كفاية الأصول

كفاية الأصول0%

كفاية الأصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 521

كفاية الأصول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد كاظم الخراسانى
تصنيف: الصفحات: 521
المشاهدات: 49151
تحميل: 15907

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 521 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49151 / تحميل: 15907
الحجم الحجم الحجم
كفاية الأصول

كفاية الأصول

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمدك اللّهمّ يا من أضاء على مطالع العقول والألباب، وأنار عليها بسواطع السنّة والكتاب، فأحكم الفروع بأصولها في كل باب، ونصلّي على أفضل من أُوتي الحكمة وفصل الخطاب، وعلى آله الطاهرين الأطياب، سيّما المخصوص بالأخوة سيّد أولي الألباب.

ربّنا آمنا بما أنزلت واتّبعنا الرسول وآل الرسول، فاغفر لنا ذنوبنا، وقنا سوء الحساب، واللعنة على أعدائهم من اليوم إلى يوم الحساب.

وبعد: فالعلم على تشعّب شؤونه، وتفنّن غصونه، مفتقر إلى علم الأصول افتقار الرعية إلى السلطان، ونافذ حكمه عليها بالوجدان، ولا سيّما العلوم الدينية، وخصوصا الأحكام الشرعية، فلولا الأصول لم تقع في علم الفقه على محصول.

فيه استقرّت قواعد الدين، وبه صار الفقه كشجرة طيّبة تؤتي أُكلها كل حين، فلذا بادر علماء الأمصار، وفضلاء الأعصار - في كل دور من الأدوار - إلى تمهيد قواعده، وتقييد شوارده، وتبيين ضوابطه، وتوضيح روابطه، وتهذيب أُصوله، وإحكام قوانينه، وترتيب فصوله.

لكنّه لما فيه من محاسن النكت والفِقر، ولطائف معان تدق دونها الفكر، جلَّ عن أن يكون شرعة لكل وارد، أو أن يطلع على حقائقه إلّا واحد

٣

بعد واحد، فنهض به من أُولي البصائر كابر بعد كابر، فللّه دَرّهم من عصابة تلقّوا وأذعنوا، وبرعوا فأتقنوا، وأجادوا فجادوا، وصنفوا وأفادوا، أثابهم الله برضوانه وبوّأهم بحبوحات جنانه.

حتى انتهى الأمر إلى أوحد علماء العصر، قطب فلك الفقاهة والاجتهاد، ومركز دائرة البحث والانتقاد، الطود الشامخ، والعلم الراسخ، محيي الشريعة وحامي الشيعة، النحرير الأوّاه، والمجاهد في سبيل الله، خاتم الفقهاء والمجتهدين، وحجّة الإِسلام والمسلمين، الوفي الصفي، مولانا الآخوند (ملّا محمد كاظم الهروي الطوسي النجفي) مدّ الله أطناب ظلاله على رؤوس الأنام، وعمر بوجوده دوارس شرع الإِسلام، فقد فاز - دام ظلّه - منه بالقدح المعلى وجلّ عن قول أين وأنّى، وجرى بفكر صائب تقف دونه الأفكار، ونظر ثاقب يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، فلذا أذعن بفضله الفحول، وتلقوه بأنعم القبول. وأظهر صحفاً هي المنتهى في التبيان، ذوات نكت لم يطمثهنّ قبله إنس ولا جان، ويغنيك العيان عن البيان، والوجدان عن البرهان.

فما قدمته لك إحدى مقالاته الشافية، ورسائله الكافية، فقد أخذت بجزأيها على شطري الأصول الأصلية، من مباحث الألفاظ والأدلة العقلية، وأغنت بالاشارة عن المطولات، فهي النهاية والمحصول، فحريٌّ بأن يسمى ب‍ (كفاية الأصول)، فأين من يعرف قدرها، ولا يرخص مهرها، وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبي ونعم الوكيل.

قال أدام الله ظلّه [بعد التسمية والتحميد والتصلية](١) :

____________________

(١) نقلنا هذه المقدمة من «ب».

٤

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

وبعد فقد رتّبته على مقدّمة، ومقاصد وخاتمة.

