البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن0%

البيان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 526

البيان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
تصنيف: الصفحات: 526
المشاهدات: 32219
تحميل: 6140

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 526 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32219 / تحميل: 6140
الحجم الحجم الحجم
البيان في تفسير القرآن

البيان في تفسير القرآن

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العِلم الإلهيّ الأزليّ لا يُنافى قُدرتَه موقف اليهود مِن قُدرة الله مَوقع البَداء عند الشيعة أقسام القضاء الإلهيّ ثمرة الاعتقاد بالبَداء حقيقة البَداء عند الشيعة أحاديث أهل السُنّة الدالّة على البَداء إنباء المعصومين بالحوادث المستقبَلة .

٣٨١

بمناسبة الحديث عن النسْخ في الأحكام وهو في أُفُق التشريع ، وبمناسبة أنّ النسْخ كالبَداء وهو في أفُق التكوين ، وبمناسبة خفاء معنى البَداء على كثير مِن علماء المسلمين ، وأنّهم نسَبوا إلى الشيعة ما هم بُرآء منه ، وأنّهم لم يُحسنوا في الفَهْم ولم يُحسنوا في النَقْد ، ولَيتهم إذ لم يعرفوا تثبَّتوا أو تَوقَّفوا(١) ، كما تفرضه الأمانة في النقْل ، وكما تقتضيه الحَيْطة في الحُكم ، والوَرَع في الدِين ، بمناسبة كلّ ذلك وجَب أنْ نذكر شيئاً في توضيح معنى البَداء ، وإنْ لم تكن له صِلة - غير هذا - بمدخل التفسير .

تمهيد :

لا رَيب في أنّ العالَم بأجْمعِه تحت سلطان الله وقدرته ، وأنّ وجود أي شيء مِن الممكنات مَنوط بمشيئة الله تعالى ، فإنْ شاء أَوجَده ، وإنْ لم يشأ ، لم يوجِده .

ولا رَيب أيضاً في أنّ عِلم الله سبحانه قد تعلّق بالأشياء كلِّها منذ الأزل ، وأنّ الأشياء بأجمعها كان لها تعيّن عِلمي في عِلم الله الأزَلى ، وهذا التعيّن يُعبَّر عنه بـ ( تقدير الله ) تارة وبـ ( قضائه ) تارةً أخرى ، ولكن تقدير الله وعِلمه سبحانه

_______________________

(١) انظر التعليقة رقم (٩) للوقوف على اختلاق الفخر الرازي نسبة الجَهْل إلى الله على لسان الشيعة - في قِسم التعليقات (البيان ـ ٢٥)

٣٨٢

بالأشياء منذ الأزَل لا يُزاحم ولا يُنافي قدرته تعالى عليها حين إيجادها ، فإنّ المُمكن لا يزال منوطاً بتعلُّق مشيئة الله بوجوده التي قد يُعبّر عنها بالاختيار ، وقد يُعبَّر عنها بالإرادة ، فإنْ تعلّقتْ المشيئة به وُجِد وإلاّ لم يوجَد .

والعِلم الإلهي يتعلّق بالأشياء على واقِعها مِن الإناطة بالمشيئة الإلهية ؛ لأنّ انكشاف الشيء لا يزيد على واقِع ذلك الشيء ، فإذا كان الواقع منوطاً بمشيئة الله تعالى ، كان العِلم متعلِّقاً به على هذه الحالة ، وإلاّ لم يكن العِلم عِلماً به على وجْهِه ، وانكشافاً له على واقِعه فمعنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها : أنّ الأشياء جميعها كانت متعيّنة في العِلم الإلهي منذ الأزَل ، على ما هي عليه مِن أنّ وجودها معلّق على أنْ تتعلّق المشيئة بها ، حسَب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف ، والتي يُحيط بها العِلم الإلهي .

مَوقف اليهود مِن قُدرة الله :

وذهبت اليهود إلى : أنّ قلَم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزَل ، استحال أنْ تتعلّق المشيئة بخلافه ومِن أجْل ذلك قالوا : يَدُ الله مغلولة عن القبْض والبسْط والأخْذ والإعطاء ، فقد جرى فيها قلَم التقدير ولا يُمكن فيه التغيير(١) ، ومِن الغريب أنّهم - قاتَلَهم الله - التزموا بسَلْب القُدرة عن الله ، ولم يلتزموا بسَلْب القُدرة عن العَبْد ، مع أنّ المِلاك في كِلَيهما واحد ، فقد تعلّق العِلم الأزلي بأفعال الله تعالى ، وبأفعال العبيد على حدٍّ سَواء

مَوقِع البَداء عند الشيعة :

