الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم 11%

الأقسام في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 173

الأقسام في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50253 / تحميل: 7623
الحجم الحجم الحجم
الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الفصل الثامن : القَسَمُ في سورةِ المُرسَلات

لقد حلفَ سبحانه بأوصاف الملائكة وقال :

أ ـ( وَالمُرسَلاتِ عُرْفاً )

ب ـ( فَالعاصِفاتِ عَصْفاً )

ج ـ( وَالنّاشِراتِ نَشْراً )

د ـ( فَالفارِقاتِ فَرْقاً )

هـ ـ( فَالْمُلْقِياتِ ذِكراً * عُذْراً أو نُذْراً * إِنَّما تُوعَدونَ لَواقعٌ ) (١)

حلفَ سبحانه في هذه الآيات بأُمور يعبّر عنها بـ : ( المُرسَلات ، فالعاصِفات ، والناشرات ، فالفارقات ، فالملقيات ذكراً ، عُذراً أونُذراً )

وقد اختلفت كلمة المُفسّرين في تفسير هذه الأقسَام ، وقد غلب عليهم تفسيرها بالرياح المُرسلة العاصفة الناشرة ، بَيْدَ أنّ وحدة السِياق تبعثنا إلى تفسيرها بأمر واحد تنطبق عليه هذه الصفات ، فنقول :

١ ـ( المُرْسَلاتِ عُرفاً ) أي : أُقسِم بالجماعات المُرسَلات من ملائكة الوحي ، والعُرْف ـ بالضمِّ فالسكون ـ الشَعرُ الثابت على عُنق الفرس ، وتُشبّه به الأُمور إذا تتابعت ، يقال : جاءُوك كعُرفِ الفَرس ، يقول سبحانه :( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ

ــــــــــــــــ

(١) المُرسَلات : ١ ـ ٧

١٢١

بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) (١) ، ومع ذلك فقد فُسّر بالرياح المُرسلة المُتتابعة

٢ ـ( فَالعاصِفاتِ عَصْفاً ) والعصف هو سرعة السَير ، والريح العاصفة بمعنى سرعة هبوبها ، والمراد : أُقسم بالملائكة الّذين يُرسلون مُتتابعين فيُسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة

ومع ذلك فُسّر بالرياح الشديدة الهبوب

٣ ـ( وَالنّاشِراتِ نَشْراً ) قسم آخر ، والمراد : نشر الصحيفة والكتاب ، والمعنى : أُقسم بالملائكة الناشرين للصحف ، المكتوب عليها الوحي للنبي ليَتلقّاه ، ومع ذلك فقد فُسِّرت بالرياح الّتي تنشر السَحاب نشراً للغيث كما تلقحه للمطر

٤ ـ( فَالفارِقات فَرقاً ) .المراد به : الملائكة الّذين يفرِّقون بين الحقّ والباطل ، والحلال والحرام ، وذلك لأجل حمل الوحي المُتكفّل ببيان الحقّ والباطل ، ومع ذلك فقد فُسّر بالرياح الّتي تفرّق بين السحاب فتُبدِّده

٥ ـ( فَالْمُلْقياتِ ذِكراً ) المراد به : الملائكة ، تُلقِي الذكر على الأنبياء ، وتلقيه الأنبياء إلى الأُمم

وعلى ذلك ، فالمراد بالذكر هو : ( القرآن ) ، يقرءونه على النبيّ ، أو مُطلَق الوحي النازل على الأنبياء المَتلوّ عليهم

ثُمّ يُبِّن أنّ الغاية من إلقاء الوحي أحد الأمرين : إمّا الإعذار أو الإنذار ، والإعذار : الإتيان بما يصير به معذوراً ، والمعنى : إنّهم يُلقون الذكر ليكون عُذراً لعباده المؤمنين بالذكر ، وتخصيصاً لغيرهم

ــــــــــــــــ

(١) النحل : ٢

١٢٢

وبعبارة أُخرى ، يُلقون الذكر ليكون إتماماً للحُجّة على المُكذِّبين ، وتخويفاً لغيرهم ، هذا هو الظاهر من الآيات

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله :( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِع ) ، وما موصولة ، والخطاب لعامّة البشر ، والمراد : إنّما توعدون يوم القيامة ، بما فيه من العقاب والثواب ، أمر قطعي وواقع وإنّما عبَّر بواقع دون كائن ، لأنّه أبلغ في التحقّق

