علي ومناوئوه

علي ومناوئوه0%

علي ومناوئوه مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 219

علي ومناوئوه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الدكتور نوري جعفر
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
تصنيف: الصفحات: 219
المشاهدات: 25531
تحميل: 6403

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 219 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25531 / تحميل: 6403
الحجم الحجم الحجم
علي ومناوئوه

علي ومناوئوه

مؤلف:
الناشر: القاهرة دار المعلّم للطباعة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهل يجوز الاجتهاد في معرض النص؟! ولعل هذه الحادثة وأمثالها هي التي جعلت علياً يمتنع عن إلزام نفسه بالسير وفق سيرة الشيخين حين عرض عليه ذلك عبد الرحمن بن عوف أثناء الشورى.

(ج) ومما يؤيد عدم قناعة أبي بكر ببراءة خالد أنه أمر برد السبي وودى مالكاً من بيت المال عندما قدم عليه متمم بن نويرة يطالبه بدم أخيه ويسأله أن يرد عليهم سبيهم. على أننا لا نعلم فيما إذا جاز لأبي بكر من الناحية الدينية أن يدفع من بيت مال المسلمين تعويضاً عن جريمة شخصية ارتكبها ابن الوليد!!

أما كيفية وقوع مالك وبعض صحبه أسرى بيد خالد بن الوليد، وما جرى لهم بعد الأسر، وموقف عمر من ذلك، فقد لخصه أحد الرواة(١) بقوله:

(إن السرية التي بعث بها خالداً لما غشيت القوم تحت الليل راعوهم، فأخذ القوم السلاح. فقال أصحاب خالد: نحن المسلمون. فقال أصحاب مالك: ونحن المسلمون. فقال أصحاب خالد: ما بال السلاح معكم!! فلما وضعوا السلاح ربطوا أسارى، فأتوا بهم خالداً، فحدث أبو قتادة خالد بن الوليد: أن القوم نادوا بالإسلام، وأن لهم أماناً. فلم يلتفت خالد إلى قوله، وأمر بقتلهم وتقسيم سبيهم. وحلف أبو قتادة أن لا يسير تحت لواء خالد في جيش أبداً. وركب فرسه شاذاً إلى أبي بكر، فأخبره الخبر، وقال: إني نهيت خالداً عن قتل مالك فلم يقبل قولي، وأخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم، وإن عمر لما سمع ذلك تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر، وقال: إن القصاص وجب عليه.

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٤ / ١٨٤ (الطبعة الأولى).

٨١

فلما دخل خالد المسجد قام إليه عمر... وقال: يا عدو نفسه! عدوت على امرئ مسلم فقتلته، ونزوت على امرأته... والله لنرجمنك بأحجارك. وقد روي أيضاً: أن عمر لما ولي جمع من عشيرة مالك بن نويرة من وجد منهم، واسترجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم وأولادهم ونسائهم، فرد ذلك عليهم جميعاً. وقيل: إنه ارتجع بعض نسائهم من نواحي دمشق وبعضهن حوامل فردهن على أزواجهن، فالأمر ظاهر في خطأ خالد، وخطأ من تجاوز عنه).

وكانت حجة مالك وأصحابه في تأجيل دفع الزكاة على ما يحدثنا بعض الرواة(١) أنهم فسَّروا الآية التي وردت في سورة التوبة:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (٢) بأنها تتضمن ضرورة صلاة النبي عليهم صلاة تكون سكناً لهم، ليأخذ صدقة من أموالهم يزكيهم بها. وتلك الصفات، برأيهم، لا تتحقق في غير النبي؛ لأن غير النبي - بنظرهم - لا يطهِّر الناس ولا يزكيهم بأخذ الصدقة منهم، ولا تكون صلاته سكناً لهم، أي أنهم بعبارة أخرى: تردَّدوا في إعطاء الزكاة إلى غير النبي إلى أن يثبت لهم وجود من يمثِّله، وهو أمر دون شك، لا يعنى عدم اعترافهم بالزكاة كأساس من أسس الدين؛ لأنهم لم يجحدوا وجوبها، ولكنهم قالوا: إنه وجوب مشروط. فتأوَّلوا، وربما اخطئوا، كما تأوَّل خالد فأخطأ.. برأي أبي بكر.

وإذا كان أبو بكر قد تجاوز عن خالد لأنه تأوَّل الخطأ، أفلا يجوز أن يقال عن أولئك، على أسوأ الفروض: إنهم تأوَّلوا فأخطئوا!!

____________________

(١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٤ / ١٨٥: الطبعة الأولى بمصر.

(٢) التوبة: ١٠٣.

٨٢

يتضح من كل ما ذكرنا أن خالد بن الوليد وأصحابه قد غرَّروا بضحاياهم وخدعوهم تحت ستار الدين، فجردوهم عن السلاح أولاً وقتلوهم - بعد ذلك - على الشكل الذي ذكرناه. ويلوح للباحث في شهادة أبي قتادة أن خالداً؛ لمرضٍ في نفسه، ربما كان له صلة بأم تميم زوج مالك، قد أخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم والسلب والنهب، وهي أمور أبعد ما تكون عن جوهر الدين. وقد وصفهم الله في كتابه بالغلظة والنفاق.

