معطيات آية المودة

معطيات آية المودة0%

معطيات آية المودة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 102

  • البداية
  • السابق
  • 102 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 15489 / تحميل: 5032
الحجم الحجم الحجم
معطيات آية المودة

معطيات آية المودة

مؤلف:
العربية

الرسالة الإسلاميّة على المستوى العام، ولهذا تجدون أنّ الأئمة يمتازون بدرجة من القدسيّة حتى عند غير أصحابهم، لا تجد شخصاً في المسلمين يُشكِّك في مقام الأئمة، كعلماء، وكذريّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وكأكرم وكأفضل الناس، حتى الأعداء، حتى بنو أميّة، لم يستطيعوا أن يُشكِّكوا الأمة فيهم، فهذا معناه أنّ هؤلاء استطاعوا أن يقوموا بدورٍ دقيق وخطير، بحيث استطاعوا أن يحفظوا دورهم حتى في التأثير على الأعداء وعلى الساحة، ساحة الأعداء ومنطقتهم، وشعب العدو ونفسية المُخالفين، وبذلك استطاعوا أن يحفظوا ما يمكن حفظه من أصول الشريعة والرسالة، من الفكر الإسلامي الصحيح، والأخلاق والمبادئ الإسلاميّة الصحيحة، حتى الفقه السنّي أو كُتب السنّة، الآن تجدون فيها تشابهاً كبيراً وفي دائرة واسعة مع ما هو موجود في الفكر الشيعي، وهذا من نتاج عمل الأئمة.

هذا الحفظ في كُتب أبناء العامة، هذا المقدار المحفوظ فيه من الإسلام، هو مقدار مُعتد به خصوصاً في الفروع والتشريعات، والأحكام الإسلامية، والقضايا الإسلامية العامّة غير ما ترتبط بالخلافة والقيادة، وهذه المسائل المحفوظة في الواقع حَفَظها الأئمة في هذا المجال، بجهودهم ودقّة عملهم، وسياساتهم التي استطاعت أن تجعلهم مقياساً للحق والباطل حتى عند أولئك من حيث يشعرون

٦١

أو لا يشعرون.

إذن، هذا الحب بحسب الحقيقة له طريقيّة بهذا الشكل أيضاً، حيث استطاعت الأمة الإسلامية أن ترتبط بالأئمة ولو بهذا المقدار، أن تجعل منهم العلماء الفضلاء الذين هم أعرف الناس من غيرهم بأحكام الإسلام؛ لأنّها نزلت في بيوتهم، أخذوها عن آبائهم.

وأحد الشواهد أنّ الأئمة في كثير من الموارد عندما يذكُرون الحكم الشرعي، يسندوه إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول:

عن أبي، عن جدي،... عن رسول الله، والواقع أنّه لا يحتاج إلى ذلك، وهو يُحدِّث زرارة أو محمد بن مسلم، ولكن مع ذلك لا يكتفي بهذا المقدار، بل يسنده إلى النبي، لأنّه لا ينظر إلى زرارة فحسب، بل ينظر إلى أبعد منه، لو كان يريد أن يُحاكي زرارة، فقط يكفي أن يُبيّن له الحكم الشرعي، وزرارة مؤمن به، بل هو يقصد أن يؤثر حتى على الفقه السنّي؛ لأنّ أولئك يجدون رواية صدرت عن الصادق مسنودة إلى النبي، عندها لا يمكن أن يُناقش فيها، لأنّ هؤلاء أُناس معروفون لا يشك أحد في فضلهم، وتقواهم، ودينهم، وعلمهم.

والحديث المعروف بـ(ذات السلسلة الذهبية)، حديث الرضا (عليه السلام) عندما قَدِم إلى مرو، وكان أكثر المدينة من السُنّة آنذاك، تجدون أنّه لا يُبيّن الحديث من قِبل نفسه، بل يسنده عن أبيه،

٦٢

عن جده، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ويصله إلى الله جلّ شأنه، هذه العنايات من أجل أن يبقى للأئمة دور حقيقي في حفظ ما يمكن حفظه، حتى في مجتمع الذين كانوا يُعادون خط الأئمة بشكل وآخر، والذين استعان بهم الطواغيت لغصب مقامهم وحقهم وغصب الخلافة عنهم، حتى في تلك الساحة والمجال كانوا يهتمون في حفظ الشريعة والرسالة.

