الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم 22%

الأقسام في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 173

الأقسام في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50223 / تحميل: 7616
الحجم الحجم الحجم
الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ومن أجل أن نتلافى هذه المشكلة ، نقول :

إنّ أقسام القرآن على قِسمين :

الأوّل : ما نُطلِق عليه الحلف المُفرَد ، والمُراد منه : ما إذا حلف سبحانه بشيءٍ مُفرَد ، و لم يضمّ إليه حلفاً آخر ، سواء تكرَّر في سوَر أُخرى أم لا ، مثلاً : حلف بعُمْر النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحياته مرّةً واحدةً ولم يُقرِن به حلفاً آخر ، بخلاف لفظ الربِّ ، فقد حلف به مفرداً ، ولكنّه تكرّر في بعض السور

الثاني : ما نُطلِق عليه الحلف المُتعدِّد ، والمراد منه : ما إذا حلف سبحانه بأُمور مختلفة ، جمعها في آيةٍ واحدة أو آيتين ، وجعل للجميع جواباً واحداً ، كالحلف بالشمس والقمر إلى أن يصل إلى النفس الإنسانيّة

فنعقد لكلّ حلف مُفرَد فصلاً على حدة ، سواء تكرَّر بهذا النحو في سور أُخرى أم لا ، مُراعين في ذلك الأفضل فالأفضل ، فنُقدِّم الحلف باللّه والربِّ على حياة النبيِّ وعُمْره ، وهو على الملائكة

وأمّا الحلف المُتعدِّد ، فنعقد لكلّ سورة تضمّ ذلك الحلف فصلاً ، كما عقدنا لسورة الشمس فصلاً ، ولسورة الليل فصلاً آخر ، وإن تكرَّر فيه المحلوف فيه ، أعني ( الليل ) ، و بذلك يمتاز هذا المنهج عن سائر المناهج المذكورة ، ويجمع كافَّة محاسنها ، ويُصان عن المؤاخذات الّتي ربّما تُطرَح على المنهجَين الأخيرين

وأخذنا بتقسيم الكتاب إلى قِسمين ، وخصَّصنا القِسم الأوّل بالأحلاف المُفرَدة ، والثاني بالأحلاف المُتعدِّدة ، وإليك إجمال فصول القِسمين :

٢١

القِسْمُ الأوّل ، وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَم بلفظ الجلالة

الفصل الثاني : القَسَم بالربِّ

الفصل الثالث : القَسَم بعُمْرِ النبيِّ

الفصل الرابع : القَسَم بالقرآن الكريم

الفصل الخامس : القَسَم بالعصر

الفصل السادس : القَسَم بالنجم

الفصل السابع : القَسَم بمواقع النجوم

الفصل الثامن : القَسَم بالسماء ذات الحُبُك

القِسْمُ الثاني ، وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَم في سورة الصافّات

الفصل الثاني : القَسَم في سورة الذاريات

الفصل الثالث : القَسَم في سورة الطُور

الفصل الرابع : القَسَم في سورة القلم

الفصل الخامس : القَسَم في سورة الحاقّة

الفصل السادس : القَسَم في سورة المُدَّثِّر

الفصل السابع : القَسَم في سورة القيامة

الفصل الثامن : القَسَم في سورة المُرسَلات

الفصل التاسع : القَسَم في سورة النازعات

الفصل العاشر : القَسَم في سورة التكوير

الفصل الحادي عشر : القَسَم في سورة الانشقاق

الفصل الثاني عشر : القَسَم في سورة البروج

الفصل الثالث عشر : القَسَم في سورة الطارق

٢٢

الفصل الرابع عشر : القَسَم في سورة الفجر

الفصل الخامس عشر : القَسَم في سورة البلد

الفصل السادس عشر : القَسَم في سورة الشمس

الفصل السابع عشر : القَسَم في سورة الليل

الفصل الثامن عشر : القَسَم في سورة الضحى

الفصل التاسع عشر : القَسَم في سورة التين

الفصل العشرون : القَسَم في سورة العاديات

القِسْم الأوّل : القَسَم المُفرَد

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَمُ بلَفظِ الجَلالة

حلف سبحانه تبارك وتعالى بلفظ الجلالة مرّتين ، ضِمن آيتين من سورة النحل ، وهو أعظم قَسَم ورد في القرآن الكريم

قال سبحانه :

أ ـ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .(١)

ب ـ( تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .(٢)

تفسير الآية الأُولى :

دلّت الآية الأُولى على جهل المشركين ، حيث كانوا يجعلون نصيباً ممّا رزقوا للأصنام الّتي لا تضرّ ولا تنفع ، ويتقرَّبون بذلك إليها ، وقال سبحانه :( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ )

ــــــــــــــــ

(١) النحل : ٥٦

(٢) النحل : ٦٣ .

٢٣

وقد حكى سبحانه عملهم هذا في سورة الأنعام ، وقال :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) .(١) فالكفّار لأجل جهلهم بمبدأ الفيض ، كانوا يتقرّبون إلى الآلهة الكاذبة ـ أعني : الأصنام والأوثان ـ بتخصيص شيء ممّا رُزقوا لها ، مع أنّه سبحانه هو الأولى بالتقرّب لا غير ؛ لأنّه مبدأ الفيض ، و ما سواه مُمكن محتاج في وجوده وفعله ، فكيف يتقرَّبون إليه ؟!

والعجب أنّهم يجعلون نصيباً للّه ونصيباً لشركائه ، فما كان للّه فهو يصل إلى شركائهم ، وما كان لشركائهم لا يصل إلى اللّه سبحانه ! وقد حكاه سبحانه في سورة الأنعام وقال :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) .(٢)

وحاصل الآية : أنّهم كانوا يجعلون من الزرع والمواشي حظّاً للّه وحظاً للأوثان ، وقد أسماها سبحانه ( شركائهم ) ، لأنّهم جعلوا الأوثان شركاءهم ، حيث جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونه عليها ، فشاركوها في نعمهم

وقد ذكر المُفسّرون في تفسير قوله تعالى( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ) وجوهاً(٣) :

أوّلها : إنّهم كانوا يزرعون للّه زرعاً وللأصنام زرعاً ، فكان إذا زكا الزرع الّذي زرعوه للّه ، ولم يزك الزرع الّذي زرعوه للأصنام ، جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها ، ويقولون إنّ اللّه غنيّ والأصنام أحوج ، وإن زكا الزرع الّذي جعلوه للأصنام ولم يزكِ الزرع الّذي زرعوه للّه ، لم يجعلوا منه شيئاً للّه ، وقالوا : هو غني

وكانوا يُقسِّمون النِعم ، فيجعلون بعضه للّه وبعضه للأصنام ، فما كان للّه أطعموه الضيفان ، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم ، وهذا هو المرويّ عن الزجّاج وغيره

ــــــــــــــــ

(١) الأنعام : ١٣٦

(٢) الأنعام : ١٣٦

(٣) لاحظ : مجمع البيان : ٢/٣٧٠

٢٤

ثانيها : إنّه كان إذا اختلط ما جُعل للأصنام بما جُعل للّه تعالى ردّوه ، وإذا اختلط ما جعل للّه بما جُعل للأصنام تركوه ، وقالوا : اللّه أغنى ، وإذا تخرق الماء من الّذي للّه في الّذي للأصنام لم يسدُّوه ، وإذا تخرق من الّذي للأصنام في الّذي للّه سدُّوه ، وقالوا : اللّه أغنى عن ابن عبّاس وقُتادة ، وهو المروي عن أئمّتناعليهم‌السلام

وثالثها : إنّه كان إذا هلك ما جُعل للأصنام بدَّلوه بما جُعل للّه ، وإذا هلك ما جُعل للّه لم يبدّلوه بما جُعل للأصنام عن الحسن والسُدِّي .(١)

وفي الحقيقة أنّ هذا النوع من العمل ، أي : توزيع القربان بين اللّه والآلهة ، كان تزييناً من شركائهم ، وهم الشياطين أو سَدَنة الأصنام ، حيث زيَّنوا لهم هذا العمل وغيره من الأعمال القبيحة ، قال تعالى :( وَكَذَلِكَ زُيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ـ أي : ليهلكوهم ـوَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) .(٢)

تفسير الآية الثانية :

يقول سبحانه :( تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزيَّنَ لَهُمُ الشَّيطان أَعمالَهُمْ ) فهؤلاء كفروا وضلّوا وكذّبوا الرُسل ، وقد زيّن الشيطان أعمالهم( فهو وليّهم اليوم ) ، أي : الشيطان الّذي زيَّن لهم أعمالهم ، فهو أيضاً يقوم بنفس هذا العمل ، فالوليّ واحد وإن كان المُتولَّى عليه مختلفاً ، وبالتالي إنّ الشيطان وليّهم اليوم في الدنيا ، يتولَّونه ويتَّبعون إغواءه( ولهم عذاب أليم )

