الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم 0%

الأقسام في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 173

الأقسام في القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف: الصفحات: 173
المشاهدات: 43534
تحميل: 5404

توضيحات:

الأقسام في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 43534 / تحميل: 5404
الحجم الحجم الحجم
الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أنتَ ـ بحمدِ اللّه ـ لستَ بمجنون

أنتَ ـ بنعمةِ اللّه ـ فَهيم

أنتَ ـ بنعمةِ اللّه ـ لستَ بفقير

وعلى هذا التقدير ، يكون معنى الآية : ( ما أنتَ ـ في ظلِّ نعمة ربِّك ـ بمجنون )(١)

وهناك احتمال ثالث ـ وهو نفس هذا الاحتمال ـ ، جعلَ الباء حرف القَسَم ، وعلى ذلك يكون الحلف مقروناً بالدليل ، وهو : أنّ مَن أُنعِم اللّه عليه بهذه النعم الإلهيّة ، كيف يتَّهمونه بالجنون

مضافاً إلى أنّ لك في الآخرة لأجراً غير ممنون ، كما قال سبحانه :( وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غير مَمنون ) ، والممنون مُشتقّ من مادّة ( مَنَّ ) بمعنى القطع ، أي الجزاء المتواصل إلى الأبد

ثُمّ إنّه سبحانه يستدلّ بدليل آخر على نزاهته من هذه التُهمة ، وهي قوله سبحانه :( وَإِنَّكَ لَعلى خُلقٍ عَظيم ) ، فمَن كان على خُلقٍ يعترف به القريب والبعيد ، فكيف يكون مجنوناً ؟!

فقد تجسَّم في شخصيّة الرسول العَطفُ والحنان إلى القريب والبعيد ، والصبر والاستقامة في طريق الهَدَف ، والعفو عن المُتجاوز بعد التمكّن والقُدرة ، والتجافي عن الدنيا وغرورها ، إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق

وبذلك ظهر أنّ الحلف صار مقروناً بالدليل

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه ، فهو أنّ القلم والكتابة آية العقل والدراية ، فحلف به لغاية نفي الجنون عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢٩/٧٩

١٠١

يقول المراغي : أقسَمَ رَبُّنا بالقلم وما يُسطَر به من الكتب : أنّ محمّداً ، الّذي أنعم اللّه عليه بنعمة النبوّة ، ليس بمجنون كما تدَّعون ، وكيف يكون مجنوناً والكتب والأقلام أُعدِّت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي ؟!(١)

ونختم البحث بحديث رواه الشيخ يحيى البحراني عن النبيّ ، في كتابه ( الشهاب في الحِكم والآداب )

قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ثلاثةٌ تَخرِق الحُجبَ وتنتهي إلى ما بين يدي اللّه :

١ ـ صرير أقلام العلماء

٢ ـ وطء أقدام المجاهدين

٣ ـ صوت مغازل المُحسِنات ) (٢)

ــــــــــــــــ

(١) تفسير المراغي : ٢٩/٢٧

(٢) الشهاب في الحِكم والآداب : ٢٢

١٠٢

الفصل الخامس : القَسَمُ في سورة الحاقَّة

حلف سبحانه بما يُبصِر وبما لا يُبصِر ، قال سبحانه :( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (١)

تفسير الآيات :

قوله :( بما تُبصِرون ومالا تُبصِرون ) يعمّ ما سوى اللّه ؛ لأنّه لا يخرج عن قسمين : مُبصِر ، وغير مُبصِر ، فيشمل الدنيا والآخرة ، والأجسام والأرواح ، والإنس والجنّ ، والنِعم الظاهرة والباطنة ، كما يشمل الخالق والمخلوق ، فانّ الخالق داخل في قوله : ومالا تُبصِرون ، وعلى هذا الوجه ، فقد حلف سبحانه بعالم الوجود وصحيفته

ولكن استبعده السيِّد الطباطبائي قائلاً : بأنّه من البعيد ، [ وليس ] من أدب القرآن أن يجمع الخالق والمخلوق في صفٍّ واحد ، ويُعظِّمه تعالى وما صنعَ ، تعظيماً مُشترَكاً في عرضٍ واحد(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الحاقّة : ٣٨ـ ٤٣

(٢) الميزان : ١٩/٤٠٣

١٠٣

ولكن يُلاحَظ عليه : بأنّه سبحانه ربّما جمع بين نفسه والرسول ، وقال :( وَما نَقَمُوا إِلاّ أن أغناهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (١) ، وقوله سبحانه :( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمُؤمِنُون ) (٢) ، إلى غير ذلك من الآيات فلاحظ

وأمّا المراد من قوله : ( لا ) ، فقد سبق كلام المُفسّرين في توجيهه ، وقد اخترنا أنّ قوله : ( لا ) ردّ لكلامٍ مسبوق أو مقدَّر ، ثُمّ يبتدئ بقوله أُقسِم

