الأمثال في القرآن الكريم

الأمثال في القرآن الكريم 20%

الأمثال في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-6243-73-8
الصفحات: 291

الأمثال في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 291 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 95531 / تحميل: 7978
الحجم الحجم الحجم
الأمثال في القرآن الكريم

الأمثال في القرآن الكريم

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٦٢٤٣-٧٣-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الدامس ، فإذا بصيّب من السماء يتساقط عليهم بغزارة ، فيه رعود قاصفة وبروق لامعة تكاد تخطف الأبصار من شدتها وصواعق مخيفة ، فتولاّهم الرعب والفزع والهلع ممّا حدا بهم إلى أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم خشية الموت للحيلولة دون سماع ذلك الصوت المخيف ، فعندئذٍ وقفوا حيارى لا يدرون أين يولّون وجوهم ، فإذا ببصيص من البرق أضاء لهم الطريق فمشوا فيه هنيئة ، فلما استتر ضوء البرق أحاطت بهم الظلمة مرة أخرى وسكنوا عن المشي.

ونستخلص من هذا المشهد أنّ الهول والرعب والفزع والحيرة قد استولى على هؤلاء القوم لا يدرون ماذا يفعلون ، وهذه الحالة برمَّتها تصدق على المنافقين ، ويمكن تقريب ذلك ببيانين :

البيان الأوّل : التطبيق المفرق لكلّ ما جاء من المفردات في المشبه به ، كالصيّب والظلمات والرعد والبرق ، على المشبَّه ، وقد ذكر المفسرون في ذلك وجوهاً أفضلها ما ذكره الطبرسي تحت عنوان الوجه الثالث.

وقال : إنّه مثل للإسلام ، لأنّ فيه الحياة كما في الغيث الحياة ، وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر ، وما فيه من الرعد بما في الإسلام من فرض الجهاد وخوف القتل ، وبما يخافونه من وعيد الآخرة لشكّهم في دينهم ، وما فيه من البرق بما في إظهار الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم ، وما فيه من الصواعق كما في الإسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. ويقوى ذلك ما روي عن الحسنعليه‌السلام انّه قال : « مثل إسلام المنافق كصيّب هذا وصفه ».(١)

وربّما يقرّر هذا الوجه بشكل آخر ، وهو ما أفاده المحقّق محمد جواد

__________________

١ ـ مجمع البيان : ١ / ٥٧.

٨١

البلاغي ( المتوفّى ١٣٥٢ هـ ) فقال : الإسلام للناس ونظام اجتماعهم كالمطر الصيّب فيه حياتهم وسعادتهم في الدارين وزهرة الأرض بالعدل والصلاح والأمن وحسن الاجتماع ، ولكن معاندة المعاندين للحق وأهله جعلت الإسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد وحروب ومعاداة من المشركين ورعود قتل وقتال وتهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر والذين ارخصوا نفوسهم في سبيل الله ونيل السعادة ، وفيه بروق من النصر وآمال الظفر واغتنام الغنائم وعزّ الانتصار والمنعة والهيبة. فهم إذا سمعوا صواعق الحرب أخذهم الهلع والحذر من القتل وشبهت حالهم في ذلك بأنّهم( يجعلون أصابعهم في آذانهم من ) أجل( الصواعق حذر الموت ) وخوفاً من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها ، وسفهاً لعقولهم أين يفرون عن الموت وماذا يجديهم حذرهم والله محيط بالكافرين.(١)

وهذان التقريران يرجعان إلى التطبيق المفرّق كما عرفت.

البيان الثاني : التطبيق المركّب ، وهو إنّ الغاية من وراء هذا التمثيل أُمور ثلاثة ترجع إلى بيان حالة المنافقين.

وقبل أن نستوعب البحث عنها نذكر نص كلام الزمخشري في هذا الصدد.

قال الزمخشري : والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطّونه أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به وهو القول الفصل والمذهب الجزل.(٢)

إذا عرفت ذلك ، فإليك البحث في الأمور الثلاثة :

__________________

١ ـ آلاء الرحمن : ١ / ٧٤.

٢ ـ الكشاف : ١ / ١٦٢ ـ ١٦٣.

٨٢

الأوّل : إحاطة الرعب والهلع بالمنافقين إثر انتشار الإسلام في الجزيرة العربية ودخول القبائل فيه وتنامي شوكته ، مما أوجد رعباً في قلوبهم وفزعاً في نفوسهم المضطربة ، ويجدون ذلك بلاءً أحاط بهم كالقوم الذين يصيبهم الصيّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق وإليه أشار قوله سبحانه :( أو كصيّب من السماء فيه رعد وبرق ) .

الثاني : انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا كان يخبرهم عن المستقبل المظلم للكافرين والمدبرين عن الإسلام والإيمان خصوصاً بعد الموت صار ذلك كالصاعقة النازلة على رؤوسهم فكانوا يهربون من سماع آيات الله ويحذرون من صواعق براهينه الساطعة ، مع أنّ هذا هو منتهى الحماقة ، لأنّ صمّ الآذان ليس من أسباب الوقاية من أخذ الصاعقة ونزول الموت وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :( يَجْعَلُون أَصابعهُمْ في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَر المَوت وَالله مُحيطٌ بِالكافِرين ) .

الثالث : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوهم إلى أصل الدين ويتلوا عليهم الآيات البيّنة ويقيم لهم الحجج القيّمة ، فعنئذٍ يظهر لهم الحق ، فربّما كانوا يعزمون على اتّباعه والسير وراء أفكاره ، ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً ، إذ سرعان ما يعودون إلى تقليد الآباء ، وظلمة الشهوات والشبهات ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :( يَكادُ الْبَرقُ يَخْطَفُ أَبْصارهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشوا فِيهِ وَإذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ) .

إلى هنا تمّ التطبيق المركب لكن في مقاطع ثلاثة.

ثمّ إنّه سبحانه أعقب التمثيل بقوله :( وَلَو شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأَبْصارِهِم إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدير ) أي انّه سبحانه قادر أن يجعلهم صمّـاً وعمياًحتى لا ينجع فيهم وعظ واعظ ولا تجدي هداية هادٍ.

وذهاب سمعهم وأبصارهم نتيجة أعمالهم الطالحة التي توصد باب التوفيق

٨٣

أمامهم فيصيرون صمّـاً وبكماً وعمياً.

ثمّ إنّ الآيات القرآنية تفسر تلك الحالة النفسانية التي كانت تسود المنافقين في مهجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كانوا في حيطة وحذر من أن تنزل عليهم سورة تكشف نواياهم ، كما يشير إليه قوله سبحانه :( يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أَن تُنَزَّل عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُون ) .(١)

ومن جانب آخر يشاهدون تنامي قدرة الإسلام وتزايد شوكته على وجه يستطيع أن يقطع دابرهم من أديم الأرض ، يقول سبحانه :( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إلاّ قَلِيلاً * مَلْعُونينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتّلُوا تَقْتِيلاً ) .(٢)

هذا بعض ما يمكن أن يقال حول التمثيل الوارد في حق المنافقين ، ولكن المهمَّ تطبيق هذا التمثيل على منافقي عصرنا ، فدراسة حال المنافقين في عصرنا هذا من أهم وظيفة المفسّر ، فانّ حقيقة النفاق واحدة ، ترجع إلى إظهار الإيمان وإبطان الكفر لغاية الاِضرار بالاِسلام والمسلمين ، وهم يقيمون في خوف ورعب ، وفي الوقت نفسه صم بكم عمي فهم لا يرجعون.

__________________

١ ـ التوبة : ٦٤.

٢ ـ الأحزاب : ٦٠ ـ ٦١.

٨٤

سورة البقرة

٣

التمثيل الثالث

قال سبحانه :( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ وَأَمّا الّذينَ كَفَروا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إلاّ الْفاسِقِينَ * الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرضِ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرُون ) .(١)

تفسير الآيات

الحياء تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويُذمّ ، يقال : فلان يستحي أن يفعل كذا ، أي أنّ نفسه تنقبض عن فعله.

فعلى هذا فالحياء من مقولة الانفعال ، فكيف يمكن نسبته إلى الله سبحانه مع أنّه لا يجوز عليه التغيّر والخوف والذم ؟

الجواب : إنّ إسناد الحياء كإسناد الغضب والرضا إلى الله سبحانه ، فإنّها جميعاً تسند إلى الله سبحانه متجردة عن آثار المادة ، ويؤخذ بنتائجها ، وقد اشتهر قولهم : « خذوا الغايات واتركوا المبادئ » فالحياء يصدُّ الإنسان عن إبراز ما يضمره

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦ ـ ٢٧.

