القرآن وإعجازه العلمي

القرآن وإعجازه العلمي33%

القرآن وإعجازه العلمي مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 176

  • البداية
  • السابق
  • 176 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 40278 / تحميل: 9903
الحجم الحجم الحجم
القرآن وإعجازه العلمي

القرآن وإعجازه العلمي

مؤلف:
العربية

القرآن وإعجازه العلمي

محمد اسماعيل ابراهيم

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

القرآن وإعجازه العلمى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدمة

لا أرانى في حاجة إلى التأكيد على من يطالع هذا الكتاب أننى أعددته رغبة منى في إثبات إعجاز القرآن بأى وجه من الوجوه، لان إعجازه حقيقة ثابتة وقضية واضحة وضوح الشمس منذ أن نزل القرآن على النبى معجزة كبرى تحدى بها البلغاء والحكماء وأهل الكتب السماوية فعجزوا عن تحديها وأقروا بصدقها وتساميها، ويكفى للدلاله على علو شأنها قوله تعالى:(وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وقوله تعالى:(قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)، وها هى القرون تلو القرون تمر، وها هى العلوم قد إزدهرت والفنون قد أينعت؟ ولم يقدر أحد أن يأتى بمثل هذا الكتاب في أسلوبه أو منهجه أو هديه.

وغاية قصدى من وضع هذا الكتاب أو قصد غيرى مما كتبوا على نسقه وفى موضوعه من العلماء الاجلاء في إعجاز القرآن إنما كان أولا وقبل كل شئ للتشرف والاستمتاع بالنظر في كتاب الله بعين الاجلال والاعظام والايمان بقداسته، ثم للاشادة بسموه وروعته والتذكير بعلو مكانته بين الكتب السماوية

٣

الاخرى فقد حفظه الله من أى تبديل أو تغيير في نصه أو رسمه تحقيقا لقول الله تبارك وتعالى:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) بل إنه جل شأنه كرم هذا الكتاب فقال:(لا يمسه إلا المطهرون) فليس بعد ذلك غاية لتكريم أو تعظيم هذا القرآن المجيد.

واعتقادى أن أى محاولة من البشر لاظهار عظمة القرآن وقدسيته إنما هى وليدة رغبة إيمانية مخلصة فيها ما يشبه التأسى بموقف نبى الله إبراهيمعليه‌السلام وهو خليل الله عندما قال بروح الواثق من قدرة الله تعالى:(رب أرنى كيف تحيى الموتى، قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبى).

والقرآن المجيد حافل بالكثير من الآيات الدالة على علم الله المحيط بكل ما في الكون من مخلوقات وكائنات وما فيه من نواميس وسنن وقوانين أوجدها سبحانه خاضعة لارادته وأمره، وقد نزلت هذه الآيات الكونية وغيرها من آيات الاعجاز العلمى في وقت لم يكن أهل الجزيرة العربية ومن حولها من الاقطار على علم بأسرارها فلما تقدم الانسان وازدادت علومه ومعارفه بدأت آيات القرآن تظهر أمام بصيرته بمعانيها العلمية الباهرة، وتكشف عن إعجازها الرائع.

والمسلمون يعيشون الآن في عصر زاهر بالعلم وقد بهرهم فيه ما وصل إليه أهل أوروبا وأمريكا من تفوق ظاهر في العلوم والفنون والآداب وبخاصة علم التكنولوجيا وقد سبقوا فيها الدول الاسلامية بأشواط بعيدة الامر الذى جعل ضعاف العقول يسيئون الظن بالاسلام ويحسبون أنه سبب قصورهم وتخلفهم في ذلك المضمار، وهم في ذلك الوهم نسوا أو تناسوا أن الدين الاسلامى بقرآنه المجيد وسنته المطهرة هو الذى خلق من العرب أهل البادية خير أمة أخرجت للناس وأسسوا أعظم الدول وأرقى الحضارات وأكثر الاصول العلمية التى اقتبس أهل الغرب منها علومهم وفنونهم.

٤

وواجب كل مسلم ألا يختلط عليه الامر في حقيقة كل من الدين والعلم، أو أن ينظر إليهما على اعتبار أن كلا منهما مستقل عن الآخر، إذ الواقع أنهما صنوان متكاملان أصلا ومتحدان غاية ومنهجا لخدمة البشرية، فلا الدين يجافى العلم ولا العلم يعارض الدين، بل إن الدين بدوره يحض على طلب العلم والاستزادة منه، كما أن نور العلم يظهر لنا ما في الدين من جلال وبهاء وسمو روحى.

والقرآن كتاب الله المجيد الذى يجب على المسلمين أن يحرصوا على حفظه كله أو بعضه عن ظهر قلب والعمل به بحيث يكلف الآباء أبناء‌هم منذ نعومة أظفارهم باستظهار قصار سوره، ويكلف الشباب بتلاوته دائما وفهمه، كما يجب ألا يتوانى الكهول عن دراسته وتطبيقه في حياتهم قولا وعملا، لان القرآن هو الكتاب الجامع لكنوز العلم النافع وهو الدستور الهادى إلى الطريق المستقيم وأن اتباعه نصا وروحا هو الوسيلة العملية الموصلة إلى سعادة الدارين.

وقد نشط علماء الدين على مر العصور واجتهدوا في فهم القرآن والتدبر في آياته وتفسيرها وألفوا في ذلك كتبهم القيمة التى تعتبر من أجل وأبرك ما تركه السلف للخلف، ولكن أغلب ما صدر عنهم من التفسير يدل على أنهم نظروا إلى للقرآن على أنه كتاب دين وهداية وتهذيب وترغيب وترهيب دون تعمق فيما انطوى عليه من معانى علمية أخرى أبعد غاية وأجل شأنا، وقد عنيت الاجيال التالية للسلف الصالح بإعادة النظر في القرآن في ضوء ما كان يجد في مجال العلم الحديث من تطور وتقدم في كل عصر.

وفى عصرنا الحديث أخذت دولة العلم تزداد إتساعا وعمقا في أبحاثها وتنوعا في موضوعاتها، وذلك بفضل الطرق التى استحدثها الانسان في الكشف عن الحقائق بالمشاهدة والملاحظة والمقارنة واستعمال الاجهزة والمجاهر والمختبرات وإجراء

٥

التجارب حتى تمكن بذلك من الوصول إلى نظريات وقوانين وعلوم وفنون لم تكن موجودة من قبل في معارف من سبقوه من العلماء والباحثين.

وعندما جدد العلماء النظر في القرآن الكريم وحاولوا فهمه فهما عصريا وتفسيره في ضوء هذه العلوم الحديثة ظهر بوضوح أن آيات القرآن الكريم لها معان أوسع وأشمل مما فهم العلماء السابقون منها، وتبين بجلاء أن القرآن الكريم جاء بكثير من حقائق الكون ونواميسه وأصول العلوم الحديثة قبل أن يهتدى الانسان إلى معرفتها بمئات السنين وهذا هو الاعجاز كل الاعجاز الكامن في القرآن وأسرار آياته.

وهكذا يتجلى لنا الدين الاسلامى بقرآنه المجيد وسنة المطهرة وكأنه كنز العلوم والمعارف لانه متصل أشد الاتصال بالعلم قديمه وحديثه، وأنه ليس بمعزل عن الحياة ومشاكلها وتطوراتها، وأنه ما جاء ليعادى العلم وأهله وإنما جاء ليقدم للبشرية منتهى العلم وأنفعه ويقودها إلى طريق الحق واليقين في كل أمر من أمور ديننا ودنيانا، وهو بذلك يؤكد ويحقق قول الله تعالى:( مَا فَرَّطْنَا فِي الْکِتَابِ مِنْ شَيْ‌ءٍ ) .

(سورة الانعام آية ٣٨) وتحدثا بنعم الله علي أذكر أننى بعد أن قمت بعون من الله بتأليف كتابى(معجم الالفاظ والاعلام القرآنية) وجدتنى راغبا بل مشدودا ومساقا إلى خدمة كتاب الله مرة أخرى في محاولة ترادونى أن أكتب في إعجاز القرآن العلمى على قدر بضاعتى الضئيلة في هذا المجال وقد عزمت وتوكلت مستعينا بحول الله وقوته وبما ألفه العلماء في ذلك، أملا في أن يكون في عملى هذا ما يزيد القارئ للقرآن علما بجلال حقائقه وروعة أسراره وأن يمحو الله به الغشاوة عن أعين الذين عميت أبصارهم عن أنواره، وطمعا في أن بزيل به ظلمات الشكوك والريب

٦

من قلوب الذين كفروا بما جاء في هذا الكتاب من الحق ويهديهم إلى سواء السبيل.

ومما يشجعنى على تأليف هذا الكتاب أنى آنست في كثير من شبابنا المثقف رغبة ملحة في استجلاء معانى الآيات القرآنية بفهم عصرى وميلا إلى الاستزادة من أسرارها ومراميها، وهذه ظاهرة تدعو إلى الاستجابة لها والحث على دوامها وتشجيعها وأرجو أن يقابلها العلماء ورجال الدين من ائمة الدعوة إلى الله تعالى بكل ترحيب وإهتمام وأن يرووا ظمأ الظامئين من فيوض القرآن العذبة وأرجو الله أن يجعل من كتابى هذا منهلا سائغا رويا لمن يطالعه بوعى سديد.

وإنه من المفيد لمن يقرأ هذا الكتاب أن يتعرف على محتوياته واتجاهاته فهو يشمل الابواب الثلاثة الآتية:

الباب الاول : وفيه تمهيد لزيادة التعريف بالقرآن والتأكيد على أنه كتاب الله الذى لا ريب فيه والذى يأمر الشرع بتلاوته.

إظهار موقف العرب من القرآن وقت نزوله وتصديهم له بالتكذيب والحجود.

الباب الثانى : وفيه بيان عن سبب نزول القرآن معجزة معنوية دون غيرها.

من المعجزات الحسية التى كانت لغيره من الانبياء.

عرض لعلم تفسير القرآن والادوار التى مر بها في مختلف العصور.

الباب الثالث : وفيه طائفة من الآيات التى تدل على إعجازها العلمى مع تفسيرها الدينى أولا ثم شرحها في ضوء العلوم الحديثة بفهم عصرى لها.

٧

وقد إقتضى هذا الباب الاخير الاهتمام بعرض موجز لبعض مبادئ العلوم الحديثة في أبسط أسلوب ومن غير تعمق في تفصيلاتها لبيان توافقها وتطابقها مع منهج القرآن إذا إقتضى الامر زيادة الايضاح.