لقد أقسم سبحانه بشيء يخصّ البصر دون سائر الحواس وقال :( فلا أُقسِمُ بِما تُبصِرون وما لا تُبصِرون )

هو أقسَمَ بما نُبصِر ، وما أقلَّه ، وأقسَمَ بما لا نُبصِر وما أكثره وأعظم خطره ، أقسَمَ الحقُّ سبحانه هذا القَسَم العظيم بما له علاقة بالبَصَر ، ولم يُقسِم بغيره ممّا هو محسوس ؛ ذلك لأنّه رغم كونه يُعطينا أوسع إحساس وأبعده ، وأسرعه بما يحيط بنا ، فانّه رغم ذلك لا يصِلنا منه إلاّ أقلّ القليل

هذا كلّه حول المُقسَم به ، وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله :( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، فالمُقسَم عليه مركَّب من أُمور إيجابيّة ، أعني : ( كونه قول رسول كريم ، وأنّه تنزيل من ربِّ العالمين ) ، وسلبية وهي : ( أنّ القرآن ليس بقول شاعرٍ ولا كاهن )

إنّما الكلام في ما هو المراد من قوله : ( رسول كريم ) ، وقد ذُكر هذا أيضاً في سورة التكوير ، قال سبحانه :( إِنَّهُ لَقولُ رَسُولٍ كَريم * ذي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرشِ مَكِين * مُطاعٍ ثَمَّ أَمين * وما صاحِبكُمْ بِمَجْنُون *وَلَقد رَآهُ بالأُفُق المُبِين * وَما هُوَ عَلى الغَيْبِ بِضَنِين *وَما هُوَ بِقَولِ شَيْطانٍ رَجِيم ) (٣)

ــــــــــــــــ

(١) التوبة : ٧٤

(٢) التوبة : ١٠٥

(٣) التكوير : ١٩ـ ٢٥

١٠٤

ولا شكّ أنّ المراد من( رسول ) في سورة التكوير هو أمين الوحي جبرائيل ، بشهادة وصفه بقوله : ( ذي قُوّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكين )

مضافاً إلى قوله :( وَلَقَدْ رَآهُ بالأُفُقِ الْمُبين ) ، فإنّ الضمير يرجع إلى رسول كريم ، كما أنّ قوله :( وَما هُوَ بِقَولِ شَيطانٍ رَجيم ) معناه : إنّما هو قول المَلَك ، فانّ الشيطان يقابل المَلَك

وأمّا المقام ، فيحتمل أن يراد منه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لأنّه وصفه بقوله :( لَيْسَ بِقَولِ شاعِرٍ وَلا كاهن ) ، والقوم كانوا يصفون محمّداً بالشِعر والكهانة ، ولا يصفون جبرائيل بهما

والغَرضُ المُتوخّى من عزوِ القرآن إلى رسول كريم هو : نفي كونه كلام شاعر أو كاهن ، ولا يُنافي ذلك أن يكون القرآن كلامه سُبحانه ، وفي الوقت نفسه كلام أمين الوحي ، وكلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لصحّة الإضافة إلى الجميع

فالقرآن كلامه سبحانه ؛ لأنّه فعله وهو الذي أنشأه ، وكلام جبرائيل ؛ لأنّه هو الّذي أنزله من جانبه سبحانه على قلب سيّد المُرسَلين ، وفي الوقت نفسه كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّه أظهره وبَيَّنه للناس ، ويكفي في النسبة أدنى مناسبة

وأمّا الصِلة فقد بَيّنها السيّد الطباطبائي بالنحو التالي ، وقال :

وفي اختيار ما يُبصِرون ومالا يُبصِرون للإقْسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة ، فإنّ النظام الواحد المُتشابِك أجزاؤه ، الجاري في مجموع العالم ، يقضي بتوحّده تعالى ، ومصير الكُلّ إليه ، وما يترتّب عليه من بعث الرُسل وإنزال الكتب ، والقرآن خير كتاب سماوي يَهدي إلى الحقّ في جميع ذلك ، وإلى طريقٍ مستقيم(١)

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ١٩/٤٠٣

١٠٥

وبتعبير آخر : إنّه سبحانه تبارك وتعالى حلفَ بعالم الغيب والشهادة ـ أي : بمجموع الخليقة والنظام السائد على الوجود الإمكاني ـ على وجود هدف مُشتَرك لهذا النظام ، وهو صيرورة الإنسان في هذا الكوكب إنساناً كاملاً ، مَظهراً لأسمائه وصفاته ، ولا يتمّ تحقيق ذلك الهدف إلاّ من خلال بعث الرُسل وإنزال الكتب ، والقرآن كتاب سماوي أُنزل إلى الإنسان