٨٥

من الكلام ، والله سبحانه ينفي النتيجة ، أي لا يمنعه شيء عن إبراز ما هو حق ، قال سبحانه :( فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُوَْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِ مِنَ الحَقّ ) .(١)

وأمّا ضرب المثل فقد مرّ الكلام فيه ، وقلنا : إنّ لاستخدام كلمة « ضرب المثل » في التمثيل بالأمثال وجوهاً :

منها : أنّ ضرب المثل في الكلام يذكر لحال ما يناسبها ، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفياً ، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم ، وهو حدوث أثر خاص فيها ، كأن ضرب المثل يقرع به أذن السامع قرعاً ينفذ أثره في قلبه ، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلاّ بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه.(٢)

البعوضة : حيوان حقير يشبه خرطومه خرطوم الفيل ، أجوف وله قوّة ماصة تسحب الدم ، وقد منح الله سبحانه هذا الحيوان قوة هضم ودفع كما منحه أُذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته ، وتتمتع بحساسية فائقة ، فهي تفر بمهارة عجيبة حين شعورها بالخطر ، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات. وقد اكتشف علماء الحيوان موَخراً انّ البعوضة قادرة على تشخيص فريستها من مسافة تقرب عن ٦٥ كيلومتراً.

قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في حقّها : « كيف ولو اجتمع جميع حيوانها ، مناطيرها وبهائمها ، وما كان من مراحها وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتبلدة أُممها وأكياسها ، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت

__________________

١ ـ الأحزاب : ٥٣.

٢ ـ تفسير المراغى : ١ / ٧٠.

٨٦

كيف السبيل إلى إيجادها ، ولتحيّـرت عقولها في علم ذلك وتاهت وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنّها مقهورة ، مقرة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعف عن إفنائها ».(١)

يقول الإمام جعفر بن محمد الصادقعليهما‌السلام بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير :

« إنّما ضرب الله المثل بالبعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين ، فأراد الله سبحانه أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته ».(٢)

إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآية ، وأمّا تفسير الآية برمّتها فقد نقل المفسرون في سبب نزولها وجـهين :

الأوّل : أنّ الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين ، أعني قوله :( مثلهم كمَثل الذي استوقد ناراً ) وقوله :( أو كصيّب من السماء ) قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

الثاني : أنّه سبحانه لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت تكلّم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره ، فأنزل الله هذه الآية.(٣)

ولا يخفى ضعف الوجه الأوّل ، فإنّ المنافقين لم ينكروا ضرب المثل ، وإنّما أنكروا المثلين اللّذين مثّل بهما سبحانه حال المنافقين ، وعند ذلك لا يكون التمثيل بالبعوضة جواباً لردّ استنكارهم ، لأنّهم أنكروا المثلين اللّذين وردا في حقهما ، فلا

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٨٦.

٢ ـ مجمع البيان : ١ / ٦٧.

٣ ـ مجمع البيان : ١ / ٦٧.

٨٧

يكون عدم استحيائه سبحانه من التمثيل بالبعوضة ردّاً على اعتراضهم.

وأمّا الثاني ، فقد ورد ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في مكة المكرمة ، لأنّ الأوّل ورد في سورة الحج ، وهي سورة مكية ، والآخر ورد في سورة العنكبوت ، وهي أيضاً كذلك. وهذه الآية نزلت في المدينة ، فكيف تكون الآية النازلة في مهجر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جواباً على اعتراض المشركين في موطنه ؟

وعلى كلّ تقدير فالآية بصدد بيان أنّ الملاك في صحة التمثيل ليس ثقل ما مثّل به أو كبره ، فلا التمثيل بالبعوضة عيب ولا التمثيل بالإبل والفيل كمال ، وإنّما الكمال أن يكون المثل مبيناً لحقيقة وواقعة غفل عنها المخاطب من دون فرق بين كون الممثل صغيراً أو كبيراً.

وبعبارة أخرى : إذا كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضي بأن تضرب الأمثال لما يراد تحقيره بحقيرها ولما يراد التنفير بما اعتادت النفوس النفور منها ، فالملاك هو كون المثل مفيداً لما يريد المتكلم تحقيقه ، من غير فرق بين حقير الأشياء وكبيرها ، وهو سبحانه يشير إلى ذلك المعنى بقوله : (إِنَّ الله لا يَسْتَحْيي أن يضربَ مثلاً ما بَعوضة ) ( بل ) فوقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلاّ بالمجهر ، كما تقول : فلان لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه أي مما فوقه في القلة.

ولو أُريد ما فوقه في الكثرة يقول مكانه « فضلاً عن الدرهم والدرهمين ».

فما في كلام بعض المستشرقين من أنّ الصحيح أن يقول « فما دونه » غير تام. للفرق بين قوله : « فما فوقه » وقوله « فضلاً » والأوّل بقرينة المقام بمعنى فما فوقه في الصغر والحقارة لا بمعنى « فضلاً ».

وربما تفسر الآية بأنّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها في

٨٨

الكبر ، ولكن الأوّل هو الاَوفق لمقصود المتكلم. كما يقال عند لوم المتجرى : بأنّك تقترف جريمة لأجل دينار بل فوقه ، أي نصف دينار ، والمراد من الفوقية هو الفوقية في الحقارة.

وقد أورد الزمخشري على نفسه سؤالاً ، وهو : كيف يضرب الله المثل لما دون البعوضة وهي في النهاية في الصغر ؟ ثمّ أجاب :

إنّ جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات ، وقد ضربه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مثلاً للدنيا ، وفي خلق الله حيوان أصغر منها ومن جناحها ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلاّ تحركها فإذا سكنت ، فالسكون يواريها ، ثمّ إذا لوّحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها ، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة ، وتفاصيل خلقتها ، ويبصر بصرها ، ويطلع على ضميرها ، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر سبحان الذي خلق الأزواج كلّها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون.(١)

وقال البيضاوي : لما كانت الآيات السابقة متضمنة لاَنواع من التمثيل عقب ذلك ببيان حسنه ، وما هو الحق له والشرط فيه ، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر ، والخسة والشرف ، دون الممثل ، فانّ التمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ، ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه ، فانّ المعنى الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لأنّ من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ، ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء ، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم

__________________

١ ـ الكشاف : ١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

٨٩

بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كلّ عظيم ، كما مثل في الإنجيل على الصدور بالنخالة ، والقلوب القاسية ، بالحصاة ، ومخاطبة السفهاء ، بإثارة الزنابير ، وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأعز من مخ البعوض.(١)

وربّما يتصور أنّ التمثيل بالاَشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء ، وعلى هذا فالقرآن المشتمل على النمل والذباب والعنكبوت والنحل لا يكون فصيحاً فضلاً عن كونه معجزاً.

وأجاب عنه صدر المتألهين الشيرازي ( المتوفّى عام ١٠٥٠ هـ ) بقوله : إنّ الحقارة لا تنافي التمثيل بها ، إذا شرط في المثال أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعظم والحقارة ، والشرف والخساسة ، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال ، لأنّ الغرض الأصلي منه إيضاح المعنى المعقول ، وإزالة الخفاء عند إبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه ، فانّ العقل الإنساني مادام تعلقه بهذه القوى الحسيّة لا يمكنه إدراك روح المعنى مجرّداً عن مزاحمة الوهم ومحاكاته ، لأنّ من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة.

ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الإلهية ، وفشت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم ، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم ، وصحف الأوائل ومسفوراتهم ، تتميماً للتخيّل بالحس ، فهناك يضاعف في التمثيل ، حيث يمثل أوّلاً المعقول بالمتخيل ، ثمّ يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكل.(٢)

ثمّ إنّه سبحانه يذكر أنّ الناس أمام الأمثال على قسمين :

____________

١ ـ تفسير البيضاوي : ١ / ٤٣.

٢ ـ تفسير القرآن الكريم : ٢ / ١٩٢ ـ ١٩٣.

٩٠

أ : المؤمنون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم :( فَأَمّا الّذين آمَنُوا فَيَعْلَمُون انّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ ) .