٥

٦

أمّا المقدمة ففي بيان أمور:

الأول

إنّ موضوع كل علم، وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتية - أي بلا واسطة في العروض - هو نفس موضوعات مسائله عيناً، وما يتّحد معها خارجاً، وإن كان يغايرها مفهوماً، تغاير الكلّي ومصاديقه، والطبيعي وأفراده، والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتّتة، جمعها اشتراكها في الداخل في الغرض الذي لاجله دُوِّن هذا العلم، فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل، مما كان له دخل في مهمين، لأجل كل منهما دُوِّن علم على حدة، فيصير من مسائل العلمين.

لا يقال: على هذا يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما، فيما كان هناك مهمان متلازمان في الترتّب على جملة من القضايا، لا يكاد انفكاكهما.

فإنّه يقال: مضافاً إلى بُعد ذلك، بل امتناعه عادة، لا يكاد يصحّ لذلك تدوين علمين وتسميتهما باسمين، بل تدوين علم واحد، يبحث فيه تارة لكلا المهمّين، واخرى لاحدهما، وهذا بخلاف التداخل في بعض المسائل، فان حسن تدوين علمين - كانا مشتركين في مسألة، أو أزيد - في جملة مسائلهما المختلفة، لأجل مهمين، مما لا يخفى.

٧

وقد انقدح بما ذكرنا، أن تمايزَ العلوم إنما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلّا كان كل باب، بل كل مسألة من كل علم، علماً على حدة، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمّل، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدد، كما لا يكون وحدتهما سبباً لان يكون من الواحد.

ثم إنّه ربّما لا يكون لموضوع العلم - وهو الكلّي المتّحد مع موضوعات المسائل - عنوان خاص واسم مخصوص، فيصح أن يعبّر عنه بكل ما دلّ عليه، بداهة عدم دخل ذلك في موضوعيته أصلاً.

وقد انقدح بذلك أن موضوع علم الاصول، هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هي أدلّة(١) ، بل ولا بما هي هي(٢) ، ضرورة أن البحث في غير واحد من مسائله المهمّة ليس من عوارضها، وهو واضح لو كان المراد بالسنّة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره، كما هو المصطلح فيها، لوضوح عدم البحث في كثير من مباحثها المهمّة، كعمدة مباحث التعادل والترجيح، بل ومسألة حجّية خبر الواحد، لا عنها ولا عن سائر الأدلّة، ورجوع البحث فيهما - في الحقيقة - إلى البحث عن ثبوت السنّة بخبر الواحد، في مسألة حجّية الخبر - كما اُفيد -(٣) وبأي الخبرين في باب التعارض، فإنّه أيضا بحث في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال غير مفيد فان البحث عن ثبوت الموضوع، وما هو مفاد كان التامة، ليس بحثاً عن عوارضه، فإنّها مفاد كان الناقصة.

لا يقال: هذا في الثبوت الواقعي، وأمّا الثبوت التعبدي - كما هو

____________________

(١) كما هو المشهور بين الاصوليين.

(٢) صرح به صاحب الفصول، الفصول / ٤.

(٣) افاده الشيخ (قده) في فرائد الأصول / ٦٧، في بداية مبحث حجية الخبر لواحد.

٨

المهم في هذه المباحث - فهو في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.

فإنّه يقال: نعم، لكنّه مما لا يعرض السنة، بل الخبر الحاكي لها، فإن الثبوت التعبدي يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به، وهذا من عوارضه لا عوارضها، كما لا يخفى.

وبالجملة: الثبوت الواقعي ليس من العوارض، والتعبدي وإن كان منها، إلّا أنّه ليس للسنة، بل للخبر، فتأمّل جيدّاً.

وأمّا إذا كان المراد(١) من السنة ما يعم حكايتها، فلأن البحث في تلك المباحث وإن كان عن أحوال السنة بهذا المعنى، إلا أن البحث في غير واحد من مسائلها، كمباحث الألفاظ، وجملة من غيرها، لا يخص الأدلة، بل يعمّ غيرها، وإن كان المهم معرفة أحوال خصوصها، كما لا يخفى.

ويؤيّد ذلك تعريف الأصول، بأنّه (العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية)، وإن كان الأولى تعريفه بأنه (صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام، أو التي ينتهى إليها في مقام العمل)، بناءً على أن مسألة حجية الظنّ على الحكومة، ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية من الأصول، كما هو كذلك، ضرورة أنّه لا وجه لالتزام الاستطراد في مثل هذه المهمّات.