وهذه المودّة والمحبّة والمبدأ الذي سُمّي بـ(المحبّة لأهل البيت)، كان له دور مهم في هذه النتيجة، وهذا الهدف الذي حقّقه الأئمة، بل أستطيع أن أقول أكثر من هذا، أنّ أحد عوامل نجاح الثورات الإسلامية في العالم، والتي منها الثورة الإسلامية في إيران، هو هذا المبدأ؛ فإنّ من أهم العوامل في نجاح الثورة الإسلامية في إيران هو:

مبدأ الوَلاء المطلق، والمحبّة على مستوى الفناء والذوبان في حُب آل البيت، هذا الارتباط والعرفان الذي نجده في الشعب الإيراني المُضحّي، هو قمّة العرفان الموجود اليوم للأئمة (عليهم السلام)؛ لأنّ عندهم درجة من التعلّق القلبي، والارتباط العاطفي بالأئمة من التقدم بمكان، ولعلّ هذه الدرجة غير موجودة في الكثير من شعوبنا الإسلامية، هذه الدرجة من العرفان والموالاة والمحبّة لأهل البيت التي تجدونها تتجسّد بصدق، كعبرات ساخنة، ودموع صادقة، عندما يُذكَر أسم الحسين

٦٣

(عليه السلام) أو الحجّة (عليه السلام).

هذه الثورة المباركة إذا استعرضنا تاريخها قبل الثورة، نجد أنّ هذه الحالة كانت موجودة، وهذه المجالس الضخمة التي كانت تُعقد تحت العديد من العناوين، باسم دعاء الندبة الذي هو مناجاة مع الأمام الحجة (عليه السلام)، وأنتم تعلمون ما لهذا الدعاء من دور كبير في الربط بالأئمة، والشد الوثيق بمبدأ القيادة للمعصوم.

والارتباط بالقيادة المعصومة، يعني الارتباط بمستلزمات المعصوم، ويأتي منها خطّه وأفكاره، ومنها خط نوّاب المعصوم وهم (العلماء)، فلا إشكال أنّ هذا الارتباط العاطفي الوثيق الشديد، كان له دوره في شد الجماهير الإيرانية بعلمائها، بمراجعها، فاستطاعت هذه الجماهير أن تصل إلى ما وصلت إليه، بحيث لولا هذه التربية الحقيقية، على مستوى التعلّق والذوبان في حُب آل البيت، ما كان يمكن أن تنشد الأمة بهذا المستوى من الانشداد بخط الإمام ونوّابه.

الآن تجدون الذي يُحرِّك الجَبهات، حُب الحسين(عليه السلام)؛ لأنّه امتلك الضمائر، كذلك شعار كربلاء؛ لأنّها تربة سيّد الشهداء، تربة الإمام (عليه السلام) المقدّسة، لقد أسّروا الوجدان هؤلاء العظام، وكبّلوا العواطف والأحاسيس بعقال الحُب الصادق المتفاني، إذن هذا المبدأ - مبدأ المحبّة

٦٤

لأهل البيت - بالإضافة إلى خلفياته الفلسفيّة والعقائديّة، هذا المبدأ له مِثل هذه الآثار الاجتماعية والتاريخية، وهي حتماً كانت منظورة للنبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندما كان يؤكِّد على محبّة آل البيت (عليهم السلام)، كان ينظر إلى مثل هذه الآثار، وفي الواقع من دون هذا المبدأ، ومن دون التوغل العاطفي في مودّة الأئمة والعشق الحقيقي لهم، لا يمكن أن نُقيم حُكماً إسلامياً صحيحاً بالنحو الذي نريد، وبدونه إمّا لا ننجح في أصل القضية، أو إذا نجحنا ننتكس، من دون هذا الحُب لا نملك تلك الدرجة من التشبّه والتخلق بأخلاق الأئمة (عليهم السلام)، الذي لابدّ منه في صيانة الثورة أن تنحرف عن مسارها الإلهي الحقيقي، وهذا بُعد آخر لطريقية محبّة أهل البيت (عليهم السلام).