ولا يسعنى وأنا أختم هذه المقدمة إلا أن أحمد الله حمدا كثيرا، وأثنى على فضله ثناء جميلا على ما أولانى من إتاحة الفرصة لتحقيق أمنية عزيزة على نفسى كنت أتمناها لاعداد هذا الكتاب وطبعه ونشره عسى أن يكون لى من وراء ذلك ما أنشده وهو إظهار أقباس من نور القرآن في إعجازه العلمى الذى أعتقد أن كثيرا من المتعلمين المتقين يتطلعون إلى استجلاء أسراره العليا لكى يحققوا لانفسهم مزيدا من العلم والايمان ومزيدا من التمكن والعرفان ببعض ما جاء في آيات القرآن من إعجاز علمى غاية في الروعة والبيان، ولعل في مطالعة غير المسلمين لها ما يحملهم على الايمان بالقرآن وأنه كتاب الاسلام حقا وصدقا.

ولابد لى وأنا أقدم كتابى هذا أن أقول وحق أن ليس لى فيه من فضل يذكر في تأليفه أكثر من أنى تتبعت آيات الاعجاز العلمى: بالبحث والتنقيب عنها ثم جمعها والتنسيق لها، ثم عرض ما قطفته من ثمرات العلماء الاجلاء وآراء الخبراء النجباء الذين كان لهم فضل السبق في فهم القرآن وتفسير آياته في ضوء العلوم الحديثة التى هدى الله عباده إلى وضع قواعدها وهى العلوم التى أصبحت حقائق لا يعتورها شك لان العلماء كرسوا حياتهم في بحثها ودارستها بالفحص والتجريب حتى صارت لهم حصيلة تزداد نماء ورسوخا وتنوعا وتفرعا، وصارت لها مع آيات الله توافق عجيب وتطابق رائع حقا.

وهناك حقيقة أخرى في هذا الاعجاز العلمى المشهود في قرء‌اننا وهو أن هذا الاعجاز لم ينته بعد بل هو قائم وممتد على طول العصور القادمة، وسوف تشهد

٨

القرون المقبلة من إعجاز القرآن آفاقا جديدة لان الشواهد دلت على أنه كلما تقدم العلم وتعمق الانسان في بحوره يجد مع كل ظاهرة علمية كانت في طى الخفاء أن لها أصولا في القرآن سابقة عليها، وسوف يبقى هذا السبق سمة ملازمة للقرآن ومستوعبة لكل ما سوف تأتى به العلوم على مدى الازمان، وفى هذا ما يؤكد ويحقق قول الله تبارك وتعالى:( سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) .

وإنى أدعو الله الكريم أن يقبل عملى هذا قبولا حسنا وأن يجعل منه كتابا ينطق بالصدق ويدعو إلى ذكر الله والتذكير بجلاله وعظمته وأن يحيى به قلوب من قرأه بوعى وانتفع به في دينه ودنياه، وتأكد أن كل ما يدعوا إليه هو التدبر في ملك الله بقلب سليم.

والله الهادى إلى سواء السبيل؟ المؤلف محمد اسماعيل ابراهيم ٢٢ شارع المنتزه بالزمالك بالقاهرة

٩

١٠

١١

الباب الاول: القرآن

( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (سورة البروج آية ٢١)

القرآن الكريم هو كلام رب العالمين نزل به الروح الامين على خاتم الانبياء والمرسلين سيدنا محمد لهداية الناس أجمعين، وقد جاء معجزة خالدة تحدى بها الاسلام العرب فعجزوا عن مجاراتها فيما حوت من إعجاز في نظمها وأسلوبها وما اشتملت عليه من روائع الشرائع والحكم والعلوم والامثال، وإن أفضل استهلال لموضوع هذا الكتاب هو أن نبدأ بذكر بعض ما ورد من وصف للقرآن في كتاب الله الكريم وما جاء في سنة رسوله العظيم عنه، وما نطق به لسان الحق من الخلق أجمعين تمهيدا للتعريف بجلال القرآن وحقيقة قدسيته، ثم نشفع ذلك بما يجب معرفته بالضرورة من أنه معجزة الاسلام الكبرى: آيات من كتاب الله تعالى في وصف القرآن: يقول الله تبارك وتعالى في أول سورة البقرة تعريفا بالقرآن:( ألم، ذٰلِکَ الْکِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ‌ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

ويقول سبحانه وتعالى في أول سورة الكهف:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْکِتَابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاکِثِينَ فِيهِ أَبَداً ) .

ويقول جل من قائل في سورة المائدة آية - ١٦:

١٢

( قد جاء‌كم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من أتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) .

وقال تعالى في سورة الانعام آية - ١٥٥:( وَ هٰذَا کِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَکٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّکُمْ تُرْحَمُونَ ) .

وقال تعالى في سورة فصلت آية(١ - ٤):( حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ‌ کِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَکْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‌ ) .

ما جاء في أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن القرآن:(أفضل عبادة أمتى تلاوة القرآن)(القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم)(نوروا منازلكم بالصلاة وتلاوة القرآن)(خيركم من تعلم القرآن وعلمه)(أهل القرآن أهل الله وخاصته)(وهم الحافظون له والعاملون بما فيه)(إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، فقيل يا رسول الله وما جلاؤها؟ فقال:(تلاوة القرآن وذكر الموت)(ما من أحد يعلم ولده القرآن إلا نوج يوم القيامة بتاج في الجنة) وفى حديث طويل للرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه قال:(ستكون فتن كقطع الليل المظلم، قيل يا رسول الله وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله

١٣

تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن أتبع الهدى من غيره أضله الله فهو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذى لا تزيغ به الاهواء، ولا تلتبس به الالسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الاتقياء، ولا يخلق على كثرة التكرار، ولا تنقضى عجائبه، وهو الذى لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا:(إنا سمعنا قرآنا عجبا) من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم).

وفى خطبة من خطبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال:(إن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنة سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن).

وعن عبدالله بن مسعودرضي‌الله‌عنه قال:(قال لى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقرأ القرآن) قال:(فقلت يا رسول الله أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟ قال:(إنى أشتهى أن أسمعه من غيرى).

أقوال بعض العلماء في القرآن: ذكر السيوطى في تعريف القرآن: إن القرآن إنما صار معجزا لانه جاء بأفصح الالفاظ في أحسن نظم التأليف متضمنا أصح المعانى من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته، ودعائه إلى طاعته، وبيان لطريق عبادته من تحليل وتحريم؟ وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهى عن منكر وإرشاد إلى محاسن الاخلاق وزجر عن مساويها، واضعا كل شئ منها موضعه الذى

١٤

لا يرى شئ أولى منه، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعا أخبار القرون الاولى الماضية، وما نزل من مثلات الله بمن مضى، وعائد منهم منبئا عن الكوائن المستقبلة والاعصار الآتية من ذلك، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك أكد اللزوم ما دعا إليه وأنبأ عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.

وقال بعض العلماء عن مضمون القرآن أنه اشتمل على أنواع من الاعمال كلف الله بها عبادة للقيام بأدائها وهى: أولا: معاملة بين الله والعبد وهى العبادات التى لا تصح إلا بالنية، ومنها عبادات محضة وهى الصلاة والصوم، وعبادة مالية اجتماعية وهى الزكاة، وعبادة بدنية اجتماعية وهى الحج وقد اعتبرت هذه العبادات بعد الايمان أساس الاسلام.

ثانيا: معاملة بين العباد بعضهم مع بعض وهى أقسام منها:

(ا) مشروعات لتأمين الدعوة بالجهاد بالنفس والمال في سبيل الله.

(ب) مشروعات للاسرة وهى ما يتعلق بالزواج والطلاق والمواريث.

(ج) مشروعات لبيان المعاملة بين الناس من بيع وإجارة وهى بالمعاملات.

(د) مشروعات لبيان العقوبات على الجرائم وهى القصاص والحدود.

وقد عرف الاستاذ فريد وجدى مقاصد القرآن بقوله:(القرآن وحى إلهى نزل به الروح الامين جبريل على قلب رسول الله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكون للعاملين نذيرا وبشيرا، وعقيدتنا معشر المسلمين أنه الكتاب الجامع لاشتات الحكم ومتفرقات الاصول، وأنه فيه خلاصة سائر الكتب السماوية المتقدمة وأنه

١٥

جاء بالناموس الاعظم لكمال الحياتين الدنيوية والاخروية، وأنه آخى بين طبيعتى الانسان الجسدية والروحية، وأنه أنزل للعالمين أجمعين وروعيت فيه مصالحهم على قسطاس مستقيم، ولا جرم أن كتابا هذا شأنه لابد أن يكون راميا إلى قصد ومتوخيا في تعاليمه دستورا، ولابد أن يكون قد وعد وأوعد، وبشر وأنذر، ورغب ونفر، وبنى وهدم، وقوى ووهن، ووصل وقطع، وسلك لكل ذلك مسالك خاصة أدته إلى المكانة التى بلغها في نفوس الآخذين به قديما وحديثا.

القرآن آخر الكتب السماوية: جاء في بعض الآثار عن عدد الصحف السماوية المنزلة ما روى عن أبى ذر الغفارى قال:(قلت يا رسول الله كم كتابا أنزل على أنبيائه؟ قال الرسول: مائة صحيفة وأربعة كتب، فقد أنزل على آدم عشر صحائف وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف وأنزل التوراة والانجيل والزبور والفرقان(وهو القرآن) وقد نزلت الكتب المقدسة جميعها دفعة واحدة إلا القرآن فقد نزل منجما أى مفرقا.

فالقرآن آخر الكتب السماوية أنزله رب العزة جل جلاله على خاتم أنبيائه ورسله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ثبت نزوله بكل من الدليلين العقلى والنقلى، أما الدليل العقلى فهو ما تضمنه هذا الكتاب من وجوه الاعجاز الذى تحدى الانس والجن أن يأتوا بمثله فعجزوا عجزا مطلقا وما يزال التحدى قائما إلى يوم القيامة.

وأما الدليل النقلى فهو ما نقله إلينا السلف الصالح الذين عاشوا في زمن النبى وعاصروه، فقد ثبت بالتواتر الذى لا يرقى إليه شك أن القرآن كلام الله الذى

١٦

كان ينزل على النبى ويوحى إليه به بمرأى ومسمع من عشيرته وصحابته المعاصرين والملازمين له، وكان النبى يأمر كتاب الوحى أن يسجلوا آياته فور نزولها على رقاع من العظم أو الجلد أو الجريد أو الحجارة وعلى كل ما كان ميسورا وصالحا للكتابة عليه وقتئذ.

موقف العرب إزاء الدعوة الاسلامية والقرآن: لم يجد النبى من العرب عامة ومن قريش خاصة عندما أعلن دعوته بدين الاسلام سوى الصد والتكذيب والسخرية والاستهزاء والايذاء، فقد رموه بالكهانة تارة وبالجنون تارة أخرى، كما أعلنوا التنكر للقرآن وقالوا عنه إنه سحر مفترى، وقد تعرض النبى وكل أتباعه من المؤمنين لاشد ألوان الاذى والاعتداء ولم يثنه ذلك عن مواصلة جهاده وإعلان دعوته للتوحيد والحط شأن معبوداتهم من الاصنام والاوثان، وقد حاولوا أن يصرفوه عن دعوته بكل وسائل الارهاب وبالوعد والوعيد فكان يرد عليهم قائلا:(إن الله بعثنى رسولا وأنزل علي كتابا، وأمرنى أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربى ونصحت لكم فإن تقبلوا منى ماجئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لامر ربى حتى يحكم بينى وبينكم).