هذا مع أن المؤرخين - كما سلف أن ذكرناها - لم يؤيِّدوا خروج مالك وصحبه على مبادئ الدين، أو منعهم الزكاة أو جحودهم وجوبها، فهم إذن لا يستحقون القتل إطلاقاً، فكيف به وقد وقع بذلك الشكل من الغدر!! إن الشيء الذي كانوا بحاجة إليه هو التنبيه والإرشاد، هذا إذا كانوا مخطئين في تفسير الآية التي ذكرنا في قضية الزكاة. أما مالك نفسه، فقد كان مسلماً بشهادة عمر بن الخطاب، وإن خالداً - بشهادة عمر كذلك - قد اعتدى عليه ونزى على زوجه.

وهناك أمر آخر لا بد من ذكره في هذه المناسبة لتعلقه بمبدأ عام يتصل بموضوع المتهمين بالامتناع عن دفع الزكاة، لا بموضوع مالك بن نويرة حسب ما ذكره البخاري حين قال(١) : (حدّثنا يحيى بن بكير؛ حدَّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أخبرني عبيد الله بن عتبة أن أبا هريرة قال: لما توفِّي النبي واستًخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: "لا اله إلا الله"، فمن قال ذلك فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله) ؟!

وهناك أمور أخرى اقترفها خالد بن الوليد لا تقل شناعة عما

____________________

(١) صحيح البخاري: ٨ / ٥٠ (طبعة مصر).

٨٣

ذكرنا:

منها: اغتياله سعد بن عبادة وهو في محل إقامته في الشام في أواخر خلافة أبي بكر، أو مساهمته بذلك الاغتيال.

ومنها: ما رواه الطبري(١) حين قال: (حَّدثنا ابن حميد قال: حدّثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال: حدّثني بعض أهل العلم عن رجل من جزيمة قال: لما أمرنا خالد بوضع السلاح، قال رجل منا يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة! ما بعد وضع السلاح إلا الإسار ثم ما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق. والله لا أضع سلاحي أبداً. قال: فأخذه رجال من قومه، فقالوا: يا جحدم؛ أتريد أن تسفك دماءنا! أن الناس قد اسلموا.. فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد؛ فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل منهم من قتل. فلما انتهى الخبر إلى رسول الله رفع يديه إلى السماء وقال:اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد . ثم دعا علي بن أبي طالب، فقال:يا علي، اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك ، فخرج علي ومعه مال قد بعثه رسول الله به، فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم على حين فرغ منهم: أبقى لكم دم أو مال لم يرد؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذا البقية من هذا المال احتياطاً لرسول الله مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل، ثم رجع إلى رسول الله فأخبره الخبر. فقال:أصبت وأحسنت ).

فإذا كان هذا عمل خالد في زمن النبي، فكيف به وقد انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى!

____________________

(١) تاريخ الأمم والملوك: ٣ / ١٢٤.

٨٤

ومع ذلك كله، فقد تجاوز عنه أبو بكر، لأنه تأوَّل فأخطأ (على حد تعبيره) فاختلفت سيرة أبي بكر، في هذه القضية الخطيرة، عن سيرة عمر الذي عزل خالداً. فقد كان أول كتاب كتبه عمر - على ما يقول ابن الأثير(١) - موجَّها (إلى أبي عبيدة ابن الجراح بتولية جند خالد، وبعزل خالد؛ لأنه كان عليه ساخطاً في خلافة أبي بكر كلها، لوقيعته بابن نويرة... وقال عمر: لا يلي خالد لي عملاً أبداً. وكتب إلى أبي عبيدة..: أن انزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله).

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول: أنْ ليس هناك شيء يصح أن يُدعى (سيرة الشيخين) من حيث التوافق التام في جميع التصرفات العامة الدينية والزمنية؛ ولعل ذلك أحد الأسباب التي أدت بالإمام - حين عرض عليه ابن عوف الخلافة وقت الشورى - إلى عدم الموافقة على الشرط الثالث (سيرة الشيخين). وعلي بموقفه هذا، قد استبعد (سيرة الشيخين) من أن تصبح بحد ذاتها سنة تتبع، لعدم وجود ما يبرر اتّباعها من الناحية الدينية ما دام القرآن وسنة الرسول هما دستور الإسلام بنظره.