الأمر الثاني

الوضع هو نحو اختصاص للّفظ بالمعنى، وارتباط خاص بينهما، ناش من تخصيصه به تارة، ومن كثرة استعماله فيه أخرى، وبهذا المعنى صحّ تقسيمه إلى التعييني والتعيّني، كما لا يخفى.

____________________

(١) هذا مراد صاحب الفصول، الفصول / ١٢.

٩

ثم إن الملحوظ حال الوضع: إما يكون معنى عاماً، فيوضع اللفظ له تارة، ولأفراده ومصاديقه أخرى؛ وإما يكون معنى خاصاً، لا يكاد يصحّ إلا وضع اللفظ له دون العام، فتكون الأقسام ثلاثة، وذلك لأن العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك، فإنه من وجوهها، ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه، بخلاف الخاص، فإنّه بما هو خاص، لا يكون وجهاً للعام، ولا لسائر الأفراد، فلا يكون معرفته وتصوّره معرفة له، ولا لها - أصلاً - ولو بوجه.

نعم ربّما يوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه، فيوضع له اللفظ، فيكون الوضع عاماً، كما كان الموضوع له عاماً، وهذا بخلاف ما في الوضع العام والموضوع له الخاص، فإن الموضوع له - وهي الأفراد - لا يكون متصوّراً إلا بوجهه وعنوانه، وهو العام، وفرق واضح بين تصوّر الشيء بوجهه، وتصوّره بنفسه، ولو كان بسبب تصوّر أمر آخر.

ولعلّ خفاء ذلك على بعض الأعلام(١) ، وعدم تميّزه بينهما، كان موجباً لتوهّم امكان ثبوت قسم رابع، وهو أن يكون الوضع خاصاً، مع كون الموضوع له عاماً، مع أنه واضح لمن كان له أدنى تأمّل.

ثم إنه لا ريب في ثبوت الوضع(٢) الخاص والموضوع له الخاص كوضع الأعلام، وكذا الوضع(٣) العام والموضوع له العام، كوضع أسماء الأجناس وأما الوضع العام والموضوع له الخاص، فقد توهّم(٤) أنّه وضع الحروف، وما ألحق بها من الأسماء، كما توهّم(٥) أيضاً ان المستعمل فيه فيها(٦)

____________________

(١) الظاهر أنّه صاحب البدائع، البدائع / ٣٩، في تقسيم الوضع إلى العام والخاص.

(٢ - ٣) في «أ و ب»: وضع.

(٤) صاحب الفصول، لفصول / ١٦، في الوضع.

(٥) الفصول / ١٦، في الوضع.

(٦) في «أ»: أن المستعمل فيها.

١٠

خاصٌ(١) مع كون الموضوع له كالوضع عامّاً.

والتحقيق - حسبما يؤدّي إليه النظر الدقيق - أن حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء، وذلك لأن الخصوصية المتوهمة، إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئياً خارجياً، فمن الواضح أن كثيراً ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك بل كلّيّاً، ولذا التجأ بعض الفحول(٢) إلى جعله جزئياً إضافياً، وهو كما ترى. وإن كانت هي الموجبة لكونه جزئياً ذهنياً، حيث أنّه لا يكاد يكون المعنى حرفياً، إلا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر، ومن خصوصياته القائمة به، ويكون حاله كحال العرض، فكما لا يكون في الخارج إلا في الموضوع، كذلك هو لا يكون في الذهن إلا في مفهوم آخر، ولذا قيل في تعريفه: بأنّه ما دلّ على معنى في غيره، فالمعنى، وإن كان لا محالة يصير جزئياً بهذا اللحاظ، بحيث يباينه إذا لوحظ ثانياً، كما لوحظ أولاً، ولو كان اللاحظ واحداً(٣) ، إلّا أن هذا اللحاظ لا يكاد مأخوذاً في المستعمل فيه، وإلا فلا بدّ من لحاظ آخر، متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ، بداهة أن تصوّر المستعمل فيه مما لا بدّ منه في استعمال الألفاظ، وهو كما ترى. مع أنه يلزم أن لا يصدق على الخارجيات، لامتناع صدق الكلّي العقلي عليها، حيث لا موطن له إلّا الذهن، فامتنع امتثال مثل (سر من البصرة) إلا بالتجريد وإلغاء(٤) الخصوصية، هذا مع أنّه ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلا كلحاظه في نفسه في الأسماء، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبراً في المستعمل فيه فيها، كذلك ذاك اللحاظ في الحروف، كما لا يخفى.