استعانة قريش باليهود في معارضة النبى وتحدى القرآن: استعان القرشيون في معارضة الدعوة الاسلامية وقرآنها بأحبار اليهود لانهم أهل كتاب يدعو للتوحيد لعلهم يجدوا لديهم أدلة يدحضون بها ما أنزل من الوحى على النبى، وكان اليهود يومئذ من ألد أعداء الاسلام ورسوله لانهم

١٧

يعتقدون أن النبى المنتظر سيكون من بنى إسرائيل لا من العرب، فأوعز اليهود لقريش أن يسألوا النبى عن ثلاثة أشياء فإن أخبرهم بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يجب عنها فهو مدع منتحل للنبوة، وقالوا سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول، وعن رجل طواف، وعن الروح، وقد نزل الوحى بالاجابة عن هذه الاسئلة بأن الفتية الذين ذهبوا في الدهر هم أهل الكهف، وقد ذكر القرآن قصتهم، وأن الرجل الطواف هو ذوالقرنين المذكورة قصته أيضا في القرآن، أما عن الروح فكانت الاجابة عليها قوله تعالى:(الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).

عناد قريش وتخبطهم في تكذيب القرآن: لقد كانت قريش أحرص الناس على إطفاء نور القرآن والطعن في إعجازه والسعى في إخفاء حقائقه وإبعاد تأثيره القوى في نفوس من يسمعه عن القبائل وذلك بالدعايات الكاذبه، ولو كان في مقدروهم معارضة القرآن والاتيان بشئ من مثلة لفعلوا، ولكنهم قالوا عن القرآن إنه سحر كما جاء ذلك في قوله تعالى:( وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ کَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ‌ ) (سورة الاحقاف آية - ٧) ثم قالوا عن القرآن إنه شعر شاعر فرد القرآن عليهم بقوله تعالى:( وَ مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِکْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ‌ ) (سورة يس آية - ٦٩) ثم عادوا فقالوا أنه أساطير الاولين علمها له غيره من العارفين بها فيرد عليهم الحق سبحانه وتعالى بقوله:( وَ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اکْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُکْرَةً وَ أَصِيلاً ) (سورة الفرقان آية - ٥) وقد اتهمه بعضهم بالجنون فرد القرآن عليهم بقوله تعالى:( وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتَارِکُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ، بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ‌ ) :(سورة الصافات آية - ٣٦، ٣٧).

١٨

شهادة الوليد بن المغيرة أبلغ فصحاء العرب في القرآن: أعيت الحيل القرشيين في محاربة القرآن بتكذبيه وإطفاء نوره والحد من تأثيره في قلوب سامعيه فاجتمعوا عند الوليد بن المغيرة أحد بلغاء العرب يتشاورون فيما يمكن عمله لابطال سحر البيان في هذا القرآن العجز الذى كانت وفود القبائل الآتية إلى مكة للحج تستمع إلى النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يرتله فيبلغ تأثير القرآن أعماق نفوسهم ويروعهم أسلوبه ومعناه، وحارت قريش في أمرها وكيف يصدون هذه القبائل عن الاجتماع بمحمد والاستماع لرسالته فكانوا يقولون لهم مرة إنه كاهن، ومرة أخرى يقولون عنه أنه ساحر ومرة ثالثة يقولون عنه إنه شاعر ولكن عقلاء القبائل ما كانت في قرارة نفسها تصدق هذا الكلام المناقض لجلال ما يسمعون من آيات القرآن والذكر الحكيم.

وأخيرا استقر رأى قريش أن يوزعوا أنفسهم عند مفارق الطريق الموصلة إلى مكة ويجلسون عند مداخلها لمقابلة القادمين وتحذيرهم من مقابلة محمد أو الاستماع إلى حديثه وقرآنه، ولما كانت قريش مسموعة الكلمة في العرب فكان كثير من هؤلاء الوافدين ينقادون لرأيهم، وكان الوليد بن المغيرة أشد المؤمنين بأن ما يتلوه محمد من القرآن حق لا ريب فيه، وكان يقول لقومه عن القرآن:(إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه، وكان ينصح قومه أن يتركوا محمدا وشأنه لانه توسم مجسه المرهف أن دعوة محمد ستكون لها شأن وأى شأن.

معجزة النبى الكبرى هى القرآن: إن كلمة القرآن لفظ مشتق من مادة قرأ وهى أول كلمة نزل بها الوحى على النبى في غار حراء إشارة إلى مكانة القراء‌ة التى هى السبيل إلى العلم وسر التقدم

١٩

والارتقاء في الحياة وكانت معجزة النبى هى القرآن الذى كان يتلوه المسلمون في حياته والذى سوف يتلوه من بعده ألوف مؤلفة لا حصر لها إلى يوم القيامة ولم تكن معجزته معجزة مادية محسوسة كمعجزات الانبياء السابقين وقد طالبه قومه بإلحاح بمعجزة حسية ملموسة حتى يؤمنوا برسالته، والقرآن يقص علينا ذلك في قوله تعالى في سورة الاسراء - آية ٩٢.

( لن تؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا، أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء علينا كما زعمت كسفا، أو تأتى بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا تقرأه ) فكان الجواب على هذا التحدى أن قال الرسول بأمر الله(قيل سبحان ربى ! هل كنت إلا بشرا رسولا؟) وكان هذا هو الجواب المفحم بالحق والصدق أمام تعنت المتعنتين المطالبين بالبراهين المادية.

لماذا كانت معجزة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هى القرآن؟ إن السر في أن يكون القرآن هو معجزة النبى الكبرى تتجلى في أنها المعجزة المعنوية القدسية ذات الاسرار الروحية المتصلة بالملا الاعلى، وأن فيه علوما وفيوضات آلهية جعلته الكنز الربانى الخالد على الدهر وأن له البقاء والنماء المعنوى والروحى ما دامت الالسنة ترتل آياته والقلوب تخشع عند سماعها والجلود والجوارح تلين وقت التأثر بها، ولم تشأ إرادة الله الحكيم العليم أن يجعل معجزة النبى معجزة مادية حسية كما كانت معجزات الانبياء من قبل عندما ظهرت للعيان ثم اختفت لانها عاشت في ذاكرة الناس مع حياة أنبيائها فقط، فلما ذهبوا ذهبت وانطوت بموتهم، وإنما أرادها الله لنبيه محمد أن تكون معجزته قرآنا خالدا على الدهر، وتبقى معجزة حية ما دام النبى حيا وأن تظل كذلك حية بعد موته

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

ابن عبّاس إلى الخوارج بالنهروان فرجع بعضهم إلى الطاعة(١) .

وحديث مناظرة ابن عبّاس مع الخوارج مذكور في آخر خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٤٨.

وقال الشهاب الخفاجي، المتوفّى سنة (١١٠٠) هـ: حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«تقتل عمّار الفئة الباغية» ، وقد قتله أصحاب معاوية وكان مع عليّعليه‌السلام بصفّين، وهو صريح في أنّ الخليفة هو عليّعليه‌السلام ، وأنّ معاوية مخطئ في اجتهاده. والباغية من البغي: وهو الخروج بغير حقّ على الإمام. وفي الحديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إذا اختلف الناس، كان ابن سميّة مع الحقّ» . وابن سميّة: هو عمّار، كان مع عليعليه‌السلام . وهذا هو الذي ندين الله به، وهو أنّ علياً كرّم الله وجهه على الحقِّ، ومجتهد مصيب في عدم تسليم قتلة عثمان(٢) .

وقال الشوكاني، المتوفى سنة (١٢٥٥) هـ: في حديث أبي سعيد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«تكون اُمّتي فرقتين، يخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهما بالحقّ» دلالة على أنّ علياًعليه‌السلام ومَن معه هم المحقّون، ومعاوية ومَن معه هم المبطلون(٣) .

وحكى أبو الثناء الآلوسي المفسّر عن بعض الحنابلة: التصريح بوجوب قتال الباغين؛ لأنّ علياًعليه‌السلام اشتغل في زمان خلافته بقتال الباغين دون الجهاد، فهو إذاً أفضل من الجهاد. ثمّ ذكر ندم عبد الله بن عمر على تركه المشاركة مع عليعليه‌السلام في قتال الباغين، ولمْ يتعقّبه الآلوسي بشيء(٤) . وقال محمّد كرد علي: ما خالف علي في البراءة من قتلة عثمان، وقد كان قتلته من أكثر القبائل، وكانوا عدداً ضخماً لا طاقة لعليّ عليهم. ومن المتعذّر عليه أن يسلّمهم أو بعضهم؛ وهم عضده ولو كان يعرفهم بأعيانهم. وقد وقعت المسألة على غير رضاه، وليس من مصلحته أن يستهدف لغضب عشائر كثيرة تقوم بنصرته اليوم. وكان عليعليه‌السلام يحلف بالله أن بني اُميّة لو أرادوا منه أن يأتيهم بخمسين

____________________________

(١) تحفة المحتاج ٤ / ١١٠، ١١٢.

(٢) شرح الشفا ٢ / ١٦٦ ط سنة / ١٣٢٦.

(٣) نيل الاوطار للشوكاني ٧ / ١٣٨.

(٤) روح المعاني ٢٦ / ١٥١ ط مصر.

٨١

غلاماً من بني هاشم يحلفون بالله أنّه ما قتل عثمان ولا مالأ عليه(١) .

هذه نصوص علماء السنّة في أحقية عليعليه‌السلام بالخلافة من غيره، وأن الخارج عليه باغ يستحق القتال حتّى يثوب إلى الحقِّ؛ ولذا كان خيار الصحابة والتابعين معه، ومنهم اُويس القرني، فإنّه كان في الرجّالة يوم صفين(٢) .

وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ما وجدت في نفسي من شيءٍ؛ مثل ما وجدت أني لم اُقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى. وكان يحدّث بما أخبر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أن أبن سميّة عمّاراً تقتله الفئة الباغية، وأن البُغاة على الإمام عليعليه‌السلام هم: معاوية وأصحابه. ولمّا سئل عن المشاركة مع علي بن أبي طالب يوم صفين؛ اعتذر بما لا يجديه يوم فصل الخطاب، فقال: إني لم أضرب بالسيف، ولم أطعن بالرمح، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:«أطع أباك» فأطعته(٣) .