ــــــــــــــــ

(١) مجمع البيان : ٢/٣٧٠

(٢) الأنعام : ١٣٧

٢٥

إلى هنا انتهينا من تفسير الآيتين ، فلنذكر المُقسَم به ، وجواب القَسَم ، وما هي الصِلة بينهما

المُقْسَم به :

المُقسَم به في الآيتين هو لفظ الجلالة ، الّذي جاء ذكره في القرآن الكريم حوالي ٩٨٠ مرَّة

وقد ذهب غير واحد من أصحاب المعاجم إلى أنّ أصله ، ( إله ) ، فحُذفت همزته وأُدخل عليه الألف واللام ، فخصّ بالباري تعالى ، قال تعالى :( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ) .(١)

ثُمّ إنّ ( إله ) إمّا من أَلَه يَألَه ، فهو الإله بمعنى المعبود ، أو من أَلِه ـ بالكسر ـ أي تحيّر ، لتَحيّر العقول في كُنهه

أقول : سيوافيك بأنّ الإله ليس بمعنى المعبود ، وأنّ مَن فسَّره به فقد فسَّره بلازم المعنى ، وعلى فرض ثبوته ، فلفظ الجلالة عَلَم بالغَلَبَة ، وليس فيه إشارة إلى هذه المعاني من العبادة والتحيّر ، وقد كان مستعملاً دائراً على الألسن قبل نزول القرآن ، تعرفه العرب في العصر الجاهلي ، يقول سبحانه:

ــــــــــــــــ

(١) مريم : ٦٥

٢٦

  ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه ) (١) ، فقد أشار بلفظ الجلالة إلى خالق السماوات والأرض دون تبادر مفهوم العبادة أو التحيّر منه

وممّا يدلّ على كونه عَلَماً : أنّه يُوصَف بالأسماء الحُسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من دون عكس ، فيُقال : اللّه الرحمن الرحيم ، أو يُقال : عِلمُ اللّه ورِزقُ اللّه ، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها ، ولا يُؤخَذ منه ما يُوصَف به شيء منها ، وهذا يدلّ على أنّه عَلَم وليس بوَصْف ، فيكون اسماً للذات الواجبة الوجود ، المُستجمِعة لجميع صفات الكمال

ولهذا اللفظ في جميع الألسنة معادل ، كلفظة ( خدا ) في لُغة الفُرْس ، و( god ) في لغة الإفرنج ، و ( تاري ) في لغة الترك .(٢)

جواب القَسَم :

أمّا جواب القَسَم في الآية الأُولى فهو عبارة عن قوله :( لتُسئلنّ عمّا كنتم تفترون )

كما أنّ جوابه في الآية الثانية هو قوله :( لَقَدْ أرْسلنا إِلى أُمَمٍ من قَبْلك )

فقد أقسَمَ سبحانه في هاتين الآيتين بلفظ الجلالة لغاية التأكيد على أمرين :

أ ـ أنّهم مسؤولون يوم القيامة عن افترائهم الكذب

ب ـ أنّّه سبحانه لم يترك الخلق سُدى ، بل أرسل إليهم رُسلاً ، لكن الشيطان حال بينهم و بين أُمَمهم ، وتشهد على ذلك سيرة عاد و ثمود ، بل اليهود والنصارى والمجوس

ــــــــــــــــ

(١) الزخرف : ٨٧

(٢) انظر : الميزان : ١/١٨

٢٧

ما هي الصلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه ؟

هذا هو المُهمّ في أقسام القرآن ، وقد أُهمل في كثير من التفاسير ، ويمكن أن يُقال :

أمّا الآية الأُولى : فالقَسَم بلفظ الجلالة لأجل أنّ المشركين كانوا يجعلون للّه نصيباً ممّا زرعوا من الحرث والأنعام ، وكانوا يقولون : هذا للّه ، فناسب أن يُقسِم به ؛ لأجل أنّه افتراء عظيم

وأمّا الآية الثانية : فلأنّه جاء في ذيل جواب القَسَم ولاية الشيطان ، كما قال :( فهو وليّهم اليوم ) ، وبما أنّ الولاية للّه سبحانه ، كما قال تعالى :( هنالِكَ الولايةُ للّهِ الحقِّ ) (١) ، ناسبَ الحلف باللّه ، الّذي هو الوليّ دونَ الشيطان ، كما عليه المشركون

ــــــــــــــــ

(١) الكهف : ٤٤

٢٨

الفصل الثاني : القَسَمُ بالرَبِّ

أقسَمَ سبحانه بلفظ ( رَبّ ) بصُورٍ مختلفة :

تارةً حلف به بلفظ ( فلا وربّك )

وأُخرى حلف به مقروناً بلفظ ( لا ) وقال : ( فلا أُقسم )

وثالثة حلف به بلفظ ( فوَرَبّك )

ورابعة بلفظ ( بلى ورَبِّـي )

وخامسة بلفظ ( إي ورَبِّي )

وسادسة بلفظ ( فو رَبِّ السماء والأرض )

وعلى أيّة حال ، فالمُقسَم به هو الرَبّ ، وإليك الآيات :

١ ـ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) .(١)

٢ ـ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب إِنّا لَقادِرُونَ * عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحنُ بِمَسْبُوقينَ ) .(٢)

٣ ـ( فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطين ) .(٣)

ــــــــــــــــ

(١) النساء : ٦٥

(٢) المعارج : ٤٠ ـ ٤١

(٣) مريم : ٦٨

٢٩

٤ ـ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * عَمّا كانُوا يَعْمَلُون ) .(١)

٥ ـ( وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَربّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِم الْغَيب ) .(٢)

٦ ـ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بلى وَربّي لَتُبعثُنّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤَنَّ بما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير ) .(٣)

٧ ـ( وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبّي انّهُ لحقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزين ) (٤)

٨ ـ( فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرض إنّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنّكُمْ تَنْطِقُون ) (٥)

تفسير الآيات :

تُشير الآية الأُولى إلى مَقامٍ من مقامات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ له ـ حسب ما دلّ عليه الكتاب و السُنّة في إدارة رحى المُجتمع ـ مقامات ثلاثة :

أ ـ السياسية وتدبير الأُمور : يقول سبحانه :( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) (٦) ، ويقول في حقِّ النبي خاصّة :( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٧) ، وليس الأولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ فضلاً عن أموالهم ـ غير السائس الحاكم العامّ

ــــــــــــــــ

(١) الحجر : ٩٢ـ ٩٣

(٢) سبأ : ٣

(٣) التغابن : ٧

(٤) يونس : ٥٣

(٥) الذاريات : ٢٣

(٦) الحجّ : ٤١

(٧) الأحزاب : ٦

٣٠

ب ـ القضاءُ وفضُّ الخصومات : يقول سبحانه في حقّ داود :( يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) (١) ، وفي حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :( َإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) .(٢)

ج ـ الإفتاء وبيان الأحكام : يقول سبحانه :( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة ) .(٣)

وقد كان الرسول ـ بنصِّ هذه الآيات ـ جامعاً لهذه المقامات الثلاثة ، فكان سائساً وحاكماً ، وقاضياً وفاضّاً للخصومات ، ومُفتياً ومُبيّناً للأحكام

ومن الواضح بمكان أنّ فضّ الخصومات لا يتحقَّق إلاّ بقضاء قاض مُطاع رأيه ونافذ فَصْله ، وقد كان بعض المُنتمين إلى الإسلام لم يُعيروا أهمِّيّة لقضائه ، فنزلت الآية تأمر أوّلاً بإطاعته وأنّ كلّ رسول واجب الطاعة ، يقول سبحانه :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاع بِإِذْنِ اللّه ) .(٤)

ثُمّ تُشير الآية التالية إلى أنّ الإيمان لا يكتمل إلاّ بالانصياع ، والتسليم القلبي لما يقضي به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمَن شهد الشهادتين وأذعن بهما ، ومع ذلك يجد في نفسه حرجاً في قضاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمْره ، فليس بمؤمن ، يقول سبحانه :( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) .(٥)

ــــــــــــــــ

(١) ص : ٢٦

(٢) المائدة : ٤٢

(٣) النساء : ١٧٦

(٤) النساء : ٦٤

(٥) النساء : ٦٥

٣١

فالآية تدلّ على أنّ الإيمان لا يكتمل بنفس الإذعان واليقين بالتوحيد والرسالة ، ما لم ينضمّ إليهالتسليم القلبي ؛ ولذلك ترى أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه‌السلام يصف الإسلام بالنحو التالي ويقول : ( لأَنْسُبَنَّ الإِسْلامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، الإِسْلامُ هُوَ التَّسْلِيمُ ) . (١)

