الأمثال في القرآن الكريم

الأمثال في القرآن الكريم 20%

الأمثال في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-6243-73-8
الصفحات: 291

الأمثال في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 291 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 95467 / تحميل: 7974
الحجم الحجم الحجم
الأمثال في القرآن الكريم

الأمثال في القرآن الكريم

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٦٢٤٣-٧٣-٨
العربية

١

بسم الله الرحمن الرحيم

( لَوْ أَنْزلْنا هَذَا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ

خَاشِعَاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ

الاَْمثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يِتَفَكّرُون)

( الحشر : ٢١ )

٢

٣

الأمثال في القرآن

وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً :

الأوّل : المثل في اللغة

يظهر من غير واحد من المعاجم ، كلسان العرب والقاموس المحيط ، أنّ للفظ « المثل » معاني مختلفة ، كالنظير والصفة والعبرة وما يجعل مثالاً لغيره يُحذا عليه إلى غير ذلك من المعانى.(١)

قال الفيروز آبادي : المِثْل ـ بالكسر والتحريك ـ الشبه ، والجمع أمثال ؛ والمَثَلُ ـ محرّكة ـ الحجة ، والصفة ؛ والمثال : المقدار والقصاص ، إلى غير ذلك من المعانى.(٢)

ولكن الظاهر أنّ الجميع من قبيل المصاديق ، وما ذكروه من باب خلط المفهوم بها وليس للّفظ إلا معنى أو معنيين ، والباقي صور ومصاديق لذلك المفهوم ، وممن نبَّه على ذلك صاحب معجم المقاييس ، حيث قال :

المِثْل والمثَل يدلاّن على معنى واحد وهو كون شيء نظيراً للشيء ، قال ابن

__________________

١ ـ لسان العرب : ١٣٢٢ ، مادة مثل.

٢ ـ القاموس المحيط : ٤٤٩ ، مادة مثل.

٤

فارس : « مثل » يدل على مناظرة الشيء للشىء ، وهذا مثل هذا ، أي نظيره ، والمثل والمثال بمعنى واحد. وربما قالوا : « مثيل كشبيه » ، تقول العرب : أمثل السلطان فلاناً ، قتله قوداً ، والمعنى أنّه فعل به مثلما كان فعله.

والمِثْل : المثَل أيضاً ، كشِبْه وشبَه ، والمثل المضروب مأخوذ من هذا ، لانّه يذكر مورّى به عن مثله في المعنى.

وقوله : مَثَّلَ به إذا نُكِّل ، هو من هذا أيضاً ، لأنّ المعنى فيه إذا نُكل به : جعل ذلك مثالاً لكل من صنع ذلك الصنيع أو أراد صنعه. والمثُلات أيضاً من هذا القبيل ، قال الله تعالى :( وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلات ) (١) أي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لأجله ، وواحدها : مُثُل.(٢)

وعلى الرغم من ذلك فمن المحتمل أن يكون من معانيه الوصف والصفة ، فقد استعمل فيه إمّا حقيقة أو مجازاً ، وقد نسب ابن منظور استعماله فيه إلى يونس ابن حبيب النحوي ( المتوفّى ١٨٢ هـ ) ، ومحمد بن سلام الجمحي ( المتوفّى ٢٣٢ هـ ) ، وأبي منصور الثعالبي ( المتوفّى ٤٢٩ هـ ).(٣)

ويقول الزركشي ( المتوفّى ٧٩٤ هـ ) : إنّ ظاهر كلام أهل اللغة أن المثل هو الصفة ، ولكن المنقول عن أبي علي الفارسي ( المتوفّى ٣٧٧ هـ ) أنّ المثل بمعنى الصفة غير معروف في كلام العرب ، إنّما معناه التمثيل.(٤)

ويدل على مختار الاَكثر ما أورده صاحب لسان العرب ، حيث قال : قال

__________________

١ ـ الرعد : ٦.

٢ ـ معجم مقاييس اللغة : ٥٢٩٦.

٣ ـ لسان العرب : ١٣٢٢ ، مادة مثل.

٤ ـ البرهان في علوم القرآن : ١٤٩٠.

٥

عمر بن أبي خليفة : سمعت مُقاتِلاً صاحب التفسير ، يسأل أبا عمرو بن العلاء ، عن قول الله عزّ وجلّ :( مَثَلُ الجَنّة ) ، ما مَثَلُها ؟ فقال :( فيهَا أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسن ) ، قال : ما مَثَلُها ؟ فسكت أبو عمرو.

قال : فسألت يونس عنها ، فقال : مَثَلها صفتها ، قال محمد بن سلام : ومثل ذلك قوله :( ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِِنْجِيل ) (١) أي صفتهم.

قال أبو منصور : ونحو ذلك روي عن ابن عباس ، وأمّا جواب أبي عمرو لمقاتل حين سأله ما مثَلُها ، فقال : فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ ، ثمّ تكريره السؤال ما مَثَلُها وسكوت أبي عمرو عنه ، فانّ أبا عمرو أجابه جواباً مقنعاً ، ولما رأى نبوة فَهْمِ مقاتل ، سكت عنه لما وقف من غلظ فهمه. وذلك انّ قوله تعالى : (مثل الجنّة ) تفسير لقوله تعالى :( إِنَّ اللهَ يُدخِلُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الاََنْهار ) (٢) وصف تلك الجنات ، فقال : مَثَلُ الجنة التي وصفتها ، وذلك مثل قوله :( ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِِنْجيل ) أي ذلك صفة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه في التوراة ، ثم أعلمهم أنّ صفتهم في(٣) الإنجيل كزرعٍ.

ثمّ إنّ الفرق بين المماثلة والمساواة ، أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين ، لأنّ التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص ، وأمّا المماثلة فلا تكون إلاّ في المتفقين.(٤)

__________________

١ ـ الفتح : ٢٩.

٢ ـ الحج : ١٤.

٣ ـ لسان العرب : مادة مثل.

٤ ـ لسان العرب : مادة مثل.

٦

وأمّا الفرق بين المماثلة والمشابهة هو أنّ الأولى تستعمل في المتفقين في الماهية والواقعية ، بخلاف الثانية فإنّما تستعمل غالباً في مختلفي الحقيقة ، المتفقين في خصوصية من الخصوصيات.

وبهذا يعلم أنّ التجربة تجري في المتماثلين والمتفقين في الحقيقة ، كانبساط الفلز حينما تمسُّه النار ، وهذا بخلاف الاستقراء ، فإنّ مجراه الأمور المختلفة كاستقراء أنّ كل حيوان يتحرك فكه الاَسفل عند المضغ ، فيتعلّق الاستقراء بمختلفي الحقيقة كالشاة والبقرة والاِبل.

