البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن0%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

البيان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
تصنيف: الصفحات: 526
المشاهدات: 32221
تحميل: 6140

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32221 / تحميل: 6140
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ٩ : ٥ .

واستندوا في ذلك إلى ما رَواه عليل بن أحمد ، عن محمّد بن هشام ، عن عاصم بن سليمان ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عبّاس(١) ، ولكن هذه الرواية ضعيفة جدّاً ، ولا أقلّ مِن أنّ في سنَدِها عاصم بن سليمان وهو كذّابٌ وضّاع(٢) ، مع أنّ الرواية ضعيفة المَتْن ، فإنّ المسلمين - قبل الهجرة - كانوا ضُعفاء ، ولم يكن عُمَر مقداماً في الحروب ، ولم يُعَدْ مِن الشُجعان المرهوبين ، فكيف يسَعه أنْ يبطُشَ بالمُشرِك ؟ ! على أنّ لفظ الغُفران المذكور في الآية يدلّ على التمكّن مِن الانتقام ومِن المقطوع به أنّ ذلك لم يكن ميسوراً لعُمَر قبل الهجرة ، فلو أراد البطْشَ بالمُشرِك لبَطشَ به المُشرِك لا محالة .

والحقّ : أنّ الآية المبارَكة مُحكَمة غير منسوخة ، وأنّ معنى الآية : أنّ الله أمَر المؤمنين بالعفْوِ والإغضاء عمّا ينالهم مِن الإيذاء والإهانة ، في شؤونهم الخاصّة ممّن لا يرجون أيّام الله ، ويدلّ عليه قوله تعالى بعد ذلك :

( لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ٤٥ : ١٤. مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ٤٥ : ١٥ .

فإنّ الظاهر منه أنّ جزاء المُسيء الذي لا يرجو أيّام الله ، ولا يخاف المَعاد،

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ٢١٨ .

(٢) قال ابن عدي : ( يُعَدّ ممّن يضع الحديث ) ، وقال أيضاً : ( عامّة أحاديثه مناكير مَتْناً وإسناداً ، والضَعف على رواياته بيِّن ) وقال الفلاس : ( كان يضع الحديث ، ما رأيت مثله قَطّ ) وقال أبو حاتم والنسائي : ( متروك ) .

وقال الدارقطني : ( كذّاب ) ، وقال أيضاً في العِلل : ( كان ضعيفاً ، آية مِن الآيات في ذلك ) وقال ابن حبان : ( لا يجوز كَتْب حديثه إلاّ تعجّباً ) وقال أبو داود الطيالسي : ( كذّاب ) وقال الساجي : ( متروك يضع الحديث ) وقال الأزدي : ( ضعيف مجهول ) ، لسان الميزان ج ٣ ص ٢١٨ ، ٢١٩

٣٦١

سواء أكان مِن المشركين ، أمْ مِن الكتابيّين ، أمْ مِن المسلمين الذين لا يُبالون بدِينهم ، إنّما هو مَوكول إلى الله الذي لا يفوته ظُلم الظالمين وتفريط المفرِّطين .

فلا ينبغي للمسلم المؤمن بالله أنْ يُبادر إلى الانتقام منه ، فإنّ الله أعظم منه نقمةً وأشدّ أخذاً ، وهذا الحُكم تهذيبي أخلاقي ، وهو لا يُنافي الأمْر بالقتال للدعوة إلى الإسلام أو لأمرٍ آخَر ، سواء أكان نزول هذه الآية قبل نزول آية السيف ، أمْ كان بعده .

* * *

٣٢ -( فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) ٤٧ : ٤ .

فذهبتْ جماعة إلى أنّ هذه الآية منسوخة بآية السيف ، وذهب آخَرون إلى أنّها ناسِخة لها(١) .

والحقّ : أنّها ليست ناسخة ولا منسوخة ، وتحقيق ذلك يحتاج إلى مزيد مِن البَسْط في الكلام .

أحكام الكافر المقاتل :

المعروف بين الشيعة الإمامية : أنّ الكافر المقاتل يجب قتْله ما لم يُسلِم ، ولا يسقط قتْلَه بالأسْر قبل أنْ يُثخن المسلمون الكافرين ، ويعجَز الكافرون عن القتال لكَثرة القتْل فيهم ، وإذا أسْلَم ارتفع موضوع القتْل ، وهو الكافر ، وأمّا الأسْر بعد الإثخان فيَسقط فيه القتْل ، فإنّ الآية قد جعَلتْ الإثخان غايةً لوجوب ضَرْب الرقاب .

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ٢٢٠

٣٦٢

ومِن الواضح : أنّ الحُكم يسقط عند حصول غايته ، ويتخيّر وليُّ الأمْر في تلك الحال بين استرقاق الأسير ، وبين مفاداته ، والمَنّ عليه مِن غير فِداء ، مِن غير فَرْقٍ في ذلك بين المُشرِك وغيره مِن فِرَق الكفّار ، وقد ادُّعيَ الإجماع على ما ذكرناه مِن الأحكام ، والمخالِف فيها شاذٌّ لا يُعبأ بخِلافه ، ( وسيظهر ذلك فيما بعد إنْ شاء الله تعالى ) .