وتُشير الآية الثانية إلى أنّه سبحانه قادر على أن يُهلك المشركين ويأتي بقوم آخرين( خيراً منهم ) ، من دون أن يكون مغلوباً ، قال :( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب إِنّا لَقادِرُونَ * عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحنُ بِمَسْبُوقينَ )

فجواب القَسَم قوله( إِنّا لَقادِرُون ) ، وقوله( وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقين ) عطف على جواب القَسَم ، والمُراد بالسبقِ الغَلَبَة ، أي : وما نحن بمَغلوبين ، ويُمكن أن يكون السبق بمعناه ، والمراد : وما نحن بمَسبوقين بفوت عقابنا إيّاهم ، فإنّهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا

والتعبير بالمشارق والمغارب لأجل أنّ للشمس في كلِّ يوم من أيّام السنة الشمسيّة مشرقاً ومغرباً ، لا تعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة ، كما أنّه من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم ومغاربها

ومن عجيب الأمر أنّ في الآية على قِصرها وجوهاً من الالتفات

ففي قوله :( فلا أُقْسِم ) التفات من التكلُّم مع الغير الوارد في قوله :( إِنّا خَلَقْناكُمْ ) إلى التكلُّم وحده ، والوجه فيه تأكيد القَسَم بإسناده إلى اللّه نفسه

وفي قوله : ( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب ) التفات من التكلّم وحده ، إلى الغَيبَة ، و الوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى ، هي المبدأ في خلق الناس جيلاً بعد جيل ، وهي ربوبيَّته للمشارق و المغارب ؛ فانّ الشروق بعد الشروق والغروب بعد الغروب ، يلازم مرور الزمان الّذي له مدخليّه تامّة في تكوّن الإنسان جيلاً بعد جيل ، وسائر الحوادث العَرَضيّة المُقارنة له

ــــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : قسم الحِكم ، الحكمة ١٢٥

٣٢

وفي قوله :( إِنّا لَقادِرُون ) التفات(١) من الغَيبَة إلى التكلُّم مع الغير ، والوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكرِ القدرة ، وفي ذكر ربوبيّته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة ، وهو أنّ الّذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها ، لا يعجّزه شيء من الحوادث ـ الّتي هي أفعاله ـ عن شيء منها ، ولا يمنعه شيء من خلقه من أن يُبدله بخير منه ، وإلاّ شاركه المانع في أمر التدبير ، واللّه سبحانه لا شريك له في أمر التدبير .(٢)

وأمّا الآية الثالثة : فلمّا ذكر سبحانه الوَعد والوعيد والبعث والنشور ، أردفه بقول مُنكِر البعث ، وردَّ عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان ، وقال :( أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) (٣) ، والمراد أولا يذكر أنّ النشأة الأُولى دليل على إمكان النشأة الثانية ؟! ثُمّ أكَّده بقوله :( فوَرَبّك ) يا محمد( لنَحشِرنّهم والشياطين ) ، أي : لنَجمَعنَّهم ولنَبْعثنّهم من قبورهم مُقرَنين بأوليائهم من الشياطين

وأمّا الآية الرابعة : فسياق الآية يُندِّد بالمُقْتَسمين ، ويقول : ( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمين ) (٤) ، ثُمّ يصفهم بقوله : ( الّذِينَ جَعَلُوا الْقُرآنَ عِضِين ) (٥) ، والعِضِين جمع عِضَة ، والتَعْضية التفريق ، فهم الّذين جزّؤوا القرآن أجزاء ، فقالوا تارةً : سِحْر ، وأُخرى : أساطير الأوَّلين ، وثالثة : مُفترى ، وبذلك صدّوا الناس عن الدخول في دين اللّه ، وعلى ذلك يكون المراد من المُقتسمين هم : كُفّار قريش

ــــــــــــــــ

(١) الالتفات في علم البيان عبارة عن : الانتقال من الغَيْبَة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغَيْبَة ، ومن الغَيْبَة إلى التكلّم ، كما في قوله سبحانه :( مالِكِ يَوم الدِّين * إِيّاكَ نَعْبُد ) ، وقوله سبحانه :( حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ) ، وقوله سبحانه :( وَاللّهُ الّذي أَرسلَ الرياح فتثير سَحاباً فَسُقْناهُ ) ففي الآية الأُولى عدول من الغيبة إلى الخطاب ، وفي الثانية من الخطاب إلى الغيبة ، وفي الثالثة من الغيبة إلى التكلّم .

(٢) الميزان : ٢٠/٢٢

(٣) مريم : ٦٧

(٤) الحجر : ٩١

(٥) الحجر : ٩٠

٣٣

ويحتمل أن يكون المراد هم اليهود والنصارى ، الّذين فرّقوا القرآن أجزاءً وأبعاضاً ، وقالوا : نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض

وعلى أيّة حال ، الّذين كانوا بصدَد إطفاء نور القرآن بتبعيضه أبعاض ؛ ليصدُّوا عن سبيل اللّه ، فهؤلاء هم المقصودون ، ثُمّ حلف سبحانه وقال :( فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعين َ* عَمّا كانُوا يَعْمَلُون ) من تبعيض القرآن و صدِّ الناس عن الإيمان به

وأمّا الآية الخامسة : فتَذكُر إنكار المشركين لإتيان الساعة ويوم القيامة ، وهم ينكرونه مع ظهور عموم مُلكه سبحانه ، وعلمه بكلّ شيء

وقد كان سبب إنكارهم هو زَعمهم أنّ الإنسانَ يبلى جسده بعد الموت ، وتختلط أجزاؤه بأجزاء أبدان أُخرى ، على نحوٍ لا تتميَّز ، فكيف يمكن إعادته ؟!

فأجاب سبحانه في الآية مُشيراً إلى علمه الواسع ، ويقول :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) .(١)

فقوله :( لا تَأْتِينَا السّاعَة ) حكاية لقول المشركين

وقوله :( قل بلى وربّي ) أمر للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يُجيبهم بأنّ إتيان الساعة أمر قطعي

وأمّا ما تُشكّكون به من اختلاط أجزاء الأموات بعضها ببعض ، فهو أمر سهل أمام سِعَة علمه سبحانه بالغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، فهو يعلم بذرَّات بدن كلّ إنسان ويُميِّزه عن غيره ، ومع علمه سبحانه فالأجزاء ثابتة في كتاب مبين ، لا تتغيَّر ولا تتبدَّل

ــــــــــــــــ

(١) سبأ : ٣

٣٤

وأمّا الآية السادسة : يقول سبحانه :( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) .(١)

تُشير الآية إلى إنكار الوَثنيِّين ، الّذين كانوا ينكرون البَعْث ، فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإجابة على إنكارهم بإثبات ما نَفَوه من الكلام مقروناً بأصناف التأكيد بالقَسَم واللام والنون ، وقال :( وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ )

وأشار في ذيل الآية إلى أنّ البعث أمر يسير عليه تعالى ، وأنّ ما طرحوه من شبهات حول البعث فهي ـ في الواقع ـ شبهات لا تصمد أمام قدرة اللّه وعلمه الواسع

وأمّا الآية السابعة : أعني قوله سبحانه :( وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبّي إنّهُ لحَقّ وما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين ) .(٢)

سياق الآية يوحي إلى أنّ المشركين كانوا يستخبرون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن نزول العذاب أو وقوع البعث ، فأمره سبحانه بأن يُجيب مؤكداً ، فقال :( قلْ إي ورَبِّي إنّه لحَقّ ) ، وقد أكَّد الكلام بالقَسَم والجملة الاسميّة ، و( إنّ ) المُشبَّهة ، و( اللام ) ، ثُمّ أشار إلى أنّ الكافرين لا يعجزونه سبحانه عمّا أراد ، وقال :( وَما أَنْتُمْ بِمُعجِزين ) ، وفي سورة المعارج قال مكانه :( وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقين )

ــــــــــــــــ

(١) التغابن : ٧

(٢) يونس : ٥٣

٣٥

وأمّا الآية الثامنة :( فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) .(١)

فالضمير في قوله : ( إنّه ) يعود إلى الرِزق والوَعد ، الواردين في الآية المُتقدِّمة ، قال سبحانه :( وَفِي السَّماءِ رِزْقكُمْ وَما تُوعَدُون ) والمراد من الوعد هو الجنَّة