ثمّ إنّ البَداء الذي تقول به الشيعة الإمامية ، إنّما يقع في القضاء غير المحتوم ، أمّا المحتوم منه فلا يتَخلَّف ، ولا بدّ مِن أنْ تتعلَّق المشيئة بما تعلَّق به القضاء ، وتوضيح ذلك أنّ القضاء على ثلاثة أقسام :

_______________________

(١) انظُر التعليقة رقم (١٠) لمعرفة بعض الأخبار الدالّة على مشيئة الله تعالى - في قِسم التعليقات

٣٨٣

أقسام القضاء الإلهي :

الأوّل : قضاء الله الذي لم يُطْلِع عليه أحداً مِن خلْقِه ، والعِلم المخزون الذي استأثَر به لنفسه ، ولا رَيب في أنّ البَداء لا يقع في هذا القِسم ، بل وَرَد في روايات كثيرة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) : أنّ البَداء إنّما ينشأ مِن هذا العِلم .

رَوى الشيخ الصدوق في ( العيون ) بإسناده عن الحسن بن محمّد النوفلي ، أنّ الرضا ( عليه السلام ) قال لسليمان المروزي : ( رَوَيتُ عن أبي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنّه قال : إنّ لله عزّ وجلّ عِلْمَين : عِلماً مخزوناً مكنوناً لا يعلَمُه إلاّ هو مِن ذلك يكون البَداء ، وعِلماً علَّمَه ملائكتَه ورُسُلَه ، فالعلماء مِن أهل بيت نبيِّك يعْلَمونه . )(١) .

وروى الشيخ محمّد بن الحسن الصفّار في ( بصائر الدرجات ) ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال :

( إنّ لله عِلْمَين : عِلمٌ مكنون مخزون لا يعلمُه إلاّ هو ، مِن ذلك يكون البَداء ، وعِلمٌ علَّمَه ملائكتَه ورُسُلَه وأنبياءه ، ونحن نعلَمُه )(٢) .

الثاني : قضاء الله الذي أخبر نبيَّه وملائكتَه بأنّه سيقع حتماً ، ولا رَيب في أنّ هذا القِسم أيضاً لا يقع فيه البَداء ، وإنْ افترَقَ عن القِسم الأوّل ، بأنّ البَداء لا ينشأ منه .

قال الرضا ( عليه السلام ) لسليمان المروزي - في الرواية المتقدّمة - عن الصدوق :

( إنّ عليّاً ( عليه السلام ) كان يقول : العِلم عِلمان ، فعِلمٌ علَّمه الله ملائكتَه ورُسُلَه ،

_______________________

(١) عيون أخبار الرضا باب ١٣ في ذِكر مجلس الرضا مع سليمان المروزي ، والبحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص١٣٢ ط كمباني .

(٢) نقلاً عن البحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٦ ط كمباني ، ورواه الشيخ الكُليني عن أبي بصير أيضاً ، الوافي باب البداء ج ١ ص ١١٣ .

٣٨٤

فما علَّمه ملائكتَه ورُسُلَه فإنّه يكون ، ولا يُكذِّب نفسَه ولا ملائكته ولا رُسله وعِلمٌ عنده مخزون لم يُطلِع عليه أحداً مِن خلْقِه ، يُقدِّم منه ما يشاء ، ويؤخِّر ما يشاء ، ويمْحو ما يشاء ويُثبِت ما يشاء ) (١) .

وروى العياشي عن الفضيل ، قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول :

( مِن الأمور أُمورٌ محتومة جائية لا محالة ، ومِن الأمور أُمورٌ موقوفة عند الله يُقدّم منها ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويُثبِت ما يشاء ، لم يُطْلِع على ذلك أحداً - يعني الموقوفة - فأمّا ما جاءت به الرُسُل فهي كائنة لا يُكذِّب نفسَه ، ولا نبيَّه ، ولا ملائكته )(٢) .

الثالث : قضاء الله الذي أخبَر نبيَّه وملائكتَه بوقوعه في الخارج ، إلاّ أنّه موقوفٌ على أنْ لا تتعلّق مشيئة الله بخلافه وهذا القِسم هو الذي يقع فيه البَداء :

( يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ١٣ : ٣٩. لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ٣٠ : ٤) .

وقد دلّت على ذلك روايات كثيرة منها هذه :

١ - ما في ( تفسير عليّ بن إبراهيم ) عن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( إذا كان ليلة القَدْر، نزلت الملائكة والروح والكتَبة إلى سماء الدنيا ، فيكتُبون ما يكون مِن قضاء الله تعالى في تلك السَنة ، فإذا أراد الله أنْ يُقدّم شيئاً أو يؤخّره ، أو يُنقِص شيئاً ، أمَر الملَك أنْ يمحو ما يشاء ، ثمّ أثبَت الذي أراده قلتُ : وكلّ شيء هو عند الله مُثبَت في كتاب ؟ قال : نعَم قلت :

_______________________

(١) عيون أخبار الرضا باب ١٣ ، ورواه الشيخ الكُليني عن الفُضَيل بن يسار عن أبي جعفر ( ع ) الوافي باب البَداء ج ١ ص ١١٣ .

(٢) نقلاً عن البحار : باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٣ ط كمباني

٣٨٥

فأيُّ شيءٍ يكون بعده ؟ قال : سبحان الله ، ثمّ يُحدِث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى ) (١) .

٢ - ما في تفسيره أيضاً عن عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن ( ع ) ، في تفسير قوله تعالى :

( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) ٤٤ : ٤ .

( أي يُقدِّر الله كلّ أمْرٍ مِن الحقّ ومِن الباطل ، وما يكون في تلك السنة ، وله فيه البَداء والمشيئة يقدِّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء مِن الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ، ويزيد فيها ما يشاء ويُنقص ما يشاء . )(٢) .

٣ - ما في كتاب ( الاحتجاج ) عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه قال : ( لولا آية في كتاب الله ، لأخبرتكم بما كـان ، وبما يكون ، وبما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي هذه الآية: يَمْحُوا اللَّهُ . . )(٣) .

وروى الصدوق في الأمالي والتوحيد بإسناده عن الأصبغ عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مِثْلَه .

٤ - ما في ( تفسير العياشي ) عن زرارة عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : ( كان عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) يقول : لولا آية في كتاب الله لحدّثتُكم بما يكون إلى يوم القيامة فقلت : أيّة آيـة ؟ قـال : قَول الله: يَمْحُوا اللَّهُ . . )(٤) .

٥ - ما في ( قُرب الإسناد ) عن البزنطي عن الرضا ( عليه السلام ) قال : قال

_______________________

(١) نقلاً عن البحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٣ ط كمباني .

(٢) نفس المصدر ص ١٣٤ .

(٣) الاحتجاج للطبرسي ص ١٣٧ المطبعة المرتضوية - النجف الأشرف .

(٤) نقلاً عن البحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٩ ط كمباني

٣٨٦

أبو عبد الله ، وأبو جعفر ، وعليّ بن الحسين ، والحسين بن عليّ ، والحسن بن عليّ وعليّ بن أبي طالب ( عليهم السلام ) : ( لولا آية في كتاب الله لحدّثناكم بما يكون إلى أنْ تقوم الساعة: يَمْحُوا اللَّهُ . . )(١) إلى غير ذلك مِن الروايات الدالّة على وقوع البَداء في القضاء الموقوف .

وخُلاصة القول : أنّ القضاء الحَتْمي المُعبَّر عنه باللوح المحفوظ ، وبأُمِّ الكتاب ، والعِلم المخزون عند الله يستحيل أنْ يقع فيه البَداء وكيف يتصوّر فيه البَداء ؟ وأنّ الله سبحانه عالِمٌ بجميع الأشياء منذ الأزل ، لا يعزُب عن عِلمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء .

روى الصدوق في ( إكمال الدين ) بإسناده عن أبي بصير وسُماعة ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال :

( مَن زعَم أنّ الله عزّ وجلّ يبدو له في شيء لم يعْلَمه أمْس ، فابرأوا منه ) (٢)

وروى العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) يقول :

( إنّ الله يقدِّم ما يشاء ، ويؤخّر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، ويُثبِت ما يشاء وعنده أُمُّ الكتاب ، وقال : فكلّ أمْرٍ يريده الله فهو في عِلمِه قبل أنْ يصنعه ، ليس شيء يبدو له إلاّ وقد كان في عِلمِه ، إنّ الله لا يبدو له مِن جَهْل )(٣) .

وروى أيضاً عن عمّار بن موسى عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : ( سُئل عن قول الله: يَمْحُوا اللَّهُ . . قال : إنّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويُثبت ، فمِن ذلك الذي يردُّ الدعاء القضاء ، وذلك الدعاء مكتوبٌ عليه الذي يردّ به القضـاء ، حتّى إذا صار إلى أُمّ الكتاب لم يُغنِ الدعاء فيه شيئاً )(٤) .

_______________________

(١) نفس المصدر ص ١٣٢ .

(٢) نقلاً عن البحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٦ .

(٣) نقلاً عن نفس المصدر ص ١٣٩ .

(٤) نقلاً عن نفس المصدر ص ١٣٩

٣٨٧

وروى الشيخ الطوسي في كتاب ( الغيبة ) بإسناده عن البزنطي ، عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) : قال عليّ بن الحسين ، وعليّ بن أبي طالب قَبْله ، ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد :

( كيف لنا بالحديث مع هذه الآيةيَمْحُوا اللَّهُ . . ، فأمّا مَن قال بأنّ الله تعالى لا يعلَم الشيء إلاّ بعد كَونِه ، فقد كَفَر وخرج عن التوحيد )(١) .

والروايات المأثورة عن أهل البيت ( ع ) أنّ الله لم يزَلْ عالِماً قبل أنْ يخلُق الخَلْق ، فهي فوق حدّ الإحصاء ، وقد اتّفقتْ على ذلك كلمة الشيعة الإمامية طِبقاً لكتاب الله وسُنّة رسوله ، جَرْياً على ما يقتضيه حُكم العقل الفطريّ الصحيح .

ثمَرة الاعتقاد بالبَداء :

والبَداء : إنّما يكون في القضاء الموقوف المعبَّر عنه بلوح المَحو والإثبات ، والالتزام بجواز البَداء فيه لا يستلزم نِسبة الجهْل إلى الله سبحانه ، وليس في هذا الالتزام ما يُنافي عَظمَتَه وجلاله .

فالقول بالبَداء : هو الاعتراف الصريح بأنّ العالَم تحت سلطان الله وقُدرتِه ، في حدوثه وبقائه ، وأنّ إرادة الله نافذة في الأشياء أزَلاً وأبداً ، بل وفي القول بالبَداء يتّضح الفارِق بين العِلم الإلهي وبين عِلم المخلوقين ، فعِلم المخلوقين - وإنْ كانوا أنبياء أو أوصياء - لا يُحيط بما أحاط به عِلمُه تعالى ، فإنّ بعضاً منهم ، وإنْ كان عالِماً - بتعليم الله إيّاه - بجميع عوالِم المُمكنات ، لا يُحيط بما أحاط به عِلم الله المخزون الذي استأثر به لنفسه ، فإنّه لا يُعلَم بمشيئة الله تعالى - لوجود شيء - أو عدم مشيئته ، إلاّ حيث يُخبره الله تعالى به على نحْو الحتْم .

_______________________

(١) نقلاً عن البحار باب البَداء والنسْخ ج ٢ ص ١٣٦ ط كمباني ، وروى الشيخ الكُليني بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ( ع ) قال : ( ما بَدا لله في شيء إلاّ كان في عِلْمه قبل أنْ يبدو له ) الوافي باب البَداء ج ١ ص ١١٣

٣٨٨

والقول بالبَداء : يوجِب انقطاع العبْد إلى الله ، وطَلبه إجابة دعائه منه وكفاية مهمّاته ، وتوفيقه للطاعة ، وإبعاده عن المعصية ، فإنّ إنكار البَداء ، والالتزام بأنّ ما جرى به قلَم التقدير كائنٌ لا محالة - دون استثناء - يلزمُه يأس المعتقِد بهذه العقيدة عن إجابة دعائه .

فإنّ ما يطلُبُه العبْد مِن ربِّه إنْ كان قد جَرى قلَم التقدير بإنفاذِه ، فهو كائنٌ لا محالة ، ولا حاجة إلى الدعاء والتوسّل ، وإنْ كان قد جرى القلَم بخِلافه لم يقع أبداً ، ولم ينفعه الدعاء ولا التضرّع ، وإذا يئِس العَبد مِن إجابة دعائه ترَك التضرّع لخالِقه ، حيث لا فائدة في ذلك ، وكذلك الحال في سائر العبادات والصدقات ، التي ورَد عن المعصومين ( ع ) أنّها تزيد في العُمر أو في الرِزق ، أو غير ذلك ممّا يطلبه العَبْد .

وهذا هو سِرّ ما ورَد في روايات كثيرة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) مِن الاهتمام بشأن البَداء .

فقد رَوى الصدوق في كتاب ( التوحيد ) ، بإسناده عن زرارة عن أحدهم ( عليه السلام ) قال : ( ما عُبِد الله عزّ وجلّ بشيء مثل البَداء )(١) وروى بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( ما عُظِّم الله عزّ وجلّ بمِثل البَداء )(٢)

وروى بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال :

( ما بَعث الله عزّ وجلّ نبيّاً حتّى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبوديّة ، وخَلْع الأنداد ، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخِّر ما يشاء )(٣) .

والسِرّ في هذا الاهتمام : أنّ إنكار البَداء يشترك بالنتيجة مع القول بأنّ الله

_______________________

(١) أفضل مِن البَداء - نسخة أخرى .

(٢) التوحيد للصدوق باب البَداء ص ٢٧٢ ط سنة ١٣٨٦هـ.ق ، ورواه الشيخ الكُليني أيضاً الوافي باب البَداء ج١ ص ١١٣ .

(٣) نفس المصدر ص ٢٧٢ ، ورواه الشيخ الكُليني أيضاً الوافي باب البَداء ج ١ ص ١١٣

٣٨٩

غير قادر على أنْ يُغيِّر ما جَرى عليه قلَم التقدير تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً فإنّ كِلا القولَين يؤيِس العَبْد مِن إجابـة دعائه ، وذلك يوجِب عدم توجّهه في طلَباته إلى ربِّه

حقيقة البَداء عند الشيعة :

وعلى الجُملة : فإنّ البَداء بالمعنى الذي تقول به الشيعة الإمامية : هو مِن الإبداء ( الإظهار ) حقيقة ، وإطلاق لفظ البَداء عليه مبنيٌّ على التنزيل والإطلاق بعلاقة المُشاكَلة وقد أُطلق بهذا المعنى في بعض الروايات مِن طُرُق أهل السُنّة .

روى البخاري بإسناده عن أبي عمرة ، أنّ أبا هريرة حدّثه أنّه سمع رسول الله ( صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ) يقول : إنّ ثلاثة في بني إسرائيل : أبرَص وأعمى وأقرَع ، بَدا لله عزّ وجلّ أنْ يبتليهم ، فبعث إليهم ملَكا ، فأتى الأبرص . )(١)

وقد وقع نظير ذلك في كثير مِن الاستعمالات القرآنية ، كقوله تعالى :

( الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ) ٨ : ٦٦ .

وقوله تعالى :

( لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً ) ١٨ : ١٢ .

وقوله تعالى :

( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) ١٨ : ٧ .

وما أكثر الروايات مِن طُرُق أهل السُنّة في أنّ الصدَقة والدعاء يُغيِّران القضاء(٢) .

_______________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ باب ما ذُكر عن بني إسرائيل ص ١٤٦ .

(٢) انظُر التعليقة رقم (١١) للوقوف على روايات تُفيد أنّ الدعاء يُغيِّر القضاء - في قِسم التعليقات

٣٩٠

أمّا ما وقع في كلمات المعصومين ( عليهم السلام ) مِن الإنباء بالحوادث المستقبَلة ، فتحقيق الحال فيها :

أنّ المعصوم متى ما أخبَر بوقوع أمْرٍ مستقبَل على سبيل الحتْم والجزْم ودون تعليق ، فذلك يدلّ أنّ ما أخبَر به ممّا جَرى به القضاء المحتوم ، وهذا هو القِسم الثاني ( الحتميّ ) مِن أقسام القضاء المتقدّمة وقد علمتَ أنّ مِثْلَه ليس موضعاً للبَداء ، فإنّ الله لا يُكذِّب نفسه ولا نبيَّه .

ومتى ما أخبَر المعصوم بشيء معلّقاً على أنْ لا تتعلّق المشيئة الإلهية بخِلافه ، ونصَب قرينة متّصلة أو منفصلة على ذلك ، فهذا الخبر إنّما يدلّ على جريان القضاء الموقوف ، الذي هو موضع البَداء والخبر الذي أخبَر به المعصوم صادقٌ وإنْ جرى فيه البَداء ، وتعلّقت المشيئة الإلهية بخلافه فإنّ الخبَر - كما عرفت - منوطٌ بأنْ لا تخالِفه المشيئة .

وروى العياشي عن عمرو بن الحمق قال :

( دخلتُ على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين ضُرِب على قَرْنه ، فقال لي : يا عمرو إنّي مفارِقُكم ، ثمّ قال : سَنة السبعين فيها بلاء . فقلت : بأبي أنت وأُمّي قلت : إلى السبعين بلاء ، فهل بعد السبعين رخاء ؟ قال : نعَم يا عمرو إنّ بعد البلاء رخاء ) . وذكر آيةيَمْحُوا اللَّهُ . . .

٣٩١

أصول التفسير

٣٩٢

بطلان الاعتماد على الظنّ ، وعلى آراء المفسّرين في فَهْم القرآن مدارك التفسير تخصيص القرآن بخبَر الواحد شُبُهات المنكِرين له ، والأقوال في المسألة

٣٩٣

التفسير هو إيضاح مراد الله تعالى مِن كتابه العزيز ، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون والاستحسان ، ولا على شيء لم يثبُتْ أنّه حُجّة مِن طريق العقل ، أو مِن طريق الشَرع ، للنهي عن اتّباع الظنّ ، وحُرمة إسناد شيءٍ إلى الله بغير إذنِه ، قال الله تعالى :

( قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) ١٠ : ٥٩ .

وقال الله تعالى :

( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) ١٧ : ٣٦ .

إلى غير ذلك مِن الآيات والروايات الناهية عن العمل بغير العِلم ، والروايات الناهية عن التفسير بالرأي مستفيضة مِن الطريقَين .

ومِن هذا يتّضح أنّه لا يجوز اتّباع أحدِ المفسّرين في تفسيره ، سواء أكان ممّن حَسُن مذهبه أمْ لم يكـن ؛ لأنّه مِن اتّباع الظنّ ، وهو لا يُغني مِن الحقّ شيئاً .

مدارك التفسير :

ولا بدّ للمفسِّر مِن أنْ يتّبع الظواهر ، التي يفهمُها العربيّ الصحيح ( فقد بيّنا لك حُجّية الظواهر ) ، أو يتّبع ما حَكم به العقل الفطريّ الصحيح ، فإنّه حُجّة مِن الداخل ، كما أنّ النبيّ حجّة مِن الخارج ، أو يتّبع ما ثبَت عن المعصومين ( عليهم السلام ) فإنّهم المَراجِع في الدِين ، والذين أَوصى النبيُّ ( صلّى الله عليه وآله ) بوجوب التمسّك بهم

٣٩٤

فقال : إنّي تاركٌ فيكم الثقلَين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إنْ تمسكتُم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً(١) .

ولا شُبهة في ثبوت قولِهم (عليهم السلام ) إذا دلّ عليه طريق قطعيّ لا شك فيه ، كما أنّه لا شُبهة في عدم ثبوته إذا دلّ عليه خبر ضعيف غير جامع لشرائط الحُجّية ، وهل يثبُت بطريق ظنّي دلّ على اعتباره دليل قطعيّ ؟ فيه كلام بين الأعلام .

وقد يُشكل :

في حُجّية خبر الواحد الثقة ، إذا ورَد عن المعصومين ( عليهم السلام ) في تفسير الكتاب ، ووجْه الإشكال في ذلك أنّ معنى الحُجّية التي ثبتت لخبر الواحد ، أو لغيره مِن الأدلّة الظنّية هو وجوب ترتيب الآثار عليه ، عمَلاً في حال الجَهْل بالواقع ، كما تترتّب على الواقع لو قُطع به ، وهذا المعنى لا يتحقّق إلاّ إذا كان مؤدّى الخبر حُكماً شرعيّاً ، أو موضوعاً قد رتّب الشارع عليه حُكماً شرعياً ، وهذا الشرط قد لا يوجد في خبر الواحد ، الذي يُروى عن المعصومين في التفسير .

وهذا الإشكال :

خلاف التحقيق ، فإنّا قد أوضحنا في مباحث ( عِلم الأصول ) : أنّ معنى الحجّية في الأمارة الناظرة إلى الواقع ، هو جعْلها عِلماً تعبّدياً في حُكم الشارع ، فيكون الطريق المعتبر فرداً مِن أفراد العِلم ، ولكنّه فردٌ تعبّديّ لا وجدانيّ ، فيترتّب عليه كلّما يترتّب على القطْع مِن الآثار ، فيصحّ الإخبار على طِبْقِه ، كما يصحّ أنْ يُخبر على طِبق العِلم الوجداني ، ولا يكون مِن القول بغير عِلم .

ويدلّنا على ذلك سيرة العقلاء ، فإنّهم يعامِلون الطريق المعتبَر معاملة العِلم الوجدانيّ ، مِن غير فَرْقٍ بين الآثار ، فإنّ اليد مثلاً أمارة عند العقلاء على مالكيّة

_______________________

(١) يأتي بعض مصادر الحديث في التعليقة رقم (١) مِن قِسم التعليقات مِن هذا الكتاب ، وفي كنز العمّال - باب الاعتصام بالكتاب والسُنّة ج ١ ص ١٠٣ و ٣٣٢ طبعة دائرة المعارف العثمانية - الشيء الكثير مِن طُرُق هذه الرواية

٣٩٥

صاحب اليد لِما في يده ، فهُم يرتِّبون له آثار المالكيّة ، وهم يُخبرون عن كَونه مالكاً للشيء بلا نكير ، ولم يثبُتْ مِن الشارع ردْعٌ لهذه السيرة العقلائية المستمرّة .

نعَم يعتبَر في الخبر الموثوق به ، وفى غيره مِن الطُرُق المعتبَرة أنْ يكون جامع لشرائط الحُجّية ، ومنها أنْ لا يكون الخبر مقطوع الكَذِب ، فإنّ مقطوع الكَذِب لا يُعقل أنْ يشملَه دليل الحُجّية والتعبُّد ، وعلى ذلك فالأخبار التي تكون مخالفة للإجماع ، أو للسُنّة القطعيّة ، أو الكتاب ، أو الحُكم العقليّ الصحيح ، لا تكون حُجّة قطعاً ، وإنْ استجمعَتْ بقيّة الشرائط المعتبَرة في الحُجّية ولا فَرْق في ذلك بين الأخبار المتكفّلة لبيان الحُكم الشرعيّ ، وغيرها .

والسِرّ في ذلك : أنّ الراوي مهما بلغَت به الوَثاقة ، فإنّ خبرَه غير مأمون مِن مخالفة الواقع ، إذ لا أقلّ مِن احتمال اشتباه الأمْر عليه ، وخصوصاً إذا كَثُرت الوسائط ، فلا بدّ مِن التشبّث بدليل الحُجّية في رفْع هذا الاحتمال ، وفرْضُه كالمعدوم وأمّا القطْع بالخلاف ، وبعدم مطابقة الخبر للواقع ، فلا يُعقَل التعبّد بعدَمِه ؛ لأنّ كاشفية القطْع ذاتية ، وحُجّيته ثابتة بحُكم العقل الضروريّ .

وإذن فلا بدّ مِن اختصاص دليل الحُجّية بغير الخبر الذي يُقطَع بكَذِبه وبمخالفته للواقع ، وهكذا الشأن في غير الخبر مِن الطُرُق المعتبَرة الأخرى التي تكشِف عن الواقع ، وهذا بابٌ تنفتح منه أبواب كثيرة ، وبه يُجاب عن كثير مِن الإشكالات والاعتراضات ، فلتكنْ على ذِكرٍ منه

تخصيص القرآن بخبر الواحد :

إذا ثبتتْ حُجّية الخبر الواحد بدليل قطعيّ ، فهل يخصَّص به عموم ما ورَد في الكتاب العزيز ؟ ذهب المشهور إلى جواز ذلك ، وخالف فيه فريقٌ مِن علماء أهل السُنّة ، فمنعَه بعضهم على الإطلاق وقال عيسى بن أبان : إنْ كان العامّ الكتابيّ قد خُصّ - مِن قبْل - بدليل مقطوع به ، جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلاّ لم يجُزْ وقال الكرخي : إذا خُصّ العامّ بدليلٍ منفصل جاز تخصيصه بعد ذلك

٣٩٦

بخبر الواحد وإلاّ فلا وذهب القاضي أبو بكر إلى الوَقف(١) .

والذي نختارُه :

هو القول المشهور والدليل على ذلك أنّ الخبر - كما فرضْنا - قطعيّ الحُجّية ، ومقتضى ذلك أنّه يجب العمل بموجِبه ما لم يمنع منه مانع .

شُبُهات وأقوال :

وما تُوهم منعَه عن ذلك أمور لا تصلُح للمنْع :

١ - قالوا : إنّ الكتاب العزيز كلام الله العظيم المُنزَل على نبيِّه الكريم ، وذلك قطعيّ لا شُبهة فيه وأمّا خبر الواحد فلا يقين بمطابقته للواقع ، ولا بصدور مضمونه عن المعصوم ، إذ لا أقلّ مِن احتمال اشتباه الراوي والعقل لا يُجوِّز أنْ تُرفَع اليد عن أمْرٍ مقطوعٍ به لدليلٍ يُحتمَل فيه الخطأ .

والجواب عن ذلك :

أنّ الكتاب - وإنْ كان قطعيّ الصدور - إلاّ أنّه لا يقين بأنّ الحُكم الواقعيّ على طِبْق عموماته ، فإنّ العمومات إنّما وَجَب العمل على طِبقِها مِن أجْل أنّه ظاهر الكلام ، وقد استقرّت العقلاء على حُجّية الظواهر ، ولم يردَع الشارع عن اتّباع هذه السيرة.

ومِن البيّن أنّ سيرة العقلاء على حُجّية الظاهر مختصّة بما إذا لم تقُمْ قرينة على خلاف الظهور ، سواء أكانت القرينة متّصلة أمْ كانت منفصلة ، فإذا نهضَت القرينة على الخِلاف وجَب رفْع اليد عن الظاهر ، والعمل على وِفْق القرينة وإذن فلا مناص مِن تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد ، بعد قيام الدليل القطعيّ على حُجّيته فإنّ معنى ذلك أنّ مضمون الخبر صادر عن المعصومين تعبّداً وإنْ شئتَ فقُل : إنّ سنَد الكتاب العزيز وإنْ كان قطعيّاً ، إلاّ أنّ دلالته ظنّية ، ولا محذور بحُكم العقل في أنْ تُرفَع اليد عن الدلالة الظنّية لدليل ظنّيٍّ آخَر ثبتتْ حُجّيته بدليلٍ قطعيّ .

_______________________

(١) أصول الأحكام للآمدي ج ٢ ص ٤٧٢

٣٩٧

٢ - وقالوا : قد صحّ عن المعصومين ( عليهم السلام ) أنْ تُعرَض الروايات على الكتاب ، وما يكون منها مخالفاً لكتاب الله يلزم طَرْحه ، وضَرْبه على الجدار ، وهو ممّا لم يقولُوه والخبَر الخاصّ المخالِف لعموم الكتاب ممّا تشمله تلك الأدلّة ، فيجب طرْحُه ، وعدم تصديقه .

والجواب عن ذلك :

أنّ القرائن العُرفية على بيان المراد مِن الكتاب ، لا تُعَدُّ في نظَر العُرف مِن المخالفة له في شيء ، والدليل الخاصّ قرينة لإيضاح المعنى المقصود مِن الدليل العامّ ، والمخالفة بين الدليلَين إنّما تتحقّق إذا عارَض أحدُهما صاحبَه ، بحيث يتوقّف أهل العُرف في فَهْم المراد منهما ، إذا صدَر كِلاهما مِن متكلِّمٍ واحد ، أو ممّن بحُكمه ، فخبَر الواحد الخـاصّ ليس مخالِفاً للعامّ الكتابيّ ، بل هو مبيِّن للمراد منه .

ويدلّ على ذلك أيضاً : أنّا نعلم : أنّه قد صدر عن المعصومين ( عليهم السلام ) كثير مِن الأخبار المخصِّصة لعمومات الكتاب ، والمقيِّدة لمُطلقاته ، فلو كان التخصيص أو التقييد مِن المخالف للكتاب ، لَما صحّ قولهم : ( ما خالَف قَول ربِّنا لم نقُلْه، أو هو زُخْرُف ، أو باطل ) ، فيكون صدور ذلك عنهم ( عليهم السلام ) دليلاً على أنّ التخصيص أو التقييد ليس مِن المخالفة في شيء .

أضِف إلى ذلك : أنّ المعصومين ( عليهم السلام ) قد جعلوا موافقة ، أحَد الخبرَين المتعارضَين ، للكتاب مُرجّحاً له على الخبر الآخَر ، ومعنى ذلك أنّ معارِضَه - وهو الذي لم يوافق الكتاب - حُجّة في نفسه لولا المعارَضة ، ومِن الواضح أنّ ذلك الخبر ، لو كانت مخالفته للكتاب على نحْوٍ لا يمكن الجَمْع بينهما ، لم يكن حُجّة في نفسه ، ولم يبقَ معه مجال للمعارَضة والترجيح ، وإذن فلا مناص مِن أنْ يكون المراد مِن عدم موافقته للكتاب ، أنّه يمكن الجَمْع بينهما عُرفاً بالالتزام بالتخصيص أو التقييد .

(البيان - ٢٦) .

٣٩٨

ونتيجة ذلك : أنّ الخبر المخصِّص للكتاب ، أو المقيّد له حُجّة في نفسه ، ويلزم العمل به ، إلاّ حين يُبتلى بالمعارَضة .

٣ - وقالوا : لو جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لجاز نَسْخه به ، والنسْخ به غير جائز يقيناً ، فالتخصيص به غير جائز أيضاً ، والسَنَد في هذه الملازمة : أنّ النسْخ - كما أوضحناه في مبحث النسْخ - تخصيص في الأزمان ، والدليل الناسِخ كاشف عن أنّ الحُكم الأوّل كان مختصّاً بزمان ينتهي بورود ذلك الدليل الناسِخ ، فنسْخ الحُكم ليس رفْعاً له حقيقةً ، بل هو رفْع له صورةً وظاهراً ، والتخصيص في الأفراد كالتخصيص في الأزمان ، فكِلاهما تخصيص ، فلو جاز الأوّل لَجاز الثاني .

والجواب عن ذلك :

أنّ الفارِق بين النَوعين مِن التخصيص هو الإجماع القطعيّ على المنْع في النسْخ ، ولولا ذلك الإجماع لَجاز النسْخ بخبر الواحد الحُجّة ، كما جاز التخصيص به ، وقد بيّنا أنّ الكتاب وإنْ كان قطعيّ السنَد ، إلاّ أنّ دلالته غير قطعيّة ، ولا مانع مِن رفْع اليَد عنها بخبر الواحد ، الذي ثبتَتْ حُجّيته بدليلٍ قطعيّ .

نعَم : الإجماع المذكور ليس إجماعاً تعبّديّاًَ ؛ بل لأنّ بعض الأمور مِن شأنه أنْ يُنقَل بالتواتر لو تحقّق في الخارج ، فإذا اختصّ بنقْلِه بعضٌ دون بعض ، كان ذلك دليلاً على كَذِب راوِيه أو خطَئِه ، فلا تشمله أدلّة الحُجّية لخبر الواحد ، ومِن أجْل هذا قُلنا : إنّ القرآن لا يثبُت بخبر الواحد .

وممّا لا رَيب فيه أنّ النسْخ لا يختصّ بقَومٍ مِن المسلمين دون قَوم ، والدواعي لنقْلِه متظافرة ، فلو ثبَتَ لكانت الأخبار به متواترة ، فإذا اختصّ الواحد بنقْلِه كان ذلك دليلاً على كَذِبه أو خطَئِه ؛ وبذلك يظهر الفارِق بين التخصيص والنسْخ ، وتبطل الملازمة بين جواز الأوّل وجواز الثاني .

٣٩٩

حدوث القرآن وقِدَمُه

٤٠٠