الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم 11%

الأقسام في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 173

الأقسام في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 50249 / تحميل: 7623
الحجم الحجم الحجم
الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

٤ ـ( وَالنّازِعاتِ غَرْقاً * وَالنّاشِطاتِ نَشْطاً * وَالسّابِحاتِ سَبْحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرجُف الراجِفَة * تَتْبَعُها الرّادِفَة ) (١)

وهانحن نبحث عن أقسام سورة الصافّات والذاريات في فصلَين مُتتالين ، ونُحيل بحث أقسام سورة المُرسَلات والنازعات إلى محلّها ، حسب ترتيب السور

وقبل الخوض في تفسير الآيات ، نُقدِّم شيئاً من التوحيد في التدبير :

إنّ من مراتب التوحيد في الربوبيّة التدبير ، بمعنى أنّه ليس للعالم مُدبِّر سواه ، يقول سبحانه :( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (٢)

فصَدر الآية يُركّز على حصر الخالق في اللّه ، كما يُركِّز على أنّه هو المُدبّر ، وأنّه لو كان هناك سبب في العالم ( شفيع ) فإنّما هو يؤثَر بإذنه سبحانه ، فاللّه هو الخالق وهو المُدبِّر ، قال سبحانه :( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجرِي لأجَلٍ مُسمّى يُدبِّرُ الأمْرَ يُفصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون ) (٣)

ويظهر من الآيات الكريمة أنّ العرب في العصر الجاهلي كانوا موحّدين في الخالقيّة ، ولكن مشركين في الربوبيَّة والتدبير ، وكانوا ينسبون التدبير إلى الآلهة المكذوبة ، ولذلك قرَّر سبحانه في الآيتين كلتا المرتبتين من التوحيد ، وأنّه خالق ، وأنّه مُدبِّر ، غير أنّ معنى التدبير في التوحيد ليس عزل العِلل والأسباب المادِّية والمجرَّدة في تحقّق العالم وتدبيره ، بل المراد أنّ للكون مُدبِّراً قائماً بالذات ، مُتصرفاً كذلك ، لا يشاركه في التدبير شيء ، ولو كان هناك مُدبِّر وحافظ ، فإنّما هو يُدبِّر بأمره وإذنه

ــــــــــــــــ

(١) النازعات : ١ـ٧

(٢) يونس : ٣

(٣) الرعد : ٢

٨١

فعندما يُحصر القرآن الكريم التدبير في اللّه ، يريد التدبير على وجه الاستقلال ، أي : مَن يُدبِّر بنفسه غير مُعتمِد على شيء ، وأمّا المُثبّت لتدبير غيره ، فالمراد منه أنّه يُدبِّر بأمره وإذنه ، وحوله وقوَّته ، على النحو التَبَعِي ، فكلّ مُدبِّر في الكون فهو مَظْهرُ أمره ومُنفِّذ إرادته ، وقد أوضحنا ذلك في الجزء الأوّل من مفاهيم القرآن

ويظهر من غير واحد من الآيات ، أنّ الملائكة من جنوده سبحانه ، وأنّها وسائط بين الخالق والعالَم ، وأنّهم يقومون ببعض الأعمال في الكون بأمر من اللّه سبحانه ، وستتَّضح لك أعمالهم في إدارة الكون في تفسير هذه الآية

إنّ للعلاّمة الطباطبائي كلاماً في كون الملائكة وسائط بينه سبحانه و بين الأشياء ، حيث يقول : الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بِدءاً وعَوداً ، على ما يعطيه القرآن الكريم ، بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق المادِّية في العالم المشهود ، قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده

أمّا في العود ، أعني : حال ظهور آيات الموت ، وقبض الروح ، وإجراء السؤال ، وثواب القبر وعذابه ، وإماتة الكلّ بنَفْخِ الصور وإحيائهم بذلك ، والحشر وإعطاء الكتاب ، ووضع الموازين والحساب ، والسَوْق إلى الجنَّة والنار ، فوساطتهم فيها غنيّة عن البيان ، والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ، والأخبار المأثورة فيها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فوق حدِّ الإحصاء

وكذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي ، ودفع الشياطين عن المُداخلة فيه ، وتسديد النبي وتأييد المؤمنين ، وتطهيرهم بالاستغفار

٨٢

وأمّا وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة ، فيدلّ عليها ما في مُفتَتح هذه السورة ، من إطلاق قوله :( والنازِعاتِ غَرقاً * وَالناشِطاتِ نَشطاً * وَالسّابِحاتِ سَبحاً * فَالسابِقاتِ سَبْقاً * فَالمُدبِّراتِ أَمْراً ) (١)

الصافّات والقَسَم بالملائكة :