ثُمّ أشار( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) ، وكما أنّ العِلم بهذا الأمر ـ أي : النطق ـ أمر ملموس لا شُبهة فيه ، فهكذا الرِزق والوعد ، من قَبيل تشبيه المعقول بالمحسوس

حكى الزمخشَري عن الأصمعي قال : أقبلتُ من جامع البصرةِ فطلع أعرابي على قعود له ، فقال : ممَّن الرجل ؟ قلتُ : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلتَ ؟ قلتُ : من موضع يُتلَى فيه كلام الرحمان ، فقال : اتل عليَّ ، فتلوتُ ( والذاريات ) ، فلمّا بلغتُ قوله :( وَفِي السَّماءِ رزْقكُمْ ) قال : حَسْبُك ، فقام إلى ناقته فنحرها ووَزَّعها على مَن أقبلَ وأدبَر ، وعمدَ إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووَلَّى

فلمّا حَجَجتُ مع الرشيد ، طَفََقْتُ أطوف ، فإذا أنا بمَن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفتُّ فإذا أنا بالإعرابي قد نحلَ واصفرّ ، فسلّم عليَّ و استقرأ السورة ، فلمّا بلغتُ الآية ، صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقّاً ، ثُمّ قال : وهل غير هذا ؟ فقرأتُ :( فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) ، فصاح وقال : يا سبحان اللّه ، مَن ذا الّذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدِّقوه بقوله حتى ألجَؤوه إلى اليمين ! قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه .(٢)

إلى هنا تمَّ تفسير الآيات الّتي أقسَمَ فيها سبحانه بربوبيّته ، وإليك الكلام في المُقسَمِ به ، والمُقَسمِ عليه

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ٢٣

(٢) الكشّاف : ٣/١٦٩ .

٣٦

المُقسَمُ به :

إنّ المُقسَم به في هذه الآيات الثمان هو الرَبّ ، والربّ أصله من رَببَ ، يقول صاحب القاموس : رَبُّ كلّ شيء مالِكه ومُستحقّه وصاحبُه ، يُقال : رَبّ الأمر أصلحه

يقول ابن فارس : الرَبُّ ، المالِك ، الخالق ، الصاحب ، و الرَبّ المُصلح للشيء ، يقال : رَبَّ فلان ضيعته ، إذا قام على إصلاحها

والرَبُّ المُصلِح للشيء ، واللّه (جلَّ ثناؤه) الرَبُّ ؛ لأنّه مُصلِح أحوال خَلقِه ، والرابُّ : الّذي يقوم على أمر الرَبيب

هذه الكلمات ونظائرها مبثوثة في كتب القواميس واللغة ، وهي ظاهرة في أنّ للرَبِّ معاني مختلفة ، حتى أنّ الكاتب المودودي تصوّر أنّ لهذه اللفظة خمسة معانٍ ، وذكر لكلِّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن

ولكن الحقّ أنّه ليس لتلك اللفظة إلاّ معنى واحد ، والجميع مصاديق متعدِّدة لهذا المعنى ، أو صوَر مُبسَّطة للمعنى الواحد ، وإليك هذه الموارد والمصاديق :

١ ـ التربية : مثل رَبُّ الولد ، رَبَّاه

٢ ـ الإصلاح والرعاية : مثل رَبّ الضيعة

٣ ـ الحكومة والسياسة : مثل فلان قد رَبّ قومه ، أي ساسَهم وجعلهم ينقادون له

٤ ـ المالِك : كما جاء في الخبر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرَبّ غنمٍ أم رَبّ إبل ؟

٥ ـ الصاحب : مثل قوله : رَبُّ الدار ، أو كما يقول القرآن الكريم :( فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذا الْبَيْت ) .(١)

لا ريب أنّ هذه اللفظة قد استُعملت في هذه الموارد ، ولكن جميعها ترجع إلى أصل واحد وهو : مَن فُوِّض إليه أمر الشيء المربوب ، فلو قيل لصاحب الدار ومالكها : رَبُّ الدار ، فلأنّ أمرها مفوَّض إليه ، ولو أطلق على المُصلِح و السائس ، فلأنّ بيد هؤلاء أمر التدبير والإدارة والتصرّف

ــــــــــــــــ

(١) قريش : ٣

٣٧

فلو قال يوسف في حقِّ عزيز مصر :( إِنَّهُ رَبِّي أَحسَنَ مَثْواي ) (١) ، فلأجل أنّ يوسف نشأ في أحضانه وقام بشؤونه ، ولو وصف القرآن اليهودَ والنصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً ، وقال :( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (٢) ، فلأجل أنّهم تسلّموا زمام سلطة التشريع ، وتصرّفوا في الأموال والأعراض كيفما شاءُوا

إنّه سبحانه وصف نفسه بقوله :( ربُّ السَّماواتِ والأرض ) (٣) ، وقال أيضاً :( رَبُّ الشِعرى ) (٤) ، كلّ ذلك لأنّه تعالى مُدبِّرها ومديرها ، ومُصلِح شؤونها والقائم عليها

وهذا البيان يكشف النقاب عن المعنى الحقيقي للرَبِّ ، وهو المعنى الجامع بين هذه الموارد ، أعني : مَن فُوِّض إليه أمر الشيء من حيث الخلق و التدبير والتربية ، وبذلك يُعلَم ما في كلام ابن فارس من تفسيره بالخالق ، فإنّه خلطَ بين المعنى ولازمه ، فالخالق ليس من معاني الرَبّ

نعم ، خالق كلّ شيء يُعدّ مُربِّياً ومُدبِّراً

وثَمَّة نكتة جديرة بالاهتمام ، وهي : أنّ الوهابيِّين قسَّموا التوحيد إلى ( التوحيد في الربوبيَّة ) و ( التوحيد في الإلوهيّة ) ، وفسَّروا الأوّل بالتوحيد في الخالقيّة ، بمعنى الاعتقاد بأنّ للكون خالقاً واحداً ، و فسَّروا الثاني بالتوحيد في العبادة ، بمعنى أنّه ليس في الكون إلاّ معبودٌ واحدٌ

ولكنّهم أخطأوا في كلا الاصطلاحين

ــــــــــــــــ

(١) يوسف : ٢٣

(٢) التوبة : ٣١

(٣) الرعد : ١٦

(٤) النجم : ٤٩

٣٨

أمّا الأوّل : فلأنّ التوحيد في الربوبيَّة غير التوحيد في الخالقيّة ؛ فانّ الخالقية شيء ، والتدبير والإصلاح شيء آخر ، واللّه سبحانه وإن كان خالقاً ومُدبِّراً ، لكنّه لا يكون دليلاً على وحدة المفهومَين في الخارج

فالعرب في عصر الجاهليّة كانوا مُوحّدين في الخالقية ، وكان منطِق الجميع ما حكاه سبحانه بقوله :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلقَ السَّماواتِ والأَرْض ليقُولُنَّ خَلَقَهُنّ َالْعَزِيزُ العَلِيم ) .(١)

وفي الوقت نفسه ، لم يكونوا موحِّدين في الربوبيَّة ، يقول سبحانه :( وَاتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (٢) ، فكانوا يعتقدون بأنّ العِزّة والتدبير من شؤون المُدبِّر ، قال سبحانه :( واتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُون ) (٣) ، فكانوا يَرون أنّ النصر بيد الآلهة ، خلافاً للموحِّد في أمر التدبير ، فهو يرى أنّ العزَّةَ والنصر بيد اللّه سبحانه ، قال تعالى :( فَلِلّهِ العِزَّةُ جَميعاً ) (٤) ، وقال تعالى :( وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيز الْحَكيم ) (٥) ، إلى غير ذلك من الآيات الحاكية عن توغّلهم في الشركِ في أمر التدبير

ــــــــــــــــ

(١) الزخرف : ٩

(٢) مريم : ٨١

(٣) يس : ٧٤

(٤) فاطر : ١٠

(٥) آل عمران : ١٢٦

٣٩

وأمّا الثاني : فلأنّ التوحيد في الأُلوهيّة غير العبادة ، فهو مبنيّ على أنّ الإله بمعنى المعبود ، والعبادة من لوازم الإله

ولكنّه بعيد عن الصواب ؛ لأنّ ما يتبادر من لفظ الجلالة هو المُتبادَر من لفظ الإله ، غير أنّ الأوّل جزئي موضوع لفرد واحد ، والثاني كُلّي وإن لم يوجد له مصداق آخر

والّذي يدلّ على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود ، هو أنّه ربّما يُستعمَل لفظ الجلالة مكان الإله على وجه الكُلّيّة والوَصفيّة ، دون العلميّة ، فيصحّ وضع أحدهما مكان الآخر ، كما في قوله سبحانه :( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُون ) .(١)