وقد تكرر في كلام غير واحد من أصحاب المعاجم أن المَـثَل والمثْل سيان ، كالشَبَه والشبْه ، ومع ذلك كلّه نرى أنّ القرآن ينفي المثْل لله ، ويقول :( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء ) (١) وفي الوقت نفسه يُثبت له المثَل ، ويقول :( لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخرةِ مَثَلُ السَّوءِ وَللهِ المَثَلُ الأعْلى وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكِيم ) .(٢)

والجواب : أنّه لا منافاة بين نفي المِثْل لله واثبات المَثَل له ؛ أمّا الأوّل ، فهو عبارة عن وجود فرد لواجب الوجود يشاركه في الماهية ، ويخالفه في الخصوصيات ، فهذا أمر محال ثبت امتناعه في محلّه ، وأمّا المَثَلُ فهو نُعوت محمودة يُعرف بها الله سبحانه كأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وعلى هذا ، المَثَلُ في هذه الآية وما يشابهها بمعنى ما يوصف به الشيء ويعبَّر به عنه ، من صفات وحالات وخصوصيات.

فهذه الآية تصرّح بأنّ عدم الإيمان بالآخرة مبدأ لكثير من الصفات

__________________

١ ـ الشورى : ١١.

٢ ـ النحل : ٦٠.

٧

القبيحة ، ومصدر كل شر ، وفي المقابل أنّ الإيمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كلّ خير وبركة ، فكلّ وصف سوء وقبيح يلزم الإنسان ويلحقه ، فإنّما يأتيه من قبل عدم الإيمان بالآخرة ، كما أنّ كلّ وصف حسن يلزم الإنسان ينشأ من الإيمان بها ، وبذلك ظهر معنى قوله :( لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَة مَثَل السَّوء ) الذي يدلّ بالملازمة للذين يؤمنون بالآخرة لهم مثل الحسن.

وأمّا قوله سبحانه :( وَللهِ المَثَلُ الأعلى ) فمعناه أنّه منزّه من أن يوصف بصفات مذمومة وقبيحة كالظلم ، قال سبحانه :( ولا يَظلم رَبُّك أَحداً ) .(١) وفي الوقت نفسه فهو موصوف بصفات محمودة.

فكلّ وصف يستكرهه الطبع أو يردعه العقل فلا سبيل له إليه ، فهو قدرة لا عجز فيها ، وحياة لا موت معها إلى غير ذلك من الصفات الحميدة ، بخلاف ما يقبله الطبع فهو موصوف به.

وقد أشار إلى ذلك في غير واحد من الآيات أيضاً ، قال :( وَلَهُ المَثَلُ الأعلى فِي السَّماواتِ وَالأرْضِ ) (٢) وقال :( لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى ) (٣) ، فالأمثال منها دانية ومنها عالية فإنّما يثبت له العالي بل الأعلى.(٤)

ومنه يعلم أنّ الأمثال إذا كان جمع مثْل ـ بالسكون ـ فالله سبحانه منزّه من المثْل والأمثال ، وأمّا إذا كان جمع مثَل ـ بالفتح ـ بمعنى الوصف الذي يحمد به سبحانه ، فله الأمثال العليا ، والأسماء الحسنى كما مرّ.

__________________

١ ـ الكهف : ٤٩.

٢ ـ الروم : ٢٧.

٣ ـ طه : ٨.

٤ ـ لاحظ : الميزان : ١٢ / ٢٤٩.

٨

الثاني : المَثَلَ في الاصطلاح

المَثَلُ : قسم من الحكم ، يرد في واقعة لمناسبة اقتضت وروده فيها ، ثمّ يتداولها الناس في غير واحد من الوقائع التي تشابهها دون أدنى تغيير لما فيه من وجازة وغرابة ودقة في التصوير.

فالكلمة الحكيمة على قسمين : سائر منتشر بين الناس ودارج على الألسن فهو المثل ، وإلا فهي كلمة حكيمة لها قيمتها الخاصة وإن لم تكن سائرة. فما ربما يقال : « المثل السائر » فالوصف قيد توضيحي لا احترازي ، لأنّ الانتشار والتداول داخل في مفهوم المثل ، ويظهر ذلك من أبي هلال العسكري ( المتوفّى حوالى ٤٠٠ هـ ) ، حيث قال : جعل كل حكمة سائرة ، مَثَلاً ، وقد يأتي القائل بما يحسن من الكلام أن يتمثل به إلاّ أنّه لا يتفق أن يسير فلا يكون مَثَلاً.(١)

وكلامه هذا ينم « انّ الشيوع والانتشار وكثرة الدوران على الألسن هو الفارق بين الحكمة والمثل ، فالقول الصائب الصادر عن تجربة يسمّى حكمة إذا لم يتداول ، ومثلاً إذا كثر استعماله وشاع أداؤه في المناسبات المختلفة ».

ولأجل ذلك يقول الشاعر :

ما أنت إلا مثل سائـر

يعرفه الجاهل والخابر

وأمّا تسمية ذلك الشيء بالمثال ، فهو لأجل المناسبة والمشابهة بين الموردين على وجه يُصبح مثالاً لكل ما هو على غراره.

__________________

١ ـ جمهرة أمثال العرب : ١٥.

٩

قال ابن السكيت ( المتوفّى عام ٢٤٤ هـ ) : المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ، ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ ، شبّهوه بالمثال الذي يعمل عليه غيره.(١)

وبما انّ وجه الشبه والمناسبة التي صارت سبباً لإلقاء هذه الحكمة غير مختصة بمورد دون مورد ، وإن وردت في مورد خاص يكون المثل آية وعلامة أو علماً للمناسبة الجامعة بين مصاديق مختلفة.

يقول المبرّد : فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأوّل ، كقول كعب بن زهير :

كانت مواعيد عرقوب لها مَثَلاً

ومـا مـواعيـدهـا إلاّ الأباطيل

فمواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصح من المواعيد(٢) .

وعلى ذلك فالمثل السائر كقوله : « في الصيف ضيعتِ اللبن » علم لكل من ضيَّع الفرصة وأهدرها ، كما أن قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا ينتطح فيها عنزان » علم لكلّ أمر ليس له شأن يعتد به.(٣)

كما أنّ قول أبي الشهداء الحسين بن عليعليهما‌السلام : « لو ترك القطا ليلاً لنام » الذي تمثل به الإمامعليه‌السلام في جواب أُخته زينبعليها‌السلام ، علم لكل من لا يُترك بحال أو من حُمل على مكروه من غير إرادة ، إلى غير ذلك من الأمثال الدارجة.

__________________

١ ـ مجمع الأمثال : ١ / ٦.

٢ ـ مجمع الأمثال : ١ / ٦.

٣ ـ مجمع الأمثال : ٢ / ٢٢٥.

١٠

الثالث : فوائد الأمثال السائرة

ذكر غير واحد من الاُدباء فوائد جمة للمثل السائر :

١. قال ابن المقفّع ( المتوفّـى عام ١٤٣ هـ ) : إذا جعـل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق ، وآنق للسمع ، وأوسع لشعوب الحديث.

