الأمثال في القرآن الكريم

الأمثال في القرآن الكريم 0%

الأمثال في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-6243-73-8
الصفحات: 291

الأمثال في القرآن الكريم

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف:

ISBN: 964-6243-73-8
الصفحات: 291
المشاهدات: 84565
تحميل: 6098

توضيحات:

الأمثال في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 291 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84565 / تحميل: 6098
الحجم الحجم الحجم
الأمثال في القرآن الكريم

الأمثال في القرآن الكريم

مؤلف:
ISBN: 964-6243-73-8
العربية

ألقى سبحانه المثل بصورة الاستفهام الإنكاري ، وحاصله : هل ترضون لأنفسكم أن تكون عبيدكم وإماؤكم شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم إيّاها على وجه تخشون التصرف فيها بغير إذن هؤلاء العبيد والإماء ورضاً منهم ، كما تخشون الشركاء الاَحرار.

والجواب : لا ، أي لا يكون ذلك أبداً ولا يصير المملوك شريكاً لمولاه في ماله ، فعندئذٍ يقال لكم : كيف تجوزون ذلك على الله ، وأن يكون بعض عبيده المملوكين كالملائكة والجن شركاء له ، امّا في الخالقية أو في التدبير أو في العبادة.

والحاصل : انّ العبد المملوك وضعاً لا يصحّ أن يكون في رتبة مولاه على نحو يشاركه في الأموال ، فهكذا العبد المملوك تكويناً لا يمكن أن يكون في درجة الخالق المدبر فيشاركه في الفعل ، كأن يكون خالقاً أو مدبراً ، أو يشاركه في الصفة كأن يكون معبوداً.

فالشىء الذي لا ترضونه لأنفسكم ، كيف ترضونه لله سبحانه ، وهو ربّ العالمين؟ وإلى ذلك المثل أشار ، بقوله :

( ضَرَبَ الله لَكُم مَثلاً مِنْ أَنْفُسكُم ) أي ضرب لكم مثلاً متخذاً من أنفسكم منتزعاً من حالاتكم( هَل لَكُمْ من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم ) فقوله : (هل لكم ) شروع في المثل المضروب ، والاستفهام للإنكار ، وقوله « ما » في( مما ملكت ) إشارة إلى النوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد والاِماء.

فقوله :( من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء ) مبين للشركة ، فقوله شركاء مبتدأ والظرف بعده خبره ، أي شركاء فيما رزقناهم على وجه تكونون فيه سواء ، وعلى ذلك يكون من في شركاء ، زائدة.

٢٢١

فقوله :( تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) بيان للشركة ، أي يكون العبيد كسائر الشركاء الأحرار ، فكما أنّ الشريك يخاف من شركائه الأحرار ، كذلك يخاف من عبده الذي يعرف أنّه شريك كسائر الشركاء.

ثمّ إنّه يتم الآية ، بقوله :( كَذلك نُفصّل الآيات لقوم يعقلون ) ، وعلى ذلك فالمشبه هو جعل المخلوق في درجة الخالق ، والمشبه به جعل المملوك وضعاً شريكاً للمالك.

٢٢٢

فاطر

٤٠

التمثيل الأربعون

( وَما يَسْتَوي البَحْران هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمن كُلّ تَأْكُلُون لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِليةً تَلْبَسُونَها وَتَرى الفُلكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ) .(١)

تفسير الآية

« الفرات » : الماء العذب ، يقال للواحد والجمع ، قال سبحانه :( وأَسْقَيناكُمْ ماءً فُراتاً ) ، وعلى هذا يكون عذب قيداً توضيحياً.

« الاَُجاج » : هو شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار.

« مواخر » من مخر ، يقال مخرت السفينة مخراً ، إذا شقت الماء بجؤجئها مستقبلة له.

فالآية بصدد ضرب المثل في حقّ الكفر والإيمان ، أو الكافر والمؤمن.

وحاصل التمثيل : انّ الإيمان والكفر متمايزان لا يختلط أحدهما بالآخر ، كما أنّ الماء العذب الفرات لا يختلط بالملح الاَُجاج.

وفي الوقت نفسه لا يتساويان في الحسن والنفع ، قال سبحانه :( وَما يَسْتَوي البَحْران هذا عَذبٌ فُراتٌ سائِغٌ شرابهُ وَهذا مِلحٌ أجاج ) بل انّ

__________________

١ ـ فاطر : ١٢.