فإنّ وِزانَ هذه الآية وِزان ، قوله سبحانه :

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وِفِي الأرضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكيمُ الْعَليم ) .(٢)

( وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) .(٣)

( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .(٤)

ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يُشابهها يُراد منه ما يُرادِف الإله على وجه الكلّيّة ، أي ما معناه : ( أنّه هو الإله الّذي يتَّصف بكذا وكذا )

ــــــــــــــــ

(١) الأنعام : ٣

(٢) الزخرف : ٨٤

(٣) النساء : ١٧١

(٤) الحشر : ٢٣ـ ٢٤

٤٠

ويَقربُ من الآية الأُولى قوله سبحانه :( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الْحُسْنى ) .(١)

فإنّ جعْل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء ، والأمر بدعوة أيٍّ منها ، ربّما يُشعِر بخلوِّه عن معنى العَلَميّة ، وتضمّنه معنى الوصفيّة الموجودة في لفظ ( الإله ) وغيره ، ومثله قوله سبحانه :( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ) .(٢)

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلّية لا العَلَمية الجزئيّة ، كما هو الظاهر لمَن أمعن فيها

المُقْسَمُ عليه :

إنّ المُقسَم عليه عبارة عن جواب القَسَم ، وهو في تلك الآيات كالتالي :

أ ـ الدعوة إلى تحكيم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتسليم أمام قضائه:( لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ )

ب ـ التأكيد على قدرته سبحانه على أن يأتي بخير منهم :( إنّا لَقادِرُون عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً )

ج ـ التأكيد على حشرِهم وحشرِ الشياطين :( لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطين )

د ـ التأكيد على أنّهم مسؤولون يوم القيامة عن أعمالهم :( لنسئَلنَّهم أَجْمَعين )

هـ ـ التأكيد على إتيان الساعة :( لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغَيب )

و ـ التأكيد على بعثِهم وآبائهم :( لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ )

ز ـ التأكيد على وقوع البعث :( إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ )

ح : التأكيد على أنّ أمر الرزق وما توعدون من الجزاء حقّ :( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ )

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ١١٠

(٢) الحشر : ٢٤

٤١

الصِلَة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه :

الصِلَة بينهما واضحة ، فإنّ المُقسَم عليه في هذه الآيات كان يدور حول أحد أمرين :

أ ـ الدعوة إلى التحكيم إلى النبي ، والتسليم أمام قضائه

ب : كون البعث والحشر والسؤال عن الأعمال أمراً حقّاً

ومن الواضح أنّ كلا الأمرين من شؤون الربوبيَّة ؛ فإنّ الرَبَّ إذا كان سائساً ومُدبِّراً فهو أعلم بصلاح المُدبّر ، فيجب أن يكون مُسلِّماً لأمرِ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهيِه

كما أنّ حياة المربوب من شؤون الرَبّ ، دون فرق بين آجله وعاجله ، فناسب الحلف بالرَبّ عند الدعوة إلى الحشر والنشر

وبعبارة أُخرى : كان المشركون ينكرون التسليم أمام أمره ونهيه ، كما كانوا ينكرون البَعث والنَشر ، ولمّا كان الجميع من شؤون الربوبيّة حلف بالرَبِّ تأكيداً لربوبيّته

ثُمّ أنّ المُقسَم به ـ فيما مضى من الآيات ـ هو لفظ الجلالة أو لفظ الرَبّ ، المُشيرين إلى الواجب الجامع لجميع صفات الكمال والجمال

وثَمَّة آيات ربّما يُستظهَر منها أنّ المُقسَم به هو سبحانه تبارك وتعالى ، لكن بلفظٍ مُبهَم كـ ( ما ) الموصولة ، وقد جاء في آيات أربع :

١ ـ( وَالسَّماءِ وَما بَناها )

٢ ـ( والأرْضِ وما طَحيها )

٤٢

٣ ـ( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها ) .(١)

٤ ـ( وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنثى ) .(٢)

وقد اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير لفظة ( ما ) ، فالأكثرون على أنّها ( ما ) موصولة ، كناية عن اللّه سبحانه ، وكأنّه سبحانه يقول : ( والسماء والّذي بناها ، والأرض والّذي طحاها ، ونفس والّذي سوّاها ) والواو للقَسَم

وهناك مَن يذهب إلى أنّها ( ما ) مصدريّة ، وكأنّه يقول : ( أُقسِم بالسماء وبنائها ، والأرضِ وطحائها ، والنفس وتسويتِها )

ولكنّ الرأي الأوّل هو الأقرب ؛ لاَنّ سياق الآية يؤيّد ذلك ، لأنّه سبحانه يقول :( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (٣) ، فالفاعل هو الضمير المُستَتِر الراجع إلى ( ما ) الموصولة الواردة في الآيات الثلاث المتقدّمة ، والّذي يصلح للفاعليّة هو الموصول من ( ما ) ، لا المصدر وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحلفِ بما ورد في هذه الآيات

ــــــــــــــــ

(١) الشمس : ٥ـ٧

(٢) الليل : ٣

(٣) الشمس : ٨

٤٣

الفصل الثالث : القَسَمُ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

حلف القرآن الكريم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرَّتين ، فتارة بعُمْره وحياته ، وأُخرى بوَصفه وكونه شاهداً ويقع البحث في مقامين :

المقام الأوّل : الحلف بعُمْر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

حلفَ سبحانه بحياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة ، وقال حينما عرضَ قصّة لوط :( قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) .(١)

تفسير الآيات :

أخبر سبحانه في هذه السورة أنّ الملائكة لمّا خرجوا من عند إبراهيم ، أتوا لوطاً يبشِّرونه بهلاكِ قومه ، ولمّا حلّوا ضيوفاً عند لوط ، فرحَ الفُجّار بورودهم ، فقال لهم لوط مُشيراً إلى بناته : ( إنّ هؤلاء بناتي ) فتزوجوهنّ ( إن كنتم فاعلين ) وكانت لكم رغبة في التزويج ، ولكنّ قوم لوط أعرضوا عمّا اقترح عليهم نبيّهم لوط ، وكانوا مُصرّين على الفجور بهم ، غافلين عن أنّ العذاب سيُصيبهم ، واللّه سبحانه يحلف بحياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقول :( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، فلا يُبصرون طريق الرشد( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) أي : الصوت الهائل ،( مُشرِقين ) أي : في حال شروق الشمس

ــــــــــــــــ

(١) الحجر : ٧١ـ ٧٣

٤٤

المُقسَم به :

المُقسَم به هو عبارة عن العُمْر ، أعني في قوله : ( لعَمْرك ) يقول الراغب : العَمْر والعُمْر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة ، فإذا قيل طال عُمْره ، فمعناه عمارة بدنه بروحه ، إلى أن قال : والعَمْر والعُمْر واحد ، لكن خُصَّ القَسَم بالعَمْر دون العُمْر ، كقوله سبحانه :( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ )

وأمّا العُمْر ، فكما في قوله سبحانه : ( فطالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُر ) ، وفي آية أُخرى : ( لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُركَ سِنين )

فاللفظان بمعنى واحد ، لكن يختصّ القَسَم بواحد منهما .(١)

المُقسَم عليه :

هو قوله :( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، والمُراد : أُقسم بحياتك وبقائك يا محمد ، إنّهم لفي سكرتهم وانغمارهم في الفحشاء والمُنكَر متحيِّرين لا يُبصرون طريق الرشد

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه :

قال ابن عبّاس : ما خلق اللّه (عزَّ وجلّ) وما ذرَأ ولا برَأ نفساً أكرم عليه من محمد ، وما سمعتُ اللّه أقسمَ بحياة أحد إلاّ بحياته ، فقال لعَمْرك .(٢)

وجه الصِلة أنّه سبحانه بعث الأنبياء عامّة ، والنبيّ الخاتم خاصّة ؛ لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة ، وإيقاظهم من السكرة الّتي تعمُّ الناس ، وبما أنّ القوم كانوا في سكرتهم يعمهون ، وفي ضلالتهم مستمرّون ، حلف سبحانه تبارك وتعالى بعُمْر النبيّ الّذي هو مصباح الهداية ، والدليل إلى الصراط المستقيم

ــــــــــــــــ

(١) المفردات : ٣٤٧ ، مادّة عَمَرَ

(٢) مجمع البيان : ٣/٣٤٢

٤٥

المقام الثاني : الحلف بوَصف النبي وأنّه شاهد :

حلف القرآن الكريم في سورة البروج بالشاهد والمشهود ، وقال :( وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُروج * وَالْيَومِ المَوعُودِ * وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصحابُ الأُخدُود ) .(١)