٢. وقال إبراهيم النظّام ( المتوفّـى عام ٢٣١ هـ ) : يجتمـع في المثل أربعـة لا تجتمع في غيره من الكلام : إيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، فهو نهاية البلاغة.

وقال غيرهما : سُمِّيت الحِكَم القائم صدقها في العقول أمثالاً ، لانتصاب صورها في العقول مشتقة من المثول الذي هو الانتصاب.(١)

وقد نقل ابن قيم الجوزية ( المتوفّى عام ٧٥١ هـ ) كلام النظّام بشكل كامل ، وقال :

وقد ضرب الله ورسوله الأمثال للناس لتقريب المراد وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع ، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثّل به فقد يكون أقرب إلى تعقّله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره ، فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير.

ففي الأمثال من تأنّس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره ، وكلّما ظهرت الأمثال ازداد المعنى ظهوراً ووضوحاً ، فالأمثال شواهد المعنى المراد ، وهي خاصية العقل ولبّه وثمرته.(٢)

__________________

١ ـ مجمع الأمثال : ١ / ٦.

٢ ـ أعلام الموقعين : ١ / ٢٩١.وما ذكره من الفائدة مشترك بين المثل السائر الذي هو موضوع كلامنا ، والتمثيل الذي شاع في القرآن ، وسيوافيك الفرق بين المثل السائر والتمثيل.

١١

وقال عبد القاهر الجرجاني ( المتوفّى عام ٤٧١ هـ ) : إعلم أنّ مما اتّفق العقلاء عليه انّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني ، أو أُبرزت هي باختصار في معرضه ، ونُقلت عن صورها الاَصلية إلى صورته كساها أُبّهة ، وكسبها منقبة ، ورفع من أقدارها ، وشبّ من نارها ، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها ، ودعا القلوب إليها ، واستثار من أقاصى الأفئدة صبابة وكلفاً ، وقسر الطّباع على أن تُعطيها محبة وشغفاً.

فإن كان ذمّاً : كان مسه أوجع ، وميسمه ألذع ، ووقعه أشدّ ، وحدّه أحد.

وإن كان حجاجاً : كان برهانه أنور ، وسلطانه أقهر ، وبيانه أبهر.

وإن كان افتخاراً : كان شأوه أمدّ ، وشرفه أجد(١) ولسانه ألد.

وإن كان اعتذاراً : كان إلى القبول أقرب ، وللقلوب أخلب ، وللسخائم أسلّ ، ولغَرْب الغضب أفلّ ، وفي عُقد العقود أنفث ، وحسن الرجوع أبعث.

وإن كان وعظاً : كان أشفى للصدر ، وأدعى إلى الفكر ، وأبلغ في التنبيه والزجر ، وأجدر أن يجلى الغياية(٢) ويُبصّـر الغاية ، ويبريَ العليل ، ويشفي الغليل.(٣)

٤. وقال أبو السعود ( المتوفّى عام ٩٨٢ هـ ) : إنّ التمثيل ليس إلاّ إبراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهور ، وتحلية المعقول بحلية المحسوس ، وتصوير أوابد المعاني بهيئة المأنوس ، لاستمالة الوهم واستنزاله عن معارضته للعقل ، واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفيّة ، وفهم الدّقائق الأبيّة ؛ كي يتابعه فيما يقتضيه ،

__________________

١ ـ من الجد : الحظ ، يقال : هو أجدّ منك ، أي أحظ.

٢ ـ الغياية : كل ما أظلك من فوق رأسك.

٣ ـ أسرار البلاغة : ١٠١ ـ ١٠٢.

١٢

ويشايعه إلى ما لا يرتضيه ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية والكلمات النبوية ، وذاعت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء.

إن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل واستنزاله من مقا الاستعصاء عليه ، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبىّ ، وقمع سورة الجامح الأبيّ ، كيف لا ، وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية ، وإبرازها لها في معرض المحسوسات الجلية ، وإبداء للمنكر في صورة المعروف ، وإظهار للوحشي في هيئة المألوف.(١)

ولعلّ في هذه الكلمات غنى وكفاية فلا نطيل الكلام ، غير انّه يجب التنبيه على نكتة ، وهي أن السيوطي نقل في « المزهر » عن أبي عبيد أنّه قال :

الأمثال حكمة العرب في الجاهلية والإسلام وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في المنطق بكناية.(٢)

ولا يخفى أنّ الأمثال ليست من خصائص العرب فحسب ، بل لكلّ قوم أمثال وحكم يقرّبون بها مقاصدهم إلى إفهام المخاطبين ويبلغون بها حاجاتهم ، وربما يشترك مَثَلٌ واحد بين أقوام مختلفة ، ويصبح من الأمثال العالمية ، وربما تبلغ روعة المثل بمكان يقف الشاعر أمامه مبهوراً فيصب مضمونه في قالب شعري.

روى الطبري عن مهلّب بن أبي صفرة ، قال : دعا المهلَّب حبيباً ومن حضره من ولده ، ودعا بسهام فحزمت ، وقال : أترونكم كاسريها مجتمعة ؟ قالوا : لا ، قال : أفترونكم كاسريها متفرقة ؟ قالوا : نعم ، قال : فهكذا الجماعة.(٣)

وليس المهلب أوّل من ساق هذا المثل على لسانه ، فقد سبقه غيره إليه.

__________________

١ ـ هامش تفسير الفخر الرازي : ١ / ١٥٦ ، المطبعة الخيرية ، ط الاُولى ، مصر ـ ١٣٠٨ هـ.

٢ ـ المزهر : ١ / ٢٨٨.

٣ ـ تاريخ الطبري : حوادث سنة ٨٢ هـ.

١٣

روى أبو هلال العسكري في جمهرته ، عن قيس بن عاصم التميمي ( المتوفّـى عام ٢٠ هـ ) الأبيات التالية التي تعرب بأنّ المثل صبّ في قالب الشعر أيضاً :

بصلاح ذات البين طول بقائكم

إن مُدّ في عمري وإن لم يُمدد

حتى تلين قلوبكم وجلودكم

لمسوّد منكم وغير مسوّد

إنّ القداح إذا جمعن فرامها

بالكسر ذو حنق وبطش باليد

عزّت فلم تكسر وإن هي بُدّدت

فالوهن والتكسير للمتبدّد(١)

وقد نقل المسعودي في ترجمة عبد الملك بن مروان ، وقال :

كان الوليد متحنّناً على إخوته ، مراعياً سائر ما أوصاه به عبد الملك ، وكان كثير الإنشاد لأبيات قالها عبد الملك حين كتب وصيته ، منها :

انفوا الضغائن عنكم وعليكم

عند المغيب وفي حضور المشهد

إنّ القداح إذا اجتمعن فرامها

بالكسر ذو حنق وبطش باليد

عزّت فلم تكسر وإن هي بُدّدت

فالوهن والتكسير للمتبدّد(٢)

__________________

١ ـ جمهرة الأمثال : ١ / ٤٨.