وهذا الذي ذكروه يوافق ظاهر الآية الكريمة مِن جميع الجهات ، إذا كان شدّ الوَثاق هو الاسترقاق ، باعتبار أنّ معنى شدّ الوَثاق : هو عَزْله عن الاستقلال ، ما لم يُمَنّ عليه أو يُفاد ، وأمّا إذا لم يكن شدّ الوَثاق بمعنى الاسترقاق ، فلا بدّ مِن إضافة الاسترقاق إلى المُفاداة والمَنّ ؛ للعِلم بجوازه مِن أدلّةٍ أخرى ، فيكون ذلك تقييداً لإطلاق الآية بالدليل .

وقد ورَدتْ الأحكام المذكورة فيما رَواه الكُليني ، والشيخ الطوسي بإسنادهم عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال :

( سمعتُه يقول كان أبي يقول : إنّ للحرب حُكمَين : إذا كانت الحرب قائمةً لم تضع أوزارها ، ولم يُثخن أهلها ، فكلّ أسير أُخِذ في تلك الحال ، فإنّ الإمام فيه بالخيار إنْ شاء ضرَب عُنقَه ، وإنْ شاء قطَع يده ورِجْله مِن خلاف بغير حسْم ، وترَكه يتشحّط في دمِه حتّى يموت ، وهو قول الله تعالى :

( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ٥ : ٣٣ .

ألا ترى أنّه التخيير الذي خيّر الله الإمام على شيء واحد وهو الكُفر ، وليس

٣٦٣

هو على أشياء مختلفة ، فقلت لجعفر بن محمّد ( عليه السلام ) قول الله تعالى : ( أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ) ، قال ذلك الطَلب أنْ يطلبَه الخَيْل حتّى يهرب ، فإنْ أخذَتْه الخَيل حُكِم ببعض الأحكام التي وضعت ذلك ، والحُكم الآخَر إذا وضعَت الحرب أوزارها وأُثخن أهلُها ، فكلّ أسير أُخِذ على تلك الحال ، وكان في أيديهم ، فالإمام فيه بالخيار ، إنْ شاء الله مَنَّ عليهم فأرسَلَهم ، وإنْ شاء فاداهم أنفسهم ، وإنْ شاء استعبدهم فصاروا عبيداً )(١) .

ووافقت على سقوط القتْل عن الأسير بعد الإثخان : الضحاك وعطاء ، وصرّح الحسَن بذلك ، وأنّ الإمام بالخيار إمّا أنْ يمُنّ أو يُفادي أو يَسترِقّ(٢) .

وعلى ما ذكرناه فلا نسْخ في الآية الكريمة ، غاية الأمر أنّ القتْل يختصّ بمَورد ، ويختصّ عدم القتْل بمَورد آخَر ، مِن غير فَرْق بين أنْ تكون آية السيف متقدّمة في النزول على هذه الآية ، وبين أنْ تكون متأخِّرة عنها .

ومِن الغريب : أنّ الشيخ الطوسيّ - في هذا المقام - نسَب إلى أصحابنا : أنّهم روَوا تخيير الإمام في الأسير بعد الإثخان بين القتْل ، وبين ما ذُكر مِن الأمور .

قال : ( والذي رَواه أصحابنا أنّ الأسير إنْ أُخذ قبل انقضاء الحرب والقتال - بأن تكون الحرب قائمة ، والقتال باقٍ - فالإمام مخيّر بين أنْ يقتلَهم ، أو يقطع أيديَهم وأرجلَهم مِن خلاف ويتركهم حتّى ينزِفوا ، وليس له المَنّ ولا الفداء ، وإنْ كان أُخذ بعد وضع الحرب أوزارها ، وانقضاء الحرب والقتال كان - الإمام - مخيّراً بين المَنّ والمُفاداة إمّا بالمال أو النفْس ، وبين الاسترقاق - وضَرْب الرقاب - ) وتبِعَه على ذلك الطبرسي في تفسيره(٣) ، مع أنّه لم ترِد في ذلك رواية أصلاً .

_______________________

(١) الوافي ج ٩ ص ٢٣ .

(٢) القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، ونقَله النحّاس في الناسخ والمنسوخ عن عطاء ص ٢٢١ .

(٣) تفسير التبيان ج ٩ ص ٢٩١ ط النجف

٣٦٤

وقد نصّ الشيخ الطوسي بنفسه في كتاب المبسوط(١) : ( كلّ أسير يؤخذ بعد أنْ تضع الحرب أوزارها ، فإنّه يكون الإمام مخيّراً فيه بين أنْ يمُنّ عليه فيُطلِقُه ، وبين أنْ يسترقّه وبين أنْ يُفاديه ، وليس له قتْله على ما رَواه أصحابنا ) ، وقد ادّعى الإجماع والأخبار على ذلك : في المسألة السابعة عشرة مِن كتاب الفيء ، وقِسْمة الغنائم مِن كتاب الخِلاف

ومِن الذين ادّعوا الإجماع على ذلك صريحاً العلاّمة في كتابَي ( المنتهى والتذكرة ) في أحكام الأُسارى مِن كتاب الجهاد

وفي ظنّي : أنّ كلمة ( ضَرْب الرقاب ) في عبارة ( التبيان ) إنّما كانت مِن سَهْو القلم ، وقد جرى عليه الطبرسي مِن غير مراجعة .