ثُمّ إنّ الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه واضحة ؛ لأنّ أهمّ ما تحمله الملائكة وتلقيه هو الدعوة إلى الإيمان بالبعث والنشور ، ويؤيّد ذلك قوله :( عُذراً أو نُذراً ) ، أي إتماماً للحُجّة على الكُفّار وتخويفاً للمؤمنين ، كلّ ذلك يدلّ على معادٍ قطعيّ الوقوع ، يحتجّ به على الكافر ، ويجزي به المُؤمن

وهناك بيان للعلاّمة الطباطبائي ، حيث يقول : من لطيف صُنعة البيان في هذه الآيات الستِّ أنّها مع ما تتضمّن الأقسام لتأكيد الخبر الّذي في الجواب ، تتضمّن الحُجّة على مضمون الجواب ، وهو وقوع الجزاء الموعود ، فإنّ التدبير الربوبي الّذي يُشير إليه القَسَم ، أعني : إرسال المُرسَلات العاصفات ، ونشرها الصحف وفَرقِها ، وإلقاءها الذِكر للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تَدبيرٌ لا يتمّ إلاّ مع وجود التكليف الإلهي ، والتكليف لا يتمّ إلاّ مع تَحتّم وجود يوم معه للجزاء ، يجازي فيه العاصي والمطيع من المُكلّفين

فالّذي أقسَمَ تعالى به من التدبير ، لتأكيد وقوع الجزاء الموعود ، هو بعينه حُجّة على وقوعه ، كأنّه قيل : اُقسِم بهذه الحُجّة أنّ مدلولها واقع(١)

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ٢٠/١٤٧

١٢٣

الفصل التاسع : القَسَمُ في سورة النازعات

حلفَ سبحانه بأوصاف الملائكة خمس مرّات ، وقال :

( وَالنّازِعـاتِ غَرْقــاً )

( وَالنّاشِطاتِ نَشْـطاً )

( وَالسّابِحاتِ سَبْحـاً )

( فَالسّابِقـاتِ سَبْقــاً )

( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرِّاجِفَةُ * تَتْبَعُها الرّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَومَئذٍ واجِفَةٌ * أَبْصارُها خاشِعَةٌ ) (١)

حلفَ سبحانه في هذه السورة بطوائف وصفها بـ : النازعات ، الناشطات ، السابحات ، السابقات ، المُدبِّرات

النازعات : من النَزْعِ ، يُقال : نَزَعَ الشيء ، جذبه من مَقرِّه ، كنزعِ القوس عن كنانته

والناشطات : من النَشْطِ وهو النزع أيضاً ، ومنه حديث أُمّ سلمة : ( فجاء عمّار ـ وكان أخاها من الرضاعة ـ ونشط زينب من حجرها ) ، أي : نَزَعها

ونشطَ الوحشُ من بلد إلى بلد ، إذا خرج

ــــــــــــــــ

(١) النازعات : ١ ـ ٩ .

١٢٤

والسابحات : من السَبح السريع في الماء وفي الهواء ، ويُقال : سَبَحَ سَبْحاً وسِباحَة ، واستعير لمَرِّ النجوم في الفلك ، ولجَري الفرس

والسابقات : من السَبق

والمُدبِّرات : من التدبير

وأمّا الغَرق ، اسم أُقيم مقام المصدر ، وهو الإغراق ، يُقال : غَرِقَ في النزع ، إذا استوفى في حدِّ القوس وبالغ فيه

هذه هي معاني الألفاظ ، وأمّا مصاديقها ، فيحتمل أن تكون هي الملائكة ، فهي على طوائف بين نازع وناشط وسابح وسابق ومُدبِّر ، قال الزمخشري : أقسَمَ سبحانه بطوائف الملائكة الّتي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف الّتي تنشطها ، أي تخرجها ، وبالطوائف الّتي تسبح في مُضيّها ، أي تسرع فتسبق إلى ما أُمروا به ، فتُدبِّر أمراً من أُمور العباد ، ممّا يصلحهم في دينهم أو دنياهم(١)

والمُقسَم عليه محذوف ، وهو ( لتُبعَثنَّ ) ، يدلّ عليه ما بعده من ذكر القيامة

ولا يخفى أنّ الطائفة الثانية على هذا التفسير نفس الطائفة الأُولى ، فالملائكة الّذين ينزعون الأرواح من الأجساد ، هم الّذين ينشطون الأرواح ويخرجونها ، ولكن يمكن التفريق بينهما ، بأنّ الطائفة الأُولى هم الموكّلون على نزع أرواح الكُفّار من أجسادهم بقَسوة وشدّة ، بقرينة قوله غرقاً ، وقد عرفت معناه ، وأمّا الناشطات ، هم المُوكلون بنزع أرواح المؤَمنين برِفْقٍ وسهولة