ب : الكافرون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم :( وَأَمّا الّذين كَفَروا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مثَلاً ) . والظاهر أنّ قولهم( أراد اللّهُ ) كان على سبيل الاستهزاء بادّعاء الرسول أنّ المثل وحي منزل من الله ، وإلاّ فانّ الكافرين والمنافقين كانوا ينكرون الوحي أصلاً.

ولا غرو في أن يكون شيء سبب الهداية لطائفة وسبب الضلال لطائفة أخرى ، وما هذا إلاّ لأجل اختلاف القابليات ، فمن استعد لقبول الحقّ والحقيقة فتصبح الآيات الإلهية سبب الهداية ، وأمّا الطائفة الأخرى المعاندون الذين صمّوا مسامعهم عن سماع كلمة الحق وآياته فينكرون الآيات ويكفرون بذلك.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ قوله سبحانه :( يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين ) من كلامه سبحانه ، ولا صلة له بكلام المنكرين ، بل تم كلامه بقوله :( بها مثلاً ) وهو انّ الأمثال تؤثر في قوم دون قوم.

ثمّ إنّه يعلّل إضلال غير المؤمنين بفسقهم ويقول :( وَما يُضِلُّ بِهِ إلاّ الفاسقين ) ، والفسق : عبارة عن خروج النواة من التمر ، وفي الاصطلاح : من خرج عن طاعة الله ، سواء أكان مسلما متجرياً أو كافراً فاسقاً.

وقد أطنب المفسرون الكلام في مفاد الجملة الاَخيرة أعني :( يُضِلُّ به كثيراً وَيَهْدي بهِ كَثيراً ) فربما يتوهم أنّ الآية بصدد الإشارة إلى الجبر ، فحاولوا تفسير الآية بشكل يتلاءم مع الاختيار ، وقد عرفت أنّ الحقّ هو أنّ الآية بصدد بيان أنّ المواعظ الشافية والكلمات الحِكَمية لها تأثير معاكس فيؤثر في القلوب المستعدة تأثيراً إيجابياً وفي العقول المنتكسة تأثيراً سلبياً.

٩١

هذا هو تفسير الآية.

وربّما يحتمل أنّ الآية ليست بصدد بيان ضرب المثل بالبعوضة كضربه بالعنكبوت والذباب ، بل الآية خارجة عن نطاق ضرب المثل بالمعنى المصطلح ، وإنّما الآية بصدد بيان قدرته وعظمته وصفاته الجمالية والجلالية ، والآية بصدد بيان أنّ الله سبحانه لا يستحيي أن يستدل على قدرته وكماله وجماله بخلق من مخلوقاته سواء أكان كبيراً وعظيماً كالسماوات والأرض ، أو صغيراً وحقيراً كالبعوضة والذباب ، فمعنى ضرب المثل هو وصفه سبحانه بصفات الجلال أو الكمال.

ويدل على ذلك أنّه سبحانه استدل على جلاله وكماله بخلق السماوات والأرض وقال :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الّذِي خَلقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الّذي جَعَلَ لَكُمُ الاََرضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .(١)

يلاحظ على تلك النظرية بأمرين :

أوّلاً : لو كان المراد من ضرب المثل وصفه سبحانه بالقدرة العظيمة لكان اللازم أن يأتي بالآية بعد هاتين الآيتين مع أنّه فصل بينهما بآيات ثلاث تركّز على إعجاز القرآن والتحدّي به ، ثمّ التركيز على الجنة وثمارها كما هو معلوم لمن راجع المصحف الكريم.

وثانياً : انّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ، فقد جاء قوله :( فَأَمّا الّذينَ آمنوا فيعلمون انّه الحق من ربّهم ) في سورة الرعد بعد تشبيه الحق والباطل بمثل

__________________

١ ـ البقرة ٢١ ـ ٢٢.

٩٢

رائع يأتي البحث عنه إن شاء الله ، قال سبحانه :( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِها ...) إلى أن قال :( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمثالَ ) ثمّ قال :( أَفَمَنْ يَعْلَمُ انّمَا أُنزل إِلَيكَ مِن ربِّكَ الحقُّ كَمَن هو أعمى إِنّما يَتَذَكّرُ أُولُوا الألباب * الّذين يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ولاَ يَنْقُضُونَ المِيثاقَ ) .(١)

تجد أنّ الآيات في سورتي البقرة والرعد كسبيكة واحدة يفسر بعضها البعض.

ففي سورة البقرة ذكر ضرب المثل بالبعوضة ، كما ضرب في سورة الرعد مثلاً للحق والباطل.

ففي سورة البقرة قال سبحانه :( وَأَمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم ) .

وفي سورة الرعد قال سبحانه :( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أنّ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبّكَ الحَقُّ كمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الألباب ) .

وفي سورة البقرة قال :( وَما يُضِلُّ بهِ إلاّ الفاسِقينَ ) ، وفسَّره بقوله :( الّذين ينقضون عهد الله من بَعْدِ ميثاقِهِ ) الخ.

وفي سورة الرعد ، فسّر أُولي الألباب بقوله :( الّذينَ يُوفُونَ بعَهدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ المِيثاق ) .(٢)

فبمقارنة هذه الآيات يعلم أنّ المراد من ضرب المثل هو المعنى المعروف أي التمثيل بالبعوضة لتحقير معبوداتهم أو ما يشبه ذلك.

نعم ما نقلناه عن الإمام الصادقعليه‌السلام ربّما يؤيد ذلك الوجه كما مرّ ، فتدبّر.

__________________

١ ـ الرعد : ١٧ ـ ٢٠.

٢ ـ الرعد : ٢٠.

٩٣

سورة البقرة

٤

التمثيل الرابع

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَانَّ مِنَ الحِجارَة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُون ) .(١)

تفسير الآية

جاءت الآية بعد قصة البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل ، وقد كانوا يجادلون موسىعليه‌السلام بغية التملّص من ذبحها ، ولكن قاموا بذبحها وما كادوا يفعلون.

وكان ذبح البقرة لأجل تحديد هوية القاتل الذي قام بقتل ابن عمه غيلة واتهم بقتله شخصاً آخر من بني إسرائيل ، فصاروا يتدارأون ويدفعون عن أنفسهم هذه التهمة ، فرجعوا في أمرهم إلى موسىعليه‌السلام ، وشاء الله أن يظهر حقيقة الأمر بنحو معجز ، فقال لهم موسىعليه‌السلام :( انّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، فلمّـا ذبحوها ـ بعد مجادلات طويلة ـ أمر سبحانه أن يضربوا المقتول ببعض البقرة حتى يحيى المقتول ويعين هوية القاتل.

قال سبحانه :( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يحيي اللهُ المَوتى وَيُريكُمْ آياتِهِ

__________________

١ ـ البقرة : ٧٤.

٩٤

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ) .(١)

ومع رؤية هذه المعجزة الكبرى التي كان من المفروض أن تزيد في إيمانهم وانصياعهم لنبيهم موسىعليه‌السلام ، لكن ـ وللأسف ـ قست قلوبهم بنحو يحكي سبحانه شدة تلك القساوة ويقول :

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كالحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ) .

وبما أنّ الحجر هو المعروف بالصلابة والقساوة شبّه سبحانه قلوبهم بالحجارة وقال : إنَّ قُلوبهُمْ( كالحِجارَة أَوْ أَشَدّ قَسوَة ) أي : بل أشدّ قسوة ، فكلمة « أو » موضوعة مكان بل.

ثمّ إنّ القلوب إمّا بمعنى النفوس الناطقة ، فعندئذ تكون نسبة القساوة إلى الروح نسبة حقيقية. أو انّ المراد منها هو العضو المودع في الجهة اليسرى من الصدر الذي ليس له دور سوى تصفية الدم وإرساله إلى سائر الأعضاء ، وعندئذٍ تكون النسبة مجازية ، وإنّما نسبت القساوة إلى ذلك العضو ، لأنّه مظهر من مظاهر الحياة الإنسانية ، وأوّل عضو يتأثر بالاَُمور النفسانية كالفرح والغضب والحزن والجزع ، فلامنافاة في أن يكون المدرك هو النفس الناطقة ، ومع ذلك يصحّ نسبة الإدراك إلى القلب.

ثمّ إنّه سبحانه وصف قلوبهم بأنّها أشدّ قسوة من الحجارة ، وعلّل ذلك بأُمور ثلاثة :

الأوّل :( وَانّ مِنَ الحِجارة لَما يَتَفَجَّرُ مِنْه الاََنْهار ) .