أمّا المشهود ، فسيوافيك في فصل القَسَم في سورة القيامة أنّ المراد منه يوم القيامة ، بشهادة قوله سبحانه :( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) .(٢)

إنّما الكلام في الشاهد ، فالمراد منه هو : النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بشهادة أنّه سبحانه وصفَه بهذا الوصف ثلاث مرّات ، وقال :

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) .(٣)

( إنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ ) .(٤)

( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) .(٥)

ــــــــــــــــ

(١) البروج : ١ـ٤

(٢) هود : ١٠٣

(٣) الأحزاب : ٤٥

(٤) المُزَّمّل : ١٥

(٥) الفتح : ٨

٤٦

والآيات صريحة في حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي بعض الآيات عرَّفه بأنّه ( شهيداً ) ، ويقول :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) .(١)

( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) .(٢)

هذه الآيات تُعرب عن أنّ المُقسَم به هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بما أنّه شاهِد على أعمال أُمّته ، وشهيداً عليها

سُئل الحسن بن عليعليهما‌السلام عن معنى الشاهد والمشهود في قوله سبحانه :( وشاهدٍ وَمَشْهُود ) ، فقال :( أمّا الشاهد فمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته يقول : ( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً ) وقال تعالى : ( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) ؟! ) .(٣)

معنى الشهادة وكيفيَّة شهادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أمّا الشهادة ، فقد فسَّرها الراغب وقال : الشهود والشهادة : الحضور مع المشاهدة ، إمّا بالبصر أو بالبصيرة ، وقد يُقال للحضور مُفرداً ، وقد نقل القرآن شهادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومه يوم القيامة ، فقال :( يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآنَ مَهْجُوراً ) .(٤)

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١٤٣

(٢) النحل : ٨٩

(٣) البحار : ١/١٣

(٤) الفرقان : ٣٠

٤٧

هذه حقيقة قرآنيّة في حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ، ولا يمكن إنكارها ؛ للتصريح بها في غير واحد من الآيات ، قال تعالى :

( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هؤُلاءِ شَهيداً ) .(١)

وقال تعالى :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُون ) .(٢)

وقال عزَّ اسمُه :( وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداء ) .(٣)

والشهادة فيها مُطلَقة ، وظاهر الجميع ـ على إطلاقها ـ هو الشهادة على أعمال الأُمَم ، وعلى تبليغ الرُسل كما يومئ إليه ، قوله تعالى :( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرسَلين ) .(٤)

وظَرف الشهادة وإن كان هو الآخرة ، لكنّ الشهداء يتحمّلوها في الدنيا قال سبحانه :( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد ) .(٥)

وعلى ضوء ذلك يُثار هذا السؤال في الذهن ، وهو :

إنّ الشهادة من الحضور ، ولم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهراً مع جميع الأُمّة ، بل كان بمَعزلٍ عنهم إلاّ شيئاً لا يُذكَر ، فكيف يشهد وهو لم يحضر الواقعة ، أي أفعال أُمّته قاطبة ؟!

وهناك إشكال آخر أكثر غموضاً ، وهو : أنّ الشهادة على ظاهر الأعمال ليست مفيدة يوم القيامة ، بل الشهادة على باطن الأعمال ، من كون الصلاة للّه أو للرياء وللسمعة ، وأنّ إيمانه هل كان إيماناً نابعاً من صميم ذاته أو نفاقاً لأجل حطام الدنيا ، فهذا النوع من الأعمال لا يمكن الشهادة عليها ، حتى بنفس الحضور عند المشهود عليه

ــــــــــــــــ

(١) النساء : ٤١

(٢) النحل : ٨٤

(٣) الزمر : ٦٩

(٤) الأعراف : ٦

(٥) المائدة : ١١٧ .

٤٨

وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ لشهداء الأعمال عامّة ، والنبيّ الخاتم خاصّة ، قدرة غيبيّة خارقة ، يطّلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها ، وذلك بقُدرة من اللّه سبحانه

وعلى ذلك ، فهذه الشهادة عبارة عن الاطّلاع على أعمال الناس في الدنيا ، من سعادة أو شقاء ، وانقياد وتمرّد ، وإيمان وكفر ، وأداء ذلك في الآخرة ، يوم يستشهد اللّه من كلّ شيء حتى من أعضاء الإنسان ، وعند ذلك يقوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول :( يا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآن مَهْجُوراً )

فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى ، فلا ينالها إلاّ الأمثَل فالأمثَل من الأُمّة ، لا الأُمّة بأسرِها

وعلى ضوء ذلك ، يكون المراد من قوله سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً ) (١) هم الكاملين من الأُمّة ، لا المُتوسّطين وما دونهم

وأمّا نسبة الشهادة إلى قاطبة أُمّة النبي في قوله تعالى :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسطاً ) ، فليس بشيء بديع ، إذ ربّما يكون الوصف لبعض الأُمّة ويُنسَب الحكم إلى جميعهم ، كما في قوله سبحانه في حقّ بني إسرائيل :( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) ، على الرغم من أنّ الملوك فيهم لم يكن يتجاوز عددهم عدَد الأصابع

وثَمّة حديث منقول عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، في تفسير قوله تعالى : ( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً ) يؤيِّد هذا المعنى ( الشهادَة للأمْثَل ): ( فإن ظنَنتَ أنّ اللّه عَني بهذه الآية جميع أهل القبلة من المُوحِّدين ، أفترى أنّ مَن لا تجوز شهادته في الدنيا على صاعٍ من تمر يَطلبُ اللّهُ شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمَم الماضية ؟!

كلاّ ، لم يعنِ اللّه مثل هذا من خَلْقه

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١٤٣

٤٩

يعني الأُمّة الّتي وجبت لها دعوة إبراهيم ( كُنْتُم خَير أُمّة أُخرِجَت للناسِ ) ، وهم الأُمّة الوسطى ، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس ) .(١)

الحلف بالنبيّ كناية :

ربّما يحلف القرآن الكريم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كناية قال سبحانه :( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَد * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَد * وَوالدٍ وَما وَلَد * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ في كَبَد ) .(٢)

والحِلُّ بمعنى المُقِيم ، وكأنّه سبحانه يقول : وأنتَ يا محمد مُقيم به ، وهو مَحلّك ، وهذا تنبيه على شَرفِ البلد بشَرفِ مَن حلَّ به ، وهو الرسول الداعي إلى توحيده وإخلاص عبادته ، وبيان أنّ تعظيمه له وقَسَمه به لأجله ، ولكونه حالاًّ فيه ، كما سُمِّيت المدينة ( طيبة ) لأنّها طابت به حيّاً وميتاً(٣)

وكأنّ الآية تُشير إلى المَثلِ المعروف ( شَرفُ المكانِ بالمَكين ) ، وأنّ قداسةَ مكّة ، والداعي إلى الحلف بها ، هو احتضانها للنبي

يقول العلاّمة الطباطبائي : والحِلّ مصدر كالحلول بمعنى الإفاضة والاستقرار في مكان ، والمصدر بمعنى الفاعل ، والمعنى : أُقسِمُ بهذا البلد ، والحال أنّك حالّ به مُقيم فيه ، وفي ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلوله فيها وكونها مولده ومقامه(٤)

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ١/٣٣٢

(٢) البلد : ١ـ٤

(٣) مجمع البيان : ١٠|٤٩٢

(٤) الميزان : ٢٠/٢٨٩

٥٠

الفصل الرابع : القَسَمُ بالقرآنِ الكَريم

القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الّذي أنزلَه سبحانه على رسوله ليكون للعالمين نذيراً ، وبما أنّ القرآن كتاب هداية للناس ، فقد نال من الكرامة بمكان حلف به سبحانه ، فتارة بلفظ ( القرآن ) وأُخرى بلفظ ( الكتاب )

فقد حلف بالقرآن في ثلاث آيات :

( يس * وَالقُرآنِ الحَكيم * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * على صراطٍ مُسْتَقيم ) .(١)

( ص وَالقُرآنِ ذي الذِّكْر * بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في عِزَّة وَشِقاق * كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلهِِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوا وَلاتَ حينَ مَناص * وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّاب * أَجَعلَ الآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنّ هذا لشيءٌ عُجاب ) .(٢)

( ق وَالقُرآنِ المَجيد * بَلْ عَجِبُوا أنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الكافِرُونَ هذا شَيءٌ عَجيب ) .(٣)

ــــــــــــــــ

(١) يس : ١ـ٤

(٢) ص : ١ـ٥

(٣) ق : ١ـ٢

٥١

كما حلف سبحانه بلفظ الكتاب مرّتين ، وقال :

( حم * وَالكِتاب الْمُبين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرينَ * فِيها يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم * أَمراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرسِلين ) .(١)

( حم * وَالْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكيمٌ ) .(٢)

وقبل الخوض في تفسير الآيات نذكر أُموراً :

الأوّل : أنّه سبحانه صدَّر هذه الأقسام بالحروف المُقطَّعة كما هو واضح ، وهذا يؤيّد أنّ كلمة ( يس ) من الحروف المُقطَّعة

والحروف المُقطّعة : عبارة عن الحروف الّتي صُدِّرَ بها قِسم من السور ، يجمعها قولنا : ( صراط علي حق نمسكه )

وعند التحليل يرجع إلى :

ا ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، هـ ، ي

والعجب أنّ هذه الحروف هي نصف الحروف الهجائية !