٢ ـ مروج الذهب : أخبار الوليد بن عبد الملك.

١٤

الكتب المؤلّفة في الأمثال العربية

وقد أُلّفت في الأمثال العربية قديمها وحديثها كتباً كثيرة ، وأجمع كتاب في هذا المضمار هو ما ألّفه أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري الميداني ( المتوفّى عام ٥١٨ هـ ) وأسماه ب‍ « مجمع الأمثال » لاِحتوائه على عظيم ما ورد منها وهي ستة آلاف ونيف.(١)

الرابع : الأمثال القرآنية

دلّت غير واحدة من الآيات القرآنية على أنّ القرآن مشتمل على الأمثال ، وأنّه سبحانه ضرب بها مثلاً للناس للتفكير والعبرة ، قال سبحانه :( لَوْ أَنْزَلْنا هذا الْقُرآنَ عَلى جَبلٍ لَرَأيْتَهُ خاشِعاً مُتَصدّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْربُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفكَّرون ) .(٢)

إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على وجود الأمثال في القرآن ، وانّ الروح الأمين نزل بها ، وكان مَثَلاً حين النزول على قلب سيد المرسلين ، هذا هو المستفاد من الآيات.

ومن جانب آخر أنّ المثل عبارة عن كلام أُلْقيَ في واقعة لمناسبة اقتضت إلقاء ذلك الكلام ، ثمّ تداولت عبر الزمان في الوقائع التي هي على غرارها ، كما هو الحال في عامة الأمثال العالمية.

____________

١ ـ مجمع الأمثال : ١ / ٥.

٢ ـ الحشر : ٢١.

١٥

وعلى هذا فالمثل بهذا المعنى غير موجود في القرآن الكريم ، لما ذكرنا من أنّ قوام الأمثال هو تداولها على الألسن وسريانها بين الشعوب ، وهذه الميزة غير متوفرة في الآيات القرآنية.

كيف وقد أسماه سبحانه مثلاً عند النزول قبل أن يعيها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقرأها للناس ويدور على الألسن ، فلا مناص من تفسير المثل في القرآن بمعنى آخر ، وهو التمثيل القياسي الذي تعرّض إليه علماء البلاغة في علم البيان وهو قائم بالتشبيه والاستعارة والكناية والمجاز ، وقد سمّاه القزويني « في تلخيص المفتاح » المجاز المركب وقال :

إنّه اللفظ المركب المستعمل فيما شُبّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه ، ثمّ مثّل بما كتب يزيد بن وليد إلى مروان بن محمد حين تلكأ عن بيعته : أمّا بعد ، فإنّي أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر أخرى ، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت ، والسلام.(١)

فلهذا التمثيل من المكانة ما ليس له لو قصد المعنى بلفظه الخاص ، حتى أنّه لو قال مثلاً : بلغني تلكّؤك عن بيعتي ، فإذا أتاك كتابي هذا فبايع أو لا ، لم يكن لهذا اللفظ من المعنى بالتمثيل ، ما لهذا.

فعامة ما ورد في القرآن الكريم من الأمثال فهو من قبيل التمثيل لا المثال المصطلح.

ثمّ إنّ الفرق بين التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز أمر واضح لا حاجة لإطناب الكلام فيه ، وقد بيّنه علماء البلاغة في علم البيان ، كما طرحه أخيراً علماء

__________________

١ ـ الإيضاح : ٣٠٤ ؛ التلخيص : ٣٢٢.

١٦

 الأصول في مباحث الألفاظ ، ولأجل ذلك نضرب الصفح عنه ونحيل القارئ الكريم إلى الكتب المدونة في هذا المضمار.

ويظهر من بعضهم أنّ التمثيل من معاني المثل ، قال الآلوسي : المثل مأخوذ من المثول ـ وهو الانتصاب ـ ومنه الحديث « من أحبّ أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوّأ مقعده من النار » ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إمّا على تشبيه بلا شبيه أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها ، أو حكمة وموعظة نافعة ، أو كناية بديعة أو نظم من جوامع الكلم الموجز.(١)

ولولا قوله « الشائع » لانطبقت العبارة على التمثيل القياسي.

« وقد امتازت صيغة المثل القرآني بأنّها لم تنقل عن حادثة معينة ، أو واقعة متخيلة ، أعيدت مكرورة تمثيلاً ، وضرب موردها تنظيراً ، وإنّما ابتدع المثل القرآني ابتداعاً دون حذو احتذاه ، وبلا مورد سبقه فهو تعبير فني جديد ابتكره القرآن حتى عاد صبغة متفردة في الأداء والتركيب والإشارة ».

« وعلى هذا فالمثل في القرآن الكريم ليس من قبيل المثل الاصطلاحي ، أو من سنخ ما يعادله لفظاً ومعنى ، الفقر بالأمثال بمضمونه ، بل هو نوع آخر أسماه القرآن مثلاً من قبل أن نعرف علوم الأدب « المثل » ، ومن قبل أن تسمّي به نوعاً من الكلام المنثور وتضعه مصطلحاً له. بل من قبل أن يعرف الأدباء « المثل » بتعريفهم ».(٢)

__________________

١ ـ روح المعاني : ١ / ١٦٣.

٢ ـ الصورة الفنية في المثل القرآني : ٧٢ ، نقلاً عن كتاب المثل لمنير القاضي.

١٧

الخامس : أقسام التمثيل

قد عرفت أنّ التمثيل عبارة عن إعطاء منزلة شيء لشيء عن طريق التشبيه أو الاستعارة أو المجاز أو غير ذلك ، فهو على أقسام :

١. التمثيل الرمزي : وهو ما ينقل عن لسان الطيور والنباتات والأحجار بصورة الرمز والتعمية ويكون كناية عن معاني دقيقة ، وهذا النوع من التمثيل يعجّ به كتاب « كليلة ودمنة » لابن المقفع ، وقد استخدم هذا الأسلوب الشاعر العارف العطار النيشابوري في كتابه « منطق الطير ».

ويظهر من الكتاب الأوّل أنّه كان رائجاً في العهود الغابرة قبل الإسلام ، وقد ذكر المؤرّخون أنّ طبيباً إيرانياً يدعى « برزويه » وقف على كتاب « كليلة ودمنة » في الهند مكتوباً باللغة السنسكريتية ونقلها إلى اللغة البهلوية ، وأهداه إلى بلاط أنوشيروان الساساني ، وقد كان الكتاب محفوظاً بلغته البهلوية إلى أن وقف عليه عبد الله بن المقفع ( ١٠٦ ـ ١٤٣ هـ ) فنقله إلى اللغة العربية ، ثمّ نقله الكاتب المعروف نصر الله بن محمد بن عبد الحميد في القرن السادس إلى اللغة الفارسية وهو الدارج اليوم في الأوساط العلمية.