٢٢٣

الكافر أسوأ حالاً من البحر الاَُجاج الذي يشاطر البحر الفرات في أمرين :

أ : يستخرج من كلّ منهما لحماً طرياً يأكله الإنسان ، كما قال سبحانه :( وَمن كلٍّ تأكُلون لَحماً طَرياً ) .

ب : يستخرج من كلّ منهما اللآلئ التي تخرج من البحر بالغوص وتلبسونها وتتزينون بها.

إلى هنا تمَّ التمثيل ، ثمّ إنّه سبحانه شرع لبيان نعمه التي نزلت لأجلها السورة ، وقال :

( وَتَرى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله لعلّكم تشكرون ) ، والدليل على أنّه ليس جزء المثل تغير لحن الكلام ، حيث إنّ المثل ابتدأ بصيغة الماضي ، وقال :( وَما يستوى البحران ) ولكن ذيله جاء بصيغة المخاطب( وترى الفلك ) وهذا دليل على أنّه ليس جزء المثل.

مضافاً إلى أنّ مضمون الجملة جاء في سورة النحل ، وقال :( وَهُوَ الّذي سَخَّرَ البَحْرَ لتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .(١)

وبذلك يظهر انّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه :( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوُبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهى كَالحِجارة أَو أَشَدُّ قَسوةً وانّ مِنَ الحِجارةِ لَمَا يَتفجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وَإنّ مِنْها لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإِنّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَما اللهُ بِغافلٍ عَمّا تعْمَلُون ) .(٢)

فكما أنّ الحجارة ألين من قلوبهم ، فهكذا الملح الاَُجاج أفضل من الكافر ، حيث إنّه يفيد.

__________________

١ ـ النحل : ١٤.

٢ ـ البقرة : ٧٤.

٢٢٤

فاطر

٤١

التمثيل الواحد والأربعون

( وَما يَسْتَوِي الأعْمى وَالبَصِير * وَلا الظُّلُماتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَما يَسْتَوِي الاَحْياءُ وَلاَ الأمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمعٍ مَنْ فِي الْقُبُور ) .(١)

تفسير الآيات

« الحرور » : شدة حرّ الشمس ، وقيل : هو السموم. وقال الراغب : الحرور : الريح الحارة.

هذا تمثيل للكافر والمؤمن ، أمّا الكافر فقد شبّهه بالصفات التالية :

١. الأعمى ، ٢. الظلمات ، ٣. الحرور ، ٤. الأموات.

كما شبّه المؤمن بأضدادها التالية :

١. البصير ، ٢. النور ، ٣. الظل ، ٤. الأحياء.

وما ذلك إلاّ لأنّ الكافر لأجل عدم إيمانه بالله سبحانه وصفاته وأفعاله ، فهو أعمى البصر تغمره ظلمة دامسة لا يرى ما وراء الدنيا شيئاً ، وتحيط به نار ،

____________

١ ـ فاطر : ١٩ ـ ٢٢.

٢٢٥

قال سبحانه :( انّ جَهَنّم لَمُحيطَةٌ بِالكافِرين ) (١) وظاهر الآية انّ النار محيطة بهم في هذه الدنيا وإن لم يشعروا بها ، كما أنّه ميت لا يسمع نداء الأنبياء وإن كان حياً يمشي ، وهذا بخلاف المؤمن فانّه يبصر بنور الله يغمره نور زاهر. يرى دوام الحياة إلى ما بعد الموت ، فهو في ظلّ ظليل رحمته ، وانّه يسمع نداء الأنبياء ويؤمن به.

وبعبارة واضحة : الكافر مجالد مكابر ، والمؤمن واعٍ متدبر.

__________________

١ ـ التوبة : ٤٩.

٢٢٦

يس

٤٢

التمثيل الثاني والأربعون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قالُوا ما أَنْتُمْ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إلاّ تَكْذِبُونَ * قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَما عَلَيْنا إلاّ الْبَلاغُ الْمُبينُ * قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ * قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ * وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنّيإِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ * إِنّي آمَنْتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمي يَعْلَمُونَ * بِما غَفَرَ لي رَبّي وَجَعَلَني مِنَ الْمُكْرَمينَ * وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلينَ * إِنْ كانَتْ إلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ * يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ ما يَأْتيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ) .(١)

__________________

١ ـ يس : ١٣ ـ ٣٠.

