• البداية
  • السابق
  • 103 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12525 / تحميل: 4494
الحجم الحجم الحجم
دروس من القرآن

دروس من القرآن

مؤلف:
العربية

أو ضغطاً للغازات الموجودة في مكان معيّن، أو غير ذلك، ثمّ تخرج هذه الحمم من باطن الأرض، أو الانهيارات التي تُسبّب تزلزل الأرض في قسم منها، إلاّ أنّ هذه - على كلّ حال - تهمّ أناس تلك المنطقة الذين يتعرّضون لها، أمّا البعيدون فلا يحسّون بها بالمرّة.

وهناك زلزلة تقلب المنطقة رأسا على عقب، فتطمر مدينة في باطن الأرض، ولكنّك إذا ابتعدتَ بضع عشرات من الكيلومترات، تجد الناس لا يعلمون بما حدث.

أمّا الزلزلة التي يُشير إليها القرآن فلا ترتبط بنقطة معيّنة من الأرض، إنّها تشمل الأرض كلّها، بل لا تشمل الأرض وحدها، وإنّما تشمل كلّ الكون، وكلّ الشموس، وكلّ الكائنات.فانظر كيف هذا ؟

والاختلاف الثاني :

هو أنّ الزلازل المألوفة تحدث بسبب تأثير عامل في آخر، أو قوّة تؤثّر في قوى أخرى أو في شيء آخر، لنفرض أنّنا جالسون هنا، فتمرّ بهذا البناء شاحنة ضخمة، فإنّها سوف تجعل البناء يهتزّ قليلاً، فهذه البناية لمْ تهتز بذاتها، بل بقوّة عامل خارجي أثّر فيها وأدّى إلى

٦١

اهتزازها، أو كأنْ يكون امرؤ واقفاً فيصدمه شخص آخر.

أمّا الزلزلة العامّة التي يُشير إليها القرآن فناشئة من الداخل، من باطن الكون فمن باب المثال، نقول : إنّ الجنين في رحم أُمّه لا تصدر منه حركة في أشهره الأولى، ولكنّه عندما يبلغ الشهر الرابع مثلاً يُقال إنّه تَصْدر منه أوّل حركة، فهل حركة الطفل حصلتْ بفعل عامل خارجي، أَمْ إنّه قد تحرّك بذاته وبفعل قوّة باطنيّة ؟

إنّ قضيّة الزلزلة هذه تتعلّق في الواقع بقضيّة أخرى، وهي أنّ هذه الموجودات التي نطلق عليها اسم الجمادات التي لا تحسّ ولا تشعر، هل هي حقّاً فاقدة للشعور بكلّ معنى الكلمة ؟

أَمْ إنّها - بحدّ ذاتها وليس بحدّ ذات الإنسان - تملك نوعاً من الشعور والإدراك ؟

هذا موضوع يتكرّر وروده في القرآن، فمثلاً يقول : ما من كائن إلاّ ويسبّح بحمده ولكنّكم لا تفهمون ذلك( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُوراً ) (الإسراء : ٤٤ - المترجم - ).

هنالك أيضاً نقطة أخرى يذكرها القرآن، وهي : متى تتبدّل الدنيا إلى الآخرة ؟

عندما تظهر من جميع الموجودات وجوهها الأُخر :( وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) (العنكبوت : ٦٤)، حينذاك تنكشف الوجوه الأُخر للأشياء.

٦٢

تلك هي الزلزلة التي ستحدث في الكون، كالجنين الذي يصل إلى مرحلة الحركة، عندئذ يحسّ الإنسان أنّ لكلّ ذرّة من ذرّات العالَم حياة وشعوراً.

( وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ) : أي عندما يخرج من باطن الأرض ما هو مدفون فيها، كل الناس الذين دفنوا في الأرض وهم دفائن الأرض الثمينة، لا الذهب ولا المعادن، ولا النفط، ولا ما هو مرتبط بهذه الدنيا.

( وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا ) (الزلزلة : ٣) : ولكن الإنسان الذي سبق أنْ عرف الزلازل، يقول - وهو جاهل بما يجري - : ما الذي يحدث للأرض ؟

( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) : أي أنّ الأرض يومئذ تسرد سيرتها، سيرتها الطويلة الممتدّة امتداد ملايين السنين.

( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) : أي أنّ الله هو الذي أمرها.