نعم نقله الكاتب حسين واعظ الكاشفي إلى الفارسية أيضاً في القرن التاسع ومن حسن الحظ توفر كلتا الترجمتين.

وقام الشاعر « رودكي » بنظم ، ما ترجمه ابن المقفع ، باللغة الفارسية.

ويظهر من غير واحد من معاجم التاريخ أنّه تطرق بعض ما في هذا الكتاب من الأمثلة إلى الأوساط العربية في عصر الرسالة أو بعده ، وقد نقل أنّ عليّاًعليه‌السلام قال : « إنّما اُكلت يوم اُكل الثور الأبيض » وهو من أمثال ذلك الكتاب.

١٨

وهناك محاولة تروم إلى أنّ القصص القرآنية كلّها من هذا القبيل أي رمز لحقائق علوية دون أن يكون لها واقعية وراء الذهن ، وبذلك يفسرون قصة آدم مع الشيطان ، وغلبة الشيطان عليه ، أو قصة هابيل وقابيل وقتل قابيل أخاه ، أو تكلم النملة مع سليمانعليه‌السلام ، وغيرها من القصص ، وهذه المحاولة تضادّ صريح القرآن الكريم ، فانّه يصرّح بأنّها قصص تحكي عن حقائق غيبيّة لم يكن يعرفها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا غيره ، قال سبحانه :( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاَُولى الألْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤمِنُون ) .(١)

فالآية صريحة في أنّ ما جاء في القصص ليس أمراً مفترىً ، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ القرآن بأجمعه هو الحقّ الذي لا يدانيه الباطل.

٢. التمثيل القصصي : وهو بيان أحوال الأمم الماضية بغية أخذ العبر للتشابه الموجود. يقول سبحانه :( ضَرَبَ اللهُ مَثلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امرأةَ نُوحٍ وَامرأةَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْيُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وقِيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلِين ) .(٢)

والقصص الواردة في أحوال الأمم الغابرة التي يعبر عنها بقصص القرآن ، هي تشبيه مصرّح ، وتشبيه كامن والغاية هي أخذ العبرة.

٣. التمثيل الطبيعي : وهو عبارة عن تشبيه غير الملموس بالملموس ، والمتوهم بالمشاهد ، شريطة أن يكون المشبه به من الأمور التكوينية ، قال سبحانه :( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ مِمّا

__________________

١ ـ يوسف : ١١١.

٢ ـ التحريم : ١٠.

١٩

يَأكُلُ النّاسُ وَالأنْعامُ حَتّى إذا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيّنَت وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْتَغْنَ بِالأمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون ) .(١)

والأمثال القرآنية تدور بين كونها تمثيلاً قصصيّاً ، أو تمثيلاً طبيعيّاً كونيّاً. وأمّا التمثيل الرمزي فإنّما يقول به أهل التأويل.

السادس : الأمثال القرآنية في الأحاديث

إنّ الأمثال القرآنية بما أنّها مواعظ وعبر قد ورد الحث على التدبّر فيها عن أئمّة أهل البيتعليهما‌السلام ، ننقل منها ما يلي :

١. قال أمير المؤمنين علىعليه‌السلام : « قد جرّبتم الأمور وضرّستموها ، ووُعظتم بمن كان قبلكم ، وضُـربت الأمثال لكم ، ودعيتم إلى الأمر الواضح ، فلا يصمّ عن ذلك إلا أصمّ ، ولا يعمى عن ذلك إلا أعمى ، ومَن لم ينفعه الله بالبلاء والتجارب لم ينتفع بشيء من العظة ».(٢)

٢. وقالعليه‌السلام : « كتاب ربّكم فيكم ، مبيّناً حلاله وحرامه ، وفرائضه وفضائله ، وناسخه ومنسوخه ، ورخصه وعزائمه ، وخاصّه وعامّه ، وعبره وأمثاله ».(٣)

٣. قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « نزل القرآن أرباعاً : ربع فينا ، وربع في عدوّنا ، وربع سنن وأمثال ، وربع فرائض وأحكام ».(٤)

__________________

١ ـ يونس : ٢٤.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٦.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٨١.

٤ ـ بحار الأنوار : ٢٤ / ٣٠٥ ح١ ، باب جوامع تأويل ما نزل فيهم ٨.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

لمخالفته(١) النذر.

ولو فاته الجميع لغير عذر ، وجب عليه القضاء متتابعاً - وهو أصحّ وجهي الشافعية(٢) - لأنّه صرّح في نذره بالتتابع ، فيكون مقصوداً له بالذات.

والثاني للشافعية : أنّه لا يلزمه الاستئناف لو أفسد آخره ، ولا تتابع القضاء لو أهمل الجميع ؛ لأنّ التتابع واقع من ضروراته ، فلا أثر للفظه وتصريحه(٣) . وهو ممنوع.

وإن لم يقيّد بالتتابع ، لم يجب الاستئناف لو أفسد آخره ولا تتابع القضاء لو أهمله ، بل يجب القضاء مطلقاً ؛ لأنّ التتابع فيه كان من حقّ الوقت وضروراته ، لا أنّه وقع مقصوداً ، فأشبه التتابع في صوم رمضان.

مسألة ٢٠٢ : لو نذر اعتكاف شهر ، لزمه شهر بالأهلّة أو ثلاثون يوماً‌. وهل يلزمه التتابع؟ الأقرب : العدم ، بل له أن يفرّقه ثلاثة ثلاثة ، أو يوماً ويضيف إليه آخرَيْن مندوبين على الإِشكال السابق.

وقال الشافعي : لا يلزمه التتابع ؛ لأنّه معنى يصحّ فيه التفريق ، فلا يجب فيه التتابع بمطلق النذر كالصيام. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية : يلزمه التتابع. وبه قال أبو حنيفة ومالك(٤) .

فإن اعتكف شهراً بين هلالين ، أجزأه وإن كان ناقصاً. وإن اعتكف ثلاثين يوماً من شهرين ، جاز.

ويدخل فيه الليالي ؛ لأنّ الشهر عبارة عنهما ، ولا يجزئه أقلّ من ذلك - وبه قال الشافعي(٥) - إلاّ أن يقول : أيّام شهر أو نهار هذا الشهر ؛ فلا يلزمه‌

____________________

(١) في « ط ، ن » لمخالفة.

(٢و٣) الوجيز ١ : ١٠٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٢ ، المجموع ٦ : ٤٩٣.

(٤) حلية العلماء ٣ : ٢٢٠ ، المغني ٣ : ١٥٧ - ١٥٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٨ ، المدونة الكبرى ١ : ٢٣٤ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١١.

(٥) الوجيز ١ : ١٠٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٣ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٣ =

٢٨١

الليالي.

ولو قال : ليالي هذا الشهر ؛ لم ينعقد عندنا ؛ لأنّ من شرط الاعتكاف الصوم ، والليل ليس محلاً للصوم.