وهناك أمر آخر لا بد من ذكره في هذه المناسبة، هو أن جواب الإمام، بالصيغة التي ورد فيها، كان يدل - دلالة قاطعة وصريحة - على التهيؤ لتحمل المسئولية، وعدم نثر الوعود التي لا يمكن الالتزام بها أثناء تسلم المنصب الخطير. فعلي لا يريد أن يلزم نفسه مقدماً بشيء يستحيل عليه أن يعمل وفق مستلزماته بعد تسلمه الخلافة للأسباب التي ذكرناها. ولعل الشيء الذي يبدو غريباً في أمر الشورى هو قبول علي الاشتراك فيها مع علمه بِأفضليته وأحقيته بالخلافة. غير أن ذلك الاستغراب يزول عندما نتذكر أن علياً صرّح بأنه يدخل الشورى،

____________________

(١) الكامل في التاريخ: ٣ / ٢٩٣.

٨٥

لأن ابن الخطاب قد أهله الآن للخلافة (وكان من قبل يقول: إن النبوة والخلافة في بيت واحد لا تجتمعان)(١) .

أما موقفه من شرط ابن عوف، فأمر كان متوقعاً؛ ذلك لأن الإمام كان على يقين من أن كلاً من الشيخين قد سار في حدود اجتهاده الشخصي، وأنه من غير الممكن أن يلتزم هو بالكتاب والسنة وبسيرة الشيخين. وتتجلى روعة موقفه هذا إذا ما تذكرنا موقف زميله عثمان الذي كان ينعم بالإجابة لابن عوف حتى كسب الخلافة، ولكنه لم يسر - كما سنرى - على الكتاب والسنة، بله سيرة الشيخين؟!

____________________

(١) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ١ / ٢٨.

٨٦

ج - عثمان بن عفان

(فقام ثالث القوم، وقام بنو أُمية يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع.. إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته... فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون علي من جانب حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون) (١) .

ارتقى عثمان بن عفان منبر النبي بعد وفاة عمر وبالشكل الذي وصفناه في قصة

____________________

( ١) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ١ / ٥٠ - ٦٧.

الخضم: أكل بكل الفم، وضده القضم وهو: أكل بأطراف الأسنان. وقيل: الخضم أكل الشيء الرطب، والقضم أكل الشيء اليابس. والمراد - على التفسيرين - لا يختلف، وهو: أنهم على قدم عظيمة من التهم وشدة الأكل وامتلاء الأفواه. قال أبو ذر عن بني أمية: يخضمون ونقضم. وانتكث قتله: انتقض. وأجهز عليه عمله: ثم قَتَله. وكبت به بطنته، كبا الجواد: إذا سقط بوجهه، والبطنة: الإسراف في الشبع. وثالث القوم عثمان.... والعطفان: الجانبان من المنكب إلى الورك... والمعنى. خدش جانباي لشدة الاحتكاك منهم والازدحام... وعرف الضبع ثخين، ويضرب به المثل في الازدحام. وينثالون: يتتابعون... وكربيضة الغنم: يصف شدة ازدحامهم حوله، وجئومهم بين يديه... فأما طائفة الناكثين، فهم أصحاب الجمل. والقاسطين: أصحاب صفين. والمارقين: أصحاب النهروان.

٨٧

(الشورى). وأول عمل قام به الخليفة الجديد هو: تعيين ذويه وأقربائه من الأمويين وآل أبي معيط مستشارين، وأمراء على الأمصار، وبخاصة أولئك الذين كانت لهم أو لآبائهم سيرة غليظة معروفة في محاربة الإسلام ونبيه، الأمر الذي أورثهم أحقاداً من الجاهلية على الرسول وأهل بيته وتعاليمه، زرعها أُمية بن عبد شمس ونجله حرب، وتعهدها من بعدهما: أبو سفيان، وزوجه هند بنت عقبة، ونجلهما معاوية الذي حارب النبي في بدر مع أبيه فهرب بعد أن قتل أخ له، وأسر آخر كما سنرى.

وقد أدى اعتماد عثمان على أولئك النفر - وعلى مروان بن الحكم - إلى تقويض دعائم الخلافة الإسلامية، وطوح بحياة عثمان وعلي من بعده، وبالتالي إلى اندحار مبادئ العدالة الاجتماعية التي تبناها الإسلام، وأراد الرسول الكريم بثها بين الناس على اختلاف أجناسهم ومواقعهم الجغرافية.

وقد زرعت تصرفات الأمويين الذين اعتمد عليهم عثمان في تدوير شئون المسلمين - كما سنرى - بذور الفساد والتفسخ في الخلق العربي عند الحكام والمحكومين على السواء، فأصبح الحكام بعد مصرع الخليفة الثالث - كما سنرى - يستعملون شتى أساليب الغدر والمواربة والكذب والدس وأضرابها من الرذائل السياسية والخلقية لكسب ولاء الجماهير لحكمهم الفاسد من جهة، وللإيقاع بخصومهم من جهة أخرى. وأَلِف المحكومون - إلا ما ندر - هذه التصرفات الملتوية، مع توالي الأيام، واستحسنوها وكيفوا سلوكهم وفقاً لها.