والحمدُ لله رب العالمين

**********

٦٥

٦٦

المحاضرة الرابعة

١٤٠٣ هـ

٦٧

٦٨

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ

قلنا: إنّ مبدأ مودّة أهل البيت (عليهم السلام) ومحبّتهم وموالاتهم، هذا المبدأ فيه جنبتان:

جنبة موضوعيّة، وجنبة طريقيّة، محبّة أهل البيت وتوليهم، بنفسها هدف وغاية؛ لأنّها محبّة لله سبحانه وفي الله، وبهذا سيكون كمالاً وهدفاً، وهذا الجانب هو البُعد الأول.

وحيث إنّ هذا المبدأ يقع طريقاً لهدف كبير ومهم كانت تستهدفه الرسالة من خلال وضع هذا المبدأ، كانت محبّة أهل البيت طريقة ووسيلة أيضاً وهذا هو البُعد الثاني، ومعرفة هذا البُعد الثاني في محبّة أهل البيت (عليهم السلام)، تتوقف على معرفة الدور الذي أُلقي على عاتق أهل البيت، والمسؤولية التي يتحمّلونها تجاه الرسالة الإسلامية، والهدف الذي صمّموا وخُلِقوا من أجل تحقيقه، فمسبقاً يجب أن نعرف ما هو هذا الدور؟ وأئمة أهل البيت من أجل ماذا جُعلوا وصُمِّموا أئمة؟

الدور الرسالي لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)

في الواقع أية رسالة وأية عملية تغيير ربّاني للبشريّة، تتوقف إتمامها وتكميلها على أمرين أو مرحلتين:

الأولى: مرحلة تأسيس الرسالة، وصنع الأمة الرسالية، وإيجاد المجتمع المؤمن بالرسالة السماوية،

٦٩

وهذه هي المرحلة الأولى ولنصطلح عليها (مرحلة التأسيس والتنزيل)، وهذه هي التي تقع مسؤوليتها على عاتق الأنبياء، فإنّ الأنبياء والرسل مسؤوليتهم والهدف الذي خُلِقوا من أجله، إنّما هو تأسيس أصل الرسالة وتنزيلها من السماء وإيصالها إلى الناس.

الثانية: بعد ما تأسّست الرسالة، يعني نَزَلت وشرّعت واكتملت في نفس أمرها، وأيضاً صنعت أمة على أساسها، وإن كان مجتمعاً بشريّاً صغيراً قام بهذه الرسالة المشرّعة.

بعد ذلك تأتي مرحلة أخطر وأكثر صعوبة من المرحلة الأولى، وهي المرحلة الثانية ولنصطلح عليها بمرحلة (صيانة الرسالة)، تلك كانت مرحلة التأسيس، وهذه صيانة الرسالة عن التحريف والتأويل، فإنّ الرسالة قد تُبتلى بعقبات وهزّات من قِبَل الشياطين، شياطين الجن والإنس فتتعرّض لأخطار فلا تبقى؛ فإنّ الرسالة وإن كانت قد أُسِّست، إلاّ أنّها في مرحلة البقاء تُحبط تلك الرسالة وتُعوّق مشاريعها وأهدافها في الحياة البشريّة وتنتهي، هنا تَبرز الحاجة إلى مرحلة الصيانة وهي المرحلة الثانية، وهي المسؤولية الملقاة على عاتق الأوصياء، فمسؤولية الأنبياء تأسيس الرسالة

٧٠

أيديولوجياً وتأسيس الأمة تربويّاً، وهي المرحلة الأولى.

في مقابل ذلك توجد مسؤولية ثانية ومرحلة ثانية، هي مسؤولية الأوصياء وماذا تعني الوصاية؟ تعني حفظ وصيانة الرسالة التي أسّسها النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وشرّعها، وصيانة الأمة الرساليّة التي أوجدها النبي وربّاها، فإنّ كِلا الأمرين يحتاج إلى صيانة، والذي يقوم بهذه الصيانة هُم الأوصياء، الذين هم في نبوّة نبينا الأئمة (عليهم السلام)، من هنا نُفرِّق أنّ الإطار العام والخط العام للأئمة(عليهم السلام) هو هذه المسؤولية، وهذه هي الخطوة الثانية التي تُكمِّل مرحلة التأسيس، ومن هنا كان التعبير القرآني عن مبدأ وصاية الأئمة بأنّ في هذا كمال الدين:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) .