والسابحات هم الملائكة الّتي تقبض الأرواح ، فتُسرِع بروح المؤَمن إلى الجّنة ، وبروح الكافر إلى النار ، والسَبح الإسراع في الحركة ، كما يقال للفَرسِ : سابح ، إذا أسرع في جَريه

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٣/٣٠٨

١٢٥

والسابقات وهم ملائكة الموت ، تسبق بروح المؤَمن إلى الجنّة ، وبروح الكافر إلى النار

فالمُدبِّرات أمراً ، المراد مطلَق الملائكة المُدبّرين للأُمور ، ويمكن أن يكون قِسم من الملائكة ، لكلّ وظيفة يقوم بها ، فعزرائيل مُوكّل بقبض الأرواح ، وغيره موكَّل بشيء من التدبير

ثُمّ إنّ الأشدَّ انطباقاً على الملائكة هو قوله :( فالمُدَبِّراتِ أمْراً ) ، وهو قرينة على أنّ المراد من الأخيرين هم الملائكة

وبذلك يُعلَم أنّ سائر الاحتمالات الّتي تعجّ بها التفاسير ، لا تلائم السياق ، فحِفظُ وحدة السياق يدفعنا إلى القول بأنّهم الملائكة

وبذلك يتّضح ضعف التفسير التالي :

المراد بالنازعات : الملائكة القابضين لأرواح الكفّار ، وبالناشطات : الوحش ، وبالسابحات : السفن ، وبالسابقات : المنايا ، تسبق الآمال ، وبالمُدبّرات : الأفلاك

ولا يخفى أنّه لا صِلة بين هذه المعاني وما وقع جواباً للقَسَم ، وما جاء بعده من الآيات الّتي تذكر يوم البعث وتحتجّ على وقوعه

والآيات شديدة الشَبَه سياقاً بما مرّ في مفتتح سورة الصافّات والمُرسَلات ، والظاهر أنّ المراد بالجميع هم الملائكة

يقول العلاّمة الطباطبائي : وإذ كان قوله : ( فالمُدبّرات أمْراً ) مُفتتحاً بفاء التفريع ، الدالّة على تفرّع صفة التدبير على صفة السبق ، وكذا قوله :( فَالسّابِقاتِ سَبْقاً ) مقروناً بفاء التفريع الدالّة على تفرع السبقِ على السبح ، دلّ ذلك على مُجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث :( وَالسّابِحاتِ سَبحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً *

١٢٦

فَالمُدبِّراتِ أَمْراً ) ، فمدلولها أنّهم يُدبّرون الأمر بعدما سبقوا إليه ، ويسبقون إليه بعد ما سبحوا ـ أي أسرعوا إليه عند النزول ـ ، فالمراد بالسابحات والسابقات هنّ المُدبّرات من الملائكة ، باعتبار نزولهم إلى ما أُمروا بتدبيره (١)

تدبير الملائكة :

إنّ القرآن الكريم يُعرِّف اللّه سبحانه هو المُدبِّر ، والتوحيد في التدبير من مراتبه ، فلَه الخلق والتدبير ، ولكنّ هذا لا ينافي أن يكون بينه سبحانه وبين عالم الخلق وسائط في التدبير ، يُدبِّرون الأُمور بإرادته ومشيئته ، ويؤدُّون علل الحوادث وأسبابها في عالم الشهود ، والآيات الواردة حول تدبير الملائكة كثيرة ، تدلّ على أنّهم يقومون بقبض الأرواح وإجراء السؤال ، وإماتة الكلّ بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ، ووضع الموازين والحساب ، والسوق إلى الجنّة والنار

كما أنّهم وسائط في عالم التشريع ، حيث ينزلون مع الوحي ، ويدفعون الشياطين عن المداخلة فيه ، وتسديد النبي وتأييد المؤمنين

وبالجُملة هم :( عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون ) .(٢)

فاللّه سبحانه يجري سُنَنه ومشيئته بأيديهم ، فيقبض الأرواح بواسطتهم ، ويُنزِل الوحي بتوسيطهم ، وليس لواحد منهم في عملهم أيّ استقلال واستبداد ، وفي الحقيقة جنوده سبحانه يقتفون أمره(٣)

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في حقّ الملائكة :( مِنْهُمْ سُجُودٌ لا