٢٢٧

تفسير الآيات

« التعزيز » : النصرة مع التعظيم ، يقول سبحانه في وصف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ( فَالّذينَ آمَنُوا بهِ وَعَزّروه وَنَصَرُوه ) (١)

« طيّـر » : تطير فلان وإطيّـر ، أصله التفاوَل بالطير ، ثمّ يستعمل في كلّ ما يتفاءل به ويتشاءم ، فقوله( إِنّا تطيرنا بِكُمْ ) أي تشاءمنا بكم.

وبذلك يظهر معنى قوله :( إِنّما طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) أي انّ الذي ينبغي أن تتشاءموا به هو معكم ، أعني : حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد وإقبالكم على الباطل.

« الرجم » : الرمي بالحجارة.

« الصيحة » : رفع الصوت.

هذا التمثيل تمثيل إخباري يشرح حال قوم بعث الله إليهم الرسل ، فكذبوهم وجادلوهم بوجوه واهية.

ثمّ أقبل إليهم رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى متابعة الرسل بحجة انّ رسالتهم رسالة حقّة ، ولكنّ القوم ما أمهلوه حتى قتلوه ، وفي هذه الساعة عمّت الكاذبين الصيحة فأهلكتهم عامة ، فإذا هم خامدون.

هذا إجمال القصة وأمّا تفصيلها :

فقد ذكر المفسرون انّ المسيحعليه‌السلام بعث إلى قرية انطاكية رسولين من الحواريّين باسم : شمعون ويوحنّا ، فدعيا إلى التوحيد وندّدا بالوثنية ، وكان القوم وملكهم غارقين في الوثنية.

__________________

١ ـ الأعراف : ١٥٨.

٢٢٨

وناديا أهل القرية بانّا إليكم مرسلون ، فواجها تكذيب القوم وضربهما ، فعززهما سبحانه برسول ثالث ، واختلف المفسرون في اسم هذا الثالث ، ولا يهمنا تعيين اسمه ، وربما يقال انّه « بولس ». فعند ذلك أخذ القوم بالمكابرة والمجادلة والعناد ، محتجين بوجوه واهية :

أ : انّكم بشر مثلنا ولا مزية لكم علينا ، وما تدعون من الرسالة من الرحمن ادّعاء كاذب ، فأجابهم الرسل بأنّه سبحانه يعلم انّا لمرسلون إليكم ، وليس لنا إلاّ البلاغ كما هو حق الرسل.

ب : انّا نتشاءم بكم ، وهذه حجة العاجز التي لا يستطيع أن يحتج بشيء ، فيلوذ إلى اتهامهم بالتشاؤم والتطيّر.

ج : التهديد بالرجم إذا أصرّوا على إبلاغ رسالتهم والدعوة إلى التوحيد والنهي عن عبادة الأوثان ، وقد أجاب الرسل بجوابين :

الأوّل : انّ التشاؤم والتطير معكم ، أي أعمالكم وأحوالكم ، وابتعادكم عن الحق ، وانكبابكم على الباطل هو الذي يجر إليكم الويل والويلات.

الثاني : انكم قوم مسرفون ، أي متجاوزون عن الحد.

كان الرسل يحتجون بدلائل ناصعة وهم يردون عليهم بما ذكر ، وفي خضمِّ هذه الاَجواء جاء رجل من أقصى المدينة نصر وعزّز قول الرسل ودعوتهم محتجاً بأنّ هؤلاء رسل الحقّ ، وذلك للاَُمور التالية :

أوّلاً : انّ دعوتهم غير مرفقة بشيء من طلب المال والجاه والمقام ، وهذا دليل على إخلاصهم في الدعوة ، وقد تحمّلوا عناء السفر وهم لا يسألون شيئاً.

ثانياً : انّ اللائق بالعبادة من يكون خالقاً أو مدبراً للعالم ، ومن بيده مصيره

٢٢٩

في الدنيا والآخرة وليس هو إلاّ الله سبحانه الذي ينفعني ، فكيف أترك عبادة الخالق الذي بيده كلّ شيء ، وأتوجه إلى عبادة المخلوق ( الآلهة المزيفة ) التي لا تستطيع أن تدفع عني ضراً ولا تنفعني شفاعتهم ؟! فلو اتخذت إلهاً غيره سبحانه كنت في ضلال مبين ، فلمّا تم حجاجه مع القوم وعزز الرسل وبين برهان لزوم اتباعهم ، أعلن ، وقال : أيّها النّاس :( إنّي آمنت بربّكم فاسمَعُون ) .