الثاني :( وَانَّ مِنْها لما يَشَّقّق فيَخرج مِنْهُ الماء ) .

__________________

١ ـ البقرة : ٧٣.

٩٥

الثالث :( وَإنّ مِنْها لما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ) .

أمّا الأوّل : أي تفجّر الأنهار من الحجارة ، كالعيون الجارية من الجبال الصخرية.

وأمّا الثاني : كالعيون الحادثة عند الزلازل المستتبعة للانشقاق والانفجار المستعقب لجريان الأنهار.

وأمّا الثالث : كهبوط الحجارة من الجبال العالية إلى الأودية المنخفضة من خشية الله.

ولا مانع من أن يكون للهبوط علة طبيعية كالصواعق التي تهبط بها الصخور وعلة معنوية التي كشف عنها الوحي ، وهي الهبوط من خشية الله.

وعلى ضوء ذلك فالحجارة على الرغم من صلابتها تتأثر طبقاً للعوامل السالفة الذكر ، وأمّا قلوب بني إسرائيل فهي صلبة لا تنفعل أمام وحيه سبحانه وبيان رسوله ، فلا تفزع نفوسهم ولا تخشع لأمره ونهيه.

ومن عجيب الأمر أنّ بني إسرائيل رأوا باُمّ أعينهم ليونة الحجارة حيث استسقى موسى لقومه ، فأمر بأن يضرب بعصاه الحجر ، فلمّا ضربه انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الاَسباط.

ثمّ إنّ ظاهر الآية نسبة الشعور إلى الحجارة حيث إنّها تهبط من خشية الله ، وهذه حقيقة علمية كشف عنها الوحي وإن لم يصل إليها الإنسان بأدواته الحسية.

يقول صدر المتألهين : إنّ الكون بجميع أجزائه يسّبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور ، فلكلّ موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والإدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.

٩٦

وعلى هذا الشعور تسّبح الموجودات كلّها ، خالقها وبارئها وربّها سبحانه وتنزّهه عن كلّ نقص وعيب.

ثمّ يقول : إنّ العلم والشعور والإدراك كلّ ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود ، ابتداء من « واجب الوجود » إلى النباتات والجمادات ، وانّ لكلّ موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة. و و ولا يخلو موجود من ذلك أبداً ، غاية ما في الأمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا ـ بعض الأحيان ـ لضعفها وضآلتها.

على أنّ موجودات الكون كلما ابتعدت عن المادة والمادية ، واقتربت إلى التجرد ، أو صارت مجردة بالفعل ازدادت فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً ، وكلّما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية ، وتعمّقت فيها ، ضعفت فيها هذه الصفات ، وضؤلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرّة ، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والإدراك ، ولكنّها ليست كذلك ـ كما نتوهم ـ إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف ، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة.(١)

وليست هذه الآية هي الفريدة في بابها ، بل هناك آيات تؤكد على جريان الشعور في أجزاء العالم من الذرة إلى المجرّة.

يقول سبحانه :( تُسَبّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ) .(٢)

وبما أنّنا بسطنا الكلام في سريان الشعور إلى أجزاء العالم برمّته في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة ، فلنقتصر على ذلك ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه.

__________________

١ ـ الأسفار : ١١١٨ و ٦١٣٩ ، ١٤٠.

٢ ـ الإسراء : ٤٤.

٩٧

سورة البقرة

٥

التمثيل الخامس

( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً وَنِداءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) .(١)

تفسير الآية

النعيق : صوت الراعي لغنمه زجراً ، يقال : نعق الراعي بالغنم ، ينعق نعيقاً ، إذا صاح بها زجراً.

والنداء : مصدر نادى ينادي مناداة ، وهو أخص من الدعاء ، ففيه الجهر بالصوت ونحوه ، بخلاف الدعاء.

وفي تفسير الآية وجوه :

الأوّل : انّ الآية بصدد تشبيه الكافرين بالناعق الذي ينعق بالغنم ، ولا يصح التشبيه عندئذٍ إلاّ إذا كان الناعق أصم ، ويكون معنى الآية : انّ الذين كفروا الذين لا يتفكرون في الدعوة الإلهية ، كمثل الأصم الذي ينعق بما لا يسمع نفسه ولا يميز من مداليل نعاقه معنى معقولاً إلاّ دعاءً ونداءً وصوتاً بلا معنى.

وجه التشبيه : انّ الناعق أصم كما أنّ هؤلاء الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون.

__________________

١ ـ البقرة : ١٧١.

٩٨

وفي هذا المعنى المشبه هو الكافرون الذين لا يفهمون من الدعوة النبوية إلاّ صوتاً ودعوة فارغة من المعنى.

والمشبه به : هو الناعق الأصم الذي ينعق بالغنم ، ولكن لا يسمع من نعاقه إلاّ دعاءً ونداءً.

وهذا الوجه وإن كان ينطبق على ظاهر الآية ، ولكنّه بعيد من حيث المعنى ، إذ لو كان الهدف هو التركيز على أنّ الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون لكفى تشبيههم بالحيوان الذي هو أيضاً كذلك ، فما هو الوجه لتشبيههم بإنسان عاقل أخذ منه سمعه لا يسمع من نعاقه إلاّ صوتاً ونداءً ؟

الثاني : انّ المشبه هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمشبه به هو الناعق للغنم ، والمراد ومثلك أيها النبي في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق في البهائم التي لا تسمع من نعيقه إلاّ دعاءً ونداءً ما ، فتنزجر بمجرد قرع الصوت سمعها من غير ان تعقل شيئاً ، فهم ـ الكافرون ـ صمّ لا يسمعون كلاماً يفيدهم ، وبكم لا يتكلمون بما ينفع ، وعمي لا يبصرون ، فهم لا يعقلون شيئاً ، لأنّ الطرق المؤدية إلى التعقل موصدة عليهم.

ومن ذلك ظهر أنّ في الكلام قلباً أو عناية أخرى يعود إليه ، فانّ المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى ، إلاّ انّ الأوصاف الثلاثة التي استنتجت واستخرجت من المثل وذكرت بعده ، وهي قوله :( صمّ بكمٌ عميٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون ) ، لما كانت أوصافاً للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحقّ استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١ / ٤٢٠.

٩٩

ثمّ إنّ صاحب المنار فسّر الآية على الوجه الأوّل وقال :( مثل الذين كفروا ) أي صفتهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم كمثل الذي لا يسمع إلاّ دعاء ونداءً ، أي كصفة الراعي للبهائم السائمة ينعق ويصيح بها في سوقها إلى المرعى ودعوتها إلى الماء وجزها عن الحمى ، فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار. شبّه حالهم بحال الغنم مع الراعي يدعوها فتقبل ، ويزجرها فتنزجر ، وهي لا تعقل مما يقول شيئاً ، ولا تفهم له معنى وإنّما تسمع أصواتاً تقبل لبعضها وتدبر للآخر بالتعويد ، ولا تعقل سبباً للإقبال ولا للإدبار.(١)

يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد ذمهم وانّهم لا يعتنقون الإيمان ولا يمتثلون الأوامر الإلهية ونواهيها ، وعلى ذلك تصبح الآية نوع مدح لهم ، لأنّهم لو كانوا كالبهائم السائمة يجيبون دعوة النبي كقبولها دعوة الراعي وينزجرون بزجرهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانتهائها عن نهي الراعي ، فيكون ذلك على خلاف المقصود ، فانّ المقصود بشهادة قوله( صم بكم عمي ) انّهم لا يسمعون كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا ينطقون بالحقّ ولا ينظرون إلى آيات الله وانّهم في واد والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في واد آخر.

وأين هم من البهائم السائمة التي تقع تحت يد الراعي فتنتهى بنهيه ؟!

__________________

١ ـ تفسير المنار : ٢ / ٩٣ ـ ٩٤.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أرض مربعة حمراء من أدم

ما بين إلفين موصوفين بالكرمِ

تذاكرا الحرب فاحتلاّ لها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دمِ

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنمِ

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركةٍ

في عسكرين بلا طبلٍ ولا علمِ(1)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، وفيما أحسب أنّه أسبق من نظم فيه، وأحاط بأوصافه ودقائقه وقد تعلم هذه اللعبة من أبيه الرشيد الذي كان من الماهرين فيها، وقد أهدى إلى ملك (فرنسا) أدوات الشطرنج، ولم تكن معروفة فيها، وتوجد حاليا تلك الأدوات التي أهداها الرشيد في متاحف (فرنسا)(2) .