لقد حلف سبحانه بوصف من أوصاف الملائكة وقال :

أ ـ( وَالصّافّاتِ صَفّاً )

ب ـ( فَالزّاجِراتِ زَجْراً )

ج ـ( فالتّاليات ذِكراً * إِنَّ إلهَكُم لواحِد ) (٢)

وكلّ هذه الثلاثة مُقسَم به ، والمُقسَم عليه هو قوله :( إِنَّ إلهكم لواحد )

وإليك تفسير المُقسَم به فيها :

فالصافّات : جمع صافَّة ، وهي من الصفِّ بمعنى جعل الشيء على خطٍّ مستوٍ ، يقول سبحانه :( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفّاً ) (٣)

والزاجرات : من الزَجْرِ ، بمعنى الصرفِ عن الشيء بالتخفيف والنهي

والتاليات : من التلاوة ، وهي جمع تالٍ أو تالية

غير أنّ المهمّ بيان ما هو المقصود من هذه العناوين ، ولعلّ الرجوع إلى القرآن الكريم يُزيح الغموض عن كثير منها

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ٢٠/١٨٢ـ ١٨٣

(٢) الصافّات : ١ـ٤

(٣) الصف : ٤

٨٣

يقول سبحانه حاكياً عن الملائكة :( وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُوم * وَإِنّا لَنَحْنُ الصّافُّون * وَإِنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُون ) (١)

فينطبق على الملائكة أنّهم الصافّون حول العرش ، ينتظرون الأمر والنهي من قبل اللّه تعالى

نعم ، وصفَ سبحانه الطير بالصافّات وقال :( وَالطَّيرَ صافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسبِيحَهُ ) (٢) ، وقال :( أَوَ لَمْ يَرَوا إِلَى الطَّيْرِ صافّاتٍ وَيَقْبضْنَ ) (٣) ، كما أمر سبحانه على أن تُنحر البُدن وهي صوافّ ، قال سبحانه :( وَالبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيها خَيرٌ فاذْكُرُوا اسمَ اللّهِ عَلَيْها صَوَافّ ) (٤)

والمعنى : أن تُعقَل إحدى يديها وتقوم على ثلاث ، فتُنحَر كذلك ، فيُسوّى بين أظلفتها لئلاّ يتقدَّم بعضها على بعض

وعلى كلّ تقدير ، فمن المحتمَل أن يكون المحلوف به هو الملائكة صافّات ، ويمكن أن يكون المحلوف به كلّ ما أطلق عليه القرآن ذلك الاسم ، وإن كان الوجه الأوّل هو الأقرب

وأمّا الثانية ، أي الزاجرات : فليس في القرآن ما يدلّ على المقصود به ، فلا محيص من القول بأنّ المراد : الجماعة الّذين يزجرون عن معاصي اللّه ، ويحتمل أن ينطبق على الملائكة ، حيث يزجرون العباد عن المعاصي بالإلهام إلى قلوب الناس

قال سبحانه : ( وَما أُنْزِلَ عَلى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) (٥) ، كما أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم بالدعوة إلى المعاصي

ــــــــــــــــ

(١) الصافّات : ١٦٤ـ ١٦٦

(٢) النور : ٤١

(٣) المُلك : ١٩

(٤) الحجّ : ٣٦

(٥) البقرة : ١٠٢

٨٤

قال سبحانه :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) (١)

والتاليات : هنّ اللواتي يتلون الوحي على النبي المُوحى إليه

فالمرادُ من الجميع الملائكة

وثَمَّة احتمال آخر ، وهو أنّ المراد من الصفات الثلاث هم العلماء ، فإنّهم هم الجماعة الصافّة أقدامها بالتهجّد وسائر الصلوات ، وهم الجماعة الزاجرة بالمواعظ والنصائح ، كما أنّهم الجماعة التالية لآيات اللّه والدارِسة شرائعه

كما أنّ ثَمّة احتمالاً ثالثاً ، وهو أنّ المراد هم الغزاة في سبيل اللّه ، الّذين يصفّون أقدامهم ، ويزجرون الخيل إلى الجهاد ، ويتلون الذكر ، ومع ذلك لا يشغلهم تلك الشواغل عن الجهاد

وأمّا المُقسَم عليه : فهو قوله سبحانه :( إِنَّ إِلهكم لَواحد )

والصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه : هي أنّ الملائكة أو العلماء أو المجاهدين الّذين وصفوا بصفات ثلاث ، هم دعاة التوحيد وروّاده ، وأبرز مصاديق من دعا إلى التوحيد على وجه الإطلاق ، وفي العبادة خاصّة