ثمّ يظهر من القرائن انّ القوم هجموا عليه وقتلوه ، ولكنّه سبحانه جزاه ، فأدخله الجنة ، وهو فرح مستبشر يودّ لو علم قومه بمصيره عند الله.

فلمّا تبيّن عناد القوم وقتل من احتج عليهم بحجج قوية نزل عذابه سبحانه ، فعمَّتهم صيحة واحدة أخمدت حياتهم وصيّرتهم جماداً.

ففي هذه اللحظة الحاسمة التي يختار الإنسان الضلالة على الهداية ، والباطل على الحقّ ، يصح أن يخاطبهم سبحانه ، ويقول :

( يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يسْتهزءون ) .

هذه حقيقة القصة استخرجناها بعد الاِمعان في الآيات ، وقد أطنب المفسرون في سرد القصة ، نقلاً عن مستسلمة أهل الكتاب الذين نشروا الأساطير بين المسلمين ، نظراء وهب بن منبّه ، فلا يمكن الاعتماد على كلّ ما جاء فيها.(١)

ثمّ إنّ في الآيات نكات جديرة بالمطالعة :

الاَُولى : يذكر المفسرون انّ الرسولين لم يكونا مبعوثين من الله مباشرة ، وانّما بعثا من قبل المسيحعليه‌السلام . مثل الرسول الثالث ، ولما كان بعث المسيح بأمر من الله سبحانه ، نسب فعل المسيح إليه سبحانه ، وقال :( إذْ أرسلنا إليهم اثنين ) .

__________________

١ ـ لاحظ مجمع البيان : ٤ / ٤١٨ ـ ٤٢٠.

٢٣٠

الثانية : لقد وقفت على أنّ القوم قاموا بالجدال والعناد ، فقالوا : ما أنتم إلاّ بشر مثلنا ، والجملة تحتمل وجهين :

الوجه الأوّل : أنتم أيّـهـا الرسل بشر ، والبشر لا يكون رسولاً من الله ، وعلى هذا فالمانع من قبول رسالاتهم كون أصحابها بشراً.

الوجه الثاني : انّ المانع من قبول دعوة الرسالة هي عدم توفر أي مزية في الرسل ترجحهم ، ويشعر بذلك قوله : « مثلنا » وإلاّ فلو كان الرسل مزودين بشيء آخر ربما لم يصح لهم جعل المماثلة عذراً للربّ.

الثالثة : انّ القصة تنمُّ عن أنّ منطق القوة كان منطق أهل اللجاج ، فالقوم لما عجزوا عن رد برهانهم التجأوا إلى منطق القوة ، بقتل دعاة الحق وصلحائه ، وقالوا :( لئن لم تنتهوا لنرجمنَّكم ) .

الرابعة : انّ التطير كان سلاح أهل العناد والمكابرة ، ولم يزل هذا السلاح بيد العتاة الجاحدين للحق ، فيتطيرون بالعابد ، وغير ذلك.

الخامسة : يظهر من صدر الآيات انّ الرسل بعثوا إلى القرية ، وقد تطلق غالباً على المجتمعات الكبيرة والصغيرة ، ولكن قوله :( وجاء من أقصى المدينة رجل ) يعرب انّها كانت مدينة ومجتمعاً كبيراً لا صغيراً.

السادسة : انّه سبحانه يصف الرجل الرابع الذي قام بدعم موقف الرسل بأنّه كان من أقصى المدينة ، وما هذا إلاّ لأجل الإشارة إلى عدم الصلة والتواطئ بينه وبين الرسل ، ولذلك قدّم لفظ أقصى المدينة على الفاعل ، أعني : « رجل » ، وقال :( وجاء من أقصى المدينة ) .

السابعة : انّ قوله :( ومالي لا أعبد الذي فطرني ) دليل على أنّ العبادة هي

٢٣١

الخضوع النابع عن الاعتقاد بخالقية المعبود ومدبريته ، وماله من الأوصاف القريبة من ذلك ، ولذلك يرى أنّه يعلل إيمانه وتوحيده ، بقوله :( ما لي لا أعبد الذي فطرني ) .

كما أنّه يعلل حصر عبادته له وسلبها عن غيره ، بعجزهم عن رد ضرّ الرحمن بعدم الجدوى في شفاعتهم.