ب - ولعه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، ويقول المؤرّخون أنّه كان معجباً كأشد ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي وقال فيه: (كان لا يغني أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان)(3) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود كأبيه الرشيد الذي لم يمر على قصره اسم الله تعالى، وإنّما كانت لياليه الليالي الحمراء.

ج - شربه للخمر:

وعكف المأمون على الإدمان على الخمر، فكان يشربها في وضح النهار وفي غلس الليل، ولم يتأثّم في اقتراف هذا المحرَّم الذي هو من أفحش المحرّمات في الإسلام.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض نزعات المأمون وصفاته.

التحف الثمينة التي أهديت للمأمون:

وقام الأُمراء والأشراف بتقديم الهدايا القيّمة والتحف الثمينة للمأمون تقرّباً إليه، وكان من بعض ما أُهدي إليه ما يلي:

____________________

(1) المستطرف 2 / 306.

(2) حياة الإمام محمد الجواد (ص 233).

(3) الحضارة العربية لجاك س. ريسلر (ص 108).

٢٢١

1 - أهدى أحمد بن يوسف للمأمون سفطاً من الذهب فيه قطعة عود هندي في طوله وعرضه، وكتب فيه هذا يوم جرت فيه العادة بإتحاف العبيد للسادة، وقد قلت:

على العبد حق وهو لا شك فاعله

وإن عظم المولى وجلّت فواضله

ألم ترنا نهدي إلى الله ماله

وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله

ولو كان يهدي للجليل بقدره

لقصّر عنه البحر يوماً وساحله

ولكنّنا نهدي إلى مَن نجلّه

وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله(1)

2 - أهدى أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي إلى المأمون في يوم مهرجان مائة حمل زعفران قد وضعت في أكياس من الإبريسم، وقد حملتها أتان شهب وحشية، فجاءت الهدايا والمأمون عند حرمه، فأخبر بالهدية، فسارع إلى النظر إليه، فلمّا رآها عجب بها وسأل عن الحمر التي حملت الزعفران هل هن ذكور أم إناث؟ فقيل له إنّها إناث فسُرّ بذلك، وقال: قد علمت أنّ الرجل أعقل من أن يوجه على غير أتن(2).

3 - أهدى ملك الهند جملة من الهدايا، وفيها جام ياقوت أحمر، ومعها رسالة جاء فيها: نحن نسألك أيّها الأخ أن تنعم في ذلك بالقبول، وتوسع عذراً في التقصير(3) .

هذه بعض الهدايا التي قدّمت للمأمون تقرّباً له، وطمعاً في الظفر ببعض الوظائف منه.

تظاهره بالتشيّع:

وذهب بعض المؤرخين والباحثين إلى أن المأمون قد اعتنق مذهب التشيع، وقد استندوا إلى ما يلي:

من علمه التشيع:

إنّه أعلن أمام حاشيته وأصحابه أنّه اعتنق مذهب التشيّع وذلك في الحديث التالي: روى سفيان بن نزار، قال: كنت يوماً على رأس المأمون، فقال لأصحابه: (أتدرون مَن علّمني التشيّع؟).

____________________

(1) صبح الأعشى 2 / 420.

(2) التحف والهدايا (ص 109).

(3) نفس المصدر.

٢٢٢

فقالوا جميعاً: لا والله ما نعلم؟.

فقال: علمنيه الرشيد فانبروا قائلين:

(كيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل البيت؟).

قال: كان يقتلهم على الملك لان الملك عقيم، لقد حججت معه سنة، فلمّا صار إلى المدينة تقدم إلى حجاجه، وقال لهم: (لا يدخلن على رجل من أهل المدينة ومكة، ولا من المهاجرين والأنصار وبني هاشم، وسائر بطون قريش إلا نسب نفسه... وأمتثل الحجاب ذلك، فكان الرجل إذا أراد الدخول عليه عرف نفسه إلى الحجاب، فإذا دخل فيصله بحسب مكانته ونسبه، وكانت صلته خمسة آلاف دينار إلى مائتي دينار، يقول المأمون وبينما أنا واقف إذ دخل الفضل بن الربيع، فقال: (يا أمير المؤمنين، على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب).

فاقبل الرشيد على أبنائه، وعلى سائر القواد، وقال لهم: احفظوا على أنفسكم، ثم قال للفضل ائذن له، ولا ينزل إلاّ على بساطي، يقول المأمون: ودخل شيخ مسخد(1) قد أنهكته العبادة كأنّه شنّ بال(2) قد كلم(3) السجود وجهه وأنفه فلمّا رأى الرشيد أنّه أراد أن ينزل من دابته، فصاح لا والله إلاّ

على بساطي فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظر إليه الجميع بإجلال وإكبار وتعظيم ووصل الإمام إلى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به، فنزل عن راحلته فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط، وقبّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس وأجلسه معه، وأقبل عليه يحدثه، ويسأله عن أحواله، ثم قال له: (يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟).

قال هارون: أولاد كلهم؟ قال الإمام: لا، أكثرهم موالي وحشم، أمّا الولد فلي نيف وثلاثون، وذكر عدد الذكور، وعدد الإناث، والتفت إليه هارون فقال له:

____________________

(1) المسخد: مصفر الوجه.

(2) الشن البالي: القربة البالية.

(3) كلم: أي جرح.

٢٢٣

- لم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن وأكفائهن؟

- اليد تقصر عن ذلك.

- ما حال الضيعة؟

تعطي في وقت وتمنع في آخر!.

- هل عليك دين؟

- نعم.

- كم هو؟

- عشرة آلاف دينار.

- يا بن العم أنا أعطيك من المال ما تزوّج به الذكران والنسوان، وتقضي به الدين، وتعمر به الضياع.

فشكره الإمام على ذلك وقال له: (وصلتك رحم يا بن العم، وشكر الله هذه النية الجميلة والرحم ماسة، والقرابة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصنو أبيه، وعمّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك، وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك وأعلى محتدك(1)) .

فقال هارون: أفعل ذلك وكرامة.

وأخذ الإمامعليه‌السلام يوصيه بالبر والإحسان إلى عموم الفقراء قائلاً:

(يا أمير المؤمنين إنّ الله قد فرض على ولاة العهد، أن ينعشوا فقراء الأمّة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى العاني(2) ، فأنت أولى مَن يفعل ذلك...).

فانبرى هارون قائلاً: افعل ذلك يا أبا الحسن، ثم قام الإمامعليه‌السلام فقام الرشيد تكريما له، وقبل عينيه ووجهه ثم اقبل على أولاده فقال لهم: (يا عبد الله، ويا محمد، ويا إبراهيم امشوا بين يدي عمكم وسيدكم خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله).

وانصرف الإمامعليه‌السلام ، وفي نفس الطريق أسرّ إلى المأمون فبشره

____________________

(1) المحتد: الأصل.

(2) العاني: الغفير.

٢٢٤

بالخلافة، وقال له:

(إذا ملك هذا الأمر فأحسن إلى ولدي).

ومضى الإمام مشيَّعاً من قبل أبناء هارون إلى منزله، ورجع المأمون إلى منزله، فلما خلا المجلس من الناس التفت إلى أبيه قائلاً:

(يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته، وأجللته وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟).

فقال هارون:

(هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده...).

وبهر المأمون فقال لأبيه: (يا أمير المؤمنين أليست هذه الصفات لك وفيك؟).

فأجابه هارون بالواقع قائلاً: (أنا أمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنّه لاحق بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منى ومن الخلق جميعاً، ووالله إن نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم).

ولـمّا أراد الرشيد الانصراف من المدينة إلى بغداد أمر بصرة فيها مائتا دينار، وقال للفضل بن الربيع اذهب بها إلى موسى بن جعفر، وقل له: يقول لك أمير المؤمنين: نحن في ضيقة، وسيأتيك برنا بعد الوقت، فقام المأمون، وقال لأبيه: (تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، ومن لا تعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار ما دونها، وتعطي موسى بن جعفر، وقد عظمته، وجللته مائتي دينار أخسّ عطية أعطيتها أحدا من الناس).

فزجره هارون، وقال له:

(اسكت لا أُمّ لك، فإنّي لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم).