هذا هو مذهب علماء الشيعة الإمامية ، والضحاك ، وعطاء ، والحسَن .

آراء أخرى حَول الآية :

وأمّا بقيّة علماء أهل السُنّة ، فقد ذهبوا إلى أقوال :

١ - منهم مَن قال : ( إنّ الآية نزلتْ في المشركين ، ثمّ نُسِخت بآيات السيف ) ، نُسِب ذلك إلى قتادة ، والضحاك ، والسدي، وابن جريح ، وابن عبّاس ، وإلى كثير مِن الكوفيّين ، فقالوا : ( إنّ الأسير المُشرِك يجب قتْلُه ، ولا تجوز مُفاداته ، ولا المَنّ عليه بإطلاقه )(٢) .

ويرُدُّه :

أنّه لا وجْه للنسْخ على هذا القول ، فإنّ نِسبة هذه الآية إلى آيات السيف نِسبةَ المقيّد إلى المُطلَق ، سواء أكانت متقدّمة عليها في النزول أمْ كانت متأخّرة

_______________________

(١) المبسوط كتاب الجهاد ، فصل في أصناف الكفّار وكيفية قتالهم .

(٢) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٧

٣٦٥

عنها وقد أوضحنا - فيما سبَق - أنّ العامّ المتأخّر لا يكون ناسخاً للخاصّ المتقدّم ، فكيف بالمُطلَق إذا سبَقه المقيّد(١) ؟ .

٢ - ومنهم مَن قال : ( إنّ الآية نزلت في الكفّار جميعاً ، فنُسِخت في خصوص المشرِك ) ، نُسِب ذلك إلى : قتادة ، ومجاهد، والحَكم ، وهو المشهور مِن مذهب أبي حنيفة(٢) .

ويرُدّه :

أنّ هذا القول واضح البطلان كالقول السابق ، فإنّ ذلك موقوفٌ على أنْ تكون آيات السيف متأخّرة في النزول عن هذه الآية، ولا يمكن للقائل بالنسْخ إثبات ذلك ، ولا سَنَد له غير التمسّك بخبر الواحد ، وقد أوضحنا أنّ خبر الواحد لا يثبُت به النسْخ إجماعاً .

ولو فرضنا ثبوت ذلك ، فلا دليل على كَون آيات السيف ناسخة لها ؛ ليصحّ القول المذكور ، بل تكون هذه الآية مقيِّدة لآيات السيف ؛ وذلك : لإجماع الأمّة على أنّ هذه الآية قد شمَلت المشركين أو أنّها مختصّة بهم ، وعلى ذلك كانت الآية المبارَكة قرينة على تقييد آيات السيف ؛ لِما أشرنا إليه آنفاً مِن أنّ المُطلق لا يصلُح أنْ يكون ناسخاً للمقيّد .

وإذا أغمَضنا عن ذلك كانت هذه الآية الكريمة معارِضة لآيات السيف بالعموم مِن وجْه ، ومورد الاجتماع هو المشرِك الأسير بعد الإثخان ، ولا مجال للالتزام بالنسْخ فيه .

٣ - ومنهم مَن قال : ( إنّ الآية ناسِخة لآية السيف ) ، نُسِب ذلك إلى الضحاك وغيره(٣) .

ويرُدّه :

_______________________

(١) قد فصّلنا الكلام في ذلك في بحث العموم والخصوص مِن كتابنا ( أجوَد التقريرات ) .

(٢) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٧ .

(٣) نفس المصدر

(البيان - ٢٤)

٣٦٦

أنّ هذا القول ، يتوقّف على إثبات تأخّر هذه الآية في النزول عن آيات السيف ، ولا يمكن هذا القائل إثبات ذلك ، على أنّا قد أوضحنا - فيما تقدّم - أنّه لا موجِب للالتزام بالنسْخ ، تأخّرت الآية في النزول عن آيات السيف ، أمْ تقدّمت عليها .

٤ - ومنهم مَن قال : ( إنّ الإمام مخيّر في كلّ حال بين القتْل والاسترقاق والمُفاداة والمَنّ ) ، رَواه أبو طلحة عن ابن عبّاس ، واختاره كثير : منهم ابن عمَر ، والحسَن ، وعطاء ، وهو مذهب مالِك ، والشافعيّ ، والثوريّ ، والأوزاعي ، وأبي عبيد ، وغيرهم .