____________________

(١) في «أ و ب»: خاصاً.

(٢) المراد من بعض الفحول، إما صاحب الفصول، الفصول/١٦، وإمّا المحقق التقي، هداية المسترشدين/٣٠.

(٣) في «أ» واحد إلا أن.

(٤) في «ب»: إلقاء.

١١

وبالجملة: ليس المعنى في كلمة (من) ولفظ الإبتداء - مثلاً - إلا الإبتداء، فكما لا يعتبر في معناه لحاظه في نفسه ومستقلاً، كذلك لا يعتبر في معناها لحاظه في غيرها وآلة، وكما لا يكون لحاظه فيه موجباً لجزئيته، فليكن كذلك فيها.

إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة (من) ولفظ الإبتداء مترادفين، صحّ استعمال كل منهما في موضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطل بالضرورة، كما هو واضح.

قلت: الفرق بينهما إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع، حيث [أنّه](١) وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره، كما مرّت الاشارة إليه غير مرّة، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع، يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر، وإن اتفقا فيما له الوضع، وقد عرفت - بما لا مزيد عليه - أن نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصياته ومقوماته.

ثم لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك، فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والإنشاء ليستعمل في قصد تحققه وثبوته، وإن اتفقا فيما استعملا فيه، فتأمّل.

ثم إنّه قد انقدح مما حققناه، أنّه يمكن أن يقال: إن المستعمل فيه في مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضاً عام، وأن تشخّصه إنما نشأ من قبل طور استعمالها، حيث أن أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها، وكذا

____________________

(١) أثبتناها من «ب».

١٢

بعض الضمائر، وبعضها ليخاطب به(١) المعنى، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخص كما لا يخفى، فدعوى أن المستعمل فيه في مثل (هذا) أو (هو) أو (إيّاك) إنّما هو المفرد المذكّر، وتشخّصه إنّما جاء من قبل الإشارة، أو التخاطب بهذه الألفاظ إليه، فإن الإشارة أو التخاطب لا يكاد يكون إلا إلى الشخص أو معه، غير مجازفة.

فتلخّص مما حققناه: إنّ التشخص الناشئ من قبل الاستعمالات، لا يوجب تشخص المستعمل فيه، سواء كان تشخصاً خارجياً - كما في مثل أسماء الإشارة - أو ذهنياً - كما في أسماء الأجناس والحروف ونحوهما - من غير فرق في ذلك أصلاً بين الحروف وأسماء الأجناس، ولعمري هذا واضح. ولذا ليس في كلام القدماء من كون الموضوع له أو المستعمل فيه خاصاً في الحرف عين ولا أثر، وإنّما ذهب إليه بعض من تأخّر(٢) ، ولعلّه لتوهّم كون قصده بما هو في غيره، من خصوصيات الموضوع له، أو المستعمل فيه، والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على أنحائه، لا يكاد يكون من شؤونه وأطواره، وإلّا فليكن قصده بما هو هو وفي نفسه كذلك، فتأمّل في المقام فإنّه دقيق، وقد زلّ(٣) فيه أقدام غير واحد من أهل التحقيق والتدقيق.

الثالث

صحّة استعمال اللفظ فيما يناسب ما وضع له، هل هو بالوضع، أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان، أظهرهما أنّه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه ولو مع منع الواضع عنه، وباستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه و لو مع ترخيصه، ولا معنى لصحته إلا حسنه، والظاهر أن صحة الاستعمال

____________________

(١) في «ب»: بها.

(٢) صاحب الفصول، الفصول / ١٦.

(٣) في «ب»: ذل.

١٣

اللفظ في نوعه أو مثله من قبيله، كما يأتي الإشارة إلى تفصيله(١) .

الرابع

لا شبهة في صحة إطلاق اللفظ، وإرادة نوعه به، كما إذا قيل: ضرب - مثلاً - فعل ماض، أو صنفه كما إذا قيل: (زيد) في (ضرب زيد) فاعل، إذا لم يقصد به شخص القول أو مثله ك‍ (ضرب) في المثال فيما إذا قصد.

وقد أشرنا(٢) إلى أن صحة الاطلاق كذلك وحسنه، إنما كان بالطبع لا بالوضع، وإلا كانت المهملات موضوعة لذلك، لصحة الاطلاق كذلك فيها، والالتزام بوضعها كذلك كما ترى.

وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه، كما إذا قيل: (زيد لفظ) وأريد منه شخص نفسه، ففي صحته بدون تأويل نظر، لاستلزامه اتحاد الدال والمدلول، أو تركب القضية من جزء‌ين كما في الفصول(٣) .

بيان ذلك: أنّه إن اعتبر دلالته على نفسه - حينئذٍ - لزم الاتحاد، وإلا لزم تركبها من جزء‌ين، لأن القضية اللفظية - على هذا - إنما تكون حاكية عن المحمول والنسبة، لا الموضوع، فتكون القضية المحكية بها مركبة من جزء‌ين، مع امتناع التركب إلا من الثلاثة، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبين.

قلت: يمكن أن يقال: إنّه يكفي تعدد الدال والمدلول اعتباراً، وإن اتَّحَدا ذاتاً، فمن حيث أنّه لفظ صادر عن لافظه كان دالّاً، ومن حيث أن

____________________

(١) في الأمر الرابع.

(٢) أشار إليه في الأمر الثالث.

(٣) الفصول / ٢٢، عند قوله: فصل قد يطلق اللفظ..الخ.

١٤

نفسه وشخصه مراده كان مدلولاً، مع أن حديث تركب القضية من جزء‌ين - لو لا اعتبار الدلالة في البين - إنما يلزم إذا لم يكن الموضوع نفس شخصه، وإلا كان أجزاؤها الثلاثة تامة، وكان المحمول فيها منتسباً إلى شخص اللفظ ونفسه، غاية الأمر أنه نفس الموضوع، لا الحاكي عنه، فافهم، فانه لا يخلو عن دقة.

وعلى هذا، ليس من باب استعمال اللفظ بشيء، بل يمكن أن يقال: إنه ليس أيضاً من هذا الباب، ما إذا أُطلق اللفظ وأُريد به نوعه أو صنفه، فإنّه فرده ومصداقه حقيقة، لا لفظه وذاك معناه، كي يكون مستعملاً فيه استعمال اللفظ في المعنى، فيكون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجاً، قد أحضر في ذهنه بلا وساطة حاكٍ(١) ، وقد حكم عليه ابتداءً، بدون واسطة أصلاً، لا لفظه، كما لا يخفى، فلا يكون في البين لفظ قد استعمل في معنى، بل فرد قد حكم في القضية عليه - بما هو مصداق لكلي(٢) اللفظ، لا بما هو خصوص جزئيّة.

نعم فيما إذا أُريد به فرد آخر مثله، كان من قبيل استعمال اللفظ في المعنى، اللَّهمّ إلا أن يقال: إنّ لفظ (ضرب) وإن كان فرداً له، إلّا أنه إذا قصد به حكايته، وجعل عنواناً له ومرآته، كان لفظه المستعمل فيه، وكان - حينئذ - كما إذا قصد به فرد مثله.

وبالجملة: فإذا أُطلق وأُريد به نوعه، كما إذا أُريد به فرد مثله، كان من باب استعمال اللفظ في المعنى، وإن كان فرداً منه، وقد حكم في القضية بما يعمه، وإن أُطلق ليحكم عليه بما هو فرد كليّه ومصداقه، لا بما هو لفظه وبه حكايته، فليس من هذا الباب، لكن الاطلاقات المتعارفة ظاهراً

____________________

(١) في «أ و ب»: حاكي.

(٢) في «أ»: لكليه.

١٥

ليست كذلك، كما لا يخفى، وفيها ما لا يكاد يصح أن يراد منه ذلك، مما كان الحكم في القضية لا يكاد يعمّ شخص اللفظ، كما في مثل: (ضرب فعل ماض).

الخامس

لا ريب في كون الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي، لا من حيث هي مرادة للافظها، لما عرفت بما لا مزيد عليه، من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال، فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه.

هذا مضافاً إلى ضرورة صحة الحمل والاسناد في الجمل، بلا تصرّف في ألفاظ الأطراف، مع أنّه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة، لما صح بدونه؛ بداهة أن المحمول على (زيد) في (زيد قائم) والمسند إليه في (ضرب زيد) - مثلاً - هو نفس القيام والضرب، لا بما هما مرادان، مع أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصاً، لمكان اعتبار خصوص إرادة اللافظين فيما وضع له اللفظ، فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإِرادة فيه، كما لا يخفى، وهكذا الحال في طرف الموضوع.