الثاني : ما هو المراد من الحروف المقطعة ؟

افتتح القرآن الكريم قِسماً من السور بحروف مُقطّعة ، أعني السور التالية :

١ ـ البقرة ، ٢ ـ آل عمران ، ٣ ـ الأعراف ، ٤ ـ يونس ، ٥ ـ هود ، ٦ ـ يوسف ، ٧ ـ الرعد ، ٨ ـ إبراهيم ، ٩ ـ الحجر ، ١٠ ـ مريم ، ١١ ـ طه ، ١٢ ـ الشعراء ، ١٣ ـ النمل ، ١٤ ـ القصص ، ١٥ ـ العنكبوت ، ١٦ ـ الروم ، ١٧ ـ لقمان ، ١٨ ـ السجدة ، ١٩ ـ يس ، ٢٠ ـ ص ، ٢١ ـ غافر ، ٢٢ ـ فُصّلت ، ٢٣ ـ الشورى ، ٢٤ ـ الزخرف ، ٢٥ ـ الدخان ، ٢٦ ـ الجاثية ، ٢٧ ـ الأحقاف ، ٢٨ ـ ق ، ٢٩ ـ القلم

فهذه السور الّتي يبلغ عددها ٢٩ سورة ، اُفتتحت بالحروف المُقطّعة

ــــــــــــــــ

(١) الدخان : ١ـ٥

(٢) الزخرف : ١ـ٤

٥٢

وقد تطرَّق المُفسِّرون إلى بيان ما هو المقصود من هذه الحروف ، وذكروا وجوهاً كثيرة ، نقلها فخر الدِّين الرازي في تفسيره الكبير تربو على عشرين وجهاً(١)

وها نحن نقدِّم المختار ثُمَّ نلمِّح إلى بعض الوجوه

إلماع إلى مادَّة القرآن :

إنّ القرآن الكريم تحدّى المشركين بفصاحته وبلاغته ، وعذوبة كلماته ورصانة تعبيره ، وادّعى أنّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر ، بل من صنع قدرة إلهيّة فائقة لا تبلغ إليها قدرة أيِّ إنسان ، ولو بلغ في مضمار البلاغة والفصاحة ما بلغَ

ثُمّ أنّه أخذ يورد في أوائل السور قِسْماً من الحروف الهجائيّة ؛ للإلماع إلى أنّ هذا الكتاب مؤلّف من هذه الحروف ، وهذه الحروف هي الّتي تلهجون بها صباحاً ومساءً فلو كنتم تزعمون أنّه من صُنْعي فاصنعوا مثله ؛ لأنّ المواد الّتي تركّب منها القرآن كلّها تحت أيديكم ، واستعينوا بفصحائكم وبُلغائكم ، فإن عجزتم ، فاعلموا أنّه كتاب مُنزَّل من قبل اللّه سبحانه على عبد من عباده ، بشيراً ونذيراً

وهذا الوجه هو المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو خيرة جَمْع من المُحقّقين ، وإليك ما ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المقام :

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢/٥ـ ٨

٥٣

أ ـ روى الصدوق بسنده عن الإمام العسكريعليه‌السلام ، أنّه قال :( كذَّبتْ قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا : هذا سِحر مُبين تقوَّله ، فقال اللّه : ( الم * ذلِكَ الكتاب ) أي : يا محمّد ، هذا الكتاب الّذي أنزلته إليك هو الحروف المُقطّعة الّتي منها ( الم ) ، وهو بلُغَتِكم وحروف هجائكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا بذلك بسائر شهدائكم ، ثُمّ بيَّن أنّهم لا يقدرون عليه ، بقوله : ( لَئِن اجْتَمَعتِ الإنْس وَالجِنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَو كانَ بَعضهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً ) (١) ) . (٢)

وبه قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني (٢٥٤ـ ٣٢٢هـ) ـ من كبار المُفسّرين ـ حيث قال : إنّ الّذي عندنا أنّه لمّا كانت حروف المُعجَم أصل كلام العرب ، وتحدَّاهم بالقرآن ، وبسورة من مثله ، أراد أنّ هذا القرآن من جنس هذه الحروف المُقطّعة ، تعرفونها وتقتدرون على أمثالها ، فكان عجزكم عن الإتيان بمثل القرآن وسورة من مثله دليلاً على أنّ المنع والتعجيز لكم من اللّه على أمثالها ، وأنّه حُجّة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال : وممّا يدلّ على تأويله ، أنّ كلّ سورة افتُتحَت بالحروف الّتي أنتم تعرفونها بعدها إشارة إلى القرآن ، يعني : أنّه مؤلّف من هذه الحروف ، الّتي أنتم تعرفونها وتقدرون عليها

ثُمّ سأل نفسه وقال : إن قيل : لو كان المراد هذا ، لكان قد اقتصر اللّه تعالى على ذكر الحروف في سورة واحدة ؟!

فقال : عادة العرب التكرار عند إيثار إفهام الّذي يخاطبونه(٣)

واختاره الزمخشري (٤٦٧ـ ٥٣٨هـ) في تفسيره ، وقال : واعلم أنّك إذا تأمَّلت ما أورده اللّه (عزّ سُلطانه) في الفواتح من هذه الأسماء ، وجدتها نصف أسامي حروف المُعجَم : ( ١٤ ) سِواه ، وهي : الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة ، على عدد حروف المعجم !

ثُمّ إذا نظرت في هذه الأربعة عشر ، وجدتها مُشتمِلة على أنصاف أجناس الحروف !

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٨٨

(٢) تفسير البرهان : ١/٥٤ ، تفسير الآية الثالثة من سورة البقرة ، رقم : ٩

(٣) تاريخ القرآن للزنجاني : ١٠٦

٥٤

بيان ذلك :

إنّ فيها من المهموسة نصفها : الصاد والكاف والهاء والسين والحاء

ومن المهجورة نصفها : الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون

ومن الشديدة نصفها : الألف والكاف والطاء والقاف

ومن الرخوة نصفها : اللام والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون

ومن المُطبقة نصفها : الصاد والطاء

ومن المنفتحة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون

ومن المُستعلِية نصفها : القاف والصاد والطاء

ومن المُنخفضة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء و الياء والعين والسين والحاء والنون

ومن حروف القَلْقَلة نصفها : القاف والطاء

ثُمّ إذا استقريت الكَلِم وتراكيبها ، رأيت الحروف الّتي ألغى اللّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة ، مكثورة بالمذكورة منها ، فسبحان الّذي دقَّت في كلّ شيء حكمته ، وقد علمت أنّ معظم الشيء وجُلّه ينزل منزلة كلّه ، وهو المُطابق للطائف التنزيل

٥٥

فكأنّ اللّه (عزّ اسمه) عدّد على العرب الألفاظ الّتي منها تراكيب كلامهم ؛ إشارة إلى ما ذكرتُ من التَبْكيتِ لهم ، وإلزام الحُجّة إيّاهم(١)

ومن المُتأخّرين مَن بيَّن هذا الوجه ببيانٍ رائع ، ألا وهو المُحقّق السيّد هبة الدِّين الشهرستاني (١٣٠١ـ ١٣٨٦هـ) ، قال ما هذا نصّه :

إنّ القرآن مجموعة جُمَل ليست سوى صبابة أحرف عربيّة ، من جنس كلمات العرب ، ومن يسير أعمال البشر ، وقد فاقت مع ذلك عبقريّةً ،

وكلّما كان العمل البشري أيسر صدوراً وأكثر وجوداً ، قلّ النبوغ فيه ، وصعب افتراض الإعجاز والإعجاب منه ، فإذا الجُمَل القرآنيّة ليست سوى الحروف المتداولة بين البشر ! فهي عبارة عن ( الم ) و ( حمعسق ) ، فلماذا صار تأليف جملة أو جُمَل منه مستحيل الصدور؟!

