كفاية الأصول

كفاية الأصول0%

كفاية الأصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 521

كفاية الأصول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد كاظم الخراسانى
تصنيف: الصفحات: 521
المشاهدات: 49669
تحميل: 16032

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 521 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49669 / تحميل: 16032
الحجم الحجم الحجم
كفاية الأصول

كفاية الأصول

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

استشهد الإمامعليه‌السلام بمثل(١) هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق.

ثم لا يذهب عليك أن المرفوع فيما اضطر إليه وغيره، مما أخذ بعنوانه الثانوي، إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي، ضرورة أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبة للرفع، والموضوع للأثر مستدعٍ لوضعه، فكيف يكون موجباً لرفعه؟.

لا يقال كيف؟ وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان، يكون أثراً لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها.

فإنه يقال: بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها، ضرورة أن الاهتمام به يوجب إيجابهما، لئلا يفوت على المكلف، كما لا يخفى.

ومنها: حديث الحجب(٢) ، وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في حديث الرفع، إلا أنه ربما يشكل(٣) بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف، بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه، لعدم أمر رسله بتبليغه، حيث إنه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه تعالى.

ومنها: قولهعليه‌السلام (٤) (كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه) الحديث، حيث دل على حليّة مالم يعلم حرمته مطلقاً، ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته، وبعدم الفصل قطعاً بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية، يتم المطلوب.

____________________

(١) المحاسن ٢ / ٣٣٩، الحديث ١٢٤.

(٢) التوحيد للصدوقرحمه‌الله ٤١٣، باب التعريف والبيان والحجة، الحديث ٩. والوسائل ١٨ / ١٢، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٢٨.

(٣) أورده الشيخرحمه‌الله على الاستدلال بهذا الحديث، فرائد الأصول / ١٩٩.

(٤) قريب من هذا المضمون روايات، الوسائل: ١٢ / ٥٩، باب ٤ من أبواب ما يكتسب به الحديثان ١ و ٤ والوسائل: ١٧ / ٩٠، باب ٦١ من الأطعمة المباحة، الأحاديث، ١ و٢ و٧.

٣٤١

مع إمكان أن يقال: ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته، فهو حلال، تأمل.

ومنها: قولهعليه‌السلام (١) (الناس في سعة ما لا يعلمون) فهم في سعة مالم يعلم، أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته، ومن الواضح أنه لو كان الاحتياط واجباً لما كانوا في سعة أصلاً، فيعارض به ما دل على وجوبه، كما لا يخفى.

لا يقال: قد علم به وجوب الاحتياط.

فإنه يقال: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله؟ نعم لو كان الاحتياط واجباً نفسياً كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه، لكنه عرفت أن وجوبه كان طريقياً، لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحياناً، فافهم.

ومنها: قولهعليه‌السلام (٢) (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) ودلالته يتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما بحكمه، بالنهي عنه وإن صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد، مع أنه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سيما بعد بلوغه إلى غير واحد، وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

لا يقال: نعم، ولكن بضميمة أصالة العدم صح الاستدلال به وتم.

فإنه يقال: وإن تم الاستدلال به بضميمتها، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه، إلا أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعاً، بل بعنوان أنه مما لم يرد عنه النهي واقعاً.

لا يقال: نعم، ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.

____________________

(١) الوسائل: ٢ / ١٠٧٣، باب ٥ من أبواب النجاسات، الحديث ١١ بتفاوت يسير في العبارة.

(٢) الوسائل: ١٨ / ١٢٧، باب ١٢ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٦٠.

٣٤٢

فإنه يقال: حيث أنه بذاك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلاً، ولا يكاد يعم ما إذا ورد النهي عنه في زمان، وإباحته(١) في آخر، واشتبها من حيث التقدم والتأخر.

لا يقال: هذا لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

فإنه يقال: وإن لم يكن بينها الفصل، إلا أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل، لا الأصل، فافهم.

وأما الإجماع : فقد نقل(٢) على البراء‌ة، إلا أنه موهون، ولو قيل باعتبار الإجماع المنقولة في الجملة، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل، ومن واضح النقل عليه دليل، بعيد جدّاً.

وأما العقل : فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول، بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه، فإنهما بدونهما عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان، وهما قبيحان بشهادة الوجدان.

ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك، لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته، فلا يكون مجال ها هنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، كي يتوهم أنها تكون بياناً، كما أنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة، بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل.

وأما ضرر غير العقوبة، فهو وإن كان محتملاً، إلا أن المتيقن منه فضلاً عن محتمله ليس بواجب الدفعٍ شرعاً ولا عقلاً، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلاً وجوازه شرعاً، مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا

____________________

(١) في «ب»: إباحة.

(٢) راجع الوجه الثاني من وجوه التقرير الثاني للإجماع على حجية البراء‌ة في كلام الشيخ (قده) فرائد الأصول/٢٠٢.

٣٤٣

يلازم احتمال المضرة، وإن كان ملازماً لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة، لوضوح أن المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الأحكام، وقد استقل العقل بحسن الأفعال التي تكون ذات المصالح وقبح ماكان ذات المفاسد، ليست براجعة إلى المنافع والمضار، وكثيراً ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر، نعم ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطاً للحكم شرعاً وعقلاً.

إن قلت: نعم، ولكن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته، وأنه كالإقدام على ما علم مفسدته، كما استدل به شيخ الطائفة(١) قدس‌سره ، على أن الأشياء على الحظر أو الوقف.

قلت: استقلاله بذلك ممنوع، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته، ولا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته، كيف؟ وقد أذن الشارع بالإقدام عليه، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح، فتأمل.

واحتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة، بالأدلة الثلاثة:

أما الكتاب : فبالآيات الناهية عن القول بغيرالعلم(٢) ، وعن الإلقاء في التهلكة(٣) ، والآمرة بالتقوى(٤) .

والجواب: إن القول بالإباحة شرعاً وبالأمن من العقوبة عقلاً، ليس قولاً بغير علم، لما دلّ على الإباحة من النقل وعلى البراء‌ة من حكم العقل، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلاً، ولا فيه مخالفة التقوى، كما لا يخفى.

____________________

(١) عدة الأصول ٢ / ١١٧ ولكن المتراء‌ى منه غير هذا.

(٢) الأعراف: ٣٣، الإسراء: ٣٦، النور: ١٥.

(٣) البقرة: ١٩٥.

(٤) البقرة: ١٠٢، التغابن: ١٦.

٣٤٤

وأما الأخبار : فبما(١) دل على وجوب التوقف عند الشبهة، معللاً في بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة، من الأخبار الكثيرة الدالّة عليه مطابقة أو إلتزاماً، وبما(٢) دل على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة.

والجواب: إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية، مع دلالة النقل على [الإباحة](٣) وحكم العقل بالبراء‌ة كما عرفت.

وما دل على وجوب الاحتياط لو سلم، وإن كان وارداً على حكم العقل، فإنه كفى بياناً على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول.

ولا يصغى إلى ما قيل(٤) : من أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبيح، وإن كان نفسياً فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع؛ وذلك لما عرفت من أن إيجابه يكون طريقيّاً، وهو عقلاً مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة، كما هو الحال في أوامر الطرق والأمارات والأصول العملية.

إلا أنها تعارض بما هو أخص وأظهر؛ ضرورة أن ما دل على حلّيّة المشتبه أخص، بل هو في الدلالة على الحلّية نص، وما دل على الاحتياط غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط، مع أن هناك قرائن دالة على أنه للإرشاد، فيختلف إيجاباً واستحباباً حسب اختلاف ما يرشد إليه.

____________________

(١) الوسائل: ١٨ / ٧٥ الباب ٩ من أبواب صفات القاضي / الحديث ١ - الوسائل ١٤ / ١٩٣، الباب ١٥٧ من أبواب مقدمات النكاح الحديث ٢.

الوسائل: ١٨ / ١١١ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي / أحاديث: ٣، ٤، ١٠، ٣١، ٣٥.

(٢) الوسائل: ١٨ / ١١١ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي / أحاديث: ١، ٣٧، ٤١، ٥٤.

(٣) أثبتناها من «ب».

(٤) القائل هو الشيخ الأعظم، فرائد الأصول / ٢٠٨.

٣٤٥

ويؤيده أنه لو لم يكن للإرشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعاً، مع أنه آب عن التخصيص قطعاً، كيف لا يكون قوله: (قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) للإرشاد؟ مع أن المهلكة ظاهرة في العقوبة، ولا عقوبة في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف والاحتياط، فكيف يعلل إيجابه بأنه خير من الاقتحام في الهلكة؟.