ثُمّ أنّه سبحانه دعم حِلفَه بالبُرهان على المُقسَم عليه ، فإنّ المُقسَم عليه عبارة عن : كون القرآن كلام رسول كريم ، أخذه من أمين الوحي ، وهو من اللّهِ سبحانه ، وليس من مُبدَعاته ومُتَقوَّلاته ؛ وإلاّ لعمَّه العذاب فوراً قال سبحانه :( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (١)

فإذا حالَفَ الرسول النجاح في الدعوة إلى رسالته ، والتفَّت حوله طوائف كثيرة ، فهو أوضح دليل على أنّه غير كاذب في دعوته ، وصادق في عَزوِها إلى اللّه ، وإلاّ لما أمهله اللّه سبحانه هذا المقدار من الزمان

وثَمَّة سؤال يُثار ، وهو : إنّ هذه الآيات توعد المُتنبّئ الكاذب على اللّه سبحانه بالهلاك ، فلو كان هذا مفاد الآية ، لزم تصديق كلّ مَن ادّعى النبوّة ولم يشمله العذاب والهلاك ، إذ لو كان كاذباً ، لأخذه سبحانه باليمين ، وقطع منه الوَتين ، فإذا لم يفعل ، فهذا دليل على صدق كلامه وفِعاله ، مع أنّه أمر لا يُمكن الالتزام به ؟!

والجواب : أنّ القرآن الكريم ليس بصدَد بيان أنّ كلّ مَن تقوَّل على اللّه سوف يَعمّه العذاب والهلاك ، وإنّما هو بصدَد بيان بعض الفئات المُتقوِّلة ، الّتي تدَّعي صِلتها باللّه سبحانه ، خلال معجزة قاهرة خلاّبَة للعقول ، فهذا النوع منالتقوّل يدخل تحت هذه القاعدة ، كما في ادّعاء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرسالة ، الّتي أرفقها بمُعجزة أبهرت العقول ، وأدهشت الألباب ، فخضع له العرب والعجم في ظلِّ هذه المُعجزة ، فلو تقوّلَ ـ والعياذ باللّه ـ يَعمّه العذاب ؛ لأنّه من القبيح أن تقع المُعجِزة على يدِ الكاذب

ــــــــــــــــ

(١) الحاقّة : ٤٤ـ ٤٧

١٠٦

فسيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومُضيّه قُدماً في الدعوة إلى ربّه حتّى وافته المنية ، أوضح دليل على أنّه صادق في رسالته ، وأنّ كلامه كلام ربّه ، وأنّه ليس بكاهن ولا شاعر

وأمّا قوله سبحانه :( لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين ) ، ففيه وجوه أربعة :

١ ـ أخذنا بيمينه كما يؤخَذ المُجرِم بيَده

٢ ـ أو سلبنا عنه القوَّة ، فانّ اليَدَ اليمنى شارة القوّة

٣ ـ أو لقَطعنا منه يدَه اليُمنى

٤ ـ أو لانتَقمْنا منه بقوَّة

والآية بمنزلة قوله سبحانه :( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) (١)

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٧٤ـ٧٥

١٠٧

الفصل السادس : القَسَم في سورة المُدّثِّر

حلف سبحانه في سورة المُدّثِّر بأُمور ثلاثة ، هي : القمر ، و الليل عند إدباره ، والصبح عند ظهوره

قال :( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ * كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) (١)

تَفسير الآيات :

حلف سبحانه في هذه الآيات بأُمور ثلاثة ، ترتبط بعضها بالبعض ، ويأتي الثاني عقب الأوّل

فأمّا القمر يتجلّى في اللّيل ، ولولا الليل لما كان لضوئه ظهور ، لأنّه يختفي نوره في النهار ؛ لتأثير الشمس ، فإذا تجلّى القمر في الليل شيئاً فشيئاً فيأتي نهاية الليل ، الّذي عبَّرَ عنه سبحانه :( إِذا أدْبر ) ، وتكون النتيجة طلوع الفجر ، الّذي عبَّر عنه سبحانه( والصُّبحِ إِذا أَسْفَر ) ، فكأنّه سبحانه يقول : أحلفُ بتَجلِّي القمر في وسط السماء ، الّذي يسير مع الليل شيئاً فشيئاً ، إلى أن يُدبِر ويُسفر الصُبح ، هذا مفاد الآيات الّتي تضمّنت المُقسَم به

ثُمّ إنّ الكُبَـر جمع الكُبرى ، وهي العُظمى ، أي إحدى العظائم ، وأمّا ما هو المراد من العظائم ، فسيوافيك بيانه عن قريب

ثُمّ إنّه سبحانه حلف في هذه الآيات بأُمور ثلاثة :