وعلى هذا القول فلا نسْخ في الآية(١) ، قال النحّاس بعدما ذَكر هذا القول : ( وهذا على أنّ الآيتَين مُحكَمَتان معمولٌ بهما ، وهو قولٌ حسَن ؛ لأنّ النسْخ إنّما يكون بشيء قاطِع ، فأمّا إذا أمكَن العمل بالآيتين ، فلا معنى في القول بالنسْخ . وهذا القول يُروى عن أهل المدينة ، والشافعيّ ، وأبي عبيد )(٢) .

ويرُدّه :

أنّ هذا القول وإنْ لم يستلزم نسْخاً في الآية ، إلاّ أنّه باطل أيضاً ؛ لأنّ الآية الكريمة صريحة في أنّ المَنّ والفِداء إنّما هما بعد الإثخان ، فالقول بثبوتهم - قبل ذلك - قولٌ بخِلاف القرآن ، والأمْر بالقتْل في الآية مغيّىً بالإثخان ، فالقول بثبوت القتْل بعده قول بخلاف القرآن أيضاً ، وقد سمعت أنّ آيات السيف مقيَّدة بهذه الآية .

وأمّا ما استُدِلّ به على هذا القول ، مِن أنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قتََل بعض الأُسارى وفادى بعضاً ، ومَنّ على آخَرين ، فهذه الرواية - على فرْض صحّتها - لا دلالة لها على التخيير بين القتْل وغيره ؛ لجواز أنْ يكون قتْله للأسير قبل الإثخان ،

_______________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ٢٢٨ .

(٢) الناسخ والمنسوخ ص ٢٢١

٣٦٧

وفداؤه ومَنّه في الأُسَراء بعده ، وأمّا ما رُويَ مِن فِعل أبي بكر وعُمَر فهو - على تقدير ثبوته - لا حُجّية فيه ؛ لتُرفَع اليد به عن ظاهر الكتاب العزيز .

* * *

٣٣ -( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ٥١ : ١٩ .

* * *

٣٤ -( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ٧٠ : ٢٤. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ٧٠ : ٢٥) .

فقد وقَع الاختلاف في نسْخ الآيتَين وإحْكامهما ووجْه الاختلاف في ذلك : أنّ الحقّ المعلوم الذي أمَرتْ الآيتان به قد يكون هو الزكاة المفروضة ، وقد يكون فرْضاً مالياً آخَر غيرها ، وقد يكون حقّاً غير الزكاة ، ولكنّه مندوبٌ وليس بمفروض فإنْ كان الحقّ واجباً مالياً غير الزكاة ، فالآيتان الكريمتان منسوختان لا محالة ، مِن حيث إنّ الزكاة نسَخَت كلَّ صدَقةٍ واجبةٍ في القرآن ، وقد اختار هذا الوجْه جماعة مِن العلماء وإنْ كان الحقّ المعلوم هو الزكاة نفسها ، أو كان حقّاً مستحبّاً غير مفروض، فالآيتان مُحكَمتان بلا رَيب .

والتحقيق : يقتضي اختيار الوجْه الأخير ، وأنّ الحقّ المعلوم شيءٌ غير الزكاة ، وهو أمْرٌ قد ندَب إليه الشَرع فقد استفاضت النصوص مِن الطريقَين بأنّ الصدَقة الواجبة منحصرة بالزكاة ، وقد ورَد عن أهل البيت ( عليهم السلام ) بيان المراد مِن هذا الحقّ المعلوم .

روى الشيخ الكُليني بإسناده عن أبي بصير قال :

( كنّا عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) ومعَنا بعض أصحاب الأموال ، فذكروا الزكاة ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إنّ الزكاة ليس يُحمَدُ بها صاحبها ، وإنّما هو شيءٌ ظاهر ،

٣٦٨

إنّما حُقِن بها دَمُه وسُمِّيَ بها مسلماً ، ولو لم يؤدِّها لم تُقبل صلاته ، وإنّ عليكم في أموالكم غير الزكاة فقلت : أصلحك الله وما علينا في أموالنا غير الزكاة ؟ فقال : سبحان الله ! أما تسمع الله يقول في كتابه : والذين في أموالهم . ؟ قال : قلت : فماذا الحقّ المعلوم الذي علينا ؟ قال : هو والله الشيء يعْلَمه الرجُل في مالِه يُعطيه في اليوم ، أو في الجُمُعة ، أو الشهر قلّ أو كَثُر غير أنّه يدوم عليه ) .

وروى أيضاً بإسناده عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قول الله تعالى :

( والذين في أموالهم . أهو سوى الزكاة ؟ فقال : هو الرجُل يؤتيه الله الثَروة مِن المال ، فيُخرِج منه الألف ، والألفين ، والثلاثة آلاف ، والأقل والأكثر فيصِل به رحِمَه ، ويحْتمِل به الكَلَّ عن قومِه ) وغير ذلك مِن الروايات عن الصادقَين ( عليهما السلام )(١) .