الثامنة : قلنا أنّ القرائن تشهد بأنّ من قام بالدعوة إلى طريق الرسل من القوم ، قتل عند دعوته وجازاه الله سبحانه بأن أدخله الجنة ، والمراد من الجنة هو عالم البرزخ لا جنة الخلد التي لا يدخلها الإنسان إلاّ بعد قيام الساعة.

التاسعة : كما أنّ في كلام الرجل المقتول ، بقوله :( يا لَيْت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي ) دليلاً على وجود الصلة بين الحياة البرزخية والمادية ، حيث أبلغ بلاغاً إلى قومه ، وتمنى أن يقفوا على ما أنعم الله عليه بعد الموت ، حيث قال :( قيل ادخل الجنّة قال يا ليت قومي يعلمون ) .

٢٣٢

يس

٤٣

التمثيل الثالث والأربعون

( أَوَ لَمْ يَرَ الاِِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين * وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم ) .(١)

تفسير الآيات

روى المفسرون أنّ أُبي بن خلف ، أو العاص بن وائل جاء بعظم بالٍ متفتت ، وقال : يا محمد أتزعم انّ الله يبعث هذا ، فقال : نعم ، فنزلت الآية( أَوَ لم يَرَ الإنْسان ) .

فضرب الكافر مثلاً ، وقال : كيف يحيي الله هذه العًام البالية ؟

وضرب سبحانه مثلاً آخر ، وهو انّه يحييها من أنشأها أوّلاً ، فمن قدر على إنشائها ابتداءً يقدر على الإعادة ، وهي أسهل من الإنشاء والابتداء ، وقد عرفت أنّ إطلاق لفظ الأسهلية إنّما هو من منظار الإنسان ، وأمّا الحقّ جلّ وعلا فكل الأشياء أمامه سواء.

قال سبحانه :( وَضَرَبَ لَنا مثلاً ) أي ضرب مثلاً في إنكار البعث بالعظام

__________________

١ ـ يس : ٧٧ ـ ٧٩.

٢٣٣

البالية ، واستغرب ممن يقول انّ الله يحيي هذه العظام ونسي خلقه( قال من يحيي العظام وهي رميم ) ومثل سبحانه بالرد عليه بمثال آخر ، وقال :( قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرة وهو بكلّ خلق عليم ) من الابتداء والاعادة ، وقد مرّ هذا المثل بعبارة أخرى في قوله :( وَهُوَ الّذِي يَبْدَوَُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) .(١)

__________________

١ ـ الروم : ٢٧.

٢٣٤

الزمر

٤٤

التمثيل الرابع والأربعون

( وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون * قُرآناً عَربياً غَيرَ ذي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون * ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُركاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَويانِ مَثلاً الحمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون ) .(١)

« الشكس » : السيء الخلق ، يقال : شركاء متشاكسون ، أي متشاجرون لشكاسة خلقهم.

« سلماً » : أي خالصاً لا يملكه إلاّ شخص واحد ولا يخدم إلاّ إياه.

هذه الآيات تمثل حالة الكافر والمؤمن ، فهناك مشبه ومشبه به.

أمّا المشبّه به ، فهو عبارة عن عبد مملوك له شركاء سيئى الخلق متنازعون فيه ، فواحد يأمره وآخر ينهاه ، وكلّ يريد أن يتفرّد بخدمته ، في مقابل عبد مملوك لرجل يطيعه ويخدمه ولا يشرك في خدمته شخصاً آخر.

فهذان المملوكان لا يستويان.

وأمّا المشبه فحال الكافر هو حال المملوك الذي فيه شركاء متشاكسون ،

__________________

١ ـ الزمر : ٢٧ ـ ٢٩.

٢٣٥

فهو يعبد آلهة مختلفة لكلّ أمره ونهيه وخدمته ، ولا يمكن الجمع بين الآراء والأهواء المختلفة ، بخلاف المؤمن فانّه يأتمر بأمر الخالق الحكيم القادر الكريم.

وهذا المثل وإن كان مثلاً واضحاً ساذجاً مفهوماً لعامة الناس ، ولكن له بطن لا يقف عليه إلاّ أهل التدبر في القرآن ، فهو سبحانه بصدد البرهنة على توحيده الذي أشار إليه في قوله :( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلاّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُون ) .(١)

وقال سبحانه :( ءَأَربابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) .(٢)

__________________

١ ـ الأنبياء : ٢٢.

٢ ـ يوسف : ٣٩.