١ ـ القمر على وجه الإطلاق

٢ ـ الليل إذا أدبر ، أي : الليل عند انتهائه

٣ ـ الصبح حينما يُسفِر ويَتَجلّـى

ــــــــــــــــ

(١) المُدّثِّر : ٣١ـ ٣٧

١٠٨

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو عبارة عن قوله :( إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ )

والكلام في مرجع الضمير ، في قوله ( إنّها ) ، ففيه وجهان :

الأوّل : إنّ الضمير يرجع إلى ( سَقَر ) الواردة في الآيات المُتقدِّمة ، أعني قوله تعالى :( وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ * لا تُبقي وَلا تَذَر * لَواحَةٌ لِلْبَشَر * عَلَيها تِسْعَةُ عَشَر ) (١)

أي : أنّ سَقَر هي إحدى الدواهي الكُبرى ، فهي نذيرة للبشر ، ومُخوِّفة لمَن شاء منكم أن يتقدَّم في طاعة اللّه ، أو يتأخّر عنها بالمعصية

ولفظة ( سقر ) من المؤنّثات السماعيَّة ، وقد جاء ذكرها في قصيدة ابن الحاجب ، الّتي جمع فيها المؤنّثات السماعيّة في أحدى وعشرين بيتاً ، وقال :

وكذاك في كَبدٍ وفي كَرشٍ وفي

سَقَرٍ ومنها الحَربُ والنَعلان(٢)

الثاني : أنّ الضمير يرجع إلى الآيات في قوله سبحانه :( كَلاّ إِنَّهُ كانَ لآياتِنا عَنيداً ) ، وعلى هذا ، فالآيات القرآنيّة لإحدى الدواهي ، وهي النذيرة لمَن تقدَّم في مجال الطاعة أو تأخَّر ، لكن المُتقدِّم ينتفع دون المُتأخِّر

ــــــــــــــــ

(١) المُدّثِّر : ٢٧ـ٣٠

(٢) روضات الجنات : ٥/١٨٦

١٠٩

هذا كلّه حول المُقسَم به ، وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله :( إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ )

وأمّا الصلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه ، فعلى التفسير الثاني من الوضوح بمكان ، حيث أنّ القمر في الليل الدامس يهدي السائرين ، كما أنّ الصبح وطروء النهار يُبدِّد الظلام ويُظهر النور ، فناسب أن يحلف سبحانه بأسباب الهداية ، ومعادن النور ومظاهره ، بُغيَة إثبات أنّ القرآن إحدى المعاجز الكبرى الّتي تهدي البشر إلى سبيل الرشاد

وأمّا على التفسير الأوّل ، ورجوع الضمير إلى سَقر ، فالمناسبة خفيّة ، إلاّ أن يقال : بأنّ المُقسَم به ـ أي : القمر في وسط السماء ، وانجلاء الليل وطلوع الفجر ـ من آياته الكبرى ، كما أنّ سَقراً أيضاً كذلك

ولا يخفى أنّ القَسَم بالقمر جاء للتأكيد على عظمته ، فهو أقرب الأجرام السماوية للأرض ، وأقل حجماً منها ، يدور حول الأرض مرّة كلّ شهر ، وجاذبيّة القمر مع جاذبيّة الشمس هي سبب المدِّ والجَزْر

وتبلغ درجة حرارة جانب القمر المواجه للشمس ١٢٠ درجة مئويَّة ، أي أعلى من درجة غليان الماء ، ودرجة حرارة الجانب المظلم أقل من درجة تجمّد الماء بقدر يبلغ ١٥٠ درجة

كما أنّ سطحه صحارى وقفار ، تتناهض فيها البراكين الخامدة ، وجباله ضخمة عظيمة يبلغ ارتفاعها ٤٢ ألف قدم ، بزيادة تقرب من ١٣ ألف قدم عن أعلى جبل على الأرض ، وفوهات البراكين هائلة العظمة ، يبلغ قطر أكبرها١٠٠ ميل ، وجباله أقدم بكثير من سلاسل الجبال الأرضيّة بملايين السنين(١)

ــــــــــــــــ

(١) اللّه والعلم الحديث : ٢٧

١١٠

الفصل السابع : القَسَم في سورة القِيامة

حلف سبحانه في سورة القيامة بأمرين : ١ ـ يوم القيامة ، ٢ ـ النفس اللوامة ، وقال :

( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ) (١)

تفسير الآيات :

اختلف المُفسِّرون في كلمة ( لا ) على أقوال :(٢)

الأوّل : أنّ لا أُقسِم كلمة قَسَم ، وأنّ العرب تزيد كلمة لا في القَسَم ، كما قال امرؤ القيس :

لا وأبِيك ابنةَ العامـريِّ

لا يَدَّعي القـومُ أني أَفِر

الثاني : أن لا نافية ، ردّ لكلامٍ قد تقدَّم ، وجواب لهم ، وذلك هو المعروف في كلام الناس في محاوراتهم ، فإذا قال أحدهم : لا ، واللّه ما فعلت كذا قصدَ بقوله : ( لا ) ردّ الكلام السابق ، فهم لمّا أنكروا البعث ، قيل لهم : ليس الأمر على ما ذكرتم ، ثُمّ أقسَمَ بيوم القيامة وبالنفس اللوامة أنّ البعث حَقّ

ــــــــــــــــ

(١) القيامة : ١ـ ٦

(٢) مرّ الكلام فيه أيضاً ، لاحظ : ص : ٨١ .