إنّ المرحلة الأولى لو بقيت من دون الثانية، كانت مَعرضاً للخطر ولا يكتمل البناء؛ إنّما يكتمل البناء وهذا الصرح، عندما تكتمل وتتم المرحلتان، وتُحدّد المسؤوليتان، وتُشخّص مهام الذين لابد وأن يقوموا بالمسؤولية الثانية، هذا هو الإطار العام لفهم دور الأئمة.

إنّ الأئمة هم الذين أكملوا الدين، ومعناه: أي هم الذين قاموا بمسؤولية صيانة الرسالة والأمة الرساليّة التي أوجدها وخلّفها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هذا هو الإطار العام لوضع الأئمة جميعاً، من الإمام علي (عليه السلام) إلى الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)،

____________________

(١) المائدة: ٣.

٧١

وهذا هو المضمون والقاسم المشترَك في مواقف وأعمال وجهود الأئمة جميعاً، وما يُرى في المواقف الخاصة لهذا الإمام، أو ذاك من تفاوت عن مواقف الإمام الآخر، فإمامٌ يُصالح، وإمامٌ يثور وينهض، وإمام يُدرِّس، وآخر يدعو، وهكذا،...

هذه الاختلافات، اختلافات في السطح والمظهر والشكل، وفي الواقع لا ترجع إلى الفَرق فيما بينهم من ناحية هذا المبدأ، مبدأ الصيانة؛ لأنّ كل هؤلاء ومواقفهم كانت من أجل تحقيق هذا الغرض، إلاّ أنّ طبيعة الصيانة تختلف من ظرف إلى ظرف، من مكان إلى مكان، من طاغوت إلى طاغوت، من نوعية الخطر المُحدِث بالرسالة والتجربة الإسلامية إلى نوعية أخرى، وهذا الخطر لم يكن ذا صيغة ثابتة واحدة، بل له أشكال مختلفة ومتعددة؛ نتيجة تعدد الظروف والأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة، واختلاف صيغ المجابهة العقائديّة والاجتماعيّة، تعدد الطواغيت، وتعدد أساليب المجابهة، والتحدي، والتحريف، والذين كانوا يهدفون من خلالها إلى تحريف الرسالة برمّتها، ويقفوا حجر عَثرة أمام حركة واستمرار الرسالة، اختلاف هذه الخصوصيات كانت تستوجب موقفاً خاصاً لكل إمام، وكانت هي الأساس في اختلاف نوع المواجهة، والعمل، والموقف الذي اتخذه كل إمام،

٧٢

لكنّ الجوهر واحد، المحتوى في كل هذه المواقف رغم اختلاف الشكل واحد، وهو: صيانة الرسالة، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى أنّ الصيانة لها جنبتان، هناك صيانة للشريعة، وصيانة للأمة كواقع بشري مجسّد في الخارج، الصيانة التي هي مسؤولية الأوصياء، لابدّ معها لوصي الرسول أن:

أولاً: يحفظ الشريعة والرسالة الربّانية، من أن تُحرّف وتغيّر مفاهيمها وقيمها، وتُطمَس مَعالمها، وهذه صيانة للرسالة.

هذا النوع الأول من الصيانة، التي ترتبط بحفظ الشريعة الربّانية والرسالة الإلهية، كتعاليم، وديانة، وأحكام، وعقائد، ومفاهيم، وقيم، وأخلاق.

وثانياً: صيانة الأمة، فإنّ الرسالة لا يُطلب منها رسالة بذاتها فقط، أي مفاهيم متكاملة وناضجة ومُبرهنة وسليمة، بل الرسالة الكاملة السليمة المنسجمة مع الفطرة البشريّة، لابدّ أن تتجسّد في الخارج مع المجتمع في الحياة، وإلاّ تبقى بين الدفّتين فقط، لابدّ أن تكون هذه الرسالة رسالة حيّة، يعني أن يكون هناك مجتمع وأمّة تؤمن بهذه الرسالة، وتُجسِّد تعاليمها في واقعها الخارجي، هذه الرسالة المُجسِّدة أيضاً مُعرّضة للخطر، بل أخطار الرسالة المجسِّدة أكثر من الرسالة المجرّدة، الرسالة المجسِّدة في أمّة معينة، هي في الحقيقة تتعرّض للأخطار، والتشويهات، والانحرافات التي

٧٣

تنشأ من الواقع الاجتماعي والواقع المجسِّد.