هنالك أبيات من شعر مولوي الذي كان متعمّقاً إلى حدّ يقلّ نظيره، تخصّ هذا الموضوع.يقول:

عالَم أفْسُرْده ست نام او جَماد

جماد أفسرده بود أي أوسْتاد

٦٣

باش تاكر كَسي بِحَشْر آيد عيان

تا بِبِيْني جُنْبِشِ جسم جَهانْ

العلم جامد اسمه الجماد

والجماد كان جامداً أيّها الأستاذ

ابقَ حتّى نجتمع في الحشر عياناً

لترى حركة جسم العالم

إنّه يشير إلى هذه الزلزلة، ويقول لا تظنّنّ الميّت ميّتاً، إنّما أنت لا تفهم، لا تدرك ذلك، إنّك لا ترى الآن إلاّ جانبه الميّت، ثمّ يقول :

جُون عَصاي موسى إيْنجا ما رشد

عقل را زا ساكنان إخْبار شد

عندما انقلبت عصا موسى حيّة

أدرك العقل أخبار الساكنات

ففي اليوم الذي انقلبت فيه عصا جامدة إلى حيّة، تبيّن للعقل أنّ الموضوع شيء آخر، وأنّنا ينبغي ألاّ نحسب الجمادات جامدة تماماً.

بارئي خاك تُراجون زِندة ساخت

خاك هارا جُمْلِكي بايد شِناخْتْ

٦٤

إنّه إذا أحياك من بعض تراب

فلا بدّ من معرفة التراب بجملته

إنّ جسمك كان تراباً ميّتاً، ولكنّه الآن حي.

إذن، يتّضح أنّ المسافة بين الميّت والحي ليست بعيدة جدّاً، فالميّت قد يحيا سريعاً؛ ولذلك علينا أنْ نتعرّف على كلّ الأتربة، إذ فيها تكمن القابليّة على الحياة.

إنّ وجوهها التي تواجهنا ميّتة، ولكنّ وجوهها التي تتّجه نحو البارئ سبحانه وتعالى حيّة.إنّها من حيث الطبيعة الربّانية حيّة، ومن حيث الطبيعة الخَلْقيّة ميّتة.

مُرده زيْنْسويَند وزان سُورِنْده اند

خاموشى إِينجا وآنجا كوينده اند

جونكه آنها رافر سْتَدْ سُوى ما

آن عَصا كردد سُوى ما إِزْدها

ميّتة من هذا الجانب وحيّة من ذاك

صامتة هنا وناطقة هناك

وهو إذ يرسلها إلينا

تتحوّل تلك العصا حيّة عندنا

فهو إذ يرسلها إلينا يراها حيّة لا ميّتة، فإذا أمرها حوّلت جانبها الحي إلينا.ثمّ تجري القصيدة تُشير إلى جمادات أحياها، كالريح التي سخّرها لسليمان ،

٦٥

والبحر الذي ائتمر بأمر موسى، والجبال لداود، وانشقاق القمر لمحمّد، وتحوّل النار برداً على إبراهيم

( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) : نذكر ما مر بها بحسب ما أوحى لها الله.وقد جاء كذلك في القرآن المجيد، في سورة يس :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (يس : ٦٥)

( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) : أي يوم يصدر، إنّ الفعل ( يصدر ) في العربيّة معنىً خاصّاً، لم أجد في الفارسيّة كلمة تقوم مقامه.فمثلاً يقولون في الفارسيّة : إن هذه الهويّة ( صادرة ) من طهران، ويستعملون الكلمة العربيّة، أو يقولون : إنّ فلانا ( أصدر ) الأوامر الفلانيّة، ويستعملون الكلمة العربيّة.أو العربيّة أيضاً.فإذا شِئْنا أنْ نرفع هذه الكلمة تُرى ماذا يمكن أنْ نضع في مكانها لنحصل على المعن-ى نفسه ؟ ولمّا كانت كلمة ( الصدور ) تختلف عن ( الخروج ) في المعنى، فلا يمكننا استعمالها بمكانها، فإذن، نحن بدلاً مِن أنْ نقول : إنّ الهويّة ( صادرة ) من طهران، قلنا : إنّها ( خارجة ) من طهران، يكون المعنى مغايِرَاً لِمَا نريد.

في الأيّام التي كانت فيها اللاّعربيّة على أشدّها، وضعوا ( مرسلة أو مرسل / الفارسيّة ) بمكان ( صادرة أو صادر / العربية )، فمث-لاً قولهم : الهويّة مرسلة من طهران، لا معنى له؛ لأنّ وضْع مرسلة بمكان صادرة لا معنى له، لأنّ ( مرسلة ) ليست ترجمة لكلمة ( صادرة ) والتجّار أيضاً عندما يرسلون بضاعة من مكان إلى مكان يستعملون كلمة ( إرسال )، أمّا إذا عطشتْ الحيوانات فوردت الماء وارْتَوَتْ، يوصَف حالها عندئذ بالصدور، أي أنّها صدرتْ عن الماء.