لا يقال: نعم، ولكنه يستكشف منه(١) على نحو الإنّ إيجاب الاحتياط من قبل، ليصح به العقوبة على المخالفة.

فإنه يقال: إن مجرد إيجابه واقعاً ما لم يعلم لا يصحح العقوبة، ولا يخرجها عن أنها بلا بيان ولا برهان، فلا محيص عن اختصاص مثله بما يتنجز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقاً، أو الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي، فتأمل جيّداً.

وأما العقل : فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته، حيث علم إجمالاً بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته، مما لم يكن هناك حجة على حكمه، تفريغاً للذمة بعد اشتغالها، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إلا من بعض الأصحاب.

والجواب: إن العقل وإن استقل بذلك، إلا أنه إذا لم ينحل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي، وقد انحل هاهنا، فإنه كما علم بوجود تكاليف إجمالاً، كذلك علم إجمالاً بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد، وحينئذ لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد(٢) المثبتة من الطرق والأصول العملية.

____________________

(١) في «ب»: عنه.

(٢) في «ب»: موارد.

٣٤٦

إن قلت: نعم، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقاً بالعلم بالتكاليف(١) .

قلت: إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثاً، وأما إذا لم يكن كذلك بل مما ينطبق عليه ما علم أولاً، فلا محالة قد انحل العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي.

إن قلت: إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالإجمال ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجباً لثبوته فعلاً، وأما بناءً على أن قضية حجيته واعتباره شرعاً ليس إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلاً، وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه، فلا انحلال لما علم بالإجمال أولاً، كما لا يخفى.

قلت: قضية الاعتبار شرعاً - على اختلاف ألسنة أدلته - وإن كان ذلك على ما قوينا في البحث، إلا أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف، يكون عقلاً بحكم الانحلال، وصَرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عما إذا كان في سائر الأطراف، مثلاً إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زيد بين الإناء‌ين وقامت البينة على أن هذا إناؤه، فلا ينبغي الشك في أنه كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الآخر، ولولا ذلك لما كان يجدي القول بأن قضية اعتبار الأمارات هو كون المؤديات أحكاماً شرعية فعلية، ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث، وهو كونها مؤديات الأمارات الشرعية.

هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال. كما لا يخفى.

وربما استدل بما قيل(٢) : من استقلال العقل بالحظر في الأفعال الغير الضرورية قبل الشرع، ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله، لا به ولا بالإباحة،

____________________

(١) في «أ»: بالواجبات.

(٢) قرر الشيخ (قده) هذا الوجه العقلي بقوله: «الوجه الثاني»، فرائد الأصول / ٢١٤.

٣٤٧

ولم يثبت شرعاً إباحة ما اشتبه حرمته، فإن ما دل على الإباحة معارض بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط.

وفيه أولاً: إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والإشكال، وإلا لصح الاستدلال على البراء‌ة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة.

وثانياً: إنه ثبت الإباحة شرعاً، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط، للمعارضة لما دل عليها.

وثالثاً: أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة، للقول بالاحتياط في هذه المسألة، لاحتمال أن يقال معه بالبراء‌ة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وما قيل(١) - من أن الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة - ممنوع، ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالباً، ضرورة أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر، والمفسدة فيما فيه المنفعة، واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالباً لا يعتنى به قطعاً، مع أن الضرر ليس دائماً مما يجب التحرز عنه عقلاً، بل يجب ارتكابه أحياناً فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره، مع القطع به فضلاً عن احتماله.

بقي أمور مهمة لا بأس بالإشارة إليها:

الأول : إنه إنما تجري أصالة البراء‌ة شرعاً وعقلاً فيما لم يكن هناك أصل موضوعي مطلقاً ولو كان موافقاً لها، فإنه معه لا مجال لها أصلاً، لوروده عليها كما يأتي تحقيقه(٢) فلا تجري - مثلاً - أصالة الإباحة في حيوان شك في حلّيته مع الشك في

____________________

(١) القائل هو شيخ الطائفة، عدة الأصول / ١١٧.

(٢) يأتي تحقيق الورود في خاتمة الاستصحاب - حقائق - ٢ / ٢٥٦.