إذن، هناك في الحقيقة صيانتان، مسؤولية الصيانة ترجع إلى مِحورين:

المِحور الأول: مِحور نفس الرسالة، بأن تُصان من التحريف، كما في كثير من الرسالات الربّانية السابقة التي حُرِّفت، إذا استوضحنا الرسالة اليهودية مثلاً، لا نستطيع أن نجد أصول ومبادئ وأحكام وتشريعات هذه الرسالة، نجد أشياء مكتوبة في الكتب المنتسبة إلى الديانات، إلاّ أنّها مليئة بالتحريفات، والخرافات، والمبادئ الفاسدة، والمعتقدات السخيفة،... خصوصاً ما يرجع إلى التوراة، وبالذات أوصاف الله سبحانه وتعالى وعلاقته مع الأنبياء وعلاقة الأنبياء به، تجد هناك من التصورات ما يكون أسفل وأحقر من أسخف الفلسفات المُلحدة والماديّة، على الأقل في التيارات الملحدة يُنفى عالم ما وراء الطبيعة، ولا تتصور في ذلك من سخافات.

فهذه الرسالة لم تنجو من التحريف كرسالة، وأنت إذا أردت أن تأخذ تعاليم الشريعة، شريعة التوراة لا تجد أمامك هذه الرسالة محفوظة، وإنّما تجد شيئاً ممسوخاً اسمه الرسالة اليهودية، وواقعه يختلف عن تلك الرسالة السماوية.

هذه الصيانة الأولى، صيانة نفس الرسالة أن لا تُحرّف وتُغيّر تعاليمها، وتُبدّل قيمها ومفاهيمها إلى

٧٤

قيم ومفاهيم أخرى، وتشريعات أخرى ظالمة وفاسدة وغير صحيحة، إلاّ أنّ هذا النحو من الصيانة لا يكفى لتربية الإنسان.

توجد هناك تعاليم لبعض الفلاسفة أو الحُكماء الآن، كتعاليم ربّما تكون صحيحة ومضبوطة ومحفوظة في كتبه من دون تحريف، إلاّ أنّ المحفوظ أفكار مجردّة، نظريات وحِكم مجردّة محفوظة بين دفّتي الكتاب، إلاّ أنّه لا تجد أفكار هذا الحكيم، أو أفكار أفلاطون مثلاً، مجسّدة في مجتمع واقعي، أو أمة واقعية تقوم بتطبيق التعاليم التي جاء بها أفلاطون أو سقراط....

إذن، فحفظ الرسالة كرسالة مجردّة لا يكفي وحده، بل لابدّ من أن تكون للصيانة محوراً ثانياً وهو:

المِحور الثاني: جانب حفظ الأمة، استطاع النبي والرسول أن يصنعها ويجسِّد فيها رسالته السماوية؛ فإنّ الرسالة والتشريعات والقيم الإلهيّة التي نزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لم تنزل من أجل أن تكون نظريات وآراء وفلسفة، بل نزلت من أجل أن تكون واقع وحقيقة في الخارج، من أجل أن يُقيم الناس القسط والعدل الذي جاءت به الرسالة، فالهدف النهائي من وراء تشريع الرسالة بكل أبعادها المفهوميّة والتشريعيّة، إنّما هو أن تنتهي الرسالة إلى واقع حيّ، إلى أمة رسالية، هذه الأمة الرسالية خَلقها وصَنعها النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بقدرته الفائقة

٧٥

الرائعة التي لا نظير لها في التاريخ البشري كلّه، استطاع أن يخلق ذلك من خلال تسلسل الوحي وكانت العمليتان معاً، إذ هو يصنع الأمة ويربّيها.

وأيضاً يأتي في كل مرحلة التشريع المناسب، تأتي الرسالة ويكتمل هذا الجزء، وذاك الجزء، والأجزاء الأخرى من الرسالة نظرياً وتطبيقاً، هذه الأمة التي صَنعها الرسول، وربّاها بجهوده ونفسه المؤثرة، رغم قصر الفترة الزمنية.