١١١

الثالث : أنّها للنفي ، على معنى : إنّي لا أعظّمه بأقسامي به حقّ إعظامه ، فانّه حقيق بأكثر من هذا ، وهو يستحقّ فوق ذلك

فعلى المعنى الأوّل ( لا ) زائدة ، ولكنّه بعيد في كلام ربّ العزّة ، والمُتعيّن أحد المعنيين الأخيرين

أمّا المُقسَم به ، فهو أمران :

أ ـ يوم القيامة

ب ـ النفس اللوامة

أمّا الأوّل : فهو يوم البعث الّذي يجمع اللّه فيه الناس على صعيد واحد ، وإنّما سُمِّي يوم القيامة ، لأجل أنّه يقوم به الحساب ، قال سبحانه ـ حاكياً عن إبراهيم ـ :( رَبَّنا اغْفِر لي وَلِوالِدَيّ وللمُؤمِنينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِساب ) (١)

وأنّه يوم يقوم به الأشهاد ، قال سبحانه :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) (٢)

وأنّه يوم يقوم فيه الروح ، قال سبحانه :( يَومَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلائِكةُ صَفّاً ) (٣)

وأنّه يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، كما قال سبحانه :( يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِين ) (٤) إلى غير ذلك من الوجوه الّتي توضِّح وجه تسمية اليوم بالقيامة

وقد جاء يوم القيامة في القرآن سبعين مرّة ، فلم تستعمل القيامة إلاّ مضافة إلى يوم

ــــــــــــــــ

(١) إبراهيم : ٤١

(٢) غافر : ٥١

(٣) النبأ : ٣٨

(٤) المُطفّفين : ٦

١١٢

وأمّا الثاني : أي النفس اللوامة ، صيغة مبالغة من اللوم ، وهي عَدل الإنسان بنسبته إلى ما فيه لوم ، يقال : لِمْتَه فهو مَلوُم ، قال سبحانه :( فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ ) (١) ، إلى غير ذلك من الآيات الّتي ورد فيها اللوم وما اشتقَّ منه

واختلف المُفسِّرون في المراد من النفس اللوامة على أقوال :

الأوّل : هي نفس آدم الّتي لم تزل تتلوّم على فعلها الّذي خرجت به من الجنّة والظاهر أنّ هذا القول من قبيل تطبيق الكُلِّي على مصداقه ، وليس هناك قرينة على أنّها المراد فقط

الثاني : مُطلَق النفس ، إذ ليس من نفس برَّة ولا فاجرة إلاّ وهي تلوم نفسها يوم القيامة ، إن كانت عملتْ خيراً قالت : هلا ازدَدتُ ، وإن كانت عملت سوءاً قالت : يا ليتني لم أفعل

الثالث : وربّما تختصّ بالنفس الكافرة الفاجرة

الرابع : عكس ذلك ، والمراد نفس المؤمن الّتي تلومه في الدنيا على ارتكاب المعصية ، وتُحفِّزه على إصلاح ما بدا منه

والظاهر أنّ القول الثاني هو المُتعيِّن ، أي : مُطلَق النفس الّتي تلوم صاحبها ، سواء أكان لأجل فوت الخير أم ارتكاب الشرِّ

وعلى كلّ حال ، فالآية تحكي عن المنزلة العظيمة الّتي تتمتَّع بها النفس اللَوامة ، إلى حدّ أقسَمَ بها سبحانه ، وإلاّ لما حلف بها

وأمّا المُقسَم عليه فمحذوف ، أي : لتُبْعثُنَّ

وأمّا الصِلة بين المُقسَم عليه ـ أعني قوله : لتبعثن ـ والحلف ( بالنفس اللوامة ) ، فهي ظهور اللوم من هذه النفس يوم القيامة ، فإنّ نفس الكافر لا تلومه في الدنيا إلاّ قليلاً ، في حين يتجلّـى اللوم ويتجسّد يوم القيامة أكثر فأكثر

ــــــــــــــــ

(١) إبراهيم : ٢٢

١١٣

وأمّا كرامة النفس اللوامة فواضحة جداً ؛ لأنّها تردع الإنسان عن اقتراف الذنوب ، ولا يمكن خداعها ، وهي يقظة تزجر الإنسان دائماً بالنسبة إلى ما عمله وقصَده