وبما أننا لا نؤرِّخ في هذه الدراسة أثر الأمويين(١) في الخلق العربي والإسلامي، وإنما نحن بصدد البحث في الدور الذي لعبوه في خلافة عثمان، فسوف

____________________

(١) ربما ساعدتنا الظروف في المستقبل فقمنا بدراسة ذلك بشيء من التفصيل، راجع: الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام.

٨٨

نحصر بحثنا في هذه النقطة المعينة، ولكي نفهم ذلك الأثر على الوجه الأكمل نرى لزاماً علينا أن نستعرض مواقفهم من الإسلام في عهد الرسول.

لقد ألّب الأمويون كفار قريش على حرب النبي (صلَّى الله عليه وسلَّم)، فوقعت (بدر) وقتل منهم حنظلة بن أبي سفيان بن حرب بن أُمية بن عبد شمس، والعاص بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس، وعبيدة بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس، والوليد بن عقبة بن ربيعة بن عبد شمس (صهره أخو هند زوج أبي سفيان)، وشيبة بن ربيعة بن عبد شمس، وعقبة بن أبي معيط (والد الوليد أخي عثمان لأمه). وأُسر من الأمويين يوم بدر أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، والحارث بن وجزة بن أبي عمر بن أُمية بن عبد شمس.

وكان عمرو بن أبي سفيان - زوج بنت عقبة بن أبي معيط - من أسرى بدر كما ذكرنا، فاقترح بعض المقرَّبين إلى أبي سفيان أن يفدي عَمْراً؟ فأجاب: (أُيجمع عليّ مالي ودمي؟ قتلوا حنظلة وأفدى عَمْراً؟! دعوه في أيديهم.. وبينما هو - أي عمرو - كذلك محبوس في المدينة إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بني عمرو بن عوف... معتمراً... وكان شيخاً مسلماً... فعدا(٢) عليه أبو سفيان بمكة فحبسه بابنه عمرو، ثم قال مفتخراً:

أَرَهْطَ ابْنِ أَكّالٍ أَجِيبُوا دُعَاءَهُ

تَعَاقَدْتُمْ لَا تُسْلِمُوا السّيّدَ الْكَهْلَا

فَإِنّ بَنِي عَمْروٍ لِئَامٌ أَذِلّةٌ

لَئِنْ لَمْ يَفُكّوا عَنْ أَسِيرِهِمْ الْكَبْلَا(١)

وقالت هند بنت عتبة - زوج أبي سفيان، وأم معاوية - تبكي أباها يوم بدر:

____________________

(١) على الرغم مما بين الطرفين من عهد بعدم التعرض للحجيج أو المعتمرين إلا بخير.

(٢) ابن هشام، سيرة النبي محمد: ٢ / ٢٩٤.

٨٩

يَرِيبُ عَلَيْنَا دَهْرُنَا فَيَسُوءُنَا

وَيَأْبَى فَمَا نَأْتِي بِشَيْءِ يُغَالِبُهْ

فَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنّي مَأْلُكاً

فَإِنْ أَلْقَهُ يَوْماً فَسَوْفَ أُعَاتِبُهْ

فَقَدْ كَانَ حَرْبٌ يَسْعَرُ الْحَرْبَ إنّهُ

لِكُلّ امْرِئِ فِي النّاسِ مَوْلىً يُطَالِبُهُ (١)

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول: إن الأمويين قد أصيبوا بنكسة مريعة في بدر، فتحركت حفائظهم وأثيرت ضغائهم القديمة وأحقادهم الجديدة، فألبوا من جديد كفار قريش وألبهم الكفار، على حرب النبي.

وكان أبو سفيان (رأس المؤلبين والحاقدين) قد هيَّأ كفار قريش - وهيَّئوه - لإعلان حرب جديدة على النبي، وتجهز الناس وأرسلوا أربعة نفر منهم عمرو بن العاص.. فساروا في العرب يستنفرونهم. وكان أبو سفيان قائد الناس، فخرج بزوجه هند.. وخرج غيرهم بنسائهم.. الحارث بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد أخت خالد... وعمرو بن العاص بريطة بنت منبه.. وكان مع النساء الدفوف يبكين على قتلى بدر ويحرضن بذلك المشركين)(٢) . فخرجت قريش (بحدها وأحابيشها ومن معها من بني كنانة وأهل تهامة وخروجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، ولئلاَّ يفروا. فخرج أبو سفيان بن حرب قائد الناس ومعه هند.. وكانت هند كلما مرت بوحشي - أو مر بها - قالت: إيه أبا دسمة! اشف واشتف.

وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين.. وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى(٣) ، وقامت هند في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم، وأنشدت هند:

____________________

(١) ابن هشام: سيرة النبي محمد ٢ / ٤١٤، ٤١٥.

(٢) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ٢ / ١٠٣.

(٣) الطبري، تاريخ الأمم والملوك: ٣ / ١٠، ١٤.