وأعرب هارون عن خشيته من الإمامعليه‌السلام ، وقضت سياسته في

٢٢٥

محاربته اقتصاديا لئلا يقوى على مناهضته وكان في المجلس مخارق المغني فتألم وانبرى إلى هارون قائلاً: (يا أمير المؤمنين، قد دخلت المدينة، وأكثر أهلها يطلبون مني شيئا، وإن خرجت ولم أقسم فيهم شيئا لم يتبيّن لهم فضل أمير المؤمنين علي، ومنزلتي عنده).

فأمر له هارون بعشرة آلاف دينار، فقال له مخارق: (يا أمير المؤمنين هذا لأهل المدينة، وعلى دين احتاج أن أقضيه).

فأمر له بعشرة آلاف دينار، ثم قال له: بناتي أريد أن أزوجهن فأمر له بعشرة آلاف دينار، وقال له: لا بد من غلّة تعطينيها ترد علي وعلى عيالي وبناتي فأمر له باقطاع(1) تبلغ وارداتها في السنة عشرة آلاف دينار، وأمر أن يعجل ذلك له، وقام مخارق مسرعا إلى بيت الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فلمّا انتهى إليه استأذن على الإمام فأذن له فقال له: (قد وقفت على ما عاملك هذا الطاغية، وما أمر لك به، وقد احتلت عليه لك، وأخذت منه صلات ثلاثين ألف دينار وأقطاعا تغل في السنة عشرة آلاف دينار، ولا والله يا سيدي ما احتاج إلى شيء من ذلك، ما أخذته إلاّ لك وأنا اشهد لك بهذه القطاع، وقد حملت المال لك).

فشكره الإمامعليه‌السلام على ذلك، وقال له: (بارك الله لك في مالك، وأحسن جزاءك، ما كنت لآخذ منه درهماً واحداً، ولا من هذه الأقطاع شيئاً، وقد قبلت صلتك وبرّك، فانصرف راشداً ولا تراجعني في ذلك).

وقبل مخارق يد الإمامعليه‌السلام ، وانصرف عنه(2) .

وحكت هذه الرواية ما يلي:

1 - احتفاء الرشيد بالإمام الكاظمعليه‌السلام في حين أنّه لم يحفل بأي إنسان كان، فقد سيطر على أغلب أنحاء الأرض وسرى اسمه في الشرق والغرب.

2 - اعتراف هارون بأنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام هو حجّة الله على

____________________

(1) الأقطاع: القطعة من الأرض الزراعية.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 88 - 93.

٢٢٦

العالمين وأنّه إمام هذه الأمة، وقائد مسيرتها الزمنية والروحية، وأنّ هارون زعيم هذه الأمة بالقهر والغلبة لا بالاستحقاق.

3 - حرمان الإمام الكاظم من العطاء الذي يستحقه؛ وذلك من أجل أن لا يقوى على مناهضة هارون والخروج على سلطانه.

4 - إعطاء المغني (مخارق) الأموال الطائلة، وحرمان أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من حقوقهم التي نهبها هؤلاء البغاة... هذه بعض المعالم في هذه الرواية:

رد فدك للعلويين:

من الأمور التي يستند القائلون إلى تشيّع هارون ردّه لـ‍ (فدك) للعلويين بعد أن صادرتها الحكومات السابقة منهم، وكان الغرض من مصادرتها إشاعة الفقر والحرمان بين العلويين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم كي لا يتمكّنوا من مناهضة أولئك الحكّام، وقد قام المأمون بردّها عليهم، وقد رفع عنهم الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، وقد مدحه شاعر أهل البيت دعبل الخزاعي على هذه المكرمة التي أسداها على العلويين بقوله:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

واعتبر الكثيرون من الباحثين هذا الإجراء دليلاً على تشيّع المأمون.

إشادته بالإمام أمير المؤمنين:

وأشاد المأمون بالإمام أمير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الإسلام، فقد كتب إلى جميع الآفاق بان علي بن أبي طالبعليه‌السلام أفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، وقد روى الصولي أشعاراً له في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه كان منها ما يلي:

لا تقبل التوبة من تائب

إلاّ بحب ابن أبي طالب

أخو رسول الله حلف المهدي

والأخ فوق الخل والصاحب

إن جمعا في الفضل يوماً فقد

فاق أخوه رغبة الراغب

فقدم الهادي في فضله

تسلم من اللائم والعائب

ومن شعره الذي يرد به على مَن عابه في قربه لأبناء النبي (ص) يقول:

____________________

(1) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٧

ومن غاو يغص عليّ غيظاً

إذا أدنيت أولاد الوصي

فقلت: أليس قد أوتيت علماً

وبان لك الرشيد من الغوي

وعرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر القوي

بأيّة خلّة وبأيّ معنى

تفضّل ملحدين على علي

علي أعظم الثقلين حقّاً

وأفضلهم سوى حق النبي(1)

ومن شعره قاله في أهل البيتعليهم‌السلام هذه الأبيات:

إن مال ذو النصب إلى جانب

ملت مع الشيعي في جانبِ

أكون في آل بني الهدى

خير بني من بني غالبِ

حبهم فرض نؤدّي به

كمثل حج لازم واجب(2)

وهذا الشعر صريح في ولائه لأهل البيتعليهم‌السلام وتقديمه بالفضل على غيرهم.

وروى له الصولي هذه الأبيات في الإمام عليعليه‌السلام :

ألام على حب الوصي أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذي الزمن

خليفة خير الناس والأول الذي

أعان رسول الله في السر والعلن

ولولاه ما عدت لهاشم إمرة

وكانت على الأيام تقضي وتمتهن

فولى بني العباس ما اختص غيرهم

ومن منه أولى بالتكرّم والمنن

فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيد الله جوداً على اليمن

وقسم أعمال الخلافة بينهم

فلا زال مربوطاً بذا الشكر مرتهن(3)

وحكى هذا الشعر الأيادي البيضاء التي أسداها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الأسرة العباسية حينما ولي الخلافة فقد قلد ولاية (البصرة) إلى عبد الله بن العباس، وكان وزيره ومستشاره الخاص، كما قلد عبيد الله بن العباس ولاية اليمن، ولكن الأسرة العباسية قد تنكرت لهذا المعروف فقابلت أبناء الإمام بالقتل والتنكيل وارتكبت معهم ما لم ترتكبه معهم الأسرة الأموية وقد أوضحنا في

____________________

(1) المحاسن والمساوئ 1 / 105 للبيهقي.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

(3) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٨

هذا الكتاب جوانب كثيرة من اضطهادهم للسادة العلويين، فلم يرعوا فيهم أنّهم أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم وديعته في أمته، فعمدوا إلى قتلهم تحت كل حجر ومدر.

ونسب إلى المأمون هذان البيتان:

إذا المرجّى سرّك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فجدّد عنده ذكرى عليٍّ

وصلِّ على النبي وآل بيته

فردّ عليه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرّك أن يبوح بذات نفسه

فصلّ على النبي وصاحبيه

وزيريه وجاريه برمسه(1)

ومن الطريف ما ذكره الصولي أنّه كان مكتوباً على سارية من سواري جامع البصرة:

(رحم الله عليّا

إنّه كان تقيّا)

وكان يجلس إلى تلك السارية حفص أبو عمر الخطابي وكان أعور فعمد إلى محو ذلك، وكتب بعض المجاورين إلى الجامع إلى المأمون يخبره بمحو الخطابي للكتابة، فشقّ على المأمون ذلك، وأمر بإشخاصه إليه، فلمّا مثل عنده قال له:

(لم محوت اسم أمير المؤمنين من السارية؟).

فقال الخطابي: (وما كان عليها؟).

قال المأمون: كان عليها:

(رحم الله عليّا

انه كان تقيّا)

فقال: إنّ المكتوب رحم الله عليا إنّه كان نبيّا، فقال المأمون كذبت، بل كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ولولا أن أزيدك عند العامة نفاقاً لأدبتك، ثم أمر بإخراجه(2) .

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 329.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

٢٢٩

انتقاصه لمعاوية:

واستدلّ القائلون بتشيّع المأمون إلى أنّه أمر بسب معاوية بن هند وانتقاصه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد أمر أن ينادي المنادي (أن برئت الذمّة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(1) .

وهذا لا يصلح دليلاً على تشيّع المأمون؛ لأنّ معاوية قد انكشف، وظهر واقعه، فقد تسالمت على قدحه جميع الأوساط، وأنّه الخصم اللدود للإسلام، وأنّه صاحب الأحداث والموبقات.