أيضاً استطاع أن يخلق من تلك الأمة الجاهلية أمة رائدة - ويصنع من ذلك المجتمع البدوي القاسي، المليء بالتناقضات والمشاكل ونقاط الضعف - خلال فترة زمنية وجيزة، أمة رائدة للبشريّة كلّها، أمة ذات قيم، ومُثُل وحضارة، خَلق منهم أُناساً في قمّة الوعي، والدين، والفكر، والروح الجهادية، والاستعداد للتضحية والشهادة، خَلق من هؤلاء الأعراب الجافين من العطاء خيرة البشريّة، هذه أمة رسالية صُنِعت على يد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ونجح النبي في أداء دوره ومسؤوليته، والتي سمّيناها (مسؤولية تنزيل الرسالة وتأسيس الأمة الرسالية).

هذه الأمة التي هي رسالة مجسّدة في الحياة، هذه البشريّة لابد وأن تنحفظ، وليس أشخاصها ينحفظون، فإنّ المجتمع له وجود موحّد بقطع النظر عن أجزائه وأفراده، المجتمع يكون باقياً

٧٦

كوحدة نوعية الأمة الإسلامية، الآن هي ذاتها تلك الأمة التي مضى عليها مائة عام، الأفراد يتبدلون، يموتون ويأتي آخرون، وهكذا يتبادلون، إلاّ أنّ الأمة كوجود معنوي كائن بذاته، كموجود وحداني ثابت، في نظريات علم الاجتماع، يقال:

إنّ المجتمع كمجتمع له وجود خاص، غير الأجزاء والأفراد، وله أحكام وأوصاف خاصة، المقصود عندما نقول الأمة الرسالية باقية، أنّها تنحفظ كأمة، وليست كأشخاص، أولئك الذين كانوا يمثلون الأمة الإسلامية في أيام الرسول كلهم قد رَحلوا، انتهوا، ولكن كأمة تبقى، كمجموعة قيم مجسّدة في الحياة سوف تبقى، كحرارة وطاقة رسالية تبقى، من خلال الوجودات الأخرى التي تأتي وتحتمل مراكز الوجودات الأولى بالتدريج وتبقى بشكل متناوب.

إذن، هذه الأمة، لابدّ وأن تصان من أن تنحرف وتحكمها الحضارات، والقيم، والأفكار الفاسدة، وتحكمها الأنظمة والشرائع المنحرفة.

إذن، فالأئمة الذين هم أوصياء الرسول، مسؤوليتهم مسؤولية صيانة الرسالة، وهذه الصيانة لها بُعدان وجانبان:

الجانب الأول: جانب صيانة نفس الرسالة، فتنحفظ من أن تُحرّف وأن تُطمس مَعالمها، وتُغيّر من شكل إلى شكل، من فلسفة إلى فلسفة أخرى، وهذه حفظ للشريعة والرسالة كرسالة مجردّة.

الجانب الثاني: جانب صيانة للأمة الرسالية، تُصان هذه الأمة من أن لا تتناولها أيدي الطامعين

٧٧

والظالمين والطواغيت، فتُغيِّر من مجرى حركتها ومسارها التاريخي في الحياة، تجعل منها أمة ذليلة يسودها الظلم والعدوان والفساد، فهذه صيانة للأمة كأمة نوعية متميزة، هاتان الصيانتان هي مسؤولية الأوصياء والأئمة.

لماذا الاختلاف بين الأئمة في مواقفهم السياسيّة؟

عندما نجد فوارق في حياة إمام عن إمام ثاني، فهذا التمييز بين الصيانتين يُفسر لنا قسماً من هذه الفروق وجانباً منها، فإنّك مثلاً عندما تجد الإمام الباقر أو الصادق (عليهما السلام)، يهتمان ويتوجهان إلى تعليم الناس فقه الرسول، والأحكام الشرعية، والنظريات الإسلامية، يهتمان بذلك ويُكرِّسان جهودهما ووضعهما وحياتهما، بينما نجد الإمام الآخر، كأنّه ليس له شغل بالنظريات العلميّة والشرعيّة، وإنّما همّه الأكبر الجانب السياسي مثلاً والثورة،....