وقال الشافعي : ينعقد ويلزم الاعتكاف ليلاً ، ولا يلزمه الأيّام(١) .

ولو نذر اعتكاف يوم ، قال الشافعي : لا يلزم ضمّ الليلة إلّا أن ينوي ، فحينئذٍ يلزم ؛ لأنّ اليوم قد يطلق ويراد به اليوم بليلته(٢) .

وللشافعي قول آخر : إنّه تدخل الليلة إلّا أن ينوي يوماً بلا ليلة(٣) .

ولو نذر اعتكاف يومين ، وجب عليه ضمّ ثالث إليهما عندنا ، وعند العامّة لا يلزم.

فعلى قولهم هل تلزمه الليلة بينهما؟ للشافعية ثلاثة أوجه :

أحدها : لا تلزم إلّا إذا نواها ؛ لما سبق من أنّ اليوم عبارة عمّا بين طلوع الفجر وغروب الشمس.

والثاني : تلزم إلّا أن يريد بياض النهار ؛ لأنّها ليلة تتخلّل نهار الاعتكاف ، فأشبه ما لو نذر اعتكاف العشر.

والثالث : إن نوى التتابع أو قيّد به لفظاً ، لزمت ليحصل التواصل ، وإلّا فلا(٤) .

ولو نذر اعتكاف ليلتين ففي النهار المتخلّل بينهما هذا الخلاف.

ولو نذر ثلاثة أيام أو عشرة أيام أو ثلاثين يوماً ، ففي لزوم الليالي المتخلّلة ، الوجوه الثلاثة(٥) .

____________________

= ٤٩٣.

(١) فتح العزيز ٦ : ٥١٣ ، المجموع ٦ : ٤٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨.

(٢و٣) فتح العزيز ٦ : ٥١٤ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٦.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٦ - ٤٩٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٤.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٥١٥ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩٧.

٢٨٢

وقال بعض الشافعية : إن نذر اليومين لا يستتبع شيئاً من الليالي ، والخلاف في الثلاثة فصاعداً ؛ لأنّ العرب إذا أطلقت اليومين عنت مجرّد النهار ، وإذا أطلقت الأيّام عنت بلياليها(١) .

مسألة ٢٠٣ : لا خلاف بين الشافعية في أنّ الليالي لا تلزم بعدد الأيّام‌ ، فإذا نذر يومين لم تلزم(٢) ليلتان بحال ، وبه قال مالك وأحمد(٣) .

وقال أبو حنيفة : تلزم(٤) ليلتان(٥) .

ولو نذر اعتكاف يوم ، لم يجز تفريقه ، ويلزمه أن يدخل معتكفة قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس.

وقال مالك : يدخل معتكفة قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم ، كما لو نذر اعتكاف شهر ؛ لأنّ الليل يتبع النهار بدليل ما لو كان متتابعاً(٦) .

والوجه : ما قلناه من أنّ الليلة ليست من اليوم ، وهي من الشهر.

ولو نذر اعتكاف ليلة ، لزمه دخول معتكفة قبل غروب الشمس ويخرج منه بعد طلوع الفجر عند العامة(٧) . وليس له تفريق الاعتكاف عند أحمد(٨) .

وقال الشافعي : له التفريق(٩) .

مسألة ٢٠٤ : لو نذر العشر الأخير من بعض الشهور ، دخل فيه الأيّام والليالي‌ ، وتكون الليالي هنا بعدد الأيّام ، كما في نذر الشهر ، وقد تقدّم.

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥١٥ - ٥١٦.

(٢) في « ط ، ف ، ن » لم تلزمه.

(٣) المجموع ٦ : ٤٩٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥١٦ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢١ ، المغني ٣ : ٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٩.

(٤) في « ف ، ن » : تلزمه.

(٥) بدائع الصنائع ٢ : ١١٠ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٢ - ١٢٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢١ ، المغني ٣ : ١٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٩.

(٦) المغني ٣ : ١٥٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٠ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٤ - ٣١٥.

(٧ - ٩ ) المغني ٣ : ١٥٩ - ١٦٠ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٠.

٢٨٣

ويخرج عن العهدة إذا استهلّ الهلال ، كان الشهر كاملاً أو ناقصاً ؛ لأنّ الاسم يقع على ما بين العشرين إلى آخر الشهر.

ولو نذر أن يعتكف عشرة أيّام من آخر الشهر ودخل المسجد اليوم العشرين ، أو قُبَيْل الحادي والعشرين فنقص الشهر ، لزمه قضاء يوم ؛ لأنّه حدّد القصد إلى العشرة.

تذنيب : إذا نذر أن يعتكف يوم قدوم زيد فيه ، لم ينعقد‌ ؛ لأنّه إن قدم ليلاً ، لم يلزمه شي‌ء ، وإن قدم نهاراً ، لم ينعقد ؛ لمضيّ بعض اليوم غير صائم للاعتكاف.

ومَنْ لا شَرَط(١) الصوم أوجب عليه اعتكاف بقية النهار(٢) .

وللشافعي في قضاء ما مضى من النهار قولان :

أصحّهما عندهم : العدم ؛ لأنّ الوجوب ثبت من حين القدوم.

والثاني : الوجوب ؛ لأنّا نتبيّن بقدومه أنّ ذلك يوم القدوم ، فيجب أن يعتكف بقية اليوم ، ويقضي بقدر ما مضى من يوم آخر(٣) .

وقال بعضهم : يستأنف اعتكاف يوم ليكون اعتكافه موصولاً(٤) .

ولو كان الناذر وقت القدوم ممنوعاً من الاعتكاف بمرض أو حبس ، قضاه عند زوال العذر.

وقال بعضهم : لا شي‌ء عليه ؛ لعجزه وقت الوجوب ، كما لو نذرت المرأة صوم يوم بعينه فحاضت فيه(٥) .

____________________

(١) أي : لم يشترط ، والدليل عليه قوله تعالى :( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى ) [ القيامة : ٣١ ]. والمغني : لم يصدّق ولم يصلّ.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٥١٧ ، المجموع ٦ : ٥٤٠.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥١٧ - ٥١٨ ، المجموع ٦ : ٥٤٠ - ٥٤١.

(٤) فتح العزيز ٦ : ٥١٨ ، المجموع ٦ : ٥٤١ ، مختصر المزني : ٦١.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٥١٨.

٢٨٤

المطلب الخامس :

في الرجوع من الاعتكاف ، وأحكام الخروج من المسجد‌

مسألة ٢٠٥ : قد بيّنّا أنّ الاعتكاف في أصله مندوب إليه غير واجب بدون النذر وشبهه‌ ، فإذا تبرّع به كان ندباً إجماعاً ، فإذا شرع في الاعتكاف ، فلعلمائنا في صيرورته واجباً حينئذٍ أقوال ثلاثة :

أحدها : قال الشيخ -رحمه‌الله - في بعض مصنّفاته : إنّه يصير واجباً بالنيّة والدخول فيه(١) - وبه قال أبو الصلاح(٢) من علمائنا ، وهو قول مالك وأبي حنيفة(٣) - لأنّ الأخبار دلّت على وجوب الكفّارة بإفساد الاعتكاف بجماع وغيره على الإِطلاق ، ولو لم ينقلب واجباً لم تجب الكفّارة ، وبالقياس على الحج والعمرة.