ــــــــــــــــ

(١) لميزان : ٢٠/١٨١

(٢) الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧

(٣) الميزان : ٢٠/١٨٨ ، نقل بتلخيص

١٢٧

يَرْكَعُونَ ، وَرُكُوعٌ لا يَنْتَصِبُونَ ، وَصَافُّونَ لا يَتَزَايَلُونَ ، وَمُسَبِّحُونَ لا يَسْأَمُونَ ، لا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَلا سَهْوُ الْعُقُولِ ، وَلا فَتْرَةُ الأَبْدَانِ وَلا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ ، وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَأَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ ، وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ ، وَمِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَالسَّدَنَةُ لأَبْوَابِ جِنَانِهِ ، وَمِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ ، وَالْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ ، وَالْخَارِجَةُ مِنَ الأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ ، وَالْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ ، نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ ، مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ ، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ وَأَسْتَارُ الْقُدْرَةِ ، لا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ وَلا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ ، وَلا يَحُدُّونَهُ بِالأَمَاكِنِ وَلا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِر ) (١)

وقد عرفت أنّ المُقسَم عليه هو كـ ( تُبْعَثنَّ ) ، وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه هو ما قدَّمناه في الفصل السابق ، وهي أنّ الملائكة هم وسائط التدبير وخلق العالم ، وتدبيره لم يكن سُدى ولا عبثاً ، بل لغاية خاصّة ، وهو عبارة عن بعث الناس ومحاسبتهم وجزائهم بما عملوا

ــــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ١٩ ـ ٢٠ ، الخطبة الأولى

١٢٨

الفصل العاشر : القًسَمُ في سورة التكوير

قد حلف سبحانه في سورة التكوير بالكواكب بحالاتها الثلاث ، مُضافاً إلى الليل المُدبِر ، والصبح المُتنفِّس ، وقال :

( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوارِ الكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ * مطاعٍ ثَمَّ أَمِين ) (١)

تفسير الآيات :

أشار سبحانه إلى الحلف الأول ، أي الحلف بالكواكب بحالاتها الثلاث ، بقوله :

الخُنَّس ، الجَوار ، الكُنَّس

كما أشار إلى الحلف بالليل إذا أدبر ، بقوله :( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَس )

وإلى الثالث ، أي الصبح المُتنفّس ، بقوله :( والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّس )

وجاء جواب القَسَم في قوله :( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم ) ، فوصف الرسول بصفات خمس : كريم ، ذي قوّة ، عند ذي العرش مَكين ، مُطاع ، ثَمّ أمين

فلنرجع إلى إيضاح الأقسام الثلاثة ، ثُمَّ نُعرِّج إلى بيان الرابطة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه

أمّا الحلف الأوّل ، فهو رهن تفسير الألفاظ الثلاثة

فقد ذكر سبحانه أوصافاً ثلاثة :

ــــــــــــــــ

(١) التكوير : ١٥ ـ ٢١

١٢٩

الأوّل : الخُنَّسْ : وهو جمع خَانِس ، كالطُلَّب جمع طالِب ، فقد فسَّره الراغب في مفراداته بالمُنقبِض ، قال سبحانه :( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الخَنّاس ) أي : الشيطان الّذي يَخنس ، أي ينقبِض إذا ذُكِر اللّه تعالى

وقال تعالى :( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس ) ، أي : بالكواكب الّتي تَخنس بالنهار

وقيل : الخُنَّس من ( زُحَل ، والمُشتري ، والمرّيخ ) ؛ لأنّها تخنس في مجراها ، أي ترجع

وأخنستُ عنه حقّه ، أي أخّرْتُه(١)

فاللفظ هنا بمعنى الانقباض أو التأخّر ، ولعلّهما يرجعان إلى معنى واحد ، فانّ لازم التأخّر هو الانقباض

الثاني : الجَوَار : جمع جارية ، والجَري السير السريع ، مُستعار من جَريِ الماء

قال الراغب : الجَري ، المَرّ السريع ، وأصله كمَرِّ الماء

قال سبحانه :( وَمِنْ آياتِهِ الجوارِ فِي البَحْرِ كالأعْلام ) (٢) ، أي : السفينة الّتي تجري في البحر

الثالث : الكُنَّسْ : جمع كَانِس ، والكُنوس : دخول الوحش ـ كالظبي والطير ـ كَناسه ، أي بيته الّذي اتَّخذه لنفسه واستقراره فيه ، وهو كناية عن الاختفاء

فالمُقسَم به في الواقع هي الجواري ، بما لها من الوصفين : الخُنوس والكنوس ، وكأنّه قال : فلا أُقسِم بالجوار الخُنَّس والكُنَّس ، فقد ذهب أكثر المفسِّرين أنّ المراد من الجواري الّتي لها هذان الوصفان هي الكواكب الخمسة السيَّارة الّتي في منظومتنا الشمسيّة ، والّتي يمكن رؤيتها بالعين المُجرَّدة ، وهي : ( عطارد ، الزهرة ، المرّيخ ، المُشتري ، زُحَل ) ، ويُطلق عليها السيّارات المُتغيِّرة