وأمّا ما حكي(١) عن العلمين (الشيخ الرئيس(٢) ، والمحقق

____________________

(١) راجع الشفاء، قسم المنطق في المقالة الأولى من الفن الأول، الفصل الثامن / ٤٢، عند قوله (وذلك لان معنى دلالة اللفظ، هو أن يكون اللفظ اسماً لذلك المعنى على سبيل القصد الأوّل) انتهى.

وحكى العلّامة الحلّيرحمه‌الله في الجوهر النضيد في شرح التجريد / ٤. عن أستاذه المحقق الطوسيرحمه‌الله قوله بأن اللفظ لا يدلّ بذاته على معناه بل باعتبار الإرادة والقصد.

(٢) الشيخ الرئيس أبوعلي الحسين بن عبدالله بن سينا الحكيم المشهور، أحد فلاسفة المسلمين ولد سنة ٣٧٠ ه‍ بقرية من ضياع بخارى، نادرة عصره في علمه وذكائه وتصانيفه، لم يستكمل ثماني عشرة سنة من عمره الّا وقد فرغ من تحصيل العلوم بأسرها، صنف كتاب «الشفاء» و «النجاة» و «الإشارات» و «القانون» وغير ذلك ممّا يقارب مائة مصنّف، =

١٦

الطوسي(١) ) من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الارادة، فليس ناظراً إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني بما هي مرادة، كما توهمه بعض الأفاضل(٢) ، بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقية، أي دلالتها على كونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها، ويتفرع عليها تبعية مقام الإِثبات للثبوت، وتفرع الكشف على الواقع المكشوف، فإنّه لولا الثبوت في الواقع، لما كان للإثبات والكشف والدلالة مجال، ولذا لا بدّ من إحراز كون المتكلّم بصدد الإِفادة في إثبات إرادة ماهو ظاهر كلامه ودلالته على الارادة، وإلا لما كانت لكلامه هذه الدلالة، وإن كانت له الدلالة التصورية، أي كون سماعه موجباً لإِخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجدار، أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار.

إن قلت: على هذا، يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ، والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شيء، ولم يكن له من اللفظ مراد.

قلت: نعم لا يكون حينئذٍ دلالة، بل يكون هناك جهالة وضلالة، يحسبها الجاهل دلالة، ولعمري ما أفاده العلمان من التبعية - على ما بيّنّاه - واضح لا محيص عنه، ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن يجعل كلامهما ناظراً إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل، فضلاً عمن هو عَلَم

____________________

= وله شعر، توفي بهمدان يوم الجمعة من شهر رمضان ٤٢٨ ه‍ ودفن بها. (وفيات الاعيان ٢ / ١٥٧ رقم ١٩٠).

(١) المحقق خواجه نصير الدّين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الحكيم الفيلسوف ولد في طوس عام ٥٩٧ ه‍ ، درس في صغره مختلف العلوم وأتقن علوم الرياضيات وكان لايزال في مطلع شبابه، سافر إلى نيشابور وقضى فيها فترة ظهر نبوغه وتفوّقه، باشر إنشاء مرصد مراغة وأسس مكتبة مراغة، حضر درس المحقق الحلّي عندما زار الفيحاء بصحبة هولاكو، كتب ما يناهز ١٨٤ مؤلفاً في فنون شتّى، توفي ٦٨٢ ه‍ ودفن في جوار الامام موسى الكاظمعليه‌السلام . (أعيان الشيعة ٩ / ٤١٤).

(٢) صاحب الفصول ١٧، السطر الأخير.

١٧

في التحقيق والتدقيق؟ !.

السادس

لا وجه لتوهّم وضع للمركبات، غير وضع المفردات، ضرورة عدم الحاجة إليه، بعد وضعها بموادها، في مثل (زيد قائم) و (ضرب عمرو بكراً) شخصياً، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعياً، ومنها خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والإضافات، بمزاياها الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعياً؛ بداهة أن وضعها كذلك وافٍ بتمام المقصود منها، كما لا يخفى من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها، مع استلزامه الدلالة على المعنى: تارة بملاحظة وضع نفسها، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها، ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك، هو وضع الهيئات على حدة، غير وضع المواد، لا وضعها بجملتها، علاوة على وضع كل منهما.

السابع

لا يخفى أن تبادر المعنى من اللفظ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه - وبلا قرينة - علامة كونه حقيقة فيه؛ بداهة أنه لولا وضعه له، لما تبادر.