٣٤٨

قبوله التذكية، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية، فأصالة عدم التذكية تدرجه(١) فيما لم يذك وهو حرام إجماعاً، كما إذا مات حتف أنفه، فلا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعاً؛ ضرورة كفاية كونه مثله حكماً، وذلك بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج [الأربعة](٢) مع سائر شرائطها، عن خصوصية في الحيوان التي بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلّية، ومع الشك في تلك الخصوصية فالأصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها، كما لا يخفى.

نعم لو شك بقبوله التذكية وشك في الحلّية، فأصالة الإباحة فيه محكمة، فإنه حينئذ إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام، ولا أصل فيه إلا أصالة الإباحة، كسائر ما شك في أنه من الحلال أو الحرام.

هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية، كما إذا شك - مثلاً - في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها، أم لا؟ فأصالة قبوله لها معه محكمة، ومعها لا مجال لأصالة عدم تحققها، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها، فالأصل أنه كذلك بعده.

ومما ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من الحيوان، وأن أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لأجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعاً، كما أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروء ما يمنع عنه، فيحكم بها فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه، كما لا يخفى، فتأمل جيّداً.

الثاني : إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعاً وعقلاً في الشبهة الوجوبية أو(٣) التحريمية في العبادات وغيرها، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما

____________________

(١) في «أ»: تدرجها.

(٢) أثبتناها من «ب».

(٣) في «أ»: و.

٣٤٩

إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الأمر أو النهي.

وربما يشكل(١) في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب، من جهة أن العبادة لابد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً أو إجمالاً.

وحسن الاحتياط عقلاً لا يكاد يجدي في رفع الإشكال، ولو قيل بكونه موجباً لتعلق الأمر به شرعاً، بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته؟

وانقدح بذلك أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضاً القول بتعلق الأمر به من جهة ترتب الثواب عليه، ضرورة أنه فرع إمكانه، فكيف يكون من مبادئ جريانه؟

هذا مع أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الأمر به بنحو اللّم، ولا ترتب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الإنّ، بل يكون حاله في ذلك حال الإطاعة، فإنه نحو من الانقياد والطاعة.

وما قيل(٢) في دفعه: من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة.

فيه: مضافاً إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها، بداهة أنه ليس باحتياط حقيقة، بل هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوباً مولوياً نفسياً عبادياً، والعقل لا يستقل إلا بحسن الاحتياط، والنقل لا يكاد يرشد إلا إليه.

نعم، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة، لما

____________________

(١) ذكر الشيخ هذا الإشكال في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغير الحرمة من جهة عدم النص، فرائد الأصول / ٢٢٨.

(٢) ذكره الشيخ في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغير الحرمة، فرائد الأصول / ٢٢٩.

٣٥٠

كان محيص عن دلالته اقتضاءً على أن المراد به ذاك المعنى، بناء على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة، كما لا يخفى أنه التزام بالإشكال وعدم جريانه فيها، وهو كما ترى.

قلت: لا يخفى أن منشأ الإشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها، مما يتعلق بها الأمر المتعلق بها، فيشكل جريانه حينئذ، لعدم التمكن من قصد القربة المعتبر فيها(١) ، وقد عرفت أنه فاسد(٢) ، وإنما اعتبر قصد القربة فيها عقلاً لأجل أن الغرض منها لايكاد يحصل بدونه.

وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الإمكان، ضرورة التمكن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله، غاية الأمر أنه لابد أن يؤتى به على نحو لو كان مأموراً به لكان مقرّباً، بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوباً له تعالى، فيقع حينئذ على تقدير الأمر به امتثالاً لأمره تعالى، وعلى تقدير عدمه انقياداً لجنابه تبارك وتعالى، ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد.

وقد انقدح بذلك أنه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها(٣) ،

____________________

(١) هكذا صححه في «ب»، وفي «أ»: لعدم التمكن من إتيان جميع ما اعتبر فيها...إلخ.

(٢) هذا مع أنه لو أغمض عن فساده، لما كان في الاحتياط في العبادات إشكال غير الإشكال فيها، فكما يلتزم في دفعه بتعدد الأمر فيها، ليتعلق أحدهما بنفس الفعل والآخر بإتيانه بداعي أمره، كذلك فيما احتمل وجوبه منها، كان على هذا احتمال أمرين كذلك، أي أحدهما كان متعلقاً بنفسه والآخر بإتيانه بداعي ذاك الأمر، فيتمكن من الاحتياط فيها بإتيان ما احتمل وجوبه بداعي رجاء أمره واحتماله، فيقع عبادة وإطاعة لو كان واجباً، وانقياداً لو لم يكن كذلك.