٢٣٦

الزخرف

٤٥

التمثيل الخامس والأربعون

( وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوّلِينَ * وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبيٍّ إلاّ كانوا بِهِ يَسْتَهْزءُون * فَأَهْلَكْنا أَشدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمضى مَثَلُ الأوّلِين ) .(١)

تفسير الآيات « البطش » : تناول الشيء بصولة ، وربما يراد منه القوة والمنعة ، يذكر سبحانه في هذه الآيات الأمم الماضية التي بعث الله سبحانه رسله إليهم ، فكفروا بأنبيائه وسخروا منهم لفرط جهالتهم وغباوتهم فأهلكهم الله سبحانه بأنواع العذاب مع ما لهم من القوة والنجدة.

هذا هو حال المشبه به ، والمشبه عبارة عن مشركي عصر الرسالة الذين كانوا يستهزئون بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيوعدهم سبحانه بما مضى على الأوّلين ، بأنّه سبحانه أهلك من هو أشد قوة ومنعة من قريش وأتباعهم فليعتبروا بحالهم ، يقول سبحانه :( كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الاََوّلين ) أي الأمم الماضية( وما يأتيهم من نبي إلاّ كانوا به يستهزءُون ) فكانت هذه سيرة الأمم الماضية ، ولكنه سبحانه لم يضرب عنهم صفحاً فأهلكهم ، كما قال :( فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً ومضى مثل الأوّلين ) . أي

__________________

١ ـ الزخرف : ٦ ـ ٨.

٢٣٧

مضى في القرآن ـ في غير موضع منه ـ ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تصير مسير المثل.

وبعبارة أخرى : انّ كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثلما نزل بالأمم الغابرة ، فقد ضربنا لهم مثَلَهم ، كما قال تعالى :( وَكُلاً ضَرَبنا لَهُمُ الأمْثال ) .(١)

إيقاظ

ثمّ إنّه ربما عدّ من أمثال القرآن ، قوله سبحانه :( وَإذا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم ) .(٢)

كان المشركون في العصر الجاهلي يعدّون الملائكة إناثاً وبناتاً لله تبارك وتعالى ، يقول سبحانه :( وَجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ) فردّ عليهم بقوله :( أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون ) .

وقال سبحانه :( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَناتِ سُبحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُون ) (٣)

فعلى ذلك فالملائكة عند المشركين بنات الله سبحانه.

ثمّ إنّ الآية تحكي عن خصيصة المشركين بأنّـهم إذا رزقوا بناتاً ظلّت وجوههم مسودة يعلوها الغيظ والكظم ، قال سبحانه :( وَإذا بشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ) أي وصف الله به ، وقد عرفت انّهم وصفوه بأنّ الملائكة بنات الله.

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٩.

٢ ـ الزخرف : ١٧.

٣ ـ النحل : ٥٧.

٢٣٨

( ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم ) فليست الآية من قبيل المثل الاخباري ولا الانشائي ، وإنّما هي بمعنى الوصف ، أي وصفوه بأنّه صاحب بنات ، وهم كاذبون في هذا الوصف ، فلا يصح عدّ هذه الآية من آيات الأمثال.

٢٣٩

الزخرف

٤٦

التمثيل السادس والأربعون

( فَاسْتَخَفَّ قوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِين * فَلَمّا آسفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقناهُمْ أَجْمَعِين * فَجَعَلْناهُمْ سلفاً وَمَثَلاً للآخِرِين ) .(١)

تفسير الآيات

« آسفونا » : مأخوذ من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه.

وقال الراغب : الآسف : الحزن والغضب معاً ، وقد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد ، والمراد في الآية هو الغضب.

السلف : المتقدم.

انّه سبحانه يخبر عن انتقامه من فرعون وقومه ، ويقول : فلمّا آسفونا ، أي أغضبونا ، وذلك بالاِفراط في المعاصي والتجاوز عن الحد ، فاستوجبوا العذاب ، كما قال سبحانه :( انتقمنا منهم ) ثمّ بين كيفية الانتقام ، وقال :( فَأَغْرَقناهم أجمعين ) فما نجا منهم أحد( فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين ) ، أي جعلناهم عبرة وموعظة لمن يأتى من بعدهم حتى يتّعظوا بهم.

فالمشبه به هو قوم فرعون واستئصالهم ، والمشبه هو مشركو أهل مكة وكفّارهم ، فليأخذوا حال المتقدمين نموذجاً متقدماً لمصيرهم.

__________________

١ ـ الزخرف : ٥٤ ـ ٥٦.

٢٤٠