والأخبار محمولة على الاعتكاف الواجب. وأيضاً لا استبعاد في وجوب الكفّارة في هتك الاعتكاف المستحب. والفرق : احتياج الحجّ والعمرة إلى إنفاق مال كثير ففي إبطلاهما تضييع للمال وهو منهي عنه.

الثاني : أنّه إن اعتكف يومين وجب الثالث ، وإن اعتكف أقلّ لم يجب الإِكمال - وهو ظاهر كلام الشيخ في النهاية(٤) ومذهب ابن الجنيد(٥) وابن البرّاج(٦) - لقول الباقرعليه‌السلام : « إذا اعتكف يوماً ولم يكن اشترط فله أن‌

____________________

(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٨٩.

(٢) الكافي في الفقه : ١٨٦.

(٣) المدونّة الكبرى ١ : ٢٣٢ ، المنتقى - للباجي - ٢ : ٨٤ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٠٨ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣.

(٤) النهاية : ١٧١ ، وحكاه عنه في ظاهر النهاية أيضاً المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٥) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٦) المهذب لابن البراج ١ : ٢٠٤.

٢٨٥

يخرج ويفسخ اعتكافه ، وإن أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يخرج ويفسخ اعتكافه حتى تمضي ثلاثة أيام »(١) .

وفي طريقها علي بن فضّال ، وفيه ضعف.

الثالث : أنّ له إبطالَه مطلقاً ، وفسخه متى شاء ، سواء في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث ، اختاره السيد المرتضى(٢) رضي‌الله‌عنه ، وابن إدريس(٣) ، وبه قال الشافعي وأحمد(٤) ، وهو الأقوى ؛ لأصالة بقاء ما كان على ما كان ، وبراءة الذمة.

مسألة ٢٠٦ : لا يجب الاعتكاف بمجرّد النيّة‌ - وهو قول عامّة أهل العلم - للأصل.

وقال مَنْ لا يُعتدّ به : إنّه يجب الاعتكاف بمجرّد العزم عليه ؛ لأنّ عائشة رَوَتْ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فاستأذنته عائشة فأذن لها فأمَرَتْ ببنائها(٥) فضُرب ، وسألت حفصة أن تستأذن لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففعلَتْ فأمرَتْ ببنائها فضُرب ، فلمـّا رأت ذلك زينب بنت جحش أمَرَتْ ببنائها فضُرب.

قالت : وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذا صلّى الصبح دخل معتكفة ، فلمـّا صلّى الصبح انصرف فبصر بالأبنية ، فقال : ( ما هذا؟ ) فقالوا : بناء عائشة وحفصة وزينب ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٨٩ - ٢٩٠ / ٨٧٩ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢١.

(٢) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٣) السرائر : ٩٧.

(٤) المجموع ٦ : ٤٩٠ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣.

(٥) البناء واحد الأبنية ، وهي البيوت التي تسكنها العرب في الصحراء ، فمنها : الطراف والخباء والقبّة والمضرب. النهاية - لابن الأثير - ١ : ١٥٧ - ١٥٨.

٢٨٦

( ألبرّ أردتنّ؟ ما أنا بمعتكف ) فرجع ، فلمـّا أفطر اعتكف عشراً من شوّال(١) .

ولأنّها عبادة تتعلّق بالمسجد فلزمت بالدخول فيها ، كالحجّ(٢) .

والرواية تدلّ على النقيض ؛ لأنّ تركه دليل على عدم الوجوب بالعزم.

والفرق بينه وبين الحجّ قد سبق.

مسألة ٢٠٧ : لو اعتكف ثلاثة أيّام ، كان بالخيار‌ إن شاء زاد عليها وإن شاء لم يزد ، وإن زاد يوماً جاز له عدم الزيادة على الأربعة.

فإن زاد على الثلاثة يومين ، قال الشيخ : يجب الإِكمال ستة(٣) ؛ فأوجب السادس - وبه قال ابن الجنيد(٤) وأبو الصلاح(٥) - لقول الباقرعليه‌السلام : « من اعتكف ثلاثة أيّام فهو يوم الرابع بالخيار إن شاء ازداد أيّاماً اُخر ، وإن شاء خرج من المسجد ، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج من المسجد حتى يستكمل ثلاثة اُخر »(٦) .

وفي طريقها علي بن فضّال ، والأصل براءة الذمة.

مسألة ٢٠٨ : لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد الذي اعتكف فيه حالة اعتكافه إلّا لضرورة‌ بإجماع العلماء كافة ؛ لما رواه العامة عن عائشة أنّها قالت : السنّة للمعتكف أن لا يخرج إلّا لما لا بدّ له منه(٧) .

وعنها : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان إذا اعتكف يُدني إليَّ‌

____________________

(١) أوردها ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣ ، وفي صحيح مسلم ٢ : ٨٣١ / ١١٧٣ ، وسنن ابن ماجة ١ : ٥٦٣ / ١٧٧١ ، وسنن أبي داود ٢ : ٣٣١ - ٣٣٢ / ٢٤٦٤ نحوها.

(٢) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣ - ١٢٤.

(٣) النهاية : ١٧١ ، المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٠.

(٤) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٤.

(٥) الكافي في الفقه : ١٨٦.

(٦) التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢٠.

(٧) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٣ - ٣٣٤ / ٢٤٧٣ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٢٠.

٢٨٧

رأسه فاُرجّله ، وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإِنسان(١) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « لا يخرج المعتكف من المسجد إلّا في حاجة »(٢) .

ولأنّ الاعتكاف هو اللبث ، فإذا خرج بطل الاسم.

والممنوع إنّما هو الخروج بجميع بدنه ، فلو أخرج يده أو رأسه ، لم يبطل اعتكافه ؛ لما تقدّم في رواية عائشة.

ولو أخرج إحدى رجليه أو كلتيهما وهو قاعد مادٌّ لهما ، فكذلك ، وإن اعتمد عليهما فهو خارج.

والممنوع منه الخروج عن كلّ المسجد.

فلو صعد على المنارة ، فإن كانت في وسط المسجد أو بابها فيه أو في رحبته وهي تُعدّ من المسجد ، جاز سواء كان الصعود للأذان أو لغيره ، كما يصعد على سطح المسجد ودخول بيت منه.

وإن كان الباب خارج المسجد ، لم يجز ؛ لأنّها لا تُعدّ حينئذٍ من المسجد ، ولا يصح الاعتكاف فيها.

