تصرفاتهم، ونتيجة ذلك حتما حرمانهم من الثواب لانه وليد ارادة العبد، كما تقتضيه نظرية التحسين والتقبيح العقليين، وهذا ما لايمكن ان يلتزم به مدعو الأمامة لأهل البيت.

والجواب على هذه الشبهة يجرنا الى الحديث حول نظرية الجبر والاختيار عند الشيعة.

٣٧

وملخص ما ذهبوا اليه أن جميع أفعال العبيد وان كانت مخلوقة لله عز وجل، ومرادة له بالارادة التكوينية لامتناع جعل الشريك له في الخلق، الا أن خلقه لأفعالهم انما هو بتوسط ارادتهم الخاصة غالبا وفي طولها، وبذلك صححوا نسبة الأفعال للعبيد ونسبتها لله فهي مخلوقة لله عز وجل حقيقة، وهي صادرة عن ارادة العبيد حقيقة أيضا، وبذلك صححوا الثواب والعقاب، وذهبوا الى الحل الوسط الذي أخذوه من أقوال أئمتهمعليه‌السلام لاجبر ولاتفويض، وانما هو أمر بين أمرين.

وبهذا سلموا من مخالفة الوجدان في نفي الارادة وسلبها عنهم، كما هو مفاد مذهب القائلين بالجبر، كما سلموا من شبهة المفوضة في عزل الله عن خلقه وتفويض الخلق لعبيده، كما هو مذهب المفوضة.

وبناء على هذه النظرية يكون مفاد الآية ان الله عز وجل لما علم أن ارادتهم تجري دائما على وفق ما شرعه لهم من أحكام، بحكم ما زودوا به من امكانات ذاتية، ومواهب مكتسبة نتيجة تربيتهم على وفق مبادى ء الاسلام تربية حولتهم في سلوكهم الى اسلام متجسد، ثم بحكم ما كانت لديهم من القدرات على أعمال ارادتهم وفق أحكامه التي استوعبوها علما وخبرة، فقد صح له الاخبار عن ذاته المقدسة بأنه لايريد لهم بارادته التكوينية الا اذهاب الرجس عنهم، لأنه لايفيض الوجود الا على هذا النوع من أفعالهم ماداموا هم لايريدون لأنفسهم الا اذهاب الرجس والتطهير عنهم.

وبهذا يتضح معنى الاصطفاء والاختيار من قبله لبعض عبيده في ان يحملوا ثقل النهوض برسالته المقدسة كما هو الشأن في الأنبياء وأوصيائهمعليهم‌السلام .

على أن الشبهة لو تمت فهي جارية في الأنبياء جميعا، وثبوت العصمة

٣٨

لهم - ولو نسبيا - موضع اتفاق الجميع، فما يجاب به هناك يجاب به هنا من دون فرق، والشبهة لا يمكن ان تحل الا على مذهب اهل البيت في نظرية الامر بين الأمرين على جميع التقادير.

٣ - وشبهة ثالثة، أثاروها حول المراد من أهل البيت، فالذي عليه عكرمة ومقاتل - وهما من أقدم من تبنى ابعادها عن أهل البيت في عرف الشيعة - نزولها في نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة.

وكان من مظاهر اصرار عكرمة وتبنيه لهذا الرأي: انه كان ينادي به في السوق(١) ، وكان يقول: «من شاء باهلته انها نزلت في أزواج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) » والذي يبدو ان الراي السائد على عهده كان على خلاف رأيه كما يشعر فحوى رده على غيره «ليس بالذي تذهبون اليه انما هو نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) » وقد نسب هذا الرأي الى ابن عباس، ويبدو أنه المصدر الوحيد في النسبة اليه وان كان في أسباب النزول للواحدي رواية عن ابن عباس يرويها سعيد بن جبير دون توسط عكرمة هذا(٤) ، الا ان رواية ابن مردويه لها عن سعيد بن جبير عنه(٥) - أي عن عكرمة - عن ابن عباس يقرب ان يكون في رواية الواحدي تدليس وهما راوية واحدة؛ وقد استدل هو أو استدلوا له بوحدة السياق، لأن الآية انما وردت ضمن آيات نزلت كلها في نساء النبي، ووحدة السياق كافية لتعيين المراد من أهل البيت.

والحديث حول هذه الشبهة يدعونا الى تقييم آراء كل من عكرمة ومقاتل، ومعرفة البواعث النفسية التي بعثت بعكرمة على كل هذا الاصرار

____________________

(١) الواحدي في أسباب النزول، ص٢٦٨.

(٢) الدر المنثور، ج٥ ص١٩٨.

(٣) الدر المنثور، ج٥ ص١٩٨.

(٤) أسباب النزول، ص٢٦٧.

(٥) الدر المنثور، ج٥ص١٩٨.

٣٩

والموقف غير المحايد، حتى اضطره الموقف الى الدعوة الى المباهلة والنداء في الأسواق، وهو موقف غير طبيعي منه، ولا الف في غير هذا الموقف المعين.

والظاهر ان لذلك كله ارتباطا بعقيدته التي تبناها يوم اعتنق مذهب الخوارج(١) وبخاصة رأي نجدة الحروري(٢) .

وللخوارج موقف من الامام علي معروف، فلو التزم بنزول الآية في أهل البيت بما فيهم علي، لكان عليه القول بعصمته ولاهار على نفسه أسس عقيدته التي سوغت لهم الخروج عليه ومقاتلته، وبررت لهم - أعني الخوارج - قتله.

وقد استغل علائقه بابن عباس وسيلة للكذب عليه، وكان ممن يستسيغون الكذب في سبيل العقيدة - فيما يبدو - ومن أولى من ابن عباس في الكذب عليه فيما يتصل بهذا الموضوع الحساس - وقد اشتهرت قصة كذبه على ابن عباس بين خاصته حتى كان يضرب المثال فيه، فعن ابن المسيب «أنه قال لمولى له اسمه برد: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس، وعن ابن عمر أنه قال ذلك أيضا لمولاه نافع(٣) ».

وقد حاول علي بن عبد الله بن عباس صده وردعه عن ذلك، ومن وسائله التي اتخذها معه أنه كان يوثقه على الكنيف ليرتدع عن الكذب على أبيه، يقول عبد الله بن ابي الحرث: «دخلت على ابن عبد الله بن عباس وعكرمة موثق على باب كنيف، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟ فقال: ان هذا يكذب على أبي(٤) »، وحقده فيما يبدو لم يختص بأهل

____________________

(١) وفيات الأعيان، ج١ ص٣٢٠، ترجمة عكرمة.

(٢ - ٣) راجع الكلمة الغراء لشرف الدين، ص٢١٥ وما بعدها، نقلا عن ميزان الاعتدال وغيره، ففيه بالاضافة الى ذلك آراء مختلف النقاد الرجاليين فيه.

(٤) وفيات الأعيان، ج١ ص٣٢٠.

٤٠