ولكنّ تطوَّرَ هذا المعنى فيما بعد، حيث يقول القرآن [ هنا في الآية ] : إنّ الناس في ذلك اليوم [ يوم القيامة ] يصدرون من الأرض كالأمر الذي يصدر من صاحب أمرٍ، أو كالهويّة التي تصدر من مكان ما.هنا الناس هم الذين يصدرون جماعات متفرّقة.لماذا ؟ إنّه

٦٦

تعبير عجيب أيضاً.

( لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) : أي أنّ الناس يذهبون ليستعرضوا أعمالهم - أعمال الناس في هذه الدنيا طيلة حياتهم، صغيرها وكبيرها - حيث يتجسّد العمل نفسُه ويحضر.فكيف تكون حال الإنسان وهو يدخل معرض الأعمال ؟ إنّه لا يرى سوى السواد والظلام وأشياء على هيئة نيران وحيّات وعقارب.وعلى عكسه الذي يؤخذ إلى معرض ثواب الأعمال، حيث إنّ أكثر ما يرى هو الأعمال الحسنة الجميلة، بحيث قيل إنّه لو كان الموت ممكناً يوم القيامة، لمات أهل السعادة فرحاً، وأهل الشقاء كَمَدَاً.أي لو أنّ تلك السعادة التي تُوهب للإنسان في الآخرى وُهبت للإنسان في دار الدنيا، لتحجّر فوراً.ولو نزل ذاك

٦٧

الشقاء على أحد في الدنيا، لتوقّف قلبه حالاً ومات.( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) .

ثمّ يشرح القرآن معنى :( لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ) بقوله :( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) :

والذرّة :

هي أصغر وحدة قياسيّة في العربيّة، أي بمقدار الذرّة التي ليس أصغرَ منها جسمٌ.

من المعروف عندنا عندما نقول : ( ذرّة ) نقصد أصغر معيار نعرفه ممّا لا يمكن أنْ نراه بالعين المجرّدة، وهي الذرّات التي لا نراها إذا كنّا في الشمس، ولا نراها إذا كنّا في الظل، ولكنّنا نراها إذا كنّا في الظل ومرّ منه عمود من نور، كأنْ تدخل أشعّة الشمس من إحدى النوافذ، عندئذ يرى الإنسان وسط ذلك العمود من النور دقائق صغيرة تتحرّك، فهذه هي الذرّات بالعربيّة، أي أصغر شيء يظهر للعيان من الجسم.ومصطلح الذرّة هذا يستعمله العلماء والفلاسفة في قضايا الجسم وَمِمَّ يتكوّن، فكان عدد منهم يرى - وهي النظريّة التي تأيّدتْ فيما بعد - أنّ كلّ جسم يتألّف من أجسام صغيرة جدّاً، وهذه الأجسام الصغيرة جدّاً أطلقوا عليها اسم الذرّات، ذرّات صغار صلبة، كانوا

٦٨

يعتقدون أنّها غير قابلة للانشطار، وهذه أيضاً هي الذرّة في العلوم الحديثة.

على كلّ حال، يقول القرآن : إنّ مَن عمل مقدار ذرّة من الشرّ فإنّه سوف يرى جزاءه.

والآن لاحظوا اللحن في السورة، مع ملاحظة المعنى :

( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ *فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ )

(الزلزلة : ١ - ٨).

٦٩

تفسير سورة العاديات

٧٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً *فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً* إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ *أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ )

(العاديات : ١ - ١١).

هناك اختلاف بشأن هذه السورة، أَهِيَ مكِّيَّة ؟ أَمْ مدنيّة ؟

فالقرائن نفسها تُسبّب الاختلاف فيما إذا كانت قد نزلتْ في مكّة أو في المدينة، ومن حيث النقل أيضاً ثمّة أسباب للشبهة، فمِن جهةٍ لَحْن السورة ذات الآيات القصيرة تشبه السور المكِّيَّة؛ لأنّ السور المكِّيَّة نزلت في بداية بعثة الرسول، وتتميّز بآيات التحذير والتذكير والتخويف، أمّا السور المدنيّة فأغلبها يُبَيِّن القوانين والقرارات؛ ولهذا تكون طويلة وتفصيليّة.