هذا هو التمويه والخداع! كيف يسوّغ التذرع عن مخالفة الحقِّ بحمل كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على غير حقيقته؟ أتجوّز الشريعة حمل الحديث على وجوب طاعة الأب حتّى إذا استلزمت ترك الفرائض، أو ارتكاب المحرمات؟ كلا، إن طاعة الإمام الذي تمّت له البيعة، كانت مفروضة في أعناق المسلمين، لا مناص للامّة حينئذ إلا الخضوع له، ووجوب امتثال أمره فيما يدعوهم إليه. ولا طاعة للأبوين في قبال طاعة الإمامعليه‌السلام ؛ ولعل قوله تعالى:( وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ) (٤) شامل لذلك، فإن المراد من الشرك المنهي عنه: الكناية عن ترك الإنقياد لله سبحانه، ويدخل فيه الإعراض عن طاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام الذي تمت له البيعة في أعناق المسلمين؛ ولذلك كانت عائشة تتم في سفرها إلى البصرة في قتال عليعليه‌السلام ، فإن القصر عندها إنما يكون في سفر طاعة(٥) .

إنّ الشريعة المقدسة أوجبت على إمام الاُمّة إقامة الحُجّة على كلِّ مَن عانده،

____________________________

(١) الاسلام والحضارة العربية ٢ / ٣٨٠.

(٢) عمدة القارئ للعيني ١١ / ٣٤٦.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) سورة لقمان / ١٥.

(٥) نيل الاوطار ٢ / ١٧٩ صلاة المسافر - باب من اجتاز في بلد فتزوّج فيها.

٨٢

وخرج عن طاعته، بتذكير آلاء الله تعالى المتتابعة على العباد مع ما هم عليه من التمرد والطغيان.

ثمّ يعرّفهم بأن الدنيا الزائلة لا تعود على المنهمك فيها إلا بالخسران، إذ لعل بالمواعظ القدسية، وتلاوة الآيات المحكمة، يستنير من أعمته الشهوات؛ فيبصر سبيل الرشاد، ويلمس الحقيقة الناصعة.

ولقد سار أمير المؤمنينعليه‌السلام على هذه الخطّة التي سنّها قانون الإسلام في أيامه الثلاثة، بعد الهتاف بأصحابه ألا يتعدوا مقررات الشريعة، ومنها: عدم الأستعجال في القتال حتّى تكون الفرقة المقابلة لهم هي العادية بقتال المؤمنين؛ لتثبت الحُجّة على البادي بالظلم(١) .

وقد أكثر سلام الله عليه وعلى أبنائه المعصومين، من وعظ أهل الجمل وصفين والنهروان؛ كي لا يبقى لأحد عذر يوم نشر الصحف، وتُدحض حجة كلِّ مَن بلغته دعوته وأصر على الخلاف والعناد، فاستضاء بأنوار إرشاداته مَن هداه الله إلى الإيمان، وضلّ مَن ضلّ عن سبيل الحقِّ.

الحسين يوم الطفّ

وعلى هذه السنن مشى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام يوم الطفّ، فلم يبدأ القوم بقتال مهما رأى من أعدائه التكاتف على الضلال، والمقابلة له بكلِّ ما لديهم من حول وطول حتّى منعوه وعياله وصحبه من الماء، الذي لم يزل صاحب الشريعةصلى‌الله‌عليه‌وآله يجاهر بأنّ الناس في الماء والكلأ شرع سواء؛ لأنّهعليه‌السلام أراد إقامة الحُجّة عليهم. فوقف في ذلك الملأ المغمور بالأضاليل، ونادى بحيث يعي الجماهير حُجّته، فعرَّفهم أولاً، خسارة هذه الدنيا الفانية لمَن تقلّب فيها، فلا تعود عليهم إلا بالخيبة. ثمّ تراجع ثانية إلى التعريف بمنزلته من نبيّ الإسلام، وشهادته له ولأخيه المجتبىعليهما‌السلام بأنهما سيّدا شباب أهل الجنة. وناهيك بشهادة مَن لا ينطق عن الهوى، وكان محبوّاً بالوحي الإلهي أنْ تؤخذ ميزاناً للتمييز بين الحقِّ والباطل. وفي الثالثة، عرَّفهم أنّه يؤدّي كلَّ ما لهم عنده من مال وحرمات. وفي الرابعة، نشر المصحف

____________________________

(١) نهج البلاغة ٣ / ٣٠٤ في وصاياهعليه‌السلام .

٨٣

الكريم على رأسه، ودعاهم إلى حُكمه. وحتّى إذا لم تجدِ هذه النصائح القيّمة فيهم، ووضح لديه إصرارهم على الغيِّ والعناد لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كشف السّتار عن الإباء العلوي، الذي انحنت عليه أضالعه، ورفع الحجاب عن الأنفة التي كان أبناء عليعليه‌السلام يتدارسونها ليلاً ونهاراً، وتلهج بباب أنديتهم، فقال صلوات الله عليه:«ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة. يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد، وخذلان الناصر» .

كـيف يـلوي على الدنية جِيدا

لـسوى الله مـا لواه الخضوعُ

ولـديه جـأش أردُّ من الدرعِ

لـظمأى الـقنا وهـنَّ شروعُ

وبـه يـرجع الـحفاظ لصدرٍ

ضاقت الأرض وهي فيه تضيعُ

فـأبى أن يـعيش إلا عـزيزا

أو تجلّى الكفاح وهو صريعُ(١)

هذه وصايا الشريعة المطهّرة، وأحكامها الباتّة في الدعوة إلى الحقِّ، والنّهضة لسدِّ باب الباطل. وكما ألزمت جهاد المضلّين المشركين أباحت ترك الجهاد للصبي، والمقعد، والأعمى، والشيخ الكبير، والمرأة، والبالغ الذي لم يأذن له أبواه. لكن مشهد (الطفِّ) خرق ناموسها الأكبر، وجاز تلك المقررات جرياً على المصالح والأسرار التي قصرت عنها أحلام البشر، وقد تلقّاها أبيّ الضَيمعليه‌السلام من جدّه المنقذ الأكبر، وأبيه الوصي المقدَّم.

فالحسينعليه‌السلام لم يشرِّع سُنّة اُخرى في الجهاد، وإنّما هو درسٌ إلهيّ أثبته اللوح الأقدس في عالم الإبداع، محدد الظرف والمكان، تلقّاه الأمين جبرئيلعليه‌السلام وأفاضه على حبيب الله وصفيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأودعه صاحب الدعوة الإلهية عند ولده سيد الشهداءعليه‌السلام .

فكلُّ ما يُشاهَد في ذلك المشهد الدامي من الغرائب التي تنحسر عن الوصول إلى كنهها عقول الرجال؛ فهو ممّا آثر المولى سبحانه به وليّه وحجّته أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام .

____________________________

(١) من قصيدة في الحسينعليه‌السلام للسيد حيدر الحلّيرحمه‌الله .

٨٤

وعلى هذه السُّنن مشى شهيد الكوفة مسلم بن عقيل، المُميّز في العلم والعمل، ووفور العقل، والملكات القدسية، كما يقتضيها تأهّله للولاية والنّيابة عن الإمام الحُجّةعليه‌السلام . وقد كابد من شدّة الظمأ ما يجوِّز له شرب النجس، ولكن ابن عقيل كقمر الهاشميين رضيعا لبن واحد، وخريجا مدرسة الإمامة والعصمة، فحازا أرقى شهادة في الإخلاص بالمفاداة دون الدِّين الحنيف، من أئمّة معصومين جعلتهما القدوة في الأعمال الصالحة. فكما أنّ مسلماً لم يذق الماء حتّى لفظ نفسه الأخير، لم تسمح نفس أبي الفضل في الورود، حين زلزل الصفوف عن مراكزها حتّى ملك الماء وحده، وقد علم بعطش سيّد الشهداءعليه‌السلام ، وحرائر المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والصبية الفاطميّة. فلم تجوّز له الشريعة التي تلقّاها من أبيه الوصي، وأخويه الإمامين«إن قاما وإن قعدا» (١) على حدّ تعبير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الريَّ من ذلك المعين؛ تداركاً لنفس حجّة الوقت ولو في آن يسير. غير أنّ المحتوم عاقه عن بلوغ الاُمنية:

لـم يـذُق الـفرات اُسـوة بـه

مُـيـمماً بـمـائه نـحو الـخِبا

لـم يـرَ فـي الـدين يـبلّ غلّة

وصـنوه فـيه الـظّما قـد ألهبا

لــذاك قــد أسـنـده لـدينه

وعـن يـقينٍ فـيه لن يضطربا

هـذا مـن الـشرع يـرى فعلتَه

ومـن صـراط أحـمدٍ ما ارتكبا

ومـثله الـحسين لـمّا مـلك ال

مــاءَ فـقيل رحـله قـد نُـهبا

أمَّ الـخـيام نـافـضاً لـمـائه

إذ عـظم الأمـر به واعصوصبا

فـكـان لـلعبّاس فـيه اُسـوةٌ

إذ فاض شهماً غير مفلول الشبا(٢)

لقد نهض أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام بذلك الجمع النزر، المؤلّف من شيوخ وصبية ورضّع ونساء، مع العلم بأن مقابليه لا يرقبون فيه إلاً ولا ذمة. قادمين على استئصال شأفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أهله وذويه، لكن سياسة (شهيد الطفّ) - التي لا يُدرك مداها، وتنحسر العقول عن تفسير مغزاها - عرَّفت الأجيال الواقفين على هذه الملحمة - التي لم يأت الدهر بمثلها - بأعمال هؤلاء الجبابرة، الذين لم يُسلم أسلافهم حين أظهروه إلا فرقاً من سيف الإسلام.

وقد أصاب أبو عبد اللهعليه‌السلام

____________________________

(١) كشف الغمة للأربلي ص ١٥٩ في أحوال الحسينعليه‌السلام .

(٢) للحجة الميرز محمّد علي الغروي الأردوبادي.

٨٥

شاكلة الغرض يوم تقشّعت سحب الأوهام بأنوار نهضته الوضيئة، وهتاف حرمه الذي بلبل الأفكار، وأقلق الأدمغة حتّى راحت الأندية تلهج بما احتقبه هؤلاء الطغاة ومَن قبلهم، من الشنار والعار.

الرخصة في المفارقة

وعلى هذا النّهج القويم تكون مصارحة سيّد الشهداء بكلمته الثمينة، البعيدة المغزى، الحكيمة الأساس، المتضمنة تجويزه لأهل بيته وصحبته بمفارقته.