ــــــــــــــــ

(١) الأنعام : ١١٢

٨٥

الفصل الثاني : القَسَم في سورة الذاريات

لقد حلف سبحانه بأُمور أربعة مُتتابعة وقال :

( وَالذّارِياتِ ذَرْواً )

( فَالحامِلاتِ وِقْراً )

( فَالجارِياتِ يُسْراً )

( فَالمُقسِّمات أمراً * إِنّما تُوعدونَ لصادِقٌ * وإنَّ الدِّينَ لَواقِع ) (١)

ثُمّ حلف بخامس فرداً ، أي قوله :( وَالسَّماءِ ذاتِ الحُبُك )

أمّا الأوّل ، أعني :( والذارِيات ذَرواً ) : فهي جمع ذارية ، ومعناها الريح الّتي تنشر شيئاً في الفضاء ، يقول سبحانه :( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) (٢) ، ولعلّ هذه قرينة على أنّ المراد من الذاريات هي الرياح

وأمّا الحاملات : فهي من الحِمل ، والوِقرـ على زنة الفِكْر ـ ذو الوزن الثقيل

والمراد منه : السحب ، يقول سبحانه :( هُوَ الَّذي يُريكُمُ البَرقَ خَوفاً وَطَمَعاً وَيُنشىَُ السَّحابَ الثِّقال ) (٣) ، وقال سبحانه :( حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ١ـ٦

(٢) الكهف : ٤٥

(٣) الرعد : ١٢ .

٨٦

مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الماء ) (١)

وأمّا الجاريات ، فهي جمعُ جارية ، والمراد بها السُفن ، بشهادة قوله سبحانه :( حَتّى إِذا كُنْتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة ) (٢) ، وقال :( وَالفُلْكِ الّتي تَجْري فِي البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاس ) (٣) ، وقال سبحانه :( إِنّا لَمّا طَغا الماءُ حَمَلْناكُمْ في الجارِيَة ) (٤)

وأمّا المُقسِّمات ، فالمراد الملائكة الّتي تُقسَّم الأرزاق بواسطتها ، الّتي ينتهي إليه التقسيم

يقول العلاّمة الطباطبائي : وإقسام بالملائكة الّذين يعملون بأمره ، فيقسِّمونه باختلاف مقاماتهم ، فانّ أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد ، فإذا حمله طائفة من الملائكة ، على اختلاف أعمالهم ، انشعب الأمر وتقسَّم بتقسيمهم ، ثُمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الأُولى تَقسَّم ثانياً بتقسيمهم وهكذا ، حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونيّة الجزئية ، فيَنقسم بانقسامها ويتكثّر بتكثُّرها

والآيات الأربع تُشير إلى عامّة التدبير ، حيث ذكرت أنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في البرِّ ، وهو الذاريات ذرواً ، وأنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في البحر ، وهو الجاريات يسراً ، وأنموذجاً ممّا يدبَّر به الأمر في الجوّ ، وهو الحاملات وقراً ، وتمَّم الجميع بالملائكة الّذين هم وسائط التدبير ، وهم المقسِّمات أمراً

فالآيات في معنى أن يقال : أُقسم بعامَّة الأسباب الّتي يتمَّم بها أمر التدبير في العالم ، أن كذا كذا.

ــــــــــــــــ

(١) الأعراف : ٥٧

(٢) يونس : ٢٢

(٣) البقرة : ١٦٤

(٤) الحاقّة : ١١

٨٧

وقد ورد من طرق الخاصّة والعامّة عن عليعليه‌السلام تفسير الآيات الأربع(١)

وبذلك يُعلَم قيمة ما روي عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في تفسير الآية ، عندما سأله ابن الكوا عن هذه الأقسام الأربعة ـ وهو يخطب على المنبر ـ ، فقال :

قال : ما الذاريات ذرواً ؟

قال عليه‌السلام : الرياح . قال : فالحاملات وقراً ؟

قال عليه‌السلام : السَحاب قال : فالجاريات يسراً ؟

قال عليه‌السلام : السُفن قال : فالمقسِّمات أمراً ؟

قال عليه‌السلام : الملائكة .