تُفتتح هذه السورة بالقَسَم، وهو قَسَم عجيب، كان من أسباب القول بأنّها مكِّيَّة، وهذا هو اعتقادي الخاص أيضاً، بينما يقول آخرون إنّها مدنيّة بسبب مضمونها.

ما أعجب القسم في هذه السورة !

( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً ) :

٧١

أي أُقسم بالخيل الراكضة اللاهثة، والمقصود هو خيل المجاهدين.يُقْسِمُ بخيل الجُند، الخيل التي تَخُبّ فوق الصخور والأحجار.

إنّ القُرَويّين - من أمثالنا - إذا كانوا قد رأوا الفرس ذا النعل الحديد، على الأخصّ عندما يتحرّك فوق الصخور، كيف ينبعث الشرر من حوافره جرّاء اصطكاكها بالصخور، ذلك الشرر الناري البارق.

( فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً ) : وهي الخيل التي تبرق حوافرها، إذ تركض فوق الصخور.

( فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً ) : تلك الخيل التي تهجم على العدو عند شروق الصباح.

ما يزال يُقسم بالخيل ( خيل الفرسان ) والقسم بخيل الجُند احترام للجُند أيضاً، فهم من سرعة الحركة والمبادرة بحيث إنّهم يَغِيْرُون على العدو قبل أنْ يتحرّك في معسكره.

( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ) :

٧٢

كان الكلام قبل هذا على الشرر الذي يوري البرق، فيُستدلّ من ذلك أنّ حركة الخيل تجري على أرض ذات صخور وأحجار، ثمّ يقول :( فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً ) حيث يكون الهجوم على العدو، فيرتفع الغبار والتراب إلى عنان السماء.طبيعي أنّ العدو عندما يُعَسْكِر، لا يُعَسْكِر فوق الصخور، بل يُعَسْكِر في السهل؛ لذلك فإنّ المجاهدين يأتونهم من طرق جبليّة وصخريّة حتّى لا ينتبه العدوّ لهم، وإذا بهم فوق العدو، فينهض العدوّ ويتحرّك، فيرتفع الغبار إلى السماء، بحيث لا يُبصِر المرء ما أمامه، كما يقول فردوسي :

زِ سُمِّ سُتُوران دَر آن بَهْن دَشْت

زَمين شِشْ شُدْ، آسمان كَشْت هَشت

من حوافر الخيل في ذلك لسهل الفسيح

غدت الأرض ستّة والسماء ثمانية

فيقذف المجاهدون بأنفسهم في ذلك الخِضَم، ويندفعون إلى قلب العدو.فما الذي تريد هذه الآية أنْ تقوله ؟

لماذا يقسم القرآن بهذه الأمور ؟

يريد القرآن أنْ يقول : إنّها أمور مقدّسة عند الله، فرس الجندي، وحافر فرس الجندي، والغبار الذي يثيره، كلّها مقدّسة.ذلك التكبير الليلي الذي يصبّه فوق رأس العدو، وكمثل

٧٣

الصاعقة يقع على رأس العدو، ومبادرته، كلّها مقدّسة.

جاء في الأخبار أنّ هذه الآية قد نزلتْ في إحدى الغزوات، وتُدْعى ( ذات السلاسل ) : وهي غزوة وقعتْ عندما هاجم المشركون المسلمين، فأرسل الرسول المسلمين لقتالهم بقيادة أبي بكر مرّة، وبقيادة عمر مرّة أخرى.

واقترح عمرو بن العاص على الرسول أنْ يلجأوا إلى المكر والخديعة لإنهاء الحرب، غير أنّ هذا لم يفلح أيضاً، وأخيراً عهد الأمر إلى عليعليه‌السلام فاختار طريقاً غير مطروق عبر الجبال، فعبروها ليلاً، وعند الصبح - بين الطلوعين - انقضّوا على العدو، وقضوا عليه.

وفي اليوم نفسه جاء الرسول إلى المسجد في المدينة - وهي تبعد عن موقع المعركة كثيراً - لأداء الصلاة، فقرأ سورة العاديات بعد سورة الفاتحة.

في هذه السورة - كما في سورة الزلزال - تذكير بيوم القيامة، وإيقاظ للشعور بالرجعة إلى الله في الإنسان.

تُثير هذه السورة في الإنسان روح الجِلاَد والحرب بشكل عجيب.

وانتبه المسلمون الذين كانوا يصلّون مع النبي أنّه بعد سورة الفاتحة أخذ يقرأ آيات جديدة لم تَرِد على لسانه من قَبْل.