وروى البيهقي في شُعَب الإيمان ، بإسناده عن غزوان بن أبي حاتم قال :

( بَينا أبو ذرّ عند باب عثمان لم يؤذَن له إذ مرَّ به رجُل مِن قريش ، فقال : يا أبا ذرّ ما يُجلسك هاهنا ؟ فقال : يأبى هؤلاء أنْ يأذنوا لي ، فدخل الرجُل ، فقال : يا أمير المؤمنين ما بالُ أبي ذرّ على الباب لا يؤذَن له ؟ فأمَر ، فأُذِن له ، فجاء حتّى جلس ناحية القوم . فقال عثمان لكَعْب : يا أبا إسحاق أرأيت المال إذا أُدِّيَ زكاتُه هل يخشى على صاحبه فيه تَبِعة ؟ قال : لا ، فقام أبو ذرّ ومعه عصا فضرَب بها بين أُذُنَي كعْب ، ثمّ قال : يا ابن اليهوديّة ، أنت تزعُم أنّه ليس حقٌّ في مالِه إذا أدّى الزكاة .

والله تعالى يقول :

( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) ٥٩ : ٩ .

_______________________

(١) الوافي باب الحقّ المعلوم وما قبله ج ٦ ص ٥٢

٣٦٩

والله تعالى يقول :

( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) ٧٦ : ٨ .

والله تعالى يقول :

( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ٧ : ٧٤. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ : ٧٥) .

فجَعل يذكُر نحْو هذا مِن القرآن . )(١) .

وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عبّاس :

( أنّ الحقّ المعلوم سوى الصدَقة يصِل بها رحِماً ، أو يُقري بها ضيفاً ، أو يحْمِل بها كَلاًّ ، أو يُعين بها محروماً )(٢) .

وتبِع ابن عبّاس على ذلك جُملة مِن المفسّرين ، وعلى هذا ، فلا نسْخ في الآية المبارَكة .

* * *

٣٥ -( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ٥٨ : ١٢ .

_______________________

(١) كنز العمّال ج ٣ ص ٣١٠ .

(٢) تفسير القرطبي ج ٢٩ ص ٥٠

٣٧٠

فقد ذهب أكثر العلماء إلى نسْخها بقوله تعالى :

( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ٥٨ : ١٣ .

فقد استفاضت الروايات مِن الطريقَين : أنّ الآية المبارَكة لمّا نزلتْ لم يعمل بها غيرُ عليٍّ ( عليه السلام ) ، فكان له دينار فباعه بعشرة دراهم ، فكان كلّما ناجى الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قدّم درهماً حتّى ناجاه عَشر مرّات .

أحاديث العمَل بآية النجوى :

روى ابن بابويه بإسناده عن مكحول قال :

( قال أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) : لقد عَلِم المستحفظون مِن أصحاب النبيّ محمّد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، أنّه ليس فيهم رجُل له منْقَبة إلاّ قد شرَكتُه فيها وفضُلتُه ، ولي سبعون منْقَبة لم يشرِكني أحدٌ منهم ، قلت : يا أمير المؤمنين فأخبرني بهِنّ ، فقال ( عليه السلام ) : وإنّ أوّل منْقَبة - وذَكَر السبعين - وقال في ذلك : وأمّا الرابعة والعشرين : فإنّ الله عزّ وجلّ أنزَل على رسوله : إذا ناجيتُم ، فكان لي دينار فبِعتُه بعَشرة دراهم ، فكنتُ إذا ناجَيتُ رسول الله أتصدّق قبل ذلك بدرهم ، والله ما فعَل هذا أحدٌ غيري مِن أصحابه قبْلي ، ولا بعدي ، فأنزل الله عزّ وجلّ : أأشفقتُم . )(١) .

وروى ابن جرير بإسناده عن مجاهد قال :

( قال عليٌّ رضي الله عنه : آيةٌ مِن كتاب الله لم يعمَل بها أحدٌ قبلي ولا يعمل

_______________________

(١) تفسير البرهان ج ٢ ص ١٠٩٩

٣٧١

بها أحدٌ بعدي ، كان عندي دينار فصرّفتُه بعَشرة دراهم ، فكنتُ إذا جئتُ إلى النبيّ ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) تصدّقتُ بدرهم ، فنُسِخت ، فلم يعمل بها أحدٌ قبلي : إذا ناجَيتُم )(١) .

قال الشوكاني : وأخرج عبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه - عليّ بن أبي طالب - قال : ( ما عَمِل بها أحدٌ غيري حتّى نُسِخت ، وما كانت إلاّ ساعة يعني آية النجوى ) .

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه عنه أيضاً قال :

( إنّ في كتاب الله لآية ما عَمِل بها أحدٌ قبلي ، ولا يعمَل بها أحدٌ بعدي آية النجوى : إذا ناجَيتُم . كان عندي دينار فبِعتُه بعَشرة دراهم ، فكنت كلّما ناجَيتُ رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) قدّمت بين يدَي نجوايَ درهماً ، ثمّ نُسخت فلم يعمَل بها أحدٌ ، فنزَلت : أأشفقتُم . )(٢) .