ولا يقال: كيف يكون علامة؟ مع توقفه على العلم بأنه موضوع له، كما هو واضح، فلو كان العلم به موقوفاً عليه لدار.

فإنه يقال: الموقوف عليه غير الموقوف عليه، فإن العلم التفصيلي - بكونه موضوعاً له - موقوف على التبادر، وهو موقوف على العلم الإِجمالي الإِرتكازي به، لا التفصيلي، فلا دور.

هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم، وأما إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة، فالتغاير أوضح من أن يخفى.

١٨

ثم إنّ هذا فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ، وأما فيما احتمل استناده إلى قرينة، فلا يجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه، لا إليها - كما قيل(١) - لعدم الدليل على اعتبارها إلا في إحراز المراد، لا الاستناد.

ثم إن(٢) عدم صحة سلب اللفظ - بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن اجمالاً كذلك - عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه، كما أن صحة سلبه عنه علامة كونه مجازاً في الجملة.

والتفصيل: إن عدم صحة السلب عنه، وصحة الحمل عليه بالحمل الأولي الذاتي، الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوماً، علامة كونه نفس المعنى، وبالحمل الشائع الصناعي، الذي ملاكه الاتحاد وجوداً، بنحو من أنحاء الاتحاد، علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقية(٣) .

كما أن صحّة سلبه كذلك علامة أنّه ليس منها، وإن لم نقل بأن إطلاقه عليه من باب المجاز في الكلمة، بل من باب الحقيقة، وإن التصرف فيه في أمر عقلي، كما صار إليه السكاكي(٤) ، واستعلام حال اللفظ، وأنه حقيقة أو

____________________

(١) قوانين الأصول / ١٣.

(٢) في «أ»: إنّه كذلك عدم صحة سلب اللفظ بمعناه المعلوم، المرتكز في الذهن إجمالاً عن معنى..الخ.

(٣) فيما إذا كان المحمول والمحمول عليه كلياً وفرداً، لا فيما إذا كانا كليين متساويين، أو غيرهما، كما لا يخفى. منهقدس‌سره .

وفي نسخة «أ» لم يظهر كونه تعليقاً بل الظاهر دخوله في المتن.

(٤) مفتاح العلوم / ١٥٦، الفصل الثالث في الاستعارة.

أبويعقوب يوسف بن أبي بكر بن محمد السكاكي الخوارزمي، ولد سنة ٥٥٥ ه‍ كان علامة بارعاً في فنون شتّى خصوصاً المعاني والبيان، وله كتاب «مفتاح العلوم» فيه إثنا عشر علماً من علوم العربية، وله النصيب الوافر في علم الكلام وسائر الفنون مات بخوارزم سنة ٦٢٦ ه‍. (بغية الوعاة ٢ / ٣٦٤ رقم ٢٢٠٤).

١٩

مجاز في هذا المعنى بهما، ليس على وجه دائر، لما عرفت في التبادر من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه، بالإجمال والتفصيل أو الإضافة إلى المستعلم والعالم، فتأمّل جيداً.

ثم إنه قد ذُكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضاً، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات، حيث لا يطرد صحة استعمال اللفظ معها، وإلّا فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال، فالمجاز مطرد كالحقيقة، وزيادة قيد (من غير تأويل) أو (على وجه الحقيقة)(١) ، وإن كان موجباً لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة، إلا أنه - حينئذٍ - لا يكون علامة لها إلا على وجه دائر، ولا يتأتّى التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا(٢) ، ضرورة أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة، لا يبقى مجال لاستعلام(٣) حال الاستعمال بالاطراد، أو بغيره.

الثامن

انّه للّفظ أحوال خمسة، وهي: التجوّز، والاشتراك، والتخصيص، والنقل، والإضمار، لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الأمر بينه وبين المعنى الحقيقي، إلا بقرينة صارفة عنه إليه.

وأما إذا دار الأمر بينها، فالأصوليون، وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوهاً، إلّا أنّها استحسانية، لا اعتبار بها، إلّا إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في المعنى، لعدم مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك، كما لا يخفى.

____________________

(١) الزيادة من صاحب الفصول، الفصول / ٣٨، فصل في علامة الحقيقة والمجاز.

(٢) في «أ»: هاهنا.

(٣) في «ب»: الاستعلام.

٢٠