ونص ما يتحدث به المؤرخون عن ذلك؛ قولهعليه‌السلام لأهل بيته وصحبه عشيّة التاسع من المحرم:«إنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرَّ وأوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً. ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء غداً، وإني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم مني ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً. وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم؛ فإن القوم إنما يطلبوني، ولو أصابوني لذُهلوا عن طلب غيري» (١) . ما أجلّ مغزاك يا أبيَّ الضيم! وما أسمى ما ترمي إليه يا سيّد الشهداء! وما أحكم أقوالك وأفعالك يا روح النبوّة! بلى إنّ هذه الجملة الذهبيّة كتبت بأحرف نوريّة على جبهة الدهر: إنّ اُولئك الصفوة الميامين - الذين وصفهم أمير المؤمنينعليه‌السلام بأنّهم سادة الشهداء، وأنّهم لم يسبقهم سابق، ولا يلحقهم لاحق(٢) - زبدة العالم، ونخبة الكون. وقد استضأنا من تلك الإشعاعات طوايا نيّاتهم؛ من الحزم والثبات، والإخلاص في المفاداة، والتضحية القدسيّة، وفي كلّ ذلك دروس راقية لمَن يريد اقتصاص أثر اُولئك الاُباة في الترفّع عن الدنايا، والموت تحت راية العزم، وعدم الخضوع للسّلطة الغاشمة، إمّا ظفر بالأمنية، أو فوز بالشهادة والسّعادة.

ولولا تلك الرخصة بالمفارقة الصادرة من أمين الشرع والشريعة، وتلك

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٣٨، الكامل في التاريخ ٤ / ٢٤، البداية و النهاية ٨ / ١٧٨ وقد ذكر اذنه بالمفارقة، وإصرار أصحابه وأهل بيته على المفاداة. ورواه الفضل بن شاذان النيسابوري في (اثبات الرجعة) عن أبي جعفرعليه‌السلام ، ورواه الشيخ المفيد في الإرشاد، والطبرسي في إعلام الورى، والفتّال النيسابوري في روضة الواعظين، وذكره الخوارزمي في المقتل ١ / ٢٤٦.

(٢) كامل الزيارات لابن قولويه / ٩٧٠ - ٩٩٩.

٨٦

الكلمات التي أباحتها نفوسهم الطاهرة، لما أمكن للأجيال معرفة مبلغهم من العلم واليقين، وتفاضلهم في الملكات، وطموحهم إلى أبعد الغايات السامية، والثبات على المبدأ بإخلاص وبصيرة.

فسيّد الشهداء أراد بذلك اختبار نفوسهم - والإختبار من الحكيم العالم بما كان ويكون، لا يحطُّ من علمه ووقوفه على الخفايا بعد أن كانت الغاية الملحوظة له ثمينة، والمقصد سام. وهو الذي أشرنا إليه من التعريف بملكات أصحابه، وأهل بيتهعليهم‌السلام - ولا غرابة في هذا الإختيار بعد أن صدر مثله من (فاطر الأكوان) جلّ شأنه، الذي لا يغادر علمه صغيراً ولا كبيراً؛ فيأمر خليله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وهو لا يريده، مع العلم بطاعة رسوله الخليل، وثبات نبيّه إسماعيل، لولا المصلحة التي يعلمها ربّ العالمين وإن انحسرت عن إدراكها العقول.

وقصّة الأقرع، والأبرص، والأعمى تشهد بأنّ الله تعالى إنّما أراد بالإنعام عليهم؛ التعريف لمن يقف على قصّتهم بلزوم الشكر على الإنعام، وإنّ الكفران عاقبته الخسران(١) .

وأبو عبد اللهعليه‌السلام أراد بهذا الإختبار؛ تعريف الأجيال مبوّأ أهل بيته وصحبه من الشرف، والعزِّ، وطهارة أعراقهم، وخضوعهم لما فيه مرضاة الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ العلم بمبلغ أي رجل في العالم من الطهارة، والثبات على المبدأ، والطاعة للأصلح المرضي للمولى تعالى، لا يحصل إلا بأقواله المشفوعة بالعمل الصحيح، أو بشهادة مَن له الوقوف على حركاته وسكناته. ولم يخفَ على كلّ أحد قصور التأريخ الذي بأيدينا، عن كثير من أعمال الرجال الصالحين، الذين بذلوا كلَّ ما لديهم من جاه وحرمات في سبيل تأييد الشريعة الحقّة، ولم يحمل التأريخ شيئاً من أعمال اُولئك الصفوة (شهداء كربلاء)؛ لنتشوَّف منه قداسة ضمائرهم، وخلوص نيّاتهم، وتزكية تفوسهم، غير ذلك المشهد الدامي. ولولا تلك الأقوال التي صارح بها أصحابُ الحسينعليه‌السلام وأهل بيته، حينما أبدى لهم الرخصة في مفارقته، وأباح لهم تخليهم عنه مع القوم الذين تجمهروا عليه، لما عرفنا تفاضلهم في الملكات، وتفاوتهم في النظرات البعيدة الغور، والفضيلة التي لمْ يستوفها البشر.

____________________________

(١) صحيح البخاري كتاب الأنبياء - باب الأقرع والأبرص ٤ / ١٤٦ و فتح الباري ٦ / ٣٢٣ في هذا الباب.

٨٧

والعلم نور يقذفه الله تعالى في قلب مَن يشاء من عباده، مع التفاوت شدّةً وضعفاً.

فهذا مسلم بن عوسجة الأسدي، لم يكشف التأريخ عن أعماله الخالدة، ومزاياه الصالحة بقليل ولا كثير، غير كلمة شبث بن ربعي: أنّه غزا مع المسلمين (آذربيجان) وقتل ستّة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين. وما عسى أن يعرف منها القارئ إلا مدى ولائه الأكيد لخلفاء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم تغيّره بتطوّر الزمن وملابسات الأحوال، ولكنّ قوله للحسينعليه‌السلام : أنحن نخليِّ عنك ولمّا نعذر إلى الله تعالى في أداء حقّك؟ أما والله لا اُفارقك حتّى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح اُقابلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك. أفادنا بصيرة بثبات الرجل على المبدأ في آخر مرحلة من مراحل الوجود، وأنّه لا يهمه في سبيل مرضاة الله تعالى ورسوله كلّ ما يلاقيه من آلام وجروح دامية. وقد شفّع هذا القول بالجهود في العمل حين استقبل السيوف والرماح بصدره ونحره، كما لم يقتنع بهذا حتّى أوصى حبيب بن مظاهر الأسدي - ذلك الذي استفاد علم المنايا والملاحم من أمير المؤمنينعليه‌السلام - بنصرة الحسينعليه‌السلام ؛ ولأنّه لا يعذر عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتقصير في حقّه وهو في آخر رمق من الحياة، وفاضت نفسه الغالية على هذه العقيدة والطاعة(١) .

وتابعه في إخلاص الولاء والمفاداة سعيد بن عبد الله الحنفي، إذ يقول: والله لا نخلِّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك، والله لو علمت أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ أُذرَّى، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك. فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!.

فوقف دون أبي عبد اللهعليه‌السلام ، ونصح في الذّب عنه، ولمْ يقنعه ما أصابه من الجروح الدامية، حين استُهدف لأعداء الله تعالى دون الحسينعليه‌السلام وهو

____________________________

(١) يذكرني هذا التفاني دون ابن بنت المصطفى اعتذار سعد بن أبي وقّاص لمّا طلب منه أمير المؤمنينعليه‌السلام نصرته، فقال: إني أكره الخروج في هذه الحرب فاصيب مؤمناً إلا أن تعطيني سيفاً يعرف المؤمن من الكافر!!. كتاب الجمل للشيخ المفيد / ٥٩ ط ٢.

٨٨

يصلّي الظهر في حومة الميدان حتّى استفهم من أبيِّ الضيم: أنّه أدّى أجر الرسالة، ووفي بما أوجبه الله عليه؛ فيموت جذلاً برضى الربِّ تعالى، أم هو التقصير فالخيبة والخسران؟ فطمأنه أبو عبد اللهعليه‌السلام بنيل السّعادة بالشهادة، ولقاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قبله.

وما إن فرغ من خطابه حتّى قام زهير بن القين البجلي، يتلو على مسامع الأجيال تعاليم راقيةً في الدعوة إلى الدين، أعقبت له الخلود إلى الأبد. فيقول للحسينعليه‌السلام : والله لوددت أنّي قُتلت، ثمّ نُشرت، ثمّ قتلت حتّى اُقتل على هذه ألف مرّة، وإنّ الله يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك.

لا شك قي قبول الطاعة من العبد لو كان ما يأتي به من الأعمال بلحاظ الربح يوم الخلود، ولكن هناك ما هو أبعد غوراً وأسمى قصداً، وهو طاعة أهل اليقين الذين لا يهمهم في أداء ما وجب عليهم؛ إلا كون المولى سبحانه أهلاً للعبادة.

وزهير هذا هو وعاء اليقين والإيمان الخالص، أقرأنا في هذا الموقف نظراته البعيدة، وعقائده الحقّة، وغاياته السّامية من حفظ شخص الإمامة الواجبة من قبل الله تعالى، والنّفوس العزيزة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وإنّه لا يريد بعبادته لله تعالى في جهاد أعدائه، ثواب الآخرة، والمجازات على الجهود يوم تقسّم الاُجور على الصالحات، وإنّما أراد بهذه العبادة دفع اليد العادية عمّا يسوء شخص الرسالة الممتزجة بشخصيّة حُجّة الوقت على حدّ تعبير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها:

«حسين منّي، وأنا من حسين» (١) . فإنّ صاحب الشريعة لم يرد بهذا التعبير تعريف الاُمّة بكون شهيد الطفِّ بضعة منه؛ لما فيه من الركاكة التي يأباها كلام سيّد البلغاء، لإنّ كلّ ولد بضعة من أبيه فلا امتياز للحسينعليه‌السلام ، ولكنه أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الجملة الذهبيّة، الإشارة إلى ما ينوء به سيّد الشهداء من توطيد اُسس

____________________________

(١) رواه من الامامية السيد المرتضى في أماليه ١ / ١٥٧ المجلس الخامس عشر، وابن قولويه في كامل الزيارات / ٥٣. ومن أهل السنة الترمذي في جامعه في مناقب الحسينعليه‌السلام ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٧٧، وابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق ١٤ / ١٤٩، وابن حجر في مجمع الزوائد ٩ / ١٨١، والهيثمي في الصواعق المحرقة / ١١٥ حديث ٢٣، والبخاري في الأدب المفرد، والمتقي الهندي في كنز العمال ٧ / ١٠٧ وغيرهم الكثير.