استدلاله على إمامة الإمام علي:

ومن أهم ما استدل به القائلون على تشيّع المأمون عقده للمؤتمرات العلمية، واستدلاله ببالغ الحجة على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وانه القائد الأول للمسيرة الإسلامية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أولى بمقامه، وأحق بمركزه من غيره.

ومن أروع المؤتمرات التي أقامها المأمون في بلاطه، ومن أكثرها أهمية هذا المؤتمر الذي حضره أربعون من علماء الحديث، وعلماء الكلام انتخبهم يحيى بن أكثم من بين علماء بغداد، وقد أدلوا بحججهم على ما يذهبون إليه من تفضيل الخلفاء على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلاّ أنّ المأمون فنّد حججهم بأدلة حاسمة دلّت على براعته واطلاعه الواسع في البحوث الكلامية، ونحن ننقل النص الكامل لهذه المناظرة الرائعة لما لها من الأهمية البالغة، وفيما يلي ذلك:

المأمون:

ولـمّا مثل العلماء أمام المأمون، التفت إليهم بعد ترحيبه بهم، فقال لهم: (إنّي أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي حجّة، فمن كان حاقناً(2) أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته، وانبسطوا، وسلوا خفافكم، وضعوا أرديتكم).

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 361.

(2) الحاقن: الذي يضايقه البول.

٢٣٠

ففعلوا ما أمرهم به، والتفت المأمون لهم قائلاً: (أيّها القوم إنّما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله تعالى، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم، وإمامكم، ولا يمنعكم جلالتي، ومكاني من قول الحق حيث كان، ورد الباطل، على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من النار، وتقرّبوا إلى الله تعالى، برضوانه، وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق، إلاّ سلّطه الله عليه، فناظروني بجميع عقولكم.

إنّي رجل أزعم أنّ عليّاًعليه‌السلام خير البشر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن كنت مصيباً فصوّبوا قولي، وإن كنت مخطئاً فردّوا عليّ وهلمّوا، فإن شئتم سألتكم، وإن شئتم سألتموني...).

وليس في هذا الكلام أي التواء، أو خروج عن المنطق، وإنّما صاحبه يريد الحقيقة الناصعة.

علماء الحديث:

وسارع علماء الحديث قائلين: (بل نحن نسألك...).

وانبرى المأمون فأرشدهم إلى طريق الحوار قائلاً: (هاتوا وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم، فإذا تكلّم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزده وإن أتى بخلل فسدّدوه...)

الدليل الأوّل:

وأدلى عالم من علماء الحديث بحجّته على أنّ أبا بكر هو خير هذه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً:

(نحن نزعم أنّ خير الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر، من قبل الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول (ص) قال: (اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر) فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنّه لم يأمر بالاقتداء إلاّ بخير الناس...).

جواب المأمون:

وناقش موضوع الحديث المنسوب إلى النبي (ص) نقاشاً موضوعياً فقال: (الروايات كثيرة، ولا بد من أن تكون كلها حقاً، أو كلها باطلاً، أو بعضها

٢٣١

حقاً، وبعضها باطلاً، فلو كانت كلها حقاً، كانت كلها باطلاً من قبل أن بعضها ينقض بعضها، ولو كانت كلها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين، ودرس الشريعة(1) فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار، وهو أنّ بعضها حق، وبعضها باطل، فإذا كان كذلك فلا بد من دليل على ما يحق منها، ليعتقد، أو ينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقاً كان أولى ما اعتقده، وأخذ به.

وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها، وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحكم الحكماء، وأولى الخلق بالصدق، وأبعد الناس من الأمر بالمحال، وحمل الناس على التدين بالخلاف، وذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة.

وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر، والدليل على اختلافهما، أنّ أبا بكر سبى أهل الردة، وردّهم عمر أحراراً، وأشار عمر بعزل خالد لقتله مالك بن نويرة فأبى أبو بكر عليه، وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر، ووضع عمر ديوان العطية، ولم يفعله أبو بكر، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر، ولهذا نظائر كثيرة...).

وردّ المأمون وثيق للغاية، فقد زيف الحديث، وأثبت أنّه من الموضوعات، ولا نصيب له من الصحّة.

الدليل الثاني:

وانبرى عالم آخر من علماء الحديث فاستدل على أفضلية الشيخين وتقدّمهما على الإمام أمير المؤمنين بالحديث المنسوب إلى النبي (ص).

قال: (إنّ النبي (ص) قال: لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً...).

جواب المأمون:

وزيف المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل من قبل أنّ رواياتكم قد صرّحت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، آخى بين أصحابه، وأخّر عليّاً

____________________

(1) أي إماتة الشريعة.

٢٣٢

عليه‌السلام ، فقال له: في ذلك فقال: وما أخرّتك إلاّ لنفسي، فأيّ الروايتين ثبتت بطلت الأخرى...).

إنّ مناقشة المأمون للحديث مناقشة موضوعية ليس فيها أي تحيّز، وإنّما كانت خاضعة للدليل الحاسم.

الدليل الثالث:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ عليّاًعليه‌السلام قال على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر...).

مناقشة المأمون:

وناقش المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل لأنّ النبي (ص) لو علم أنّهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ومرة أسامة بن زيد، وممّا يكذب هذه الرواية قول علي لـمّا قبض النبي (ص): وأنا أولى بمجلسه منّي بقميصي، ولكن أشفقت أن يرجع الناس كفّاراً، وقولهعليه‌السلام : أنّى يكونان خيراً مني؟ وقد عبدت الله قبلهما، وعبدته بعدهما، وأبطل المأمون الحديث، وبين زيفه، فلم يصلح لأن يكون دليلاً للخصم.

الدليل الرابع:

وقال عالم من علماء الحديث: إنّ أبا بكر أغلق بابه وقال: هل من مستقيل فأقيله، فقالعليه‌السلام : قدّمك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمَن ذا يؤخرك؟).

ردّ المأمون للحديث:

ورد المأمون الحديث قائلاً: هذا باطل لأنّ عليّاًعليه‌السلام قعد عن بيعة أبي بكر، ورويتم أنّه قعد عنها حتى قبضت فاطمةعليها‌السلام ، وأنّها أوصت أن تدفن ليلاً لئلاّ يشهدا جنازتها.

ووجه آخر وهو أنّ النبي (ص) لو كان استخلفه فكيف كان له أن يستقيل، وهو يقول للأنصار: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر...).

الدليل الخامس:

وقال عالم آخر: إنّ عمرو بن العاص قال: يا نبي الله مَن أحب الناس إليك

٢٣٣

من النساء؟ قال: عائشة، فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها...).

ردّ المأمون:

ورد المأمون هذا الحديث فقال: هذا باطل لأنّكم رويتم أن النبي (ص) وضع بين يديه طائر مشوي، فقال: اللّهمّ ايتني بأحبّ خلقك إليك، فكان عليّاً، فأي رواياتكم تقبل؟).

إنّ حديث الطائر المشوي مجمع عليه، وهو يدل بوضوح على أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ الخلق عند الله، وأقربهم إليه.

الدليل السادس:

وانبرى عالم آخر فقال: (إنّ عليّاً قال: مَن فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري...).

جواب المأمون:

وأجاب المأمون عن هذا الحديث المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله:

(كيف يجوز أن يقول علي: أجلد الحد على مَن لا يجب حد عليه، فيكون متعدّياً لحدود الله، عاملاً بخلاف أمره، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية، وقد رويتم عن إمامكم أنّه قال: وليتكم ولست بخيركم، فأي الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه، أو علي على أبي بكر، مع تناقض الحديث في نفسه، ولا بد له من أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإن كان صادقاً فأنّى عرف ذلك بوحي؟ فالوحي منقطع أو بالتظنين فالمتظنّي متحيّر، أو بالنظر، فالنظر بحث وإن كان غير صادق، فمن المحال أن يلي أمر المسلمين، ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذاب...).

الدليل السابع:

وقال عالم آخر: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا الحديث محال لأنّه لا يكون في الجنة كهل، ويروى أن (أشحمية) كانت عند النبي (ص) فقال: لا يدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها

٢٣٤

النبي (ص): إنّ الله تعالى يقول:( أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُباً أَتْرَاباً ) (1) فإن زعمتم أنّ أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة، فقد رويتم أنّ النبي (ص) قال للحسن والحسين: إنّهما سيّدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين وأبوهما خير منهما).

ومناقشة المأمون للحديث مناقشة منطقية غير خاضعة للأهواء والتيارات المذهبية.