٧٤

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ * وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً )

قالوا له بعد انتهاء الصلاة : يا رسول الله، لم نسمع بهذا من قبل، إنّها المرّة الأولى التي نسمع منك فيها هذه الآيات.

فقال الرسول : اليوم نزل عليَّ جبرئيل وأخبرني بأنّ عليّاً قد قاد المسلمين من النقطة الفلانيّة، وأنّه سيعود منتصراً، وكان الناس يعلمون أنّ المسلمين كانوا هناك في مِحْنة.

عندما يقسم الإنساني بشيء، يريد أنْ يقول : إنّه يحترم ذلك الشيء ويجلّه، ثمّ يقول :( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود ) : أي ما أكفر الإنسان بنعمة ربّه، فبدلاً من أنْ يحمد الله على نِعَمِه، يجحد بها، مثل الطفل الذي يريد له أبواه تمام الصحّة والشفاء، فيعدّان له دواءً أو طعاماً، فيرفضه ويريد أنْ يحطّم كلّ شيء.

يقول المفسّرون - وهم على حق - : إنّ آية( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود ) ، إشارة إلى الناس الذين يريدون

٧٥

مهاجمة المسلمين في المدنية، بدلاً من أنْ يتقبّلوا الدعوة التي يدعوهم بها الرسول، فهذه النعمة التي يهبها الله لهم يرفضونها ويحملون عل-ى المدينة.أهكذا تُشكر النعم ؟

( إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود ) : ( كنود ) تعنى ( كفور ).أي الكفر بالنعمة، والتنكّر لها.

( وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) : يمكن تفسير هذه الآية على وجهين :

الأوّل : إنّ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) : تعني أنّه شديد الحبّ للمال.

والثاني : هو أنّه شديد جدّاً، أي بخيل، لماذا ؟ لأنّه يحبّ المال حبّاً جمّاً.

وقد عبّر القرآن هنا عن المال بالخير، وهو تعبير كثير وروده في القرآن، حيث يعبّر عن الثروة بالخير( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) (البقرة : ١٨٠).

أي أنّ الثروة بحدّ ذاتها ليست شرّاً، إنّما الانهماك بها هو الشر.

على الإنسان أنْ يكون حرّاً، وألاّ يكون تعلّقة بشيء في الوجود إلاّ بالله، العلاقة قيدٌ وتَقَيُّد، مثل الحبل في رقبة الفرس، فيُربط بمكان ما في الإسطبل أو بشجرة، على الإنسان ألاّ يربط نفسه بشيء، إنْ تعلّق الإنسان بالله

٧٦

هو الحريّة عينها.لماذا ؟ لأنّ الإنسان كائن غير متناهٍ، فما دام الإنسان مع الله، بقي الطريق أمامه مفتوحاً، وكلّما سار انفتح الطريق أكثر، ولو سار إلى الأبد لَمَا انتهى الطريق أمامه.

ولكنّ المال - بخلاف الأمور الأخرى - يُثبت المرء في مكانه، حسب القول السائد، فيوقفه عن التحرّك، ويسدّ أمامه طريق السير نحو التكامل.والقرآن يعبّر عن الثروة بالخير؛ لأنّ الثروة ليست شرّاً بذاتها، فلا ينبغي القول بأنّ الثروة شرّ، فلماذا يمنحها الله للناس ؟

الجواب : كلا، إنّ الثروة ليست شرّاً، بل تعلّقك بها، حبّ المال الذي فيك ( وهو الحبّ والعلاقة ) هو الشر.فعليك ألاّ تُطَوّق رقبتك به.

ثمّ إنّ الله قد خلق في الإنسان حبّ الخير حبّاً مطلقاً، والخير المطلق هو الله، فأنت قد تركتَ الخير المطلق، وجئتَ تتمسّك بشيء محدود لا ينفع كوسيلة، ونسيت الغاية.

( أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ )

(العاديات : ١ :١١): أي أَلاَ يعلم الإنسان أنّه سيُبعث، وأنّ ما في القبور

٧٧

يُستَخرج، ويُكشف عمّا في دخيلة الإنسان وباطنه ؟

أَلاَ يعلم الإنسان ما سوف يحدث عندئذ ؟

أَلاَ يعلم أنّ هذا ما ينتظره ؟

( إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ) : فإذا لم يكن يعرف كلّ ذلك، فلْيعلم أنّ الله عالم وخبير، ويعرف كلّ شيء.

٧٨

تفسير

سورة العصر

٧٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )

(العصر : ١ : ٣).

٨٠