٨٩

الإسلام، وكسح أشواك الباطل عن صراط شريعة العدل، وتنبيه الاُمم على جرائم أعمال مَن يعبث بقداسة الدِّين. فكما أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أول ناهض لنشر الدعوة الإلهيّة، يكون الحسين آخر ناهض لتثبيت دعامتها:

قـد أصبح الدينُ منه شاكياً سقماً

ومـا إلى أحدٍ غيرِ الحسين شكا

فما رأى السبط للدين الحنيف شفا

إلا إذا دمـه فـي كـربلا سُفكا

ومـا سـمعنا عـليلاً لا دواء له

إلا بـنـفس مـداويه إذا هـلكا

بـقتله فـاح للإسلام نشرُ هدىً

فـكلّما ذكـرته المسلمون ذكا(١)

ولولا هذه المصارحة من (ابن القين)، لَما أمكننا استطلاع ما اختبأ بين جوانحه من الولاء الأكيد لِمَن وجبت لهم العصمة من المهيمن سبحانه، وقيّضهم أعلاماً لعباده وحفظة لشرعه، مع أنّ التاريخ لم يسجّل له غير الموالاة (لعثمان بن عفّان)، ومقت ابن الرسول الأطهرعليه‌السلام .

أمّا موقف عابس بن أبي شبيب الشاكري يوم البيعة لمسلم بن عقيل بالكوفة، ويوم الطفِّ، فيفسِّر فضله الكثير، وعقيدته الراسخة بمحبّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وإنّه لا يهمّه في سبيل حفظ الإمامعليه‌السلام - ولو في بعض الأناة - إزهاق نفسه، وبذل كلِّ ما لديه من نفيس. فيقول لمسلم بن عقيل حينما شاهد تلك النفوس الخائنة متداكة على البيعة له: إني لا اُخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرّك منهم. ووالله إني اُحدثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه؛ والله لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولاُقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله، لا اُريد بذلك إلا ما عند الله(٢) .

ففسّر بهذه الكلمة الموجزة نوايا القوم وخور عزائمهم، وأنّهم مجبولون على الغدر والنّفاق ومتابعة الأهواء، وأنّهم لم يرقهم المكاشفة في الميل عنه؛ لئلا يعود ذلك فتّاً في عضد البيعة الواهية، ومثاراً للإحن. فأجملوا القول وهم ينتظرون نواجم العاقبة، وإلا فلم لم يحصل لمسلم بن عقيل الواحد من هؤلاء الآلاف مَن يدلّه على الطريق يوم اظلمت عليه الآفاق، فلم يدرِ إلى أين يتوجّه؟!.

____________________________

(١) من قصيدة في الحسينعليه‌السلام للسيد جعفر الحلي طبعت في ديوانه.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ١٩٩.

٩٠

ثمّ يقول ابن أبي شبيب للحسينعليه‌السلام يوم الطفِّ: ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ علي منك، ولو قدرت أن أدفع الضيم عنك بشيء أعزّ عليَّ من نفسي لفعلت(١) .

بلى يابن أبي شبيب، إنّ الرجال المخلصين لله تعالى، المتفانين في خدمته لا يرون الوجود إلا متلاشي الأطراف، والبقاء الأبدي بنصرة الإمام علّة الكائنات ومدار الموجودات.

ثمّ يقوم نافع بن هلال فيقول: والله ما أشفقنا من قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا، إنّا على نيّاتنا وبصائرنا؛ نوالي من والاك ونعادي من عاداك. ويتكلّم أصحابه بما يشبه ذلك.

ولمّا أذِنعليه‌السلام لأهل بيته بالإنصراف قالوا بأجمعهم بصوت واحد: أنفعل ذلك لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً، ثمّ التفت إلى بني عقيل وقال:«حسبكم من القتل بمسلم، قد أذِنتُ لكم» . فانطلقت ألسنتهم تعبّر عمّا أضمر في جوانحهم من النصرة للدِّين، والذبِّ عن شخص الإمام الحُجّةعليه‌السلام ، فقالوا: إذَن ما نقول للناس؟! إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولمْ نرمِ معهم بسهم، ولمْ نطعن برمح، ولمْ نضرب بسيف؟ لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا؛ نقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك.

إنّ هذه المفاداة في ذلك المأزق الحرج، الذي تقطّعت فيه خطوط المدد، وسدّ دونهم باب الورود المباح للحيوانات، تكشف عن بلوغهم أسمى صفات الكمال، وتجرّدهم عن عوارض الدنيا الفانية. ولو كانوا يحملون أقلّ شيء من الرغبة في البقاء والتبلغ في هذا الوجود؛ لاتّخذوا الإذن بالمفارقة ذريعة يتذرّعون بها يوم الحساب، ولكنّ هذه النّفوس التي فطرها ربّ العالمين من طينة القداسة، وامتزجت بنور اليقين لا ترغب في البقاء إلا أن تحقّ الحقّ، أو تبطل الباطل. وهل تستمرئ العيش وهي تعلم ما يلاقيه فلذة كبد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومهجة الإسلام من الجروح الدامية، والأوام المبرح؟:

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٤.

٩١

نـفوس أبـتْ إلا ترات أبيهُمُ

فـهم بـين موتور لذاك وواترِ

لقد ألفت أرواحُهمْ حومة الوغى

كما أنِست أقدامهم بالمنابرِ(١)

وفي هذا الحين اُنهيَ إلى محمّد بن بشير الحضرمي خبر أسر ابنه بثغر الرّي، فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما اُحبّ أنْ يؤسر وأبقى بعده. فلمّا سمع الحسينعليه‌السلام هذا منه أذِن له بالمفارقة، وحلّ عقد البيعة؛ ليعمل في فكاك ابنه. فلمّا سمع ذلك من سيّد الشهداء ثارت به حمية الدين، وحفّزه الولاء الصادق إلى إظهار عقيدته الراسخة في التفاني دون شخص الإمامعليه‌السلام ، فقال: يا أبا عبد الله، أكلتني السّباع حياً إن فارقتك.

إنّ الإيمان الثابت، والطاعة لله تعالى وللرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يرفعان مَن تمكّنا فيه إلى أوج العظمة، وفوق مستوى الفضيلة. ولو كان ابن بشير متزلزل العقيدة؛ لاغتنم فرصة الإذْن بالإنصراف عذراً عند المولى سبحانه وعند الناس.

إنّ (الشهامة الحسينيّة) لم تترك لصاحبها منتدحاً دون المجاهرة بالإفراج عن العبد الأسود (جون مولى أبي ذر الغفاري)؛ لئلا يقيّده الحياء عن الفرار. ولكن سيّد الشهداءعليه‌السلام ، بعد أن عرف صبره، وثباته عند الهزاهز أراد بامتحانه؛ تعريف المتجمهرين عليه، ومَن يأتي من الاُمم نفسيّة هذا العبد الأسود، ومبلغ موقفه في الذبِّ عن الشريعة - التي تلاعبت بها أيدي الخائنين - مهما تفاقم الخطب، وتراكمت الأهوال. فأباح له حلَّ العهد والنّجاة بنفسه، فقال له:«يا جون، إنّما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتل بطريقتنا» . فعندها تسابقت دموعه؛ خوفاً من عدم التوفيق لنيل السّعادة الخالدة، وقد مزجها بقوله الذي لمْ يزل رجع صداه في مسامع الأجيال، معرفاً بنجاح الصابر عند الهزاهز (وإنّما الراحة بعد العنا). فقال: أنا في الرخاء ألحَس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم! إن ريحي لنتن، وحسبي لئيم، ولوني أسود فتنفس عليَّ بالجنة؛ ليطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضّ لوني. لا والله لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم(٢) .

ولولا هذه المصارحة من الحسينعليه‌السلام ، لما تسنّى لكلّ أحد الوقوف على

____________________________

(١) مثير الأحزان لابن نما / ٣٨.

(٢) الملهوف على قتلى الطفوف / ٦١ ط صيدا.

٩٢

طهارة ضمير هذا العبد ونواياه الحسنة. وإنَّ ثباته على القتل، بعد الإفراج والإذن بالمفارقة يخبر عن عقيدة راسخة.

الخلاصة

إنّ حفظ شخص الإمامعليه‌السلام كحفظ شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مما يلزم به العقل والشرع، ولا يسع كلّ أحد التخلّف عنه وتركه ومَن يريد استئصاله، بل الواجب بذل النّفس والنّفيس دونه؛ ليدرأ بذلك العدوان عن نفس الإمام الذي هو حياة الوجود وبقاء الكون. كما يجب على الإمامعليه‌السلام الدعوة إلى نصرته والدفاع عنه، مع العلم بأنّ الموافق له قادم على إزهاق نفسه القدسيّة، وأنّه لا ندحة له عن دفع الموت، فيجوز له عدم إلزام أي أحد بالدفاع عنه؛ لخلوّه عن الفائدة.

والحسينعليه‌السلام كان عالماً بما يجري عليه من أعدائه، وعدٌ لا خلف فيه، وقضاء غير مردود، كما أنبأ اُمّ سلمة بقوله:«إنْ لمْ أخرج اليوم خرجتُ في غد، وإنْ لمْ أخرج في غد فبعد غد. وهل من الموت بُدّ! أتظنين أنّك تعلمين ما لمْ أعلمه؟» .

إذاً فلا يجب عليه إلزام الغير بالدفاع عنه. نعم، لا يسقط التكليف عمّن فقد العلم بالمقدّرات الإلهيّة من البشر في القيام بالدفاع عن شخص الإمام الحُجّة، ولا يُعذر مَن يبصر حصار القوم لمَن أهَّله الله تعالى خليفة على العباد، وقطعهم خطوط المدد عنه، وسدّ باب الورود عليه، فلم ينهض لردِّ العادية عنه؛ كي لا يخلص إليه ما يزهق نفسه القدسيّة. ولا يقبل الله تعالى حجّة مَن ينظر هذا الحال، ثمّ يتقاعس عن النّصرة وإنْ اعصوصب الأمر وتفاقم الخطب، أللهم إلا أنْ يأذن حُجّة الزمن بمفارقته، وتخليته مع أعدائه؛ لكونه العالم بالمصالح تعليماً من لدن حكيم عليم، تعالى شأنه. وحينئذ لا يلزم العقل، ولا الشرع بالبقاء معه والدفاع عنه، ولا يكون مَن يفارقه متعدياً على مقررات الشريعة، ويصحّ له العذر - يوم نشر الصحف - بترخيص الإمامعليه‌السلام في ترك نصرته. ولا يكون الإمام مجازفاً لو أباح للغير إفراده وأعداءه، وحلّ عقدة العهد، بعد التسليم بأنّه لا يتخطّى المصالح الواقعيّة قيد شعرة. هذا ما يقتضيه تكليف الإمام وأمّا تكليف المأذون بالإنصراف، فإنّه إذا لم يشاهد استغاثة الإمام واستنصاره، فلا تبعة عليه ولا مسؤوليّة. وأمّا مع مشاهدته حيرة الإمام، وتتابع استغاثته، فلا يسوغ له ترك النّصرة؛ للقطع بأنّه في هذا الحال

٩٣

بحاجة ماسّة إلى الذبّ عنه، فلا يُقبل منه العذر يوم الحساب.