ــــــــــــــــ

(١) مفردات الراغب : مادّة خنس

(٢) الشورى : ٣٢

١٣٠

وتسمية هذه الخمسة بالسيّارات والبواقي بالثابتات ، لا يعني نفي الجري والحركة عن غيرها ، إذ لاشكّ أنّ الكواكب جميعها مُتحرّكات ، ولكنّ الفواصل والثوابت بين النجوم لو كانت ثابتة غير مُتغيّرة ، فتطلق عليها الثابتات ، ولو كانت مُتغيِّرة ، فتُطلق عليها السيّارات ، فهذه السيّارات الخمسة تتغيَّر فواصِلها عن سائر الكواكب

إذا عرفت ذلك ، فهذه الجواري الخمس لها خنوس وكنوس ، وقد فُسّرا بأحد وجهين :

الأوّل : أنّها تختفي بالنهار ، وهو المراد من الخُنَّس ، وتظهر بالليل وهو المراد من الكُنَّس

يُلاحَظ عليه : أنّ تفسير ( الخُنَّس ) بالاختفاء لا يناسب معناها اللغوي ، أعني : الانقباض والتأخّر ، إلاّ أن يكون كناية عن الاختفاء

كما أنّ تفسير ( الكُنَّس ) بالظهور ، خلاف ما عليه أهل اللغة في تفسيره بالاختفاء ، وما ربّما يُقال : من أنّها تظهر في أفلاكها كما تظهر الظباء في كنسها(١) ، لا يخلو من إشكال ؛ فأنّ الظباء لا تظهر في كنسها ، بل تختفي فيها

ولو سَّمنا ذلك ، فالأولى أن تُفسر الجواري بمُطلَق الكواكب ، لا الخمسة المُتغيّرة

ــــــــــــــــ

(١) تفسير المراغي : ٣٠/٥٧

١٣١

الثاني : أن يُقال : إنّ خنوسَها وانقباضها كناية عن قرب فواصلها ، ثُمّ هي تجري وتستمرّ في مجاريها ، وكنوسها عبارة عن قربها و تراجعه

قال في اللسان : وكَنسَت النجوم كَنساً ، كنوساً : استمرّت من مجاريها ثُمَّ انصرفت راجعة(١)

وعلى ذلك ، فاللّه سبحانه يحلف بهذه الأنجم الخمسة بحالاتها الثلاث المُترتّبة في الليل ، وهي أنّها على أحوالٍ ثلاثة

مُنقبضات حينما تقرب فواصلها ، ثُمّ أنّها بالجري يبتعِد بعضها عن بعض ، ثُمّ ترجع بالتدريج إلى حالتها الأُولى ، فهي بين الانقباض والابتعاد بالجري ، ثُمّ الرجوع إلى حالتها الأُولى

( واللّيل إِذا عَسْعَس ) : وقد فُسِّر ( عَسْعَس ) بإدبار الليل وإقباله ، فإقباله في أوّله وإدباره في آخره

والظاهر أنّ المراد هو إقباله

قال الزَجَّاج : عَسْعَس الليل إذا أقبل ، وعَسْعَس إذا أدبر ، ولعلّ المراد هو الثاني ، بقرينة الحلف الثالث أعني :( وَالصُّبح إِذا تَنَفَّس ) ، والمراد من تَنَفَّس الصبح هو انبساط ضوئه على الأُفق ، ودفعه الظلمة الّتي غشيَته ، وكأنّ الصبح موجود حيوي يغشاه السواد عند قبض النَفَس ، ويعلوه الضوء والانبساط عند التنفّس قال الشاعر :

حتى إذا الصبْح لها تَنَفَّسـا

وانجابَ عنها لَيلُها وعَسْعَس

هذا كلّه حول المُقسَم به ، وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله :( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم )

ــــــــــــــــ

(١) لسان العرب : مادّة كنس

١٣٢

الضمير في قوله :( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم ) يرجع إلى القرآن ، بدليل قوله :( لقولُ رَسُولٍ ) ، والمراد من( رسول ) هو جبرائيل ، وكون القرآن قوله لا ينافي كونه قول اللّه ، إذ يكفي في النسبة أدنى مناسبة ، وهي أنّه أنزله على قلب سيّد المرسلين قال سبحانه :( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوّاً لِجِبْريلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه ) (١) ، وقال :( نَزلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِين ) (٢)

ثُمّ إنّه سبحانه وصفه بصفات ستّ :