إنّ إبراهيم لمّا حطّمَ الأصنام وجعلها جذاذاً ، إلاّ كبيراً لهم لعلّ القوم يرجعون إليه ويرتدعون عن عقيدتهم بإلوهيتها ، فلمّا رجعوا ووقفوا على أنّه عمل إبراهيم ، أحضروه للاقتصاص منه ، وخاطبوه بقولهم :( أأنتَ فعَلْتَ هذا بآلهتنا ) ، فأجابهم إبراهيم :( بل فَعَلَهُ كَبيرهُم ) ، ثُمّ أمرهم بسؤاله عن الجريمة الّتي ارتكبها ، فبُهِتَ الجَمعُ من هذا السؤال ، وظلّوا صامتين لعجزهم عن الإجابة

فعندئذ تبين لهم أنّ مثل هذا الصنم أحطّ من أن يُعبَد ، فاستيقظ وجدانهم ، وأخذت نفوسهم تلومهم على النهج الّذي اختطّوه ، بل الآلهة الّتي عبدوها ، حيث وجدوا أنّها غير خليقة بالعبادة والخضوع ، وهذا ما يحكي عنه القرآن بقوله :( فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ) ، أي : خاطبوا أنفسهم بالظلم ، فكأنّه قال بعضهم لبعض : أنتم الظالمون ، حيث تعبدون مالا يقدر عن الدفع عن نفسه ، وما نرى الأمر إلاّ كما قال هذا الفتى

هذه هي النفس اللوامة الّتي تظهر بين الحين والآخر ، وتزجر الإنسان عن ارتكاب الذنوب

وهذا الّذي يُسمِّيه علم النفس في يومنا هذا بالوجدان الأخلاقي ، ويصِفون الوجدان : ( مَحكمَة لا تحتاج إلى قاضٍ سوى النفس ) ، وهي الّتي تقوم بتأسيس المحكمة ، وتُشخِّص المُجرم ، وتُصدر الحكم بلا هوادة ، ودون أيّ تهاون

١١٤

وفي الآيات القرآنية الأُخرى إشارة إلى تلك المرتبة من النفس ، يقول سبحانه :( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (١)

يقول الإمام الصادق في تفسير الآية :( بَيِّن لها ما تأتي وما تَتْرك ) (٢)

إنّ اللوم والعزم فرع معرفة النفس بخير الأُمور وشرّها ، فلو لم تكن عالمة من ذي قبل ، لم تصلح للوعظ ولا للزجر ، ولأجل ذلك يقول سبحانه :( أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَينَين * وَلِساناً وَشَفَتَيْن * وَهَدَيْناهُ النَّجْدَين ) (٣)

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :( هداه إلى نجد الخيرِ والشرِّ ) (٤)

ثُمّ إنّ مراتب الزجر تختلف حسب صفاء النفس وكدورتها وابتعادها عن ممارسة الشرِّ ، يقول الإمام الصادقعليه‌السلام :( إنّ اللّه إذا أراد بعبدٍ خيراً ، طيَّبَ روحه ، فلا يسمع معروفاً إلاّ عرفه ، ولا مُنكَرَاً إلاّ أنكرَه ) (٥)

نعم ، ما حَبَاه اللّه سبحانه لكلّ إنسانٍ ، من النفس اللوامة ، كرامة ونعمة عظيمة ، حيث يعرف على ضوئها الحسن من القبيح ، والخير من الشرّ ، ولكنّه لو مارس الشرّ مدّة لا يُستهان بها ، ربّما تعوق النفس عن القضاء في الخير بالخير ، والشرّ بالشرّ ، بل ربّما يرى الشرّ خيراً والخير شراً ، وذلك فيما إذا زاوله الإنسان كثيراً ، بنحو تركَ بصَماته على روحه ونفسه ، وقضائه وتفكيره

وقد أشار سبحانه إلى أنّ قبح وأدِ البنات وقتل الأولاد ـ لأيّ غاية من الغايات كانت ـ أمر يدركه كلّ إنسان ، ولكن ترى أنّ بعض المشركين يستحسن عمله هذا ، ويعدّه من مفاخره

ــــــــــــــــ

(١) الشمس : ٧ـ ٨

(٢) الكافي : ١/١٦٣

(٣) البلد : ٨ ـ ١٠

(٤) الكافي : ١/١٦٣

(٥) إثبات الهداة : ١/٨٧

١١٥

وكراماته ، يقول سبحانه : ( وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِكَثيرٍ مِنَ الْمُشْرِكينَ قَتْلَ أَولادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ ) (١)

فقد أثّر الشركاء في عقول الوثنيِّين وتفكيرهم ، فصار القبيح حسناً ، والشرّ خيراً ، يقول سبحانه :( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرآهُ حَسَناً فَإنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاء ) (٢)