نعم كان بين الاحتياط ها هنا وفي التوصليات فرق، وهو أن المأتي به فيها قطعاً كان موافقاً لما احتمل وجوبه مطلقاً، بخلافه هاهنا، فإنه لا يوافق إلا على تقدير وجوبه واقعاً؛ لما عرفت من عدم كونه عبادة إلا على هذا التقدير، ولكنه ليس بفارق لكونه عبادة على تقدير الحاجة إليه، وكونه واجباً.

ودعوى عدم كفاية الإتيان برجاء الأمر في صيرورته عبادة أصلاً - ولو على هذا التقدير - مجازفة، ضرورة استقلال العقل بكونه امتثالاً لأمره على نحو العبادة لو كان، وهو الحاكم في باب الإطاعة والعصيان، فتأمل جيداً (منهقدس‌سره ).

(٣) خلافاً لما يظهر من الشيخ في بداية كلامه، فرائد الأصول / ٢٢٨.

٣٥١

بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشيء، بل كسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها، كما لا يخفى.

فظهر أنه لو قيل(١) بدلالة أخبار(٢) (من بلغه ثواب) على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف، لما كان يجدي في جريانه في خصوص ما دل على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف، بل كان عليه مستحباً كسائر ما دل الدليل على استحبابه.

لا يقال: هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه، وأما لو دل على استحبابه لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنه محتمل الثواب، لكانت دالّة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط، كأوامر الاحتياط، لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الإرشادي.

فإنه يقال: إن الأمر بعنوان الاحتياط ولو كان مولوياً لكان توصلياً، مع أنه لو كان عبادياً لما كان مصححاً للاحتياط، ومجدياً في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه آنفاً.

ثم إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب، فإن صحيحة(٣) هشام بن سالم المحكية عن المحاسن، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: (من بلغه عن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله - شيء من الثواب فعمله، كان أجر ذلك له، وإن كان رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لم يقله) ظاهرة في أن الأجر كان مترتباً على نفس العمل الذي بلغه عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه ذو ثواب، وكون العمل متفرعاً على البلوغ، وكونه الداعي إلى

____________________

(١) هذا ردّ للشيخ في التنبيه الثاني من مسألة دوران الحكم بين الوجوب وغيره، فرائد الأصول / ٢٢٩.

(٢) الوسائل: ١ / ٥٩ ب ١٨ من أبواب مقدمة العبادات، أحاديث الباب.

(٣) المحاسن / ٢٥، وكتاب ثواب الأعمال الباب ١، الحديث ٢.

٣٥٢

العمل غير موجب(١) لأن يكون الثواب إنما يكون مترتباً عليه، فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط، بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجهاً وعنواناً يؤتى به بذاك الوجه والعنوان.

وإتيان(٢) العمل بداعي طلب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قيد به في بعض الأخبار(٣) ، وإن كان انقياداً، إلا أن الثواب في الصحيحة إنما رتب على نفس العمل، ولا موجب لتقييدها به، لعدم المنافاة بينهما، بل لو أتى به كذلك أو إلتماساً للثواب الموعود، كما قيد به في بعضها الآخر(٤) ، لأوتي الأجر والثواب على نفس العمل، لا بما هو احتياط وانقياد، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوباً وإطاعة، فيكون وزانه وزان (من سرح لحيته)(٥) أو (من صلى أو صام فله كذا) ولعله لذلك أفتى المشهور بالاستحباب، فافهم وتأمل.

الثالث : إنه لا يخفى أن النهي عن شيء، إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان، بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلاً، كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة ولو بالأصل، فلا يجوز الإتيان بشيء يشك معه في تركه، إلا إذا كان مسبوقاً به ليستصحب مع الإتيان به.

نعم، لو كان بمعنى طلب تركه كل فرد منه على حدة، لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه مصداقه، فأصالة البراء‌ة في المصاديق المشتبهة محكمة.

فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة، فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة، أو كان

____________________

(١ و٢) تعريض بالشيخ في أخبار من بلغ، فرائد الأصول / ٢٣٠.

(٣) الوسائل: ١ / ٦٠، الباب ١٨ من أبواب مقدمة العبادات، الحديث ٤.

(٤) المصدر السابق، الحديث ٧.

(٥) الوسائل: ١ / ٤٢٩، الباب ٧٦ من أبواب آداب الحمام.

٣٥٣

الشيء مسبوقاً بالترك، وإلا لوجب الاجتناب عنها عقلاً لتحصيل الفراغ قطعاً، فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لأمره، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالاً لنهيه.

غاية الأمر كما يحرز وجود الواجب بالأصل، كذلك يحرز ترك الحرام به، والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراء‌ة جواز الاقتحام فيه، إلا أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه، ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضاً، فتفطن.

الرابع : إنه قد عرفت حسن الاحتياط عقلاً ونقلاً، ولا يخفى أنه مطلقاً كذلك، حتى فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة، أو أمارة معتبرة على أنه ليس فرداً للواجب أو الحرام، ما لم يخل بالنظام فعلاً، فالاحتياط قبل ذلك مطلقاً يقع حسناً، كان في الأمور المهمة كالدماء والفروج أو غيرها، وكان احتمال التكليف قوياً أو ضعيفاً، كانت الحجة على خلافه أو لا، كما أن الاحتياط الموجب لذلك لا يكون حسناً كذلك، وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالاً أو محتملاً، فافهم.

٣٥٤

فصل

إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته، لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلاً بعد نهوضها عليه إجمالاً، ففيه وجوه:

الحكم بالبراء‌ة عقلاً ونقلاً لعموم النقل، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به، ووجوب الأخذ بأحدهما تعييناً أو تخييراً، والتخيير بين الترك والفعل عقلاً، مع التوقف عن الحكم به رأساً، أو مع الحكم عليه بالإباحة شرعاً، أوجهها الأخير؛ لعدم الترجيح بين الفعل والترك، وشمول مثل (كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام) له، ولا مانع عنه عقلاً ولا نقلاً.

وقد عرفت أنه لا يجب موافقة الأحكام إلتزاماً، ولو وجب لكان الالتزام إجمالاً بما هو الواقع معه ممكناً، والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعاً محرماً لما نهض على وجوبه دليل قطعاً، وقياسه بتعارض الخبرين - الدالّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب - باطل، فإن التخيير بينهما على تقدير كون الأخبار حجة من باب السببية يكون على القاعدة، ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين، وعلى تقدير أنها من باب الطريقية فإنه وإن كان على خلاف القاعدة، إلا أن أحدهما - تعييناً أو تخييراً - حيث كان واجداً لما هو المناط للطريقية من احتمال الإصابة مع

٣٥٥

اجتماع سائر الشرائط، صار(١) حجة في هذه الصورة بأدلة الترجيح تعييناً، أو التخيير تخييراً، وأين ذلك مما إذا لم يكن المطلوب إلا الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً؟ وهو حاصل، والأخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل.

نعم، لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة، وإحداثهما الترديد بينهما، لكان القياس في محلّه، لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير ها هنا، فتأمل جيّداً.

ولا مجال - ها هنا - لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنه لا قصور فيه - ها هنا - وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها، والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة، كما لا يخفى.

ثم إن مورد هذه الوجوه، وإن كان ما [إذا](٢) لم يكن واحدٌ من الوجوب والحرمة على التعيين تعبدياً، إذ لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة، لأنها مخالفة عملية قطعية على ما أفاد شيخنا الأستاذ(٣) قدس‌سره ، إلا أن الحكم أيضاً فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلاً بين إتيانه على وجه قربي، بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه، وتركه كذلك، لعدم الترجيح وقبحه بلا مرجح.

فانقدح أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام، وإن اختص بعض الوجوه بهما، كما لا يخفى.

ولا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه(٤) كما هو الحال

____________________

(١) كذا صححه في «ب»، وفي «أ»: جعل.

(٢) أثبتناها من «ب».

(٣) راجع فرائد الأصول / ٢٣٦.

(٤) في «ب»: بتبعيَّته.

٣٥٦

في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام، ولكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما، وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة، ووجب الترجيح بها، وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران.

ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقاً، لأجل أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة، ضرورة أنه رب واجب يكون مقدماً على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام، فكيف يقدم على احتماله احتماله في صورة الدوران بين مثليهما؟ فافهم.

٣٥٧

فصل

لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الإيجاب أو التحريم، فتارة لتردده بين المتابينين، وأخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل : في دوران الأمر بين المتابينين.

لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقاً - ولو كانا فعل أمر وترك آخر - إن كان فعليّاً من جميع الجهات، بأن يكون واجداً لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي، مع ما هو [عليه](١) من الإجمال والتردد والاحتمال، فلا محيص عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته، وحينئذ لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة مما يعم أطراف العلم مخصصاً عقلاً، لأجل مناقضتها معه.

وإن لم يكن فعلياً كذلك، ولو كان بحيث لو علم تفصيلاً لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته، لم يكن هناك مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلة البراء‌ة الشرعية للأطراف.

ومن هنا انقدح أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي، إلا أنه لا مجال

____________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

٣٥٨

للحكم الظاهري مع التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعلياً من سائر الجهات، لا محالة يصير فعلياً معه من جميع الجهات، وله مجال مع الإجمالي، فيمكن أن لا يصير فعليّاً معه، لإمكان جعل الظاهري في أطرافه، وإن كان فعليّاً من غير هذه الجهة، فافهم.

ثم إن الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالإجمال كان فعلياً من جميع الجهات لوجب عقلاً موافقته مطلقاً ولو كانت أطرافه غير محصورة، وإنما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم، مع كونه فعليّاً لولاه من سائر الجهات.

وبالجملة لا يكاد يرى العقل تفاوتاً بين المحصورة وغيرها، في التنجز وعدمه، فيما كان المعلوم إجمالاً فعليّاً، يبعث المولى نحوه فعلاً أو يزجر عنه كذلك مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.

والحاصل أن اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتاً في ناحية العلم، ولو أوجب تفاوتاً فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر، وعدمها مع عدمه، فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف قلة وكثرة في التنجيز وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها بذلك، وقد عرفت آنفاً أنه لا تفاوت بين التفصيلي والإجمالي في ذلك، ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضاً، فتأمل تعرف.

وقد انقدح أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها، ضرروة أن التكليف المعلوم إجمالاً لو كان فعلياً لوجب موافقته قطعاً، وإلا لم يحرم مخالفته كذلك أيضاً.

ومنه ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالاً، إما من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه، أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معيناً أو مردداً، أو من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالاً في هذا الشهر، كأيام حيض المستحاضة

٣٥٩

مثلاً، لما وجب موافقته بل جاز مخالفته، وأنه لو علم فعليته ولو كان بين أطراف تدريجية، لكان منجزاً ووجب موافقته. فإن التدرج لا يمنع عن الفعلية، ضرورة أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي، كالحج في الموسم للمستطيع، فافهم.

تنبيهات

الأول : إن الاضطرار كما يكون مانعاً عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معين، كذلك يكون مانعاً لو كان إلى غير معين، ضرورة أنه مطلقاً موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه، تعييناً أو تخييراً، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلاً، وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقاً على حدوث العلم أو لاحقاً؛ وذلك لأن(١) التكليف المعلوم بينها من أول الأمر كان محدوداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقة، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوماً، لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين، أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين.

لا يقال: الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلا كفقد بعضها، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان، كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجاً عن

____________________

(١) لا يخفى أن ذلك إنما يتم فيما كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، وأما لو كان إلى أحدهما المعين، فلا يكون بمانع عن تأثير العلم للتنجز، لعدم منعه عن العلم بفعلية التكليف المعلوم إجمالاً، المردد بين أن يكون التكليف المحدود في ذلك الطرف أو المطلق في الطرف الآخر؛ ضرورة عدم ما يوجب عدم فعلية مثل هذا المعلوم أصلاً، وعروض الاضطرار إنما يمنع عن فعلية التكليف لو كان في طرف معروضه بعد عروضه، لا عن فعلية المعلوم بالإجمال المردد بين التكليف المحدود في طرف المعروض، والمطلق في الآخر بعد العروض، وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فإنه يمنع عن فعلية التكليف في البين مطلقاً، فافهم وتأمل (منهقدس‌سره ).

٣٦٠