وتحقيق القول في ذلك :

أنّ الآية المبارَكة دلّت على : أنّ تقديم الصدَقة بين يدَي مناجاة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خير ، وتطهير للنفوس ، والأمْرُ به أمرٌ بما فيه مصلحة العباد ودلّت على أنّ هذا الحُكم إنّما يتوجّه على مَن يجِد ما يتصدّق به ، أمّا مَن لا يجد شيئاً ، فإنّ الله غفور رحيم .

ولا رَيب في أنّ ذلك ممّا يستقِلّ العقل بحُسْنِه ، ويحكُم الوجدان بصحّته ، فإنّ في الحُكم المذكور نفعاً للفقراء ؛ لأنّهم المستحقّون للصدقات ، وفيه تخفيف عن النبيّ

_______________________

(١) تفسير الطبري ج ٢٨ ص ١٥ .

(٢) فتْح القدير ج ٥ ص ١٨٦ والروايات في هذا المقام كثيرة ، فليراجع تفسير البرهان وتفسير الطبري وكتب الروايات وقد تعرّض لنقْل جملة منها شيخُنا المجلسي في المجلّد التاسع مِن البحار ص ١٧٠

٣٧٢

( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ، فإنّه يوجِب قِلّة مناجاته مِن الناس ، وإنّه لا يَقدِم على مناجاته - بعد هذا الحُكم - إلاّ مَن كان حبُّه لمناجاة الرسول أكثر مِن حبِّه للمال .

ولا رَيب أيضاً في أنّ حُسْن ذلك لا يختصّ بوقتٍ دون وقت ودلّت الآية الثانية على أنّ عامّة المسلمين - غير عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) - أعْرَضوا عن مناجاة الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إشفاقاً مِن الصدَقة ، وحِرصاً على المال

سبب نسْخ صدَقة النجوى :

ولا رَيب في أنّ إعراضَهم عن المناجاة يُفوِّت عليهم كثيراً مِن المنافع والمصالح العامّة ومِن أجْل حِفظ تلك المنافع ، رفَع الله عنهم وجوب الصدَقة بين يدَي المناجاة ؛ تقديماً للمصلحة العامّة على المصلحة الخاصّة ، وعلى النفْعِ الخاصّ بالفقراء ، وأمَرهم بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإطاعة الله ورسوله

وعلى ذلك فلا مناص مِن الالتزام بالنسْخ ، وأنّ الحُكم المجعول بالآية الأُولى قد نُسِخ وارتفع بالآية الثانية ويكون هذا مِن القِسم الأوّل مِن نَسْخ الكتاب - أعني ما كانت الآية الناسِخة ناظرةً إلى انتهاء أمَد الحُكم المذكور في الآية المنسوخة - ومع ذلك فنسْخ الحُكم المذكور في الآية الأُولى ، ليس مِن جهة اختصاص المصلحة التي اقتضَتْ جَعْله بزمانٍ دون زمان ، إذ قد عرفتَ أنّها عامّة لجميع أزمِنة حياة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، إلاّ أنّ حِرص الأمّة على المال ، وإشفاقها مِن تقديم الصدَقة بين يدَي المناجاة ، كان مانعاً مِن استمرار الحُكم المذكور ودَوامه ، فنُسِخ الوجوب وأُبدل الحُكم بالترخيص .

وقد يُعترَض :

أنّه كيف جعَل الله الحُكم المذكور ( وجوب التصدّق بين يدَي النجوى ) ، مع عِلمِه منذ الأزَل بوقوع المانع ! .

والجواب :

أنّ في جعْل هذا الحُكم ، ثمّ نسْخِه - كما فعلَه الله سبحانه - تنبيهاً للأمّة ،

٣٧٣

وإتماماً للحُجّة عليهم فقد ظهر لهم ولغيرهم بذلك : أنّ الصحابة كلّهم آثَروا المال على مناجاة الرسول الأكرم ، ولم يعمَل بالحُكم غير أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) وتَرْك المناجاة وإنْ لم يكن معصية لله سبحانه ؛ لأنّ المناجاة بنفسها لم تكن واجبة ، ووجوب الصدَقة كان مشروطاً بالنجوى ، فإذا لم تحصل النجوى فلا وجوب للصدَقة ، ولا معصية في ترْك المناجاة ، إلاّ أنّه يدلّ على أنّ مَن ترَك المناجاة يهتمّ بالمال أكثر مِن اهتمامه بها .

حِكْمة تشريع صدَقة النجوى :

وفي نَسْخ هذا الحُكم بعد وَضعه ظهرت حِكمة التشريع ، وانكشفتْ مِنّة الله على عباده ، وبانَ عدم اهتمام المسلمين بمناجاة النبيّ الأكرم ، وعُرِف مقام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مِن بينهم وهذا الذي ذكرناه يقتضيه ظاهر الكتاب ، وتدلّ عليه أكثر الروايات .