١ ـ رسول : يدلّ على وساطته في نزول الوحي إلى النبيِّ

٢ ـ كريم : عزيز بإعزاز اللّه

٣ ـ ذي قوّة : ذي قُدرة وشدَّة بالغة ، كما قال سبحانه :( عَلَّمَهُ شَديدُ القُوى * ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوى ) (٣)

٤ ـ عِنْدَ ذِي الْعَرش مَكين : أي صاحب مكانة ومنزلة عند اللّه ، وهي كونه مقرَّباً عند اللّه

٥ ـ مُطاع : عند الملائكة ، فله أعوان يأمرهم وينهاهم

٦ ـ أمين : لا يخون بما أُمِر بتبليغه ما تحمّل من الوحي

وعطف على جواب القَسم قوله :( وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون ) (٤) ، والمراد هو نبيّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكأنّ صاحبه حلف بما حلف ، للتأكيد على أمرين :

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ٩٧

(٢) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤

(٣) النجم : ٥ ـ ٦

(٤) التكوير : ٢٢

١٣٣

أ ـ القرآن نزل به جبرائيل

ب ـ إنّ محمّداً ليس بمجنون

ثُمّ إنّ الصلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه هي : أنّ القرآن ـ المُقسَم عليه ـ حاله كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم ، فكما أنّ لهذه الكواكب انقباض وجَري وتراجع ، فهكذا حال الناس مع هذا القرآن ، فهُم بين منقبض من سماع القرآن ، وجار وسار مع هُداه ، ومُدبِر عن هديه إلى العصر الجاهلي

ثُمّ إنّ القرآن أمام المُستعدّين للهداية كالصبح في إسفاره ، فهو لهم نور وهداية ، كما أنّه للمُدبرين عنه كالليل المُظلِم ، وهو عليهم عمى ، واللّه العالم

ثُمَّ إنّ في اتّهام أمين الوحي بالخيانة ، والنبي الأعظم بالجنون ، دلالة واضحة على بلوغ القوم القسوة والشقاء حتى سوَّغت لهم أنفسهم هذا العمل ، فزيَّن لهم الشيطان أعمالهم

وأخيراً نودًّ الإشارة إلى كلمة قيّمة لأحد علماء الفَلَك ، نكشف من خلالها عظمة تلك الكواكب والنجوم ، حيث يقول :

لا يستطيع المرء أن يرفع بصره نحو السماوات العلى إلاّ ويَغْضِي إجلالاً ووقاراً ، إذ يرى ملايين من النجوم الزاهرة الساطعة ، ويراقب سيرها في أفلاكها وتنقّلها في أبراجها ، وكلّ نجم وأيّ كوكب ، وكلّ سَديم وأي سيّار ، إنّما هو دنياً قائمة بذاتها ، أكبر من الأرض وما فيها وما عليها وما حولها(١)

ــــــــــــــــ

(١) اللّه والعلم الحديث : ٢٥

١٣٤

الفصل الحادي عشر : القَسَم في سورة الانشقاق

حلف سبحانه تبارك و تعالى بأُمور أربعة : ( الشَفَق ، والليل ، وما وَسَقَ ، و القمر ) ، فقال :( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ *وَاللَّيلِ وَما وَسَقَ * وَالقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ * فَما لَهُمْ لا يُؤمِنُونَ * وَإِذا قُرِىََ عَلَيْهِمُ الْقُرآنَ لا يَسْجُدُون ) (١)

تفسير الآيات :

الشَفَق : هو الحمرة بين المغرب والعشاء الآخرة ، والمراد منه في الآية الحمرة الّتي تبقى عند المغرب في الأُفق ، وقيل : البياض فيه

والوَسَق : جمع المُتفرّق ، يقال : وَسَقْتُ الشيء إذا جَمعتَه ، ويُسمّى القدر المعلوم من الحمل ـ كحمل البعير ـ وَسَقاً ، فيكون المعنى : والليل و ما جَمَعَ وضَمَّ ممّا كان منتشراً بالنهار ، وذلك أنّ الليل إذا أقبل آوى كلّ شيء إلى مأواه ، وربّما يقال : بمعنى ( ما ساق ) ؛ لأنّ ظلمة الليل تسوق كلّ شيء إلى مَسكنِه

واتَّسَقَ : من الاتّساق ، بمعنى الاجتماع والتكامل ، فيكون المراد امتلاء القمر

والطَبَق : الحال ، والمراد لتركبنّ حالاً بعد حال ، ومنزلاً بعد منزل ، وأمراً بعد أمر