وعلى هذا ، فليست النفس اللوامة باقية على صفاتها وقضائها الحقّ في جميع الظروف والحالات ، بل ربّما يكون قضاؤها على خلاف ما هو الحقّ ، لا سيّما في مَن يُزاول الجُرم طيلة عُمُره ، فربّما يعود في آخر عُمُره يتنكَّر لجميع المُقدّسات ، ويسيطر فعله القبيح على آفاق فكره وإيمانه ، يقول سبحانه :( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ) (٣)

مراتِب النَفْس في الذِكر الحَكيم :

إنّ القرآن الكريم جعل للنَفْسِ الإنسانيّة مراتب :

١ ـ النفس الأمَّارَة ، ٢ ـ النفس اللَوّامَة ، ٣ ـ النفس المُطمئنَّة ، ٤ ـ النفس الراضية المَرضيَّة

وإليك وصف هذه المراتب بنحوٍ موجَز :

١ ـ النَفس الأمّارة :

إنّ النفس بطبعِها تدعو إلى مُشتهياتها من السيّئات ، فليس للإنسان أن يُبرِّئ

ــــــــــــــــ

(١) الأنعام : ١٣٧

(٢) فاطر : ٨

(٣) الروم : ١٠

١١٦

نفسه من الميل إلى السوء ، وإنّما له أن يكفّ عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشرّ ، وذلك برحمة من اللّه سبحانه يقول سبحانه ـ نقلاً عن يوسف عليه‌السلام ـ : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١)

فما أَبرَأ يوسف نفسَه عن أمرها بالسوء ، وإنّما كفَّها عن ارتكاب السوء ، لاَنَّ النفس طُبِعَت على حُبِّ الشهوات الّتي تدور عليها رحى الحياة

والأخلاق جاءت لتعديل ذلك الميل ، وجعله في مسير السعادة ، وحفظه عن الإفراط و التفريط

فالمادّية نادت بالانصياع لرغبات اللَذاتِ مهما أمكن ، والرُهبانيّة نادت بكَبحِ جُماحِ اللَذات والشهوات ، والعزوف عن الحياة واللَوذ في الكهوف والأديرة ، ولكنّ الإسلام راح يدعو إلى منهج وسط بينهما ، ففي الوقت الّذي يدعو إلى أكلِ الطيّبات ويُندّد بمَن يُحرّمها ، ويقول :( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة اللّهِ الّتي أَخْرجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيّباتِ مِنَ الرِّزْق ) (٢) ، يأمر بكَبْحِ جُماح النفس عن ارتكاب المعاصي والسيئات ، الّتي تُوجب الفوضى في المجتمع ، وتَسوْقه إلى الانحلال الأخلاقي

٢ ـ النَفس اللَوّامة :

النفس اللَوامة هي : الضمير الّذي يُؤنِّب الإنسان على ما اقترفه من السيّئات و الآثام ، خصوصاً بعد ما تفيق من سكراتها ، فيجد نفسه تنحدر في دوّامة النَدَمِ على ما ارتكبه ، وإنابة إلى الحقِّ

وهذا يدلّ على أنّ النفس ممزوجة بالميل إلى الشهوات ، وفي الوقت نفسه فيها مَيل إلى الحقِّ والعَدل ، ولكلٍّ تجلٍّ خاصّ ، فإنّ غَلَبة الشهوات يحول دون ظهور نور العقل ، فيقترف المعاصي والآثام ، ولكنّه ما أن تَخمُد شهوته ، حينها يصفو أمامه جمال الحياة ، وتنكشف مضرّات اللَذة ، فتستيقظ النفس اللَوامة وتأخذ باللوم والعذل ، إلى حدٍّ ربما تدفع بصاحبها إلى الانتحار ، لعدم تحمّله وطأة تلك الجريمة

ــــــــــــــــ

(١) يوسف : ٥٣

(٢) الأعراف : ٣٢

١١٧

وهذه النفس حيّة يقظة ، لا تتصدع بكثرة الذنوب ، وإن كانت تضعف بمُمارَستها

٣ ـ النفس المُطمئنَّة :

وهي النفس الّتي توصلها النفس اللوّامة إلى حدٍّ لا تَعصِف بها عواصف الشهوة ، وتطمئنّ برحمة الرَبّ ، وتحسّ بالمسؤوليّة الموضوعة على عاتقها أمام اللّه وأمام المجتمع ، يقول سبحانه :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّة ) (١) ، فصاحب هذه النفس يمتلئ بالسرور والفرح عند الطاعة ، وتجد في صميمها لذَّة للطاعة ، وحلاوة للعبادة لا يمكن وصفها بالقلم واللسان