الدليل الثامن:

وقال عالم آخر من علماء الحديث: (إنّ النبي (ص) قال: لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر...).

جواب المأمون:

قال المأمون في تفنيد هذا الحديث: هذا محال لأنّ الله تعالى يقول:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (2) ، وقال تعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) (3) ، فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوّة مبعوثاً؟ ومن أخذ ميثاقه على النبوّة مؤخراً؟...).

إنّ مناقشة المأمون لهذه الأحاديث مبنيّة على الفكر والمنطق وليس فيها ما يشذ عنهما.

الدليل التاسع:

وانبرى عالم آخر فأدلى بحجّته قائلاً: (إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم، فقال: إنّ الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة، وبعمر خاصة...).

جواب المأمون:

وقال المأمون في ردّه على هذا الحديث: هذا مستحيل لأنّ الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة.

وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم أنّ النبي (ص) قال: دخلت الجنة

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 35 - 37.

(2) سورة النساء: آية 163.

(3) سورة الأحزاب آية 7.

٢٣٥

فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة، فقلتم: عبد أبي بكر خير من الرسول (ص) لأنّ السابق أفضل من المسبوق...).

الدليل العاشر:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ النبي (ص) قال: لو نزل العذاب ما نجا إلاّ عمر بن الخطاب...).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضاً؛ لأنّ الله تعالى يقول لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (1) فجعلتم عمر مثل الرسول (ص)!!...).

الدليل الحادي عشر:

وقال محدث آخر: لقد شهد النبي (ص) لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة.

مناقشة المأمون:

قال المأمون: لو كان كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة: نشدتك بالله أمن المنافقين أنا؟ فإن كان قد قال له النبي: أنت من أهل الجنة، ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة، فصدق حذيفة، ولم يصدق النبي (ص) فهذا على غير الإسلام، وإن كان قد صدق النبي (ص) فلم سأل حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما).

الدليل الثاني عشر:

وقال عالم آخر: قال النبي (ص): (وضعت في كفّة الميزان ووضعت أمّتي في كفة أخرى فرجحت بهم، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم، ثم عمر فرجح بهم ثم رُفع الميزان).

جواب المأمون:

وفنّد المأمون هذا الحديث فقال: هذا محال لأنّه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما، فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنّه محال؛ لأنّه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة، وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد فكيف بما ليس؟.

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم:

____________________

(1) سورة الأنفال: آية 33.

٢٣٦

(أخبروني بماذا يتفاضل الناس؟).

وانبرى بعض العلماء فقال: (يتفاضلون بالأعمال الصالحة).

وعلّق المأمون على هذا الكلام قائلاً: (أخبروني ممّن فضل صاحبه على عهد النبي (ص)، ثم إنّ المفضول عمل بعد وفاة الرسول (ص) بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي (ص) ثم أيلحق به؟ فإن قلتم: نعم أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً، وحجّاً، وصوماً، وصلاة، وصدقة من أحدهم...).

فانبروا جميعاً قائلين: (صدقت لا يلحق فاضل دهرنا بفاضل عصر النبي (ص)).

فقال لهم المأمون: (انظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل عليعليه‌السلام وقيسوا إليها ما ورد في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم، وإن كانوا قد رووا في فضائل عليعليه‌السلام أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تتعدّوه...).

وحار القوم في الجواب، فقد سدّ عليهم المأمون كل ثغرة يسلكون فيها للدفاع عمّا يذهبون إليه، والتفت إليهم المأمون قائلاً:

(ما لكم سكتّم؟...).

فقالوا: (قد استقصينا)، إذ لم تبق عندهم حجّة يتمسّكون بها، فقال لهم المأمون: (إنّي سائلكم، أخبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ...).

فقالوا جميعاً: (السبق إلى الإسلام؛ لأنّ الله تعالى يقول:( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ...).

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

٢٣٧

وسارع المأمون قائلاً: (فهل علمتم أحداً أسبق من علي إلى الإسلام؟...).

وارتفعت أصواتهم قائلين: (إنّه - أي علي - سبق حدثاً لم يجر عليه حكم، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم - أي التكليف - وبين هاتين الحالتين فرق...).

وأجاب المأمون قائلاً: (خبروني عن إسلام علي بالهام من قبل الله تعالى أم بدعاء النبي (ص)؟ فإن قلتم: بإلهام فقد فضلتموه على النبي (ص)؛ لأنّ النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عن الله تعالى داعياً، ومعرفاً، وإن قلتم بدعاء النبي (ص) فهل دعاه من قبل نفسه أو بأمر الله تعالى، فإن قلتم: من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيّه في قوله:( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (1) وفي قوله تعالى:( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (2) ، وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيّه (ص) بدعاء علي من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم، فدعاه ثقة به، وعلماً بتأييد الله تعالى.

وخلّة أخرى: خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلّف خلقه ما لا يطيقون، فإن قلتم: نعم فقد كفرتم، وإن قلتم: لا، فكيف يجوز أن يأمر نبيه (ص) بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره وحداثة سنّه، وضعفه عن القبول.

وعلّة أخرى هل رأيتم النبي (ص) دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أسوة مع علي، فإن زعمتم أنّه لم يدع أحداً غيره، فهذه فضيلة لعلي على جميع صبيان الناس).

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم: (أي الأعمال بعد السبق إلى الإيمان؟...).

فقالوا جميعاً: (الجهاد في سبيل الله...).

وانبرى المأمون يقيم عليهم الحجّة في تقديم الإمام علي غيره بالفضل قائلاً:

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

(2) سورة ص: آية 3 - 4.

٢٣٨

هل تجدون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعليعليه‌السلام في جميع مواقف النبي (ص) من الأثر؟ هذه (بدر) قتل من المشركين فيها نيف وستون رجلاً، قتل علي منهم نيفاً وعشرين، وأربعون لسائر الناس...).

وانبرى عالم من علماء الحديث فقال: (كان أبو بكر مع النبي (ص) في عريشه يدبّرها).

فردّ عليه المأمون قائلاً: (لقد جئت بهذا عجيبة!! كان يدبّر دون النبي (ص) أو معه فيشركه، أو لحاجة النبي (ص) إلى رأي أبي بكر؟ أي الثلاث أحب إليك؟).

وأجاب العالم: (أعوذ بالله من أن أزعم أنّه يدبّر دون النبي (ص) أو يشركه أو بافتقار من النبي إليه).

(وردّ عليه المأمون قائلاً: فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلّفه عن الحرب، فيجب أن يكون كل متخلّف فاضلاً أفضل من المجاهدين والله عزّ وجل يقول:( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

ووجّه المأمون خطابه إلى إسحاق بن حماد بن زيد، وهو من كبار علماء الحديث فقال له: (اقرأ سورة هل أتى).

وأخذ إسحاق في قراءة السورة فلمّا انتهى إلى قوله تعالى:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إلى قوله:وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) (2) .

قال له المأمون:

____________________

(1) سورة النساء: آية 95.

٢٣٩

(فيمَن نزلت هذه الآيات؟).

(في علي...).

وانبرى المأمون قائلاً: (هل بلغك أنّ عليّاًعليه‌السلام قال حين أطعم المسكين واليتيم والأسير( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً ) (1) على ما وصف الله تعالى في كتابه.

(لا...).

(إنّ الله تعالى عرف سريرة علي ونيّته فاظهر ذلك في كتابه تعريفا لخلقه أمره...

هل علمت أنّ الله تعالى وصف في شيء ممّا وصف في الجنة، ما في هذه السورة:( قوارير من فضة... ) .

(لا...).

(فهذه فضيلة أخرى، كيف تكون القوارير من فضة؟).

(لا أدري).

(يريد كأنّها من صفائها من فضة يرى داخلها كما يرى خارجها، وهذا مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا إسحاق رويدا شوقك بالقوارير) وعنى به نساء كأنّها القوارير رقّة، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحراً) أي كأنّه بحر من كثرة جريه وعدوه، وكقول الله تعالى:( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (2) أي كأنّه يأتيه الموت، ولو أتاه من مكان

واحد مات.

يا إسحاق ألست ممّن يشهد أنّ العشرة في الجنة؟).

(بلى...).

(أرأيت لو أنّ رجلاً قال: ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا أكان عندك

____________________

(1) سورة الدهر: آية 9.

(2) سورة إبراهيم: آية 17.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291