وهل للمؤذّن صعودها للأذان؟ الأقرب : المنع - وهو أحد وجهي الشافعية(٣) - لأنّه لا ضرورة إليه ، لإِمكان الأذان على سطح المسجد ، فصار كما لو صعدها لغير الأذان ، أو خرج لغير ضرورة ، أو خرج إلى الأمير ليُعْلمه الصلاة.

والثاني : الجواز ؛ لأنّها مبنيّة للمسجد معدودة من توابعه.

ولأنّه قد اعتاد صعودها للأذان وقد استأنس الناس بصوته ، فيعذر فيه.

____________________

(١) سنن أبي داود ٢ : ٣٣٢ / ٢٤٦٧ ، سنن الترمذي ٣ : ١٦٧ / ٨٠٤ ، سنن البيهقي ٤ : ٣١٥ ، مسند أحمد ٦ : ١٨١.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٩٣ / ٨٩١ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ / ٤١٦.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٣٠.

٢٨٨

ويجعل زمان الأذان مستثنى عن اعتكافه(١) .

مسألة ٢٠٩ : يجوز للمعتكف الخروج عن المسجد لقضاء الحاجة‌ بإجماع العلماء.

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أنّ للمعتكف أن يخرج من معتكفة للغائط والبول(٢) .

ولأنّ هذا ممّا لا بدّ منه ، ولا يمكن فعله في المسجد ، فلو بطل الاعتكاف بخروجه إليه ، لم يصح لأحد أن يعتكف.

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يعتكف ، ومن المعلوم أنّه كان يخرج لقضاء الحاجة.

ولما رواه العامة عن عائشة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان إذا اعتكف لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإِنسان(٣) .

ومن طريق الخاصة : ما رواه داود بن سرحان ، قال : كنت بالمدينة في شهر رمضان ، فقلت للصادقعليه‌السلام : إنّي اُريد أن أعتكف فماذا أقول وماذا أفرض على نفسي؟ فقال : « لا تخرج من المسجد إلّا لحاجة لا بدّ منها ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى مجلسك »(٤) .

وفي معناه الخروج للاغتسال من الاحتلام.

ولو كان إلى جانب المسجد سقاية خرج إليها ولا يجوز التجاوز ، إلّا أن يجد غضاضةً بأن يكون من أهل الاحتشام(٥) ، فيحصل له مشقّة بدخولها ، فيجوز له العدول إلى منزله وإن كان أبعد.

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥٣٠.

(٢) المغني ٣ : ١٣٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٢.

(٣) تقدّمت الاشارة إلى مصادرها في الصفحة السابقة ، الهامش (١).

(٤) الكافي ٤ : ١٧٨ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٢٨ ، التهذيب ٤ : ٢٨٧ - ٢٨٨ / ٨٧٠.

(٥) أي : الاستحياء. الصحاح ٥ : ١٩٠٠.

٢٨٩

ولو بذل له صديق منزله - وهو قريب من المسجد - لقضاء الحاجة ، لم تلزمه الإِجابة ؛ لما فيه من المشقّة بالاحتشام ، بل يمضي إلى منزل نفسه ، سواء كان منزله قريباً أو بعيداً بُعْداً متفاحشاً أو غير متفاحش ، إلّا أن يخرج بالبُعْد عن مسمّى الاعتكاف.

ولو كان له منزلان أحدهما أقرب ، تعيّن عليه القصد إليه ، خلافاً لبعض الشافعيّة حيث سوّغ له المضيّ إلى الأبعد(١) .

ولو احتلم ، وجب عليه المبادرة بالخروج عن المسجد للغسل ؛ لأنّ الاستيطان حرام.

مسألة ٢١٠ : يجوز للمعتكف الخروج لشراء المأكول والمشروب‌ إذا لم يكن له مَنْ يأتيه به بالإِجماع ؛ لأنّ الحاجة تدعو إليه ، والضرورة ثابتة فيه ، فجاز كغيره من الضروريات.

وهل يجوز الخروج للأكل خارج المسجد؟ إشكال ، أقربه ذلك إن كان فيه غضاضة ويكون من أهل الاحتشام ، وإلّا فلا.

وللشافعية وجهان : هذا أحدهما ؛ لأنّه قد يستحيي منه ويشقّ عليه.

والثاني : أنّه لا يجوز - وهو قول الشافعي في الاُمّ(٢) - لأنّ الأكل في المسجد ممكن(٣) .

ولو عطش ولم يجد الماء في المسجد ، فهو معذور في الخروج.

ولو وجده فالأقرب منعه من الخروج للشرب - وهو أصحّ وجهي الشافعية - لأنّ فعله في المسجد ممكن ، ولا يستحي منه ، ولا يُعدّ تركه من المروة ،

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٩ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٢.

(٢) قال الشافعي في الاُم ٢ : ١٠٥ : وإن أكل المعتكف في بيته فلا شي‌ء عليه. وكذلك حكاه عنه النووي في المجموع ٦ : ٥٠٥.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٩ ، المجموع ٦ : ٥٠٥ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٢.

٢٩٠

بخلاف الأكل فيه(١) .

ولو فجأه القي‌ء خرج من المسجد ليتقيّأ خارجه صيانةً للمسجد وأهله عن الاستقذار.

وكلّ ما لا بدّ منه ولا يمكن فعله في المسجد فله الخروج إليه ، ولا يفسد اعتكافه ، وهو على اعتكافه ما لم يطل المكث ويخرج به عن اسم المعتكف.

مسألة ٢١١ : لو اعتكف في أحد المساجد الأربعة واُقيمت الجمعة في غيره‌ لضرورة ، أو اعتكف في غيرها عند مَنْ سوَّغه ، خرج لأدائها ، ولم يبطل اعتكافه عند علمائنا - وبه قال أبو حنيفة وأحمد(٢) - لأنّه خرج لأداء واجب عليه ، فلا يبطل به اعتكافه ، كما لو خرج لأداء الشهادة ، أو لإِنقاذ غريق ، أو إطفاء حريق.

وقال الشافعي : يجب أن يخرج لصلاة الجمعة.

وفي بطلان اعتكافه قولان ، أحدهما : لا يبطل ، كما اخترناه. والثاني: أنّه يبطل - وبه قال مالك(٣) - لسهولة الاحتراز عن هذا الخروج بأن يعتكف في الجامع.

وعلى هذا لو كان اعتكافه المنذور أقلّ من أسبوع ، ابتدأ من أول الاُسبوع أين شاء من المساجد وفي الجامع متى شاء ، وإن كان أكثر من اُسبوع ، فيجب أن يبتدئ به في الجامع حتى لا يحتاج إلى الخروج للجمعة.

فإن كان قد عيّن غير الجامع وقلنا بالتعيين ، فلا يخرج عن نذره إلّا بأن‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٥٣٢ ، المجموع ٦ : ٥٠٥ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣.

(٢) الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٤ ، المغني ٣ : ١٣٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٤٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣.

(٣) الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٣ ، المجموع ٦ : ٥١٤ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤٠.

٢٩١