وبعبارة أُخرى : النفس المُطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربِّها وترضى بما رضي به ، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خيرٍ أو شرٍّ ، أو نفعٍ أو ضرّ ، ويرى الدنيا دار مَجاز ، وما يستقبله فيها من غنى أو فَقر ، أو أيّ نفع وضرّ ، ابتلاءً وامتحاناً إلهيّاً ، فلا يدعوه تواتر النِعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد ، والعلو والاستكبار ، ولا يُوقِعه الفقر والفقدان في الكُفرِ وترك الشُكر ، بل هو في مُستقَرّ من العبوديّة ، لا

ــــــــــــــــ

(١) الفجر : ٢٧ـ ٢٨

١١٨

ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط (١)

وهناك كلمة قيّمة للحكيم محمد مهدي النراقي حول واقع النفوس الثلاث ، يقول :

والحقّ أنّها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها ، فإذا غلبت قوّتها العاقلة على الثلاثة الأُخر ، وصارت مُنقادة لها مقهورة منها ، وزال اضطرابها الحاصل من مُدافَعتِها ، سُمِّيَت ( مُطمَئنَّة ) ؛ لسكونها حينئذٍ تحت الأوامر والنواهي ، وميلها إلى ملائماتِها الّتي تقتضي جِبلتها

وإذا لم تَتُمّ غلبتها ، وكان بينها تنازع وتدافع ، وكلّما صارت مغلوبَة عنها بارتكاب المعاصي حصل للنفس لوم وندامة ، سُمِّيت ( لوَّامَة )

وإذا صارت مغلوبة منها ، مُذعنة لها من دون دفاع ، سُمّيَت ( أمّارَة بالسوء ) ؛ لأنّه لمّا اضمحلَّت قوَّتها العاقلة ، وأذعنت للقوى الشيطانيّة من دون مدافعة ، فكأنّما هي الآمرة بالسوء(٢)

٤ ـ النَفس الراضية المَرضيّة :

وهي النفس المُتكامِلة الراضية من ربّها رِضا الربّ منها ، واطمئنانها إلى ربِّها يستلزم رضاها بما قدّر وقضى ، تكويناً أو حكم به تشريعاً ، فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية ، وإذا رضي العبد من ربِّه ، رضي الربّ منه ، إذ لا يُسخِطه تعالى إلاّ خروج العبد من زيِّ العبوديَّة ، فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضا ربّه ، ولذا عقَّب قوله : ( راضِية ) بقوله : ( مَرضيّة )

وقوله تعالى :( فَادْخُلِي فِي عِبادي * وَادْخُلي جَنّتي ) تفريع على قوله :( ارجعي إِلى رَبِّكِ ) ، وفيه دلالة على أنّ صاحب النفس المُطمئنّة في زُمرة عباد اللّه ، حائز مقام العبوديّة ، وذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربِّه انقطع عن دعوى الاستقلال ، ورَضى بما هو الحقِّ من ربِّه ، فرأى ذاته وصفاته وأفعاله مُلكاً طلقاً لربِّه ، فلم يرد فيما قدَّر وقضى ، ولا فيما أمر ونهى ، إلاّ ما أراده ربّه ، وهذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ، ففي قوله :( فَادْخُلي في عِبادي ) تقرير لمقام عبوديّتها

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ٢٠/٢٨٥

(٢) جامع السعادات : ١/٦٣ـ ٦٤

١١٩

وفي قوله :( وادْخُلي جَنَّتي ) تعيين لمُستقرّها ، وفي إضافة الجنّة إلى ضمير المُتكلّم تشريف خاصّ ، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه (تعالَى وتقدَّس) إلاّ في هذه الآية(١)

هذا كلّه حول المُقسَم به

وأمّا المُقسَم عليه : فهو محذوف معلوم بالقرينة ، أي : ( لتَبْعَثُنّ ) ، وإنّما حُذِف للدلالة على تفخيم اليوم وعَظَمَةِ أمرِه ، قال تعالى :( ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ) (٢) ، وقال :( إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخفِيها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى ) (٣) ، وقال :( عَمّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَبَأ العَظيم ) (٤) (٥)

وأمّا وجه الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه فواضح ، فإنّ الإنسان إذا بُعث يوم القيامة ، يلوم نفسه لأجل ما اقترف من المعاصي ، إذ في ذلك الموقف الحَرجِ تنكشف الحُجب ، ويقف الإنسان على ما اقترف من المعاصي والخطايا ، فيندم على ما صدر منه قال سبحانه :( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (٦) ، وقال سبحانه :( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٧)

وبالجملة ، فيوم القيامة يوم الندم والملامَة ، ولاتَ حين مَناص

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ٢٠/٢٨٦

(٢) الأعراف : ١٨٧

(٣) طه : ١٥

(٤) النبأ : ١ـ٢

(٥) الميزان : ٢٠/١٠٤

(٦) يونس : ٥٤

(٧) سبأ : ٣٣

١٢٠