٩٠

وَيْهَاً بَنِي عَبْدِ الدّارْ

وَيْهَاً حُمَاةَ الْأَدْبَارْ

ضَرْباً بِكُلّ بَتّارْ

إنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ

وَنَفْرِشُ النّمَارِقْ

أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ

فِرَاقَ غَيْرَ وَامِقْ(١)

وانشد عمرو بن العاص يوم أحد يصف خروجهم لقتال النبي:

خَرَجْنَا مِنْ الْفَيْفَا عَلَيْهِمْ كَأَنّنَا

مَعَ الصّبْحِ مِنْ رَضْوَى الْحَبِيكِ الْمُنَطّقِ

فَمَا رَاعَهُمْ بِالشّرّ إلّا فُجَاءَةَ

كَرَادِيسُ خَيْلٍ فِي الْأَزِقّةِ تَمْرُقُ(٢)

ووقفت هند والنسوة اللاتي معها يمثِّلن بالقتلى من أصحاب الرسول (يجدعن الآذان والأنف حتى اتخذت هند من آذان الرجال خَدَماً) (جمع خَدَمَة وهي الخلخال) وقلائد. وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها.. ثم علت صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها:

نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرٍ

وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتِ سُعْرِ

مَا كَانَ عَنْ عُتْبَة لِي مِنْ صَبْرِ

وَلَا أَخِي وَعَمّهِ وَبَكْرِ(٣)

وكان الحليس بن زبان (على ما يروى ابن هشام في سيرة النبي محمد: ٢ / ٤٤، ٤٥) قد (مر بأبي سفيان وهو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب، وهو جثة هامدة، ويقول: ذُقْ عُقَقُ.

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: أنَّ موعدكم بدراً للعام القادم. ثم التفت إلى زوجه هند وأنشد مفتخراً(٤) :

أَبَاكِ وَإِخْوَاناً لَهُ قَدْ تَتَابَعُوا

وَحُقّ لَهُمْ مِنْ عَبْرَةٍ بِنَصِيبِ

____________________

(١) ابن هشام، سيرة النبي محمد: ٣ / ١٢، ١٣.

(٢) المصدر نفسه: ٣ / ١١.

(٣) المصدر نفسه: ٣ / ٤١.

(٤) المصدر نفسه: ٣ / ٢١، ٢٢.

٩١

وَسَلّى الّذِي قَدْ كَانَ فِي النّفْسِ أَنّنِي

قَتَلْتُ مِنْ النّجّار كُلّ نَجِيبِ

وَمِنْ هَاشِمٍ قَرْماً كَرِيماً وَمُصْعَباً

وَكَانَ لَدَى الْهَيْجَاءِ غَيْرُ هَيُوبِ

وكانت هند حين انصرف المشركون منتصرين من أُحد تنشد:

رَجَعْتُ وَفِي نَفْسِي بَلَابِلُ جَمّةٌ

وَقَدْ فَاتَنِي بَعْضُ الّذِي كَانَ مَطْلَبِي

وَلَكِنّنِي قَدْ نِلْتُ شَيْئاً وَلَمْ يَكُنْ

كَمَا كُنْتُ أَرْجُو فِي مَسِيرِي وَمَرْكَبِي(٢)

أما إسلام هند - في الظاهر - فقد حصل بالشكل التالي:

(لما فتح النبي مكة حضرت إليه هند مع نساء مكة ليبايعنه. فلما تقدمت هند لمبايعته اشترط شروط الإسلام عليها، فأجابته بأجوبة قوية، فمما قاله لها:تبايعينني على أن لا تقتلي أولادك؟! فقالت هند: أمَا نحن فقد ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً يوم بدر.. فقال:وعلى ألاَّ تزنين؟! فقالت هند: وهل تزني الحرة؟ قالوا: فالتفت رسول الله إلى العباس وتبسَّم)(٣)

يتضح مما ذكرنا جانب من جوانب تعبير الأمويين عن مقتهم للدين الحنيف ولصاحبه، فقد شنوها - كما رأينا - حرباً شعواء لا هوادة فيها على النبي، غير أنهم اندحروا في بدر - كما رأينا - وكادوا ينالون من النبي في موقعة أحد، فقتلوا عمه حمزة ومثّلوا به على شكل من الوضاعة والبشاعة قلَّ أن يعثر المرء على مثلهما في التاريخ. ولولا أنه خيِّل إليهم أن الرسول قد قتل لما رجعوا من المعركة. غير أنهم سرعان ما اجمعوا أمرهم على الرجوع إلى النبي في أحد حينما بلغهم أنه نجا من سيوفهم الظالمة فلقي (معبد الخزاعي، أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء.

____________________

(١) القرم: الفحل الكريم من الإبل. والمصعب: الفحل من الإبل. كناية عن حمزة بن عبد المطلب.

(٢) ابن هشام، سيرة النبي محمد: ٣ / ١٥٩.

(٣) ابن الطقطقي الفخري، الآداب السلطانية: ٧٦، ٧٧. لعل ابتسامة النبي تشير إلى حادثة الزنى التي رمى بها الفاكه بن المغيرة زوجه هند، فطلّقها فتزّوجها أبو سفيان.