ــــــــــــــــ

(١) الانشقاق : ١٦ ـ ٢١

١٣٥

وحاصل معنى الآيات :

لا أُقسِم بالشَفَق ،وقد ذكرنا حديث ( لا ) ، وأنّ معنى الجملة هو الحلف ، ومعناه أُقسِم بالحمرة الّتي تظهر في الأُفق الغربي عند بداية الليل ، وما يظهر بعد الحمرة من بياض

والمعروف بالشَفَقِ في لسان الأُدباء هو الحمرة ، ولذلك يُشبِّهون دماء الشهداء بالشَفق ، غير أنّه ربّما يستعمل في البياض الطارئ على الحمرة ، الّذي هو آية ضعف الشَفَق ونهايته

وأُقسم بالليل ، لما فيه من آثار و أسرار عظيمة ، فلولا الليل لما كان هناك حياة كالضياء ، فكلّ من الليل والنهار دعامتا الحياة ، قال سبحانه :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جعلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمداً إِلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُون * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرمداً إِلى يَومِ القِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيرُ اللّهِ يَأتِيكُمْ بِلَيلٍ تَسْكُنُون فيهِ أَفَلا تبصِرُون ) (١)

ثُمّ إنّه سبحانه أشار إلى ما يترتَّب على الليل والنهار من البركات ، فقال :( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ) (٢) ، فخلق النهار لطلب الرزق والمعاش ، كما خلق الليل لرفع التعب عن البدن بالنوم فيه والسكن إليه ، وسيوافيك التفصيل في الفصول القادمة إن شاء اللّه

وأقسَمَ بما وَسَقَ ، أي : بما جمع الليل ، ولعلّه إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى أوكارها عند حلول الليل ، فيكون الليل سَكَناً عامّاً للكائنات الحيّة

حلف بالقمر عند اتّساقه واكتماله في الليالي الأربع ؛ لما فيه من روعةٍ وجمال ، ولذلك يُشبَّه الجميل بالقمر ، مضافاً إلى نوره الهادئ الرقيق ، الّذي يُغطّي سطح الأرض ، وهو من الرقّة واللطافة بمكانٍ لا يَكسر ظلمة الليل ، وفي الوقت نفسه يُنير الطُرق و الصحاري

ــــــــــــــــ

(١) القصص : ٧١ ـ ٧٢

(٢) القصص : ٧٣

١٣٦

فهذه أقسام أربعة بينها ترتّب خاصّ ، فإنّ الشفق أوّل الليل ، يطلع بعده القمر في حالة البَدْر ، فهذه الموضوعات الأربع أُمور كونيّة يقع كلّ بعد الآخر ، حاكية عن عظمة الخالق

وأمّا المُقسَم عليه فهو قوله سبحانه :( لَتَرْكَبُنَّ طَبقاً عَنْ طَبَق ) ، وهي إشارة إلى المراحل الّتي يمرّ بها الإنسان في حياته ، وأوضحها هي الحياة الدنيويّة ، ثُمّ الموت ثُمّ الحياة البرزخيّة ، ثُمّ الانتقال إلى الآخرة ثُمّ الحياة الأُخرويّة ، ثُمّ الحساب والجزاء

وفي هذه الآية إلماع إلى ما تقدّم في الآية السادسة من هذه السورة ، أعني قوله سبحانه :( يا أَيُّهَا الإنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (١)

والكدح بمعنى السعي ، والعناء يتضمّن معنى السير

فالآية تشير إلى أنّ الحياة البشريّة تتزامن مع التعبِ والعناء ، ولكن الغاية منها هو لقاء اللّه سبحانه ، وكأنّ هذا الكدح باقٍ إلى حصول الغاية ، أي لقاء جزائه من ثواب وعقاب ، أو لقاء اللّه بالشهود

وأمّا وجه الصِلة وهو : بيان أنّ الأشواط الّتي يمرّ بها الإنسان أُمور مترتِّبة متعاقبة ، كما هو الحال في المُقسَم به ، أعني الشفق الّذي يعقبه الليل الدامس ويليه ظهور القمر

توضيحه : إنّ القرآن يُحدِّث عن أُمور متتابعة الوقوع ، وبذات تسلسل خاصّ ، فعندما تغيب الشمس يظهر الشفق مُعلِناً عن بداية حلول الليل ، الّذي تتَّجه الكائنات الحية إلى بيوتها وأوكارها ، ثُمّ يخرج القمر بدراً تاماً