وأمّا إذا كان الأمْر بتقديم الصدَقة بين يدَي النجوى أمراً صوريّاً امتحانياً - كأمْر إبراهيم بذبْح ولَدِه - فالآية الثانية لا تكون ناسخة للآية الأُولى نسْخاً اصطلاحياً ، بل يصدُق على رفْع ذلك الحُكم الامتحاني : النسْخ بالمعنى اللُغَوي .

ونقَل الرازي عن أبي مسلم : أنّه جزَم بكَون الأمر امتحانياً ، لتمييز مَن آمَن إيماناً حقيقيّاً عمّن بقيَ على نِفاقه ، فلا نسْخ وقال الرازي : ( وهذا الكلام حسَنٌ ما به بأس )(١) .

وقال الشيخ شرَف الدِين : ( إنّ محمّد بن العبّاس ذَكر في تفسيره سبعين حديثاً مِن طريق الخاصّة والعامّة ، تتضمّن أنّ المُناجي للرسول هو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دون الناس أجمعين . ونقلتُ مِن مؤلَّف شيخنا أبي جعفر الطوسي هذا الحديث ، ذَكَره أنّه في جامع الترمذي ، وتفسير الثعلبي بإسناده عن علقمة الأنماري ، يرفعه إلى عليٍّ ( عليه السلام ) أنّه قال :

_______________________

(١) تفسير الرازي ج ٨ ص ١٦٧ طبْع المطبعة العامرة

٣٧٤

( بي خفّف الله عن هذه الأمّة ؛ لأنّ الله امتحن الصحابة ، فتقاعسوا عن مناجاة الرسول ، وكان قد احتجَب في منزله مِن مناجاة كلّ أحد ، إلاّ مَن تصدّق بصدَقة ، وكان معي دينار ، فتصدّقتُ به ، فكنتُ أنا سبب التوبة مِن الله على المسلمين حين عملتُ بالآية ، ولو لم يعمل بها أحد لنزَل العذاب ؛ لامتناع الكلّ مِن العمل بها )(١) .

أقول : إنّ هذه الرواية لا وجود لها في النُسخة المطبوعة مِن جامع الترمذي ، ولم أظفُر بشيء مِن نُسَخِه القديمة المخطوطة، ولم أظفُر أيضاً بتفسير الثعلبي الذي نقَل عنه في جملة مِن المؤلَّفات ، ولا أعلم بوجوده في مكان .

وكيف كان ، فلا رَيب في أنّ الحُكم المذكور لم يبقَ إلاّ زمَناً يسيراً ثمّ ارتفع ، ولم يعمل به أحدٌ غير أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وبذلك ظهَر فضلُه ، سواء أكان الأمر حقيقيّاً أمْ كان امتحانياً .

تعصّب مكشوف :

اعتذَر الرازي عن تَرْك شيوخ الصحابة العمل بالآية المبارَكة ، إذا كانوا قد وجدوا الوقت لذلك ولم يفعلوا ، فقال ما نصّه :

( وذلك الإقدام على هذا العمل ممّا يضيق قلب الفقير ، فإنّه لا يقدِر على مثلِه فيضيق قلبُه ، ويوحِش قلب الغنيّ ، فإنّه لمّا لم يفعَل الغنيّ ذلك ، وفعَله غيرُه صار ذلك الفِعل سبباً للطَعْن في مَن لم يفعَل ، فهذا الفِعل لمّا كان سبباً لحُزن الفقراء ووَحشة الأغنياء ، لم يكن في ترْكِه كبير مضرّة ؛ لأنّ الذي يكون سبباً للأُلفة أَولى ممّا يكون سبباً للوَحشة ، وأيضاً فهذه المُناجاة ليست مِن الواجبات ، ولا مِن الطاعات المندوبة ، بل قد بيَّنا أنّهم إنّما كانوا كُلِّفوا بهذه الصدَقة ليتركوا

_______________________

(١) البحار ج ٩ ص ٧٢ ، وتفسير البرهان ج ٢ ص ١١٠٠

٣٧٥

هذه المناجاة ، ولمّا كان الأَولى بهذه المناجاة أنْ تكون متروكة ، لم يكن ترْكَها سبباً للطَعْن )(١) .

تعقيب :

أقول : هذا عُذرُه ، وأنت تجد أنّه تشكيك لا ينبغي صدوره ممّن له أدنى معرفة بمعاني الكَلِم ، هبْ أنّ في هذا المقام لم ترِد فيه رواية أصلاً ، أفلا يظهر مِن قوله تعالى : ( أأشفقتُم . ) أنّه عِتاب على ترْك المُناجاة خوفاً مِن الفَقْر ، أو حِرصاً على المال ؟ وأنّ الله تعالى قد تاب عليهم عن هذا التقصير ، إلاّ أنّ التعصّب داءٌ عُضال ، ومِن الغريب أنّه ذَكر هذا ، وقد اعترف قُبَيل ذلك بأنّ مِن فوائد هذا التكليف : أنْ يتميّز به مُحبّ الآخرة مِن مُحبّ الدنيا ، فإنّ المال مَحكّ الدواعي ! ! .

وأمّا أنّ الفِعل المذكور يكون سبباً لحُزن الفقراء ، ووَحشة الأغنياء ، فيكون ترْكُه الموجِب للأُلفة أَولى ، أمّا هذا الذي ذَكره فلو صحّ ، لكان ترْك جميع الواجبات الماليّة أَولى مِن فِعلها ، ولكان أمْرُه تعالى بالفِعل أمْراً بما يحكُم العقل بأولويّة ترْكِه ، وليس ببعيد أنْ يَلتزِم الرازي بهذا ، وبما هو أدْهى منه ؛ ليُنكِر فضيلة مِن فضائل عليٍّ ( عليه السلام )

ومِن المناسِب - هنا - أنْ أنقُل كلاماً لنظام الدِين النيسابوري ، قال ما نصّه : قال القاضي :

( هذا - تصدُّق عليٍّ بين يدَي النجوى - لا يدلّ على فضْلِه على أكابر الصحابة ؛ لأنّ الوقت لعلّه لم يتّسِع للعمل بهذا الفرْض ، وقد قال فخر الدِين الرازي : سلّمنا أنّ الوقت قد وسِع ، إلاّ أنّ الإقدام على هذا العمل ممّا يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئاً ، ويُنفِّر الرجُل الغنيّ ، ولم يكن في ترْكِه مضَرّة ؛ لأنّ

_______________________

(١) تفسير الرازي ج ٨ ص ١٦٧

٣٧٦

الذي يكون سبباً للأُلفة أَولى ممّا يكون سبباً للوَحشة ، وأيضاً الصدَقة عند المُناجاة واجبة ، أمّا المُناجاة فليست بواجبة ولا مندوبة ، بل الأَولى ترْك المناجاة ، لِما بيّنا مِن أنّها كانت سبباً لسآمة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) .

قلت : هذا الكلام لا يخلو عن تعصّبٍ ما ، ومِن أين يلزَمُنا أنْ نُثبِتَ مفضوليّة عليّ - رضيَ الله عنه - في كلّ خصلة ؟ ولِمَ لا يجوز أنْ يحصل له فضيلة لم توجد لغيره مِن أكابر الصحابة ؟ ! .

فقد رُويَ عن ابن عُمَر :

كان لعليٍّ - رضي الله عنه - ثلاث لو كانت لي واحدة منهنّ ، كانت أحَبّ إليَّ مِن حُمر النِعَم : تزويجه فاطمة - رضيَ الله عنها - وإعطاؤه الراية يوم خَيبر ، وآية النجوى ، وهل يقول مُنصِف : إنّ مُناجاة النبيّ ( صلّى الله عليه [وآله] ) نقيصة ، على أنّه لم يرِد في الآية نهيٌ عن المُناجاة ، وإنّما ورَد تقديم الصدَقة على المُناجاة ، فمَن عَمِل بالآية حصل له الفضيلة مِن جهتَين : سدُّ خِلّة بعض الفقراء ، ومِن جهة مَحبّة نجوى الرسول ( صلّى الله عليه [وآله] ) ففيها القُرب منه ، وحَلّ المسائل العويصة ، وإظهار أنّ نَجْواه أحَبّ إلى المُناجي مِن المال )(١) .

٣٦ -( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ٥٩ :٧.

فقد نُقل عن قتادة أنّها منسوخة ، وأنّه قال : الفيء والغنيمة واحد ، وكان في بدْو الإسلام تقسيم الغنيمة على هذه الأصناف ، ولا يكون لمَن قاتَل عليها

_______________________

(١) تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ج ٢٨ ص ٢٤

٣٧٧

شيءٌ إلاّ أنْ يكون مِن هذه الأصناف ، ثمّ نسَخ الله ذلك في سورة الأنفال ، فجَعَل لهؤلاء الخُمس ، وجعَل الأربعة الأخماس لمَن حارب ، قال الله تعالى(١) :

( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) ٨ : ٤١ .

وقد رفَض المحقّقون هذا القول ، وقالوا : إنّ ما يغنَمُه المسلمون في الحرب يُغاير موضوعاً ما أفاء الله على رسوله بغير قتال ، فلا تنافي بين الآيتَين لتَنسَخ إحداهما الأخرى .

أقول : إنّ ما ذَكره المحقّقون بيِّن لا ينبغي الجِدال فيه ، ويؤكّده أنّه لم يُنقَل مِن سيرة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ، أنْ يَخُصّ بالغنائم نفْسَه وقرابتَه دون المجاهدين وممّا يُبطل النسْخ ما قيل : مِن أنّ سورة الأنفال نزلتْ قبـل نـزول سورة الحَشْر(٢) ، ولا أدنى مِن الشكّ في ذلك ، وممّا لا رَيب فيه أنّ الناسِخ لا بدّ مِن تأخّره عن المنسوخ .

_______________________

(١) الناسخ والمنسوخ للنحّاس ص ٢٣١ .

(٢) تفسير القرطبي ج ١٨ ص ١٤

٣٧٨

٣٧٩

البَداء في التكوين

٣٨٠