٩٢

وقد اجمعوا الرجعة إلى رسول الله وأصحابه، وقالوا: أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، لنكرّنّ على بقيتهم فلنفرغن منهم. فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد مرج في أصحاب يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرَّقون عليكم تحرقاً... قال: فوالله لقد أجمعنا الكر عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك... قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه)(١) .

ولكن إخفاق أبي سفيان (في مؤامرته المسلحة لوَأدِ الإسلام والمسلمين في أُحد) لم يثنه عن مواصلة الكفاح المرير لإثارة وقائع أخرى ضد النبي. وقد نذر أبو سفيان (أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً(٢) في كل فرصة ملائمة للإجهاز عليه، وعلى الدين الحنيف. فألب الأحزاب في حرب الخندق... وما بعدها... ولم يعلن إسلامه - في الظاهر - إلا حين رأى أن ذلك أجدى من السيف لتحطيم الإسلام. وهكذا كان أبو سفيان يثيرها حروباً متصلة الحلقات للإيقاع بالنبي وبدينه وبصحبه، فأثار حرب بدر، وأحد، والأحزاب في الخندق، وتآمر مع اليهود للوصول إلى تحقيق غرضه الدنيء.

لقد مر بنا طرف من حوادث إيذاء قريش - وفي مقدمتهم بنو أُمية من النساء والرجال - للنبي، وللمسلمين، وللعقيدة الإسلامية طوال مكوث النبي في مكة (وقد ظهر ذلك الإيذاء بشكل فردي مبعثر أحياناً، وبشكل جماعي منظم أحياناً أخرى. وتفنن المشركون من الأمويين خاصة في ابتداع الوسائل المختلفة لإيذاء الرسول

____________________

(١) الطبري، تاريخ الأمم والملوك: ٣ / ٢٨، ٢٩.

(٢) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ٢ / ٩٨.

٩٣

فبعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط(١) إلى أحبار اليهود لتأليبهم على النبي وتسفيه رسالته، وأرسلوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص(٢) إلى الحبشة لإقناع النجاشي بطرد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة تخلصاً من إيذاء المشركين.

وقد نزل قرآن في ذم كثير من أولئك الذين بالغوا في الاعتداء على الرسول، كأم جميل بنت حرب بن أُمية حمَّالة الحطب(٣) . وكان ذلك كله يجري بمكة طوال مكوث النبي فيها. فلما هاجر النبي إلى المدينة واصل كفار قريش - تحت زعامة الأمويين من النساء والرجال - إيذاء الرسول، هذه المرة عن طريق الحرب، فامتشق(٤) الأمويون الحسام وألبوا قريشاً، وحاربوا النبي في سلسلة من الحروب الفاشلة التي ذكرناها.

ولما رأى المشركون - من بني أُمية وأتباعهم - فشلهم المتواصل لجئوا إلى اتّباع أسلوب جديد للإيقاع بالإسلام، وكان هذا الأسلوب - في واقعه - أكثر الأساليب إيجاعاً للعقيدة الإسلامية. فتقمَّص قادتهم الإسلام والتزموا ببعض مظاهره ليتمكنوا من إعلانها حرباً شعواء على الدين من داخله، بعد أن أعياهم أمره في حربهم إياه من الخارج.

فأسلم أبو سفيان - قائدهم - في الظاهر يوم فتح مكة بعد أن لجأ إلى العباس عم النبي مضطراً والتمسه أن يأخذه إلى الرسول. فلما أتى به العباس، قال له رسوله الله:ألم يئن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا! فقال:

____________________

(١) ابن هشام، سيرة النبي محمد: ١ / ٣٢٠.

(٢) المصدر نفسه: ١ / ٣٥٧ - ٣٦٠.

(٣) المصدر نفسه: ١ / ٣٧٦ - ٣٧٨.

(٤) امتشقته: اقتطعته. صحاح اللغة: مادة (مشق).

٩٤

ويحك ألم يئن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه ففي النفس منها شيء. فقال العباس: ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك! فأسلم)(١) .

وقد حاول أبو سفيان أن يضبط أعصابه - التي نشأت على الكفر وتشرَّبت ببغض الإسلام - فتظاهر بنبذ عبادة الأوثان والاعتراف بالدين الجديد. ولكن ذلك لم يعصمه في مناسبات كثيرة من غمز الدين الجديد، من ذلك - مثلاً -: ما ذكره ابن هشام(٢) حينما خاطب الحارث بن هشام أبا سفيان بعد فتح مكة بقوله: (أما والله لو أعلم أن محمداً نبي لاتبعته! فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرتْ عني الحصا!) فلو كان أبو سفيان مسلماً صحيح الإسلام لانبرى لتنفيذ زعم ذلك المشرك البغيض. أما إقراره لرأي الحارث ضمنياً - كما يبدو من عبارته - فدليل قاطع على وثنيته.