ــــــــــــــــ

(١) الانشقاق : ٦

١٣٧

فإذا كان المُقسَم به ذات أُمور متسلسلة ، يأتي كلّ بعد الآخر ، فالطبقات الّتي يركبها الإنسان مثل المُقسَم به ، مُترتِّبة متتالية ، فيبدأ بالدنيا ثُمّ إلى عالم البرزخ ، ومنه إلى يوم القيامة ومنه إلى يوم الحساب

وبذلك يُعلَم وجه استعجابه سبحانه عن عدم إيمانهم ، حيث قال :( فَما لَهُمْ لا يُؤمِنُون ) ، فانّ هذا النظام الرائع في الكون ، وحياة الإنسان من صباه إلى شبابه ومن ثمّ إلى هرمه ، لدليل واضح على أنّ عالم الخِلقة يُدبَّر تحت نظر خالق مدبِّر ، عارف بخصوصيّات الكون

يقول أحد علماء الطبيعة في هذا الصدَد : إنّ جميع ما في الكون يشهد على وجود اللّه سبحانه ، ويدلّ على قدرته وعظمته ، وعندما نقوم ـ نحن العلماء ـ بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها ، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية ، فإنّنا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي اللّه وعظمته ذلك هو اللّه الّذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادِّية وحدها ، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كلّ ذرة من ذرَّات هذا الوجود(١)

ــــــــــــــــ

(١) اللّه يتجلّى في عصر العلم : ٢٦ .

١٣٨

الفصل الثاني عشر : القَسَم في سورةِ البروج

حلف سبحانه في سورة البروج بأُمورٍ أربعة :

أ ـ( السَّماءُ ذات البُرُوج ) : المنازل

ب ـ( اليَوم المَوعُود ) : القيامة

ج ـ شاهد

د ـ مشهود

قال سبحانه :( وَالسَّماءِ ذاتِ البُروجِ * وَاليَومِ المَوعُودِ * وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصحابُ الأُخدُودِ * النارِ ذاتِ الوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ * وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمْؤمِنينَ شُهُودٌ * وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤمِنُوا بِاللّهِ العَزيزِ الحَمِيد ) (١)

فأقسمَ سبحانه بالعالم العُلوي وهو : السماء وما فيها من المنازل ، الّتي هي أعظم الأمكنة وأوسعها ، ثمّ أقسم بأعظم الأيّام وأجلّها ، الّذي هو مظهر مُلْكه وأمره ونهيه ، وثوابه وعقابه ، ومجمَع أوليائه وأعدائه ، والحكم بينهم بعلمه وعدله

ثُمّ أقسمَ بكلّ شاهد ومشهود ـ إذا كان اللام للجنس ـ فيكون المراد : كلُّ مُدرِك ومُدرَك وراعٍ ومَرعيّ ، والمصداق البارز له هو النبي الّذي سُمِّي شاهداً كما سيوافيك ، كما أنّ المصداق البارز للمشهود هو يوم القيامة

فلنرجع إلى تفسير الآيات

ــــــــــــــــ

(١) البروج : ١ ـ ٨

١٣٩

تفسير الآيات :

أمّا السماء : فكلّ شيء عَلاكَ فهو سماء ، قال الشاعر في وصف فَرَسِه :

وَأَحمَرَ كَالديباجِ أَمّا سَماؤُهُ

فَرَيّا وَأَمّا أَرضُهُ فَمُحولُ

وقال بعضهم : كلّ سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء ، وبالإضافة إلى ما فوقها فأرض وسُمّي المطر سماءً لخروجه منها

وأمّا البروج : واحدها بُرْج ، ويُطلق على الأمر الظاهر ، وغلب استعماله في القصر العالي لظهوره للناظرين ، ويُسمّى البناء المعمول على سور البلد للدفاع بُرجاً

والمراد هنا مواضع الكواكب من السماء

وربّما يُفسّر بالمنازل الاثنى عشر للقمر ؛ لأنّ القمر يصير في كلّ بُرجٍ يومين وثلث يوم ، وذلك ثمانية وعشرون يوماً ، ثُمّ يستَتِر ليلتين ثُمّ يظهر

وربّما يفسّر بمنازل الشمس في الشمال والجنوب ، ولكن الأولى ما ذكرناه ( منازل النجوم على وجه الإطلاق )

واليوم الموعود : عَطف على السماء ، وهو يوم القيامة الّذي وعد اللّه سبحانه أن يجمع فيه الناس ، ويوم الفصل والجزاء الّذي وعد اللّه به على ألسنة رُسله ، وفيه يتفرَّد ربّنا بالمُلك والحُكم

وقد وُعِد اللّه سبحانه به في القرآن الكريم غير مرَّةٍ وقال :

( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين ) (١)

ــــــــــــــــ

(١) يونس : ٤٨

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173