وإن كلمة أبي عبد اللهعليه‌السلام لعبيد الله بن الحرّ الجعفي، يوم اجتمع معه في قصر بني مقاتل لمّا استنصره فأبى عليه، قال له الحسينعليه‌السلام :«إنّي أنصحك إنْ استطعت أنْ لا تسمع واعيتنا وصراخنا، ولا تشهد وقعتنا فافعل؛ فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلا أكبّه الله على منخريه في نار جهنّم» ، تؤيّد ما سجّلناه من دحض حُجّة مَن يسمع استغاثة الإمام ثمّ لا ينصره. وأمّا مَن لمْ يسمع الواعية، وقد أباح له المفارقة، فهو معذور.

فالضحّاك بن عبد الله المشرقي لا يُعذر يوم الحساب؛ لأنّ استنصار الحسينعليه‌السلام في مسامعه، ويراه مكثوراً، فالواجب عليه الدفاع إلى آخر نفس يلفظه. وهذا الرجل جاء إلى الحسينعليه‌السلام قبل اشتباك الحرب، وقال له: إني اُقاتل معك ما رأيت معك مقاتلاً، فإذا لم أرَ أحداً، فأنا في حلّ؟. فقال له الحسينعليه‌السلام :«نعم» . فخبّأ فرسه في بعض الأبنية لمّا رأى خيل أصحاب الحسينعليه‌السلام تُعقر، وصار يقاتل راجلاً. ولمّا بقي الحسينعليه‌السلام وحده قال له الضحّاك: إني على الشرط؟، قال:«نعم، أنت في حلٍّ إن قدرت على النجاة» . فأخرج فرسه من الفسطاط وركبها وغار على القوم فأفرجوا له، وتبعه خمسة عشر رجلاً، فانتهى إلى (شفية)(١) ، ولحقه القوم وعرفه أيوب بن مشرح الخيواني، وكثيّر بن عبد الله الشعبي، وقيس بن عبد الله الصائدي، وقالوا لإخوانهم: هذا ابن عمّنا، ننشدكم الله لما كففتم عنه، فنجا منهم(٢) .

وقول الحسينعليه‌السلام :«أنت في حلٍّ» لا يكون عذراً له يوم الحساب؛ لأنّ أبا عبد اللهعليه‌السلام لا يسعه أنْ يقول له: إصبر على القتل، وهو يعرف مقام الإصرار على الذهاب. والمولى سبحانه لا يعذره يوم الحشر؛ لأنّه يسمع استنصار (أبيِّ الضيم)، ومَن يسمع الاستغاثة ولا ينصره، أكبّه الله على وجهه في النّار.

بقاء الشريعة بالحسين

لقد كانت نهضة الحسينعليه‌السلام الجزء الأخير من العلّة التامّة لاستحكام عروش

____________________________

(١) قرية قريبة من شاطئ الفرات.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٥.

٩٤

الدِّين؛ حيث إنّها فرّقت بين دعوة الحقِّ والباطل، وميّزت أحد الفريقين عن الآخر حتّى قيل: إنّ الإسلام بدؤه محمديّ وبقاءه حسينيّ؛ ولذلك لمْ يجد أئمّة الهدى وسيلة لنشر أمرهم في الإصلاح، ونفوذ كلمتهم في إحياء شرع جدّهم الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله إلا لفت الأنظار إلى هذه النّهضة الكريمة، لمّا اشتملت عليه من فجائع تفطر الصخر الأصم، ويشيب لها فود الطفل، ويذوب الفؤاد. فطفقواعليهم‌السلام يحثّون الاُمّة على تأييدها، والقيام بذكر ما لاقاه شهيد الإصلاح من القسوة والإضطهاد، وإعلام الاُمّة بما حدث في تلكم المشاهد الدمويّة من مظلوميّة الحسين وأهله وذويهعليه‌السلام ؛ لأنّهم صلوات الله عليهم علموا أن في إظهار مظلوميّته مجلبة للعواطف، واسترقاقاً للأفئدة. فبطبع الحال، يتحرّى السامع لتلكم الفجائع الوقوف على مكانة هذا المضطهد، وأسباب ما ارتُكب منه من أعمال قاسية.

وطبعاً يعلم أن سبط النبوّة إمام عدل لم يرضخ للدنايا، ولم يصخ إلى دعوة المبطلين، وأن إمامته موروثة له من جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبيه (الوصي)عليه‌السلام ، وأنّ من ناواه لا يملك من منصّة الخلافة موضع قدمه، وكذا كلّ مَن حذا حذوه وذهب على شاكلته.

وإذا عرف السّامع هذا، وعلِم أنّ الحقَّ كلَّه في جانب الحسين ومن خلفه من أئمّة الدِّينعليهم‌السلام ، لمْ تدع له عقليته إلا السّير معهم، واعتناق طريقتهم المثلى؛ وبذلك تتوطد اُسس السّلام والوئام.

لقد أقعدت السّلطة الغاشمة من بني اُميّة وبني العبّاس أهل البيتعليهم‌السلام في دورهم، وأوصدت عليهم أبواب الإجتماع بشيعتهم، فلاقوا منهم ضروب الأذى والتنكيل؛ فآثروا العزلة على الخروج بالسّيف في وجه دعاة الباطل، مع ما يشاهدونه من تمادي اُولئك في الطغيان، وظلم شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام وأبنائه، وتتبعهم تحت كلّ حجر ومدر، وإبادتهم العلويين من جديد الأرض. وكان بمرأى منهم بناء المنصور والرشيد الإسطوانات على ذريّة فاطمةعليها‌السلام ، ظلماً وعدوانا(١) .

ولكن لم يفُتْهم الجهاد الأكبر بتحريض شيعتهم على عقد المحافل(٢) لذكر

____________________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢ / ١٠٢.

(٢) عقد المحافل للتذكير بتلك الفاجعة المؤلمة لا يقتصر فيه على ذكرها في البيوت فقط، فإنه خلاف إطلاق الأخبار. ففي أمالي الصدوق ص ١٣١ عن الرضاعليه‌السلام : «مَن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى، لم تبك عينه يوم تعمي العيون». وفي قرب الإسناد ص ٢٦ عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : «مَن ذكرنا أو ذُكرنا عنده، فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله ذنوبه». وفي كامل الزيارات ص ١٠٠ عن أبي هارون المكفوف عن أبي عبد اللهعليه‌السلام وفيه:

٩٥

حادثة الطفِّ الخالدة وتواصل الإستياء؛ لِما هنالك من فجائع ومصائب، وإسبال الدموع لكارثتها المؤلمة. وأكثروا من بيان فضل ذلك إلى حدٍّ بعيد؛ لأنّهم علموا أنّ هذا هو العامل القوي في إبقاء الرابطة الدينيّة، التي لأجلها لاقى أمير المؤمنينعليه‌السلام ما لاقاه، وأصاب ولده الحسنعليه‌السلام ما أصابه. ومصاب الحسينعليه‌السلام يدكدك الجبال الرواسي.

فكان أهل البيتعليهم‌السلام يتحرون أساليب مختلفة من البيان، توجب توجيه النّفوس نحو التذكارات الحسينيّة؛ لِما لها من العلاقة التامّة لحفظ المذهب عن الإندراس، فعبّروا عنها بالعموم تارة، وبالخصوص اُخرى. يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :«رحم الله عبداً اجتمع مع آخر فتذاكرا في أمرنا، فإنّ ثالثهما ملك يستغفر لهما. وما اجتمع إثنان على ذكرنا إلا باهى الله بهما الملائكة، فإذا اجتمعتم فاشتغلوا بالذكر، فإنّ في اجتماعكم ومذاكرتكم احياءنا، وخير النّاس من بعدنا مَن ذاكر بأمرنا، ودعا إلى ذكرنا» (١) .

ويقولعليه‌السلام للفضيل بن يسار:«تجلسون وتحدثون؟» قال: نعم، جعلت فداك. قالعليه‌السلام :«إنّ تلك المجالس اُحبّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا» (٢) . ويقولعليه‌السلام أيضاً«مَن جلس مجلساً يحيا فيه أمرنا، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب» (٣) .

فالأئمّةعليهم‌السلام أرادوا بهذا النّحو من البيان حمل الاُمّة على الإعتقاد بإمامتهم، وما أوجبه المولى سبحانه من عصمتهم، وما أهّلهم له من الفضائل والفواضل، وأنّ الدعوة إليهم ملازمة لاعتقاد خلافتهم دون من اغتصب ذلك المنصب الإلهي.

إنّ التذكارات الحسينيّة على اختلاف صورها؛ من عقد العزاء والمآتم(٤)

____________________________

= «مَن ذُكر الحسينعليه‌السلام عنده، فخرج من عينه من الدموع مقدار جناج الذباب، كان ثوابه على الله، ولم يرضَ له بدون الجنة». وهذه الأخبار ونظائرها الكثير تحث بعمومها على كل وسيلة يتذكر بها مصاب الحسين، أو مصاب أهل البيتعليهم‌السلام ، سواء في ذلك عقد المأتم، أو بذل المال لأجله، أو نظم الشعر، أو كتابة تلك الفوادح أو تدوينها أو إنشاد ما جرى عليهم، أو تصوير تلك الفاجعة أمام الناس بكل مظهر من مظاهره، فإن الجامع لهذه الانحاء قولهعليه‌السلام «مَن ذكّر بمصابنا».

(١) أمالي الشيخ الطوسي / ٢٢٤.

(٢) قرب الإسناد / ٣٦.

(٣) أمالي الشيخ الصدوق / ١٣١.

(٤) في مصباح المجتهد ص ٧٧٢، وكامل الزيارات ص ١٧٤ عن مالك الجهني: إن الامام الباقرعليه‌السلام كان يقول في يوم عاشوراء «... ثمّ ليندب الحسين عليه‌السلام ويبكيه، ويأمر مَن في داره - ممّن لا يتّقيه - بالبكاء عليه، ويقيم في داره المصيبة باظهار الجزع عليه، وليعزِّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسينعليه‌السلام ، وأنا الضامن على الله لهم إذا فعلوا ذلك أن يعطيهم ثواب ألفي ألف حجة وعمرة وغزوة مع رسول الله والأئمة الراشدينعليهم‌السلام ».بتصرّف .

٩٦

واللطم(١) في الدور والشوارع أوجبت تقدّم الطائفة، وكان عمل الشبيه أوضح المصاديق والحجج على القساوة التي جاء بها الاُمويّون ولفيفهم من تلاوة الشعر. وإنّ ذكر المصاب؛ لتسرب ذلك بوضوح إلى أدمغة الأطفال والعامّة، الذين لا يفهمون ما يشتمل عليه القريض والكتب من دقائق الحادثة، هو أحكم وآكد في تأثّر النّفوس، واحتدام القلوب في حفظ الروابط المذهبيّة بين الأئمّةعليهم‌السلام ومواليهم، وله نصيب وافر في رسوخ العقيدة.

ولقد قلّد الشيعة في تمثيل فاجعة الطفِّ غيرهم من الهنود وبعض فرق الإسلام، وهم في الهند أكثر رواجاً من جميع الممالك الإسلاميّة(٢) .

فكان لفت الأنظار نحو هذه التذكارات، والإعتناق بها أمسّ في إحياء أمر المعصومينعليه‌السلام ، المحبوب لديهم التحدّث والتذاكر فيه. ولعلّ جملة من هذه الفوائد لا تفهم الاُمّة منها النكتة المهمّة، بل غاية ما يتصوّرون من فائدة عملهم، هو الثواب عليه في الآخرة فقط، ولكنّ الواقف على أسرار أهل البيتعليهم‌السلام ، والمستشرف لمغازي أقوالهم وأفعالهم يتجلّى له ما ألمعوا إليه من هذه النّوادي والمجتمعات، وحثّوا شيعتهم عليه بمزيد لطفهم وواسع علمهم.

البكاء على الحسين

من تلك الفوائد، ما ورد من الحثِّ الكثير البالغ حدِّ التواتر على البكاء لما أصاب سيّد الشهداءعليه‌السلام حتّى جاء في ثواب مَن خرج من عينه كجناح ذبابة، أنّه يطفئ حَرّ جهنّم. فإنّ الغرض ليس إلا أنّ الدمعة لا تفاض إلا عند انفعال النّفس، وتأثّرها ممّا يصيبها، أو يصيب مَن تمتُّ به بنحو من أسباب الصلة. ولا

____________________________

(١) روى الشيخ الطوسي في التهذيب ٢ / ٢٨٣ عن الصادقعليه‌السلام أنه قال: «ولقد شققن الفاطميات الجيوب، ولطمن الخدود على الحسين بن علي، وعلى مثله تلطم الخدود وتشق الجيوب». وذكره الشهيد في كتابه (الذكرى)، في البحث الرابع من المطلب الثالث من أحكام الأموات.

(٢) ذكر الدكتور (جوزف) الفرنسي في كتابه (الإسلام والمسلمون)، الذي نشرت جريدة (الحبل المتين) منه فصلاً بالفارسية في العدد ٢٨ من سنتها ١٧: إن التمثيل والشبيه تداولا بين الشيعة من زمن الصفوية، الذين نالوا السلطة بقوّة المذهب؛ بفضل مساعدة علمائهم الروحانيين.

٩٧

شكّ إنّا نرى النّفس عند تأثّرها بذلك تكون متأثّرة بشيء آخر، وهو العداء والبغض لكلّ مَن أوقع الفوادح والآلام. فالأئمّة، حيث إنّهم أعرف النّاس بمقتضيات الأحوال والملابسات التي تؤكّد دعوتهم، كانوا يتحرّون التوصّل إلى أغراضهم بكلّ صورة، وكان من الوسائل التي توجب انحراف الاُمّة عن أعداء الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهم بالبكاء على مصاب الحسينعليه‌السلام ؛ لِما فيه من استلزام تذكّر تلك القساوة انفعال النفس وانقباضها عمّا لا يلائم خطّتهم، وهذا هو المغزى لقول الحسينعليه‌السلام :«أنا قتيل العبرة، لا يذكرني مؤمن إلا استعبر» (١) . فالمؤمن حيث يمتُّ إلى الحسينعليه‌السلام بالولاء والمشايعة، كان ذلك موجباً لتأثّر نفسه، واحتدام قلبه على كلّ مَن يوجّه إليه الأضرار والأخطار، ويشتدّ هذا التأثّر عند تناهي تلك الفوادح.

وكيف كان، فإنّ سيّد الشهداءعليه‌السلام لمْ يقصد بـ«أنا قتيل العبرة» خصوص التعريف بأنّ قتله كان لأجل أنْ يُبكى عليه؛ فيستحقّ به الأجر في الآخرة، بحيث لا يكون هناك أثر آخر يترتّب عليه قتله سوى البكاء عليه. كيف؟ وهنالك آثار اُخرى، أهمّها: إحياء شريعة الحقِّ، وتقويم ما اعوجّ من علم الهداية، ونشر الإصلاح بين الاُمّة، وتعريف الملأ ما عليه اُمراء الجَور من السّير وراء المطامع.

ولكنّ الوجه في هذه الإضافة هو تأكّد الصلة بين ذكر مقتله، وبين البكاء عليه، فإنّ لوعة المصاب به لا تطفأ، ومضض الإستياء له لا تنفد؛ لاجتماع الكوارث عليه، وملاقاته لها بصدر رحيب، وصبر تعجبت منه ملائكة السّماء. فأول ما يتأثر به السّامع لها أنْ تستدر دموعه، فلا يذكر الحسينعليه‌السلام إلا والعبرة تسبق الذكر، أضف إلى ذلك المودّة الكامنة له في قلوب أحبّائه؛ بحيث إذا انضمّت إلى تلك، كانت أدعى لتأكّد الصلة بين ذكره، وبين البكاء عليه. فمن هنا استحقّ إضافة القتل إليه، فقال:«أنا قتيل العبرة» .

وعلى هذا سار العرب في كلامهم، فإنّهم إذا رأوا بين الإنسان، وبين بعض حالاته وصفاته صلة أكيدة، أضافوه إلى ذلك الحال، فقالوا: (مضر الحمراء)، و (ربيعة الخيل)، و (زيد النّار)، و (صبية النّار)، و (مُسمّة الأزواج)؛ فإنّ ربيعة ومضر لم يتخلّيا عن

____________________________

(١) كامل الزيارات / ١٠٨.

٩٨

كلّ صفة حميدة سوى اللواء والخيل، ولا زيد ابن الامام موسى بن جعفرعليه‌السلام لم يتّصف بشيءٍ حسن، أو قبيح إلا حرقه دور بني العبّاس بالبصرة، ولا أنّ أولاد ابن أبي معيط لم يحصلوا على نعت من نعوت الإنسانيّة إلا النّار، التي أضافها لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، وكان كافراً، فقال: ي محمّد، مَن للصبية؟. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«لهم النّار» . ولا أنّ جعدة بنت الأشعث لم تتصف بالرذائل إلا السمّ، الذي ناولته أب محمّد الحسن السّبطعليه‌السلام ، ولكن لمّا كانت هذه الآثار هي الظاهرة بين النّاس؛ قيل لمضر: (الحمراء)، ولربيعة (الخيل)، ولزيد (النّار)، ولجعدة (مُسمّة الأزواج).

فقول الحسينعليه‌السلام :«أنا قتيل العبرة» ، وقول الصادقعليه‌السلام :«بأبي قتيل العبرة» من هذا القبيل، وهو ما ذكرناه من تأكّد الصلة بين ذكر مقتله، وبين استدرار الدموع.

التباكي

لقد راق أئمّة الهدىعليهم‌السلام أنْ تبقى تلك الذكريات الخالدة مدى الدهر، تتحدّث بها الأجيال المتعاقبة؛ علماً منهم ببقاء الدِّين غضّاً طرياً، ما دامت الاُمّة تتذاكر تلك الفاجعة العظمى. ولم يقتصروا على لازمها، وهو البكاء حتّى رغّبوا إلى التباكي، وهو: التشبيه بالباكي من دون أن يخرج منه دمع. فيقول الإمام الصادق:«من تباكى، فله الجنة» (١) .

ومعلوم أنّ التباكي إنّما يتصوّر فيمن تتعسّر عليه الدمعة، لكنّه لم يفقد التأثّر لأجل المصاب، كما يشاهد في كثير من النّاس. فالتأثّر النّفساني بتصوّر ما ورد على المحبوب من آلام وفوادح، يستلزم قهراً النفرة عمّن أورد ذلك العدوان.

وفي الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنه قرأ آخر الزمر: ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا ) (٢) على جماعة من الأنصار، فبكوا إلا شاباً منهم، قال: لم تقطر من عيني قطرة، وإنّي تباكيت. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :«مَن تباكى، فله الجنة» (٣) .

____________________________

(١) أمالي الصدوق / ٨٦، المجلس التاسع والعشرون.

(٢) سورة الزمر / ٧١.

(٣) كنز العمال ١ / ١٤٧.

٩٩

وروى جرير عنه، أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:«إنّي قارئ علكيم ( ألهاكم التكاثر ) ، مَن بكى فله الجنة، ومَن تباكى فله الجنة» (١) .

وحدّث أبو ذر الغفاري عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال:«إذا استطاع أحدكم أن يبكي، فليبكِ، ومَن لم يستطع، فليستشعر قلبه الحزن وليتباكَ، فإنّ القلب القاسي بعيد من الله» (٢) .

وهذه الأحاديث تدلّنا على أنّ التباكي منبعث عن حزن القلب، وتأثّر النّفس كالبكاء، لكن في باب الرهبة منه سبحانه وتعالى يكون الحزن والتأثّر؛ لأجل تصوّر ما يترتّب على مخالفة المولى من الخزي في الآخرة، فيتباعد عنه، ويعمل ما يقرّبه من المولى زلفة. وفي باب تذكّر مصائب آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يستوجب بغض مَن ناوأهم، وأوقع بهم، وأساء إليهم.

ولعلّ ما أشرنا إليه، هو مراد الشيخ محمّد عبده، فإنّه قال: التباكي: تكلّف البكاء لا عن رياء(٣) . ويقول الشريف الجرجاني: باب التفاعل أكثره إظهار صفة غير موجودة، كالتغافل والتجاهل والتواجد. وقد أنكره قوم؛ لِما فيه من التكلّف والتصنّع، وأجازه قوم لِمن يقصد به تحصيل الصفة. والأصل فيه، قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إن لمْ تبكوا فتباكَوا» ، أراد به: التباكي ممّن هو مستعدّ للبكاء، لا تباكي الغافل اللاهي(٤) .

فالباكي والمتباكي مشتركان في احتراق القلب، وتأثّر النّفس؛ لأجل تصوّر ما ورد من الظلم على أهل البيتعليه‌السلام ، ومشتركان في لازمه، وهو النفرة والتباعد عن كلّ مَن دفعهم عن مقامهم. ومَن لا يفقه مغازي كلام المعصومينعليهم‌السلام ، يحكم بالرياء على المتباكي. وبعدما أوضحنا من السّر تعرف قيمة البلاغة وقدر البلغاء.

وكم لأهل البيتعليهم‌السلام من أسرار غامضة، لا يقف عليها إلا من

____________________________

(١) كنز العمال ١ / ١٤٨.

(٢) اللؤلؤ والمرجان للنوري ص ٤٧، ومجموعة شيخ ورام ص ٢٧٢.

(٣) تفسير المنار ٨ / ٣٠١.

(٤) التعريفات ص ٤٨.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176