ذلك ما يتصل بأبي سفيان، أما ما يتصل بغيره من شيوخ الأمويين - الذين اعتمد عليهم عثمان في تدوير شئون المسلمين - فمعروف لدى من لهم أدنى إلمام بالتاريخ الإسلامي في عهد الرسول، فالحكم - أبو مروان وزير عثمان - قد خاض من فحش القول مع الرسول ما يندى من ذكره جبين المسلم؛ الأمر الذي اضطر النبي إلى نفيه من المدينة إلى الطائف. قال البلاذري(٣) : (حدّثني محمد بن سعد الواقدي، عن محمد بن عبد الله الزهري، وحدّثني عباس بن هشام الكلبي، عن أبيه، عن جده، أن الحكم بن العاص بن أُمية عم عثمان بن عفان كان جاراً للنبي في الجاهلية، وكان أشد جيرانه أذى له في الإسلام. فكان يمر خلف النبي فيغمز به ويحكيه ويخلج بأنفه وفمه، وإذا صلَّى قام خلفه فأشار بأصابعه... واطَّلع على ذلك رسول الله ذات يوم في بعض حجر

____________________

(١) ابن خلدون، كتاب العبر: ٢ / ٢٣٤.

(٢) سيرة النبي محمد: ٤ / ٣٣.

(٣) أنساب الأشراف: ٥ / ٢٧.

٩٥

نسائه فعرفه وخرج إليه... ثم قال:لا يساكني هو ولا ولده فغرَّبهم جميعاً إلى الطائف. فلما استخلف عثمان أدخلهم المدينة).

وابن أبي سرح الذي اختبره النبي في كتابة الوحي فحرَّف وبدل في التنزيل، فأهدر النبي دمه.

والوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي نزل فيه قرآن يصفه بالنفاق في قضية بني المصطلق المعروفة، قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) (١) .

وكان المسلمون في عهد الرسول (يسمّون أبا سفيان وأمثاله من الذين أسلموا بأخَرة، ومن الذين عفا النبي عنهم يوم الفتح بالطلقاء. ومهما يقال عن معاوية فهو ابن أبي سفيان قائد المشركين... وابن هند التي أغرت بحمزة حتى قتل ثم بقرت بطنه ولاكت كبده)(٢) .

وقد ذكر الزبير بن بكار فيالموفقيات (عن المغيرة بن شعبة قال: قال لي عمر يوماً: يا مغيرة، هل أبصرت بعينك العوراء منذ أصيبت؟ قلت: لا. قال: أما والله ليعورن بنو أُمية الإسلام كما أعورت عينك هذه، ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء)(٣) .

وذكر البخاري في صحيحه (٨ / ٤٩) (حدّثنا خلاد بن يحيى، حدّثنا سفيان عن منصور، والأعمش عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: قال رجل: يا رسول الله، أتؤاخذنا بما عملنا في الجاهلية؟ قال:من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية. ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والأخر ).

____________________

(١) الحجرات: ٦.

(٢) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ٢ (علي وبنوه): ١٥٥.

(٣) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٣ / ١١٥.

٩٦

لقد ظهر من تقريب عثمان للأمويين في خلافته وإيثارهم دون غيرهم على سائر المسلمين أشكالٌ مختلفة، أوضحها: الجانب المالي، والجانب السياسي الإداري.

وبقدر ما يتعلق الأمر بالجانب المالي، يمكننا أن نقول: إن عثمان أغدق العطايا على أقربائه من بيت مال المسلمين دون حساب، من ذلك، مثلاً: أن عثمان قد منح مروان بن الحكم - زوج ابنته أم أبان، كما منح ابنته عائشة التي زوجها من الحارث بن الحكم أخي مروان - يوم العرس (مئتي ألف من بيت المال، سوى ما كان قد أقطعه من قطائع، فلما أصبح الصباح جاءه زيد بن أرقم خازنه حزيناً.. يرجو أن يقيله. على أن هذه الواقعة لم تكن ألا حلقة من حلقات سخاء عثمان.

وذات اليوم الأول لخلافته منح أبا سفيان - شيخ بني أُمية - مئة ألف درهم(١) .

وأعطى عثمان كذلك (رجلاً من ذوى قرابته مقداراً ضخماً من بيت المال. واستكثر عامله على بيت المال هذا المقدار فلم يخرجه، فألح عثمان. فأبى الخازن. فلامه عثمان... وقال: ما أنت وذاك؟ إنما أنت خازن! قال له صاحب بيت المال: ما أراني خازناً لك.. لقد كنت أراني خازناً للمسلمين. ثم أقبل بمفاتيح بيت المال فعلّقها على منبر النبي وجلس في داره)(٢) . وتفصيل ذلك على ما رواه البلاذري (أنساب الأشراف: ٥ / ٥٨، ٥٩) أنه: (كان على بيت مال عثمان عبد الله بن الأرقم.. فاستسلف عثمان من بيت المال مئة ألف درهم، ثم قدم عليه عبد الله بن أسيد بن أبي العاص من مكة، وناس معه غزاة، فأمر لعبد الله بثلاثمئة ألف درهم؛ ولكل رجل من القوم بمئة ألف درهم، وصك بذلك إلى ابن الأرقم فاستكثره ورد الصك له. فقال عثمان: إنما أنت خازن لنا فما حملك على ما فعلت؟ فقال ابن الأرقم: كنت أراني خازناً للمسلمين؛ وإنما خازنك غلامك والله لا إلي لك بيت المال أبداً.