ثُمّ إنّه سبحانه حلفَ بالذاريات بواو القَسَم ، وحلف بالثلاثة بعطفها على الذاريات بالفاء ، فيحمل المعطوف معنى القَسَمِ أيضاً

هذا كلّه حول المُقسَم به

وأمّا المُقسَم عليه : هو قوله :( إِنّما تُوعَدُونَ لَصادِق * وَإِنَّ الدِّين لواقِع ) ، أي إنّما توعدون من الثواب و العقاب والجنّة والنار لصادق ، أي : صِدقٌ لابدّ من كونه ، فهو اسم الفاعل موضع المصدر ، وإنّ الدِّين أي : الجزاء لواقع ، والحساب لكائن يوم القيامة

وعلى ذلك ،( إِنَّما تُوعَدونَ لَصادق ) جواب القَسَم ، وقوله :( إنّ الدِّين لواقِع ) معطوف عليه بمنزلة التفسير ، والمعنى : أُقسِم بكذا وكذا ، إنّ الّذي توعدونه من يوم البعث ، وإنّ اللّه سيجزيهم فيه بأعمالهم ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ ، لَصادِق وإنّ الجزاء لواقِع(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ١٨/٣٦٥

(٢) الميزان : ١٨/٣٦٦

٨٨

وأمّا وجه الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه هو ، أنّه سبحانه أقسمَ بعامّة الأسباب الّتي يتمّ بها أمر التدبير في العالم ، لغايةِ أنّ هذا التدبير ليس سُدى وبلا غاية ، والغاية هي يوم الدِّين والجزاء ، وعود الإنسان إلى المعاد ، إذ لولا الغاية ، لأصبح تدبير الأمر في البرّ والبحر والجوّ وتدبير الملائكة ، شيئاً عبثاً بلا غاية ، فهو سبحانه يحاول أن يُبيِّن أنّما يقوم به من أمر التدبير لغاية البعث ، وانتقال الإنسان من هذه الدار إلى دار أُخرى هي أكمل

وفي ختام البحث نودّ أن ننقل شيئاً عن عظمة الرياح والسحاب ، والّتي كشف عنها العلم الحديث فالرياح هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلى من الجوِّ ، إذا سارت متوازية مع سطح الأرض ، وتختلف سرعة الرياح حتى تصل إلى مئة كيلومترٍ في الساعة ، فتُسمَّى زوبعة ، وإذا زادت على مئة ، سُمّيَت إعصاراً ، وقد تصل سرعة الإعصار إلى ٢٤٠ كيلومتراً في الساعة

والرياح هي العامل المهمّ في نقل بخار الماء وتوزيعه ، وتكاثف هذا البخار في الهواء بالتبريد ، بعد أن تصل حالته إلى ما فوق التشبُّع تتكوّن السُحب ويختلف ارتفاع السُحب على حسب نوعها ، فمنها ما يكون على سطح الأرض كالضباب ، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيداً إلى أكثر من ١٢ كيلومترا كسَحاب السيرس الرقيق وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومتراً في الساعة ، لا يمكن نزول قطرات المَطر المتكوِّن ؛ وذلك بالنسبة لمقاومة هذا الريح لها ، ورفعها معه إلى أعلى ، حيث ينمو حجمها ، ويزداد قطرها ومتى بلغت أقطار النقط نصف سنتيمتر ، تتناثر إلى نقط صغيرة ، لا تلبث أن تكبر بدورها ، ثُمّ تتجزّأ بالطريقة السابقة وهكذا

وكلمّا تناثرت هذه النقط ، تُشحَن بالكهرباء الموجبة وتنفصل الكهرباء السالبة الّتي تحمل الرياح.

وبعد مُدَّة تصير السُحب مشحونة شحناً وافراً بالكهرباء ، فعندما تقترب الشُحنتان بعضهما من بعض ـ بواسطة الرياح كذلك ـ يتمّ التفريغ الكهربائي ، وذلك بمرور شرارة بينهما ، ويستغرق وَميض البرق لحظة قصيرة ، وبعده يُسمَع الرَعد ، وهو عبارة عن : الموجات الصوتيَّة الّتي يُحدِثها الهواء ، وما هي إلاّ بُرهة حتى تُخيِّم على السماء سحابة المطر القاتمة اللون ، ثُمّ تظهر نقط كبيرة من الماء تسقط على الأرض ، وفجأة يشتدّ المطر ويستمرّ حتى تأخذ الأرض ما قدَّر اللّه لها من الماء(١)

ــــــــــــــــ

(١) اللّه والعلم الحديث : ١٣٥ـ ١٣٦

٨٩

الفصل الثالث : القَسَم في سورة الطُور

حلف سبحانه في سورة الطور بأُمور ستّة وقال :

( وَالطُّور * وَكِتابٍ مَسْطُور * في رقٍّ مَنْشُور * وَالْبَيتِ المَعْمُور * وَالسَّقْفِ المَرْفُوع * وَالْبَحْرِ المَسْجُور * إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع ) (١)

تفسير الآيات :

الطُور : اسم جبل خاصّ ، بل اسم لكلِّ جبل ، ولو قلنا بصحّة الإطلاق الثاني ، فالمراد الجبل المخصوص بهذه التسمية ، لا كلّ جبل ؛ بشهادة كونه مقروناً بالألف واللام

ومَسطور : من السَطر ، وهو الصفّ من الكتابة ، يُقال : سطَّر فلان كذا ، أي : كتب سطراً سطراً

والظاهر أنّ المراد من ( مَسطور ) هنا هو المُثبّت بالكتابة ، قال سبحانه :( كانَ ذلِكَ في الكِتابِ مَسْطُوراً ) ( أي : مُثبَّتاً ومحفوظاً )

و رَقّ : ما يُكتَب فيه ، ( شبه الكاغَد )

ــــــــــــــــ

(١) الطور : ١ـ ٨

٩٠

ومنشور : من النَشْرِ ، وهو البَسط والتفريق ، يقال : نشر الثوب والصحيفة وبسطَهما ، قال سبحانه :( وَإِذا الصُّحُف نُشرَت ) ، وقال :( وَإِلَيْهِ النُّشور )

والمَسجُور : من السَجر وهو : تَهييج النار ، يقال : سَجرتُ التنّور ، ومنه البحر المَسجور ، وقوله :( وإِذَا البِحارُ سُجِّرت ) ، وربّما يُفسَّر المسجور بالمملوء

والمراد من الطُور ـ كما تشهد به القرائن ـ : هو الجبل المعروف الّذي كلّم اللّه فيه موسىعليه‌السلام ، ولعلّه هو جبل طور سينين ، قال سبحانه :( وَطُورِ سِينِين ) (١) ، وقال سبحانه :( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ ) (٢) ، وقال في خطابه لموسىعليه‌السلام :( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالواد المُقدَّس طُوىً ) (٣)

وقال سبحانه :( نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ) (٤)

وهذه الآيات تُثبِت أنّ المُقسَم به جبل مُعيَّن ، ومع الوصف يحتمل أن يُراد مطلَق الجبل ؛ لما أُودع فيه من أنواع نعمه ، قال تعالى :( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوقِها وَبارَك فِيها ) (٥)

والمراد من كتاب مَسطور : هو القرآن الكريم ، الّذي كان يُكتَب في الورق المأخوذ من الجِلد

وأمّا وصفه بكونه منشوراً ، مع أنّ عظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطِّه ووَرَقه ، هو الإشارة إلى الوضوح ؛ لاَنّ الكتاب المَطوي لا يُعلَم ما فيه ، فقال هو فيرَقٍّ منشور ، وليس كالكتب المَطويَّة ،

ــــــــــــــــ

(١) التين : ٢

(٢) مريم : ٥٢

(٣) طه : ١٢

(٤) القَصص : ٣٠

(٥) فُصّلت : ١٠

٩١

ومع ذلك ، يُحتمَل أن يُراد منه صحائف الأعمال ، وقد وصفه سبحانه بكونه منشوراً وقال : ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتاباً يَلقاهُ مَنْشُوراً ) (١) ، كما يُحتمَل أن يراد منه اللوح المحفوظ ، الّذي كتب اللّه فيه ما كان وما يكون وما هو كائن ، تقرأه ملائكة السماء

وهناك احتمال رابع ، وهو أنّ المراد هو التوراة ، وكانت تُكتَب بالرَقِّ وتُنشَر للقراءة ، ويُؤيّده اقترانه بالحلفِ بالطُور

وأمّا البيت المعمور : فيحتمل أن يراد منه الكعبة المُشرَّفة ، فإنّها أوّل بيت وُضع للناس ، ولم يزل معموراً منذ أن وضع إلى يومنا هذا ، قال تعالى :( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكَّة مُباركاً وَهُدى لِلْعالَمين ) (٢)

ولعلّ وصفه بالعمارة لكونه معموراً بالحجّاج الطائفين به والعاكفين حوله

وقد فُسِّر في الروايات ببيتٍ في السماء إزاء الكعبة ، تزوره الملائكة ، فوصفه بالعمارة لكَثرةِ الطائفين به

والسَقف المرفوع : والمراد منه هو السماء ، قال سبحانه :( والسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعََ الْمِيزان ) (٣)

وقال :( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَونَها ) (٤)

قال سبحانه :( وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعرِضُون ) .(٥)

ولعلّ المراد هو البحر المحيط بالأرض ، الّذي سيلتهب قبل يوم القيامة ثُمّ ينفجر

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ١٣

(٢) آل عمران : ٩٦

(٣) الرحمن : ٧

(٤) الرعد : ٢

(٥) الأنبياء : ٣٢

٩٢

قال سبحانه :( وَإِذَا البِحارُ سُجِّرَت ) (١) ، وقال تعالى :( وَإِذَا البِحارُ فُجِّرَت ) (٢)

ثُمّ إنّ هذه الأقسام الثلاثة الأُولى يجمعها شيء واحد ، وهو صِلتها بالوحي وخصوصيّاته ، حيث أنّ الطور هو محلّ نزول الوحي ، والكتاب المسطور هو القرآن أو التوراة ، والبيت المعمور هو الكعبة أو البيت الّذي يطوف به الملائكة ، الّذين هم رُسل اللّه

وأمّا الاثنان الآخران ، أعني : السَقف المرفوع والبحر المَسجور ، فهما من الآيات الكونيّة ، ومن دلائل توحيده ووجوده وصفاته

لكنّ الرازي ذهب إلى أنّ الأقسام الثلاثة الّتي بينها صِلة خاصّة ، هي : ( الطُور والبيت المعمور والبحر المسجور ) ، وإنّما جمعها في الحلف بها ؛ لأنّها أماكن لثلاثة أنبياء ، ينفردون بها للخلوة بربِّهم ، والخلاص من الخلق ، والخطاب مع اللّه

أمّا الطُور فانتقل إليه موسى ، والبيت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والبحر المَسجور يونسعليه‌السلام ، وكلٌّ خاطب اللّه هناك ، فقال موسى :( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاء ) (٣) ، وقال أيضاً :( أرِني أنظر إليك ) ، وأمّا نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :( السلامُ علينا وعلى عبادِ اللّه الصالحين ، لا أُحصي ثناء عليك كما أثنيتَ على نفسك ) ، وأمّا يونس فقال :( لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمين ) (٤)

فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب ، وحلف اللّه تعالى بها

وأمّا ذكر الكتاب ؛ فانّ الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع اللّه تعالى كلام ، والكلام في الكتاب واقترانه بالطُور أدلّ دليل على ذلك ؛ لاَنّ موسىعليه‌السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بطُور

ــــــــــــــــ

(١) التكوير : ٦

(٢) الانفطار : ٣

(٣) الأعراف : ١٥٥

(٤) الأنبياء : ٨٧

٩٣

وأمّا ذكر السَقف المرفوع ومعه البيت المعمور ؛ ليُعلَم عظمة شأن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١)

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله :( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع ) (٢)

وأمّا وجه الصِلة بين المُقسَم به ـ على تعدّده ـ والمُقسَم عليه ، هو أنّ المُقسَم عليه عبارة عن وقوع العذاب لا محالة ، وعدم القدرة على دفعه

فإذن ، ناسب أن يقسم بالكتاب ـ أي : القرآن ـ والتوراة اللَذين جاء فيهما أخبار القيامة وحتميَّتها

كما ناسب أن يحلف بمظاهر القدرة وآيات العظمة ، كالسقف المرفوع والبحر المسجور ، حتى يُعلَم أنّ صاحب هذه القدرة لقادر على تحقيق هذا الخبر ، وهو عبارة عن أنّ عذابه لواقِع ، وليس له دافع

ويكفيك في بيان عظمة البحار أنّها تشغل حيّزاً كبيراً من سطح الأرض ، يبلغ نحو ثلاثة أرباعه ، وتختلف صفات الماء عن الأرض بسهولة تدفّقه من جهة إلى أُخرى ، حاملاً الدفء أو البرودة ، وله قوّة انعكاس جيّدة لشعاع الشمس ، ولذا فإنّ درجة حرارة البحار لا ترتفع كثيراً أثناء النهار ، ولا تنخفض بسرعةٍ أثناء الليل ، فلا تختلف درجة الحرارة أثناء الليل عن النهار بأكثر من درجتين فقط

ويقول أحد العلماء : إنّ البحر يُباري الزمان في دوامه ، ويُطاول الخلود في بقائه ، تمرّ آلاف الأعوام ، بل وعشرات الأُلوف والملايين ، وهو في يومه هو أمْسه وغَده ، تنقلب الجبال أوديَة ، والأوديَة جبالاً ، ويتحوّل التراب شجراً ،والشجر تراباً ، والبحر بحرٌ ، لا يتحوّل ولا يتغيَّر

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢٨/٢٤٠

(٢) الطور : ٧ـ ٨

٩٤

وقد دلَّت الأبحاث العلميّة أنّ أقصى أعماق البحار تُعادل أقصى علوّ الجبال(١)

كما ناسب أن يحلف بالطور ؛ لاَنّ بعض المجرمين كانوا يتصوّرون أنّ الجبال الشاهقة ستدفع عنهم عذاب اللّه ، كما قال ابن نوحعليه‌السلام ( سَآوي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الماء ) ، قال :( لا عاصِمَ اليَوم مِنْ أَمْرِ اللّه إِلاّ مَنْ رَحِمَ ) (٢)

فحلف بالطُور إيذاناً إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الجبال أقلّ من أن تدفع العذاب ، أو تَحوْل بين اللّه ووقوع المعاد

كما يمكن أن يكون الحلف بالطُور لأجل كونه آية من آيات اللّه الدالّة على قدرته ، الّتي لا يحوْل بينه و بين عذابه شيء

ــــــــــــــــ

(١) اللّه والعلم الحديث : ٧٥

(٢) هود : ٤٣

٩٥

الفصل الرابع : القَسَم في سورة القَلَم

حلف سبحانه بالقلم وما يسطرون معاً ، مرّة واحدة ، وقال :( ن والقَلَمِ وَما يَسْطُرُون * ما أَنْتَ بِنعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُون * وَإِنَّكَ لَعلى خُلُقٍ عَظيم ) (١)

وقبل تفسير الآيات ، نُقدّم شيئاً وهو : أنّ لفظة ( ن ) من الحروف المُقطّعة ، وقد تقدَّم تفسيرها

وهناك وجوه أُخرى نذكرها تباعاً :

أ ـ ( ن ) هو السمكة الّتي جاء ذكرها في قصّة يونسعليه‌السلام ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ) (٢)

ب ـ إنّ المراد به هو الدواة ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما الشَوقُ يَرجِع بي إليهِم

ألقتُ النُون بالدَمْعِ السُجُوْم

ج ـ إنّ ( ن ) هو المداد الّذي تكتب به الملائكة

ولكنّ هذه الوجوه ضعيفة ؛ لاَنّ الظاهر منها أنّها مُقسَم به ، وعندئذٍ يجب أن يُجَرّ لا أن يُسَكَّن

يقول الزمخشري : وأمّا قولهم هو الدواة ، فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ؟!

ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة ، من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً ، فأين الإعراب والتنوين ؟! وإن كان علماً فأين الإعراب ؟!

ــــــــــــــــ

(١) القلم : ١ـ ٤

(٢) الأنبياء : ٨٧

٩٦

وأيّهما كان ، فلابُدّ له من موقع في تأليف الكلام(١)

وبذلك يُعلَم وجه تجريد ( ن ) عن اللاّم ، واقتران القَلمِ بها

تفسير الآيات :

١ ـ حلف سبحانه بالقلم وقال :( والقَلَمِ وما يسطُرون ) ، وهل المراد منه جنس القلمِ الّذي يَكتب به مَن في السماء ومَن في الأرض ؟!

قال تعالى :( وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (٢)

فمنَّ سبحانه وتعالى بتيسير الكتابة بالقلم ، كما منَّ بالنُطق ، وقال :( خَلَقَ الإنسانَ * عَلَّمَهُ البَيان ) (٣)

فالقلم والبيان نعمتان كبيرتان ، فبالبيان يخاطب الحاضرين ، كما أنّه بالقلم يخاطب الغائبين ، فتمكّن بهما تعريف القريب والبعيد بما في قرارة ذهنه

وربّما قيل : إنّ المراد هو القلم المعهود الّذي جاء في الخبر :( إنّ أوّل ما خلق اللّه هو القلم ) ، ولكنّه تفسير بعيد عن أذهان المخاطبين في صدر الإسلام ، الّذين لم يكونوا عارفين بأوّل ما خلق اللّه ولا بآخره

ثُمّ إنّه سبحانه حلف بـ( ما يسطُرون ) ، فلو كانت ( ما ) مصدريّة ، يكون المراد ( وسَطْرهم ) ، فيكون القَسَم بنفس الكتابة

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٤/١٢٦ ، تفسير سورة القلم

(٢) العلق : ٣ ـ ٥

(٣) الرحمن : ٣ ـ ٤

٩٧

كما يحتمل أن يكون المراد المَسطور والمكتوب ، وعلى ذلك حلف سبحانه بجنس القلم وبجنس الكتابة ، أو بجنس المكتوب ، كأنّه قيل : ( أحلفُ بالقلم وسَطرهم ، أو مسطوراتِهم )

ثُمّ أنّ في الحلف بالقلم والكتابة والمكتوب إلماعاً إلى مكانة القلم والكتابة في الإسلام ، كما أنّ في قوله سبحانه :( علّمَ بالْقَلم ) إشارة إلى ذلك

والعجب أنّ القرآن الكريم نزل وَسطِ مجتمع سادَه التخلّف والجهل والأُميَّة ، وكان مَن يجيد القراءة والكتابة في العصر الجاهلي لا يتجاوز عدد الأصابع !

وقد سردَ البلاذري في كتابه ( فتوح البلدان ) أسماء سبعة عشر رجلاً في مكَّة ، وأحد عشر من يثرب(١)

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدِّمته : أنّ عهد قريش بالكتابة لم يكن بعيداً ، بل كان حديثاً وقريباً بعهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢)

ومع ذلك ، يعود القرآن ليؤكّد بالحلف بالقلم على مكانة القلم والكتابة في الحضارة الإسلاميّة ، وجعل في ظلّ هذا التعليم أُمّة متحضّرة ، احتلّت مكانتها بين الحضارات

وليس هذه الآية وحيدٌ نَسْجها في الدعوة إلى القلم والكتابة ، بل ثَمَّة آية أُخرى هي أكبر آية في الكتاب العزيز ، يقول سبحانه :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ) (٣)

كما أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حثّ على كتابة حديثه ، الّذي هو المصدر الثاني بعد القرآن الكريم :

ــــــــــــــــ

(١) فتوح البلدان : ٤٥٧

(٢) مقدّمة ابن خلدون : ٤١٨

(٣) البقرة : ٢٨٢ .

٩٨

١ ـ أخرج أبو داود في سُننه ، عن عبد اللّه بن عمرو ، قال : كنتُ أكتب كلّشيء أسمعه من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد حفظه ، فنهتني قريش وقالوا : أتكتُب كلّ شيء تسمعه ورسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشر يتكلَّم في الغضب والرضا ؟! فأمسكتُ عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأومأ بإصبعه إلى فِيه وقال : ( اكتبْ ، فوالّذي نفسي بيدِه ، ما يخرج منه إلاّ حقّاً ) (١)

٢ ـ أخرج الترمذي في سُنَنه عن أبي هريرة ، قال : كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيسمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول اللّه ، إنّي أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( استَعن بيمينِك ) وأومأ بيده للخطِّ(٢)

٣ ـ أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج ، قال : مرّ علينا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً ، ونحن نتحدّث ، فقال :( ما تحدّثون ؟ )

فقلنا : نتحدّث عنك يا رسول اللّه

قال : ( تحدَّثوا ، وليَتبوّأ مَن كذّبَ عليّ مقعداً من جهنّم ) .

ومضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحاجته ، ونكس القوم رؤوسهم فقال : ( ما شأنكم ، ألا تحدّثون ؟! ) .

قالوا : الّذي سمعنا منك يا رسول اللّه

قال : ( إنّي لم أُرد ذلك ، إنّما أردتُ مَن تعمَّد ذلك ) .

قال : فتحدَّثنا

قال : قلتُ : يا رسول اللّه ، إنّا نسمعُ منك أشياء فنكتبها

ــــــــــــــــ

(١) سُنن أبي داود : ٣/٣١٨ ، برقم : ٣٦٤٦ ، باب في كتابة العلم مسند أحمد : ٢/١٦٢. سُنَن الدارمي : ١/١٢٥ ، باب من رخص في كتابة العلم

(٢) سُنَن الترمذي : ٥/٣٩ ، برقم : ٢٦٦٦

٩٩

قال : ( اكتبوا ولا حرج ) .(١)

وبعد هذه الأهمّيّة البالغة الّتي أولاها الكتاب العزيز والنبي للكتابة ، أفهل من المعقول أن يُنسَب إليه أنّه منع من كتابة الحديث ؟! مع أنّها أحاديث آحاد ، تضادّ الكتاب العزيز والسُنّة والسيرة المتواترة

ونجلُّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الحيلولة دون كتابة السُنّة

هذا والكلام ذو شجون ، وقد أسهبنا البحث حوله في كتاب ( الحديث النبوي بين الرواية والدراية )(٢)

هذا كلّه حول المُقسَم به

وأمّا المُقسَم عليه ، فقد جاء في قوله سبحانه :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون )

والمراد من النعمة : النبوّة والإيمان ، والباء للسَببيَّة ، أي : لستَ أنتَ بسبب هذه النعمة بمجنون ؛ ردّاً على مَن جعل نبوّته ونزول القرآن عليه دليلاً على جنونه ، قال سبحانه :( وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (٣)

ويُحتمل أن يكون المراد من النعمة كلّ ما تفضَّل عليه سبحانه من النِعَم وراء الإيمان والنبوّة ، كفصاحته ، وبلاغته ، وعقله الكامل ، وخُلقه الممتاز ، فإنّ هذه الصفات تُنافي حصول الجنون

واحتمل الرازي أن يكون جملة ( بِنعْمة رَبّك ) مقطوعة عمّا قبلها و ما بعدها ، وانّ وِزانها وزِان ( بحمد اللّه ) في الجمل التالية :

أنتَ ـ بحمدِ اللّه ـ عاقل

ــــــــــــــــ

(١) تقييد العلم : ٧٢و٧٣

(٢) انظر : صفحة ١٢ـ ٣٢ من نفس الكتاب

(٣) القلم : ٥١ـ ٥٢

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173