هذا ونجد القرآن يُكرِّر تحدّي العرب وغير العرب بإتيان شيء من مقولة هذا السهل المُمتنِع ، كالطاهي يُفاخر المُتطاهي بأنّه يصنع الحلوى اللذيذة من أشياء مبذولة لدى الجميع ، كالسمنِ واللوز ودقيق الرز ، بينما المُتطاهي لا يتمكَّن من ذلك مع استحضاره الأدوات ، وكذلك الكيمياوي الماهر ، يستحضر المطلوب المُستجمع لصِفات الكمال ، وغيره يعجز عنه مع حضور جميع الأدوات والأجزاء

وكذلك القرآن ، يقرع ويسمع قومه بأنّ أجزاء هذا المُستحضَر القرآني موفورة لديكم ، من ( ح ) و ( م ) و ( ل ) و ( ر ) و ( ط ) و ( هـ ) ، وأنتم مع ذلك عاجزون(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ١/١٧ ، ط دار المعرفة

(٢) المعجزة الخالدة : ١١٥ـ ١١٦

٥٦

ويُؤيّد هذا الرأي أنّ أكثر السور الّتي صدرت بالحروف المُقطَّعة جاء بعدها ذكر القرآن الكريم بتعابير مختلفة ، ولم يشذَّ عنها إلاّ سور أربع ، هي : مريم والعنكبوت ، والروم ، والقلم ففي غير هذه السور أردف الحروف المقطعة بذكر الكتاب والقرآن ، وإليك نماذج من الآيات :

( الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلْمُتَّقين ) (١)

( الم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالْحَقّ مُصدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوراةَ والإنجِيل ) (٢)

( المص * كِتابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) (٣)

( الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكيم ) (٤)

إلى غير ذلك من السور ، ما عدا الأربع الّتي أشرنا إليها

ثمّ إنّ هذا الوجه هو الوجه العاشر في كلام الرازي ، ونسبَه إلى المبرّد وإلى جمعٍ عظيم من المُحقّقين ، وقال :

إنّ اللّه إنّما ذكرها احتجاجاً على الكُفّار ، وذلك أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا تحدّاهم أن يأتوا بمِثلِ القرآن ، أو بعشر سورٍ أو بسورة واحدة ، فعجزوا عنه ، أُنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أنّ القرآن ليس إلاّ من هذه الحروف ، وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفصاحة ، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن ، فلمّا عجزتم عنه ؛ دلّ ذلك على أنّه من عند اللّه ، لا من عند البشر(٥)

هذا هو الرأي المختار ، وقد عرفت برهانه

وثَمّة رأي آخر أقل صحَّة من الأوّل ، وحاصله : أنّ كلّ واحد منها دالٌّ على اسم من أسماء اللّه تعالى ، وصفة من صفاته

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١ـ٢

(٢) آل عمران : ١ـ٣

(٣) الأعراف : ١ـ٢

(٤) يونس : ١

(٥) تفسير الفخر الرازي : ٢/٦

٥٧

قال ابن عبّاس في( الم ) : الألف إشارة إلى أنّه تعالى أَحَدُ ، أوّل ، آخر ، أزليّ ، أبدي ، واللام إشارة إلى أنّه لطيف ، والميم إشارة إلى أنّه مَلك ، مجيد ، مَنّان

وقال في( كهيعص ) : إنّه ثناء من اللّه تعالى على نفسه ، والكاف يدلّ على كونه كافياً ، والهاء يدلّ على كونه هادياً ، والعين يدلّ على العالم ، والصاد يدلّ على الصادق

وذكر ابن جرير عن ابن عبّاس أنّه حمل الكاف على الكبير والكريم ، والياء على أنّه يُجير ، والعين على العزيز والعدل(١)

ونقل الزنجاني في تأييد ذلك الوجه ما يلي :

وفي الحديث :( شعارُكم حم لا يُنصَرُون ) ، قال الأزهري : سُئل أبو العبّاس ، عن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( حم لا ينصرون ) ، فقال : معناه واللّه لا ينصرون

وفي لسان العرب ، في حديث الجهاد :( إذا بُيّتم فقولوا حاميم لا يُنصَرُون ) ، قال ابن الأثير : معناه اللّهمّ لا ينصرون(٢)

إذا عرفت هذه الأمور ، فلنرجع إلى تفسير الآيات الّتي حلف فيها سبحانه بالقرآن والكتاب ، وإليك البيان :

١ ـ( يس * والْقُرآن الحَكيم * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين ) ، فالمُقسَم به هو القرآن ، والمُقسَم عليه قوله :( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين ) ، والصِلة بين القرآن وبين كونه من المُرسَلين واضحة ، لاَنّ القرآن أداةُ تبليغهِ ورسالته ومعجزته الخالدة

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢/٦

(٢) تاريخ القرآن : ١٠٥

٥٨

وأمّا وصف القرآن بالحكيم ، فلأنّه مُستقرٌ فيه الحكمة ، وهي : حقائق المعارف وما يتفرَّع عليها من الشرائع والعِبر و المواعظ(١)

٢ ـ( ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ )

وُصف القرآن بكونه ( ذي الذكر ) ، كما وصفه في الآية السابقة بكونه ( حكيماً ) ، ووصفه تارة ثالثة بـ ( المجيد ) ، والمُراد بالذِكر هو : ذكر ما جُبِلَ عليه الإنسان من التوحيد والمعاد

قال الطبرسي : فيه ذكر اللّه وتوحيده وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى ، وذكر الأنبياء ، وأخبار الأُمَم ، وذكر البَعْث والنُشور ، وذكر الأحكام وما يحتاج إليه المُكلّف من الأحكام ، ويُؤيّده قوله :( ما فَرَّطنا في الكتاب من شيء ) (٢)

قال الطباطبائى في تفسيره : المراد بالذِكر : ذكر اللّه تعالى وتوحيده ، وما يتفرّع عليه من المعارف الحقّة ، من المعاد والنبوّة وغيرهما

ويؤيِّد ذلك إضافة الذكر في غير واحد من الآيات إلى لفظ الجلالة ، قال سبحانه :( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ) (٣) ، وقال :( استَحْوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكرَ اللّه ) (٤) إلى غير ذلك

وأمّا المُقسَم عليه : فمَحذوف ، معلوم من القرينة ، هو ( أنّك لمِن المُنذرين ) ، ويدلّ على ذلك : التنديد بالّذين كفروا وأنّهم في عزّة وشقاق ، أي : في تكبُّر عن قبول الحقّ وحميّة جاهليّة ، وشقاق أي : عداوة وعصيان ومخالَفة ، لأنّهم يأنفون عن متابعة النبي ، ويُصرّون على مخالفته ثُمّ خوّفهم اللّه سبحانه فقال : كمْ أهلكنا من قبلهم من قرنٍ بتكذيبهم الرُسل ، فنادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة ، ولاتَ حين مناص

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الميزان : ١٧/٦٢

(٢) مجمع البيان : ٨/٤٦٥

(٣) الحديد : ١٦

(٤) المجادلة : ١٩

٥٩

والصِلة بين المُقسَم به( القُرآن ذي الذِّكر ) ، والمُقسَم عليه المُقدّر( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُنْذَرين ) واضحة ؛ لاَنّ القرآن من أسباب إنذاره وأدوات تحذيره

٣ ـ( ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) (١)

المُقسَم به هو القرآن ، ووَصَفه بالمجيد

قال الراغب : المَجْدُ : السِعة في المقام والجلال ، وقد وُصف به القرآن الكريم ، فلأجل كثرة ما يتضمّن من المكارم الدنيويّة والأُخرويّة ، فالمجيد مبالَغة في المَجد

وقال الطبرسي : المجيد أي الكريم على اللّه ، العظيم في نفسه ، الكثير الخير والنفع(٢)

والمُقسَم عليه محذوف ، تدلّ عليه الجُمل التالية ، والتقدير : والقرآن المجيد انّك لمِن المنذرين ، أو أنّ البعث حقّ والإنذار حقّ

وقد ركَّزت السورة على الدعوة إلى المعاد ، ووبّخت المشركين باستعجالهم على إنكاره ، ونقد زَعمهم

والصِلة بين المُقسَم به وجواب القَسَمِ واضحة ، سواء أقلنا بأنّ المُقسَم عليه ( إِنّك مِنَ المنذرين ) أم أنّ البعث والنشر حقّ ، أمّا على الأوّل ؛ فلأنّ القرآن أحد أدوات الإنذار ، وأمّا على الثاني فلاَنَّ القرآن يتضمّن شيئاً كثيراً عن الدعوة إلى المعاد

ــــــــــــــــ

(١) ق : ١ـ٢

(٢) مجمع البيان : ٩|١٤١ .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173