هذا الفرق بين الموقفين، بين دور هذا الإمام الظاهر في التاريخ ودور ذاك الإمام، أيضاً قد يكون راجعاً إلى هذه النقطة التي أشرنا إليها، أي أنّ الخطر الذي كان يهدّد الإسلام في زمن الإمام الباقر أو الإمام الصادق (عليهما السلام)، كان خطراً يهدّد تحريف الرسالة كرسالة؛ نتيجة الأفكار

٧٨

والنظريات التي طُرِحت، والتي جرّها الحُكّام إلى العالم الإسلامي، وحاولوا من خلال تلك النظريات والأفكار التي كانت تخدم سلطتهم وحُكمهم، بلبلة الأحكام والنظريات والمعتقدات وتشويهها.

فحينئذٍ تجد أنّ الإمام الصادق والباقر (عليهما السلام)، قد أدركوا بأنّ الرسالة كرسالة هُدِّدت بالخطر فلابدّ من صيانتها كرسالة، الخطر توجّه إلى صميم الرسالة كمحتوى إلهي هادف، إذن توجّه الإمام إلى صيانة الرسالة من هذا الجانب.

بينما الإمام الآخر، الإمام الحسين (عليه السلام) مثلاً، الخطر بدأ بالجانب الثاني، الخطر يُهدّد الرسالة الحيّة المجسّدة، الخطر متوجه إلى الأمة الرسالية، وإنّ الطغاة بدأوا بتفتيت الأمة الرسالية وتذليلها وأخذ الحيويّة الرسالية منها ومسخها، أمة ذليلة طائعة لا تُفكر إلاّ في لقمة العيش، تخاف من كل سطوة، تلتزم وتطيع وتبايع أي شخص مهما كان هذا الشخص فاسقاً فاجراً، هذا تمييع للأمة، المفاهيم قد تكون واضحة؛ لأنّ الأئمة بين ظهرانّي المسلمين، والصحابة موجودون، والأحاديث كانت كتشريع وكرسالة مجردّة، محفوظة في زمن الإمام الحسين (عليه السلام)، فالخطر لم يكن متوجهاً ابتداءً في زمن الحسين للرسالة كرسالة، بل كان متوجهاً للأمة الرسالية كأمة.

من هنا تجد أنّ موقف الإمام الحسين (عليه السلام) قد اختلف، ذهب إلى إحياء الأمة الرسالية

٧٩

وصيانتها من أن تموت وتنتهي.

نستطيع أن نُفسر قِسماً من الفوارق بين مواقف هذا الإمام وذاك الإمام على هذا الأساس، وكلا الموقفين هو في الواقع ذا محتوى واحد، وهو ما أشرنا إليه أي (الصيانة)، إلاّ أنّ الصيانة نفسها كما هي مجسّدة في مواقف أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لها جنبتان - كما قلنا سابقاً -.

الآن وبشكل إجمالي، عرفنا أنّ الدور الذي يتحمّله الأوصياء عبارة عن: دور صيانة الرسالات وحفظها من أن تمسّها يد التحريف والهدم، إذا كان هذا هو الدور الذي من أجله خُطِّط لمبدأ الإمامة والوصاية بعد الرسول، حينئذٍ نفهم أنّ هذا المبدأ والهدف بحاجة إلى مقدّمة أساسيّة، وهذه المقدمة هي أنّ هؤلاء الذين يُراد منهم، وتريد السماء منهم أن يصونوا الرسالة ويحفظوها من الانحراف والهدم، لابدّ أن يكون لهم موقع ومنزلة خاصة بين هذه الأمة التي أسّسها النبي وأوجدها، هذا الموقع وهذه المنزلة تُمكنهم من أن يقوموا بهذا الدور.

ومن أهم الأسس في تحقيق هذا الهدف أن يكون هناك تعلّق قلبي، وحُب، ومودّة خاصة من قِبل الناس لا يشوبها أي شك؛ لأنّه مبدأ ثابت في أصل الشريعة، كأصل من أصول الرسالة، لذلك نجد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يهتم اهتماماً أكيداً بالغاً، في أن يُكرِّس ويُرسِّخ فكرة محبّة أهل البيت (عليهم السلام) ومودّتهم في نفوس الأمة الإسلامية؛ لأنّه يعلم أنّه بهذا سوف يتمكن هؤلاء من أن يقوموا

٨٠