____________________

(١) عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب: ٢ / ٢٠، ٢١.

(٢) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ٢ (علي وبنوه): ٩٤.

٩٧

وجاء بالمفاتيح فعلّقها على المنبر.. وبعث عثمان إلى عبد الله بن الأرقم ثلاثمئة ألف درهم فلم يقبلها).

وقد استمر عثمان على هذا المنوال من إيثار بني عمومته والمقربين إليه من بيت المال على حساب المسلمين، حتى تحدث الناس ذات يوم بأن عثمان أخذ من جوهر كان في بيت المال فخلى به بعض أهله فغضب الناس لذلك، ولاموا عثمان فيه حتى أغضبوه، فخطب، فقال: لنأخذ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام! فقال عمار بن ياسر: أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك. فقال عثمان: أعلي يا ابن المَتْكاء تجترئ؟! خذوه! فأًخذ. ودخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه، ثم أخرج محمولاً حتى أتي به منزل أم سلمة زوج النبي، وظل مغشياً عليه سائر النهار؛ ففاته الظهر والعصر والمغرب. فلما أفاق توضأ وصلى وقال: الحمد لله، هذه ليست أول مرة أوذينا فيها في الله. ويقال: إن أم سلمة - أو عائشة - أخرجت شيئاً من شعر النبي وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله وقالت: هذا شعر النبي وثوبه ونعله لم يبل وأنتم تعطلون سنته؟! وضج الناس، وخرج عثمان عن طوره حتى لا يدري ما يقول)(١) .

وإذا صحت الرواية المذكورة فإن عثمان قد ارتكب خطأين في آن واحد: تبذير أموال المسلمين، والاعتداء على رجل من خيرة الصحابة. (ولسنا بحاجة إلى أن نناقش في صحة ما جاءت به الرواية من أن عثمان أعطى مروان بن الحكم خمس الغنيمة التي غنمها المسلمون في إفريقية.. ومن أنه أعطى الحكم عمه، وأعطى ابنه الحارث ثلاثمئة ألف،

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ١ (عثمان بن عفان): ١٦٧. البلاذري، أنساب الأشراف: ٥ / ٤٨.

٩٨

وأعطى عبد الله بن خالد بن أسيد الأموي ثلاثمئة ألف، وأعطى كل واحد من الذين وفدوا مع عبد الله بن خالد مئة ألف، وأعطى الزبير بن العوام ستمئة ألف، وأعطى طلحة بن عبيد الله مئة ألف، وأعطى سعيد بن العاص مئة ألف، وزوَّج ثلاثاً أو أربعاً من بناته لنفر من قريش، فأعطى كل واحد منهم مئة ألف دينار)(١) .

ويقول البلاذري في هذا الصدد(٢) : (حدّثني محمد بن سعد، عن الواقدي، عن أسامة بن زيد بن أسلم، عن نافع مولى الزبير، عن عبد الله بن الزبير قال: أغزانا عثمان سنة ٢٧ إفريقية، فأصاب عبد الله بن سعيد بن أبي سرح غنائم جليلة. فأعطى عثمان مروان بن الحكم خمس الغنائم....

وحدّثني عباس بن هشان الكلبي عن أبيه.. عمّن حدثه قال:كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة، وعامله على المغرب، فغزا إفريقية سنة ٢٧ هـ فافتتحها فابتاع خمس الغنيمة بمئة ألف أو مئتي ألف. فكلّم عثمان فوهبها له، فأنكر الناس ذلك على عثمان....

وحدّثني، محمد بن سعد، عن الواقدي، عن عبد الله بن جعفر، عن أم بكر، عن أبيها، قالت: قدمت إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص.

وحدّثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدّثنا الحجاج الأعور، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان مما أنكروا على عثمان أنه ولَّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمئة ألف درهم فوهبها له حين أتاه بها..

ولما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه،

____________________

(١) الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، ج ١ (عثمان بن عفان): ١٩٣.

(٢) أنساب الأشراف: ٥ / ٢٧ / ٢٨ / ٥٢.

٩٩

وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمئة ألف درهم.. وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مئة ألف درهم، جعل أبو ذر يتلو قول الله:( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ... ) (١) فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان.. فأرسل إلى أبي ذر نائلاً مولاه: أن انته عما بلغني عنك. فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك أمر الله؟! فوالله لسخط عثمان أحب إلي وخير لي من سخط الله).

ولعل تصرُّف عثمان في بيت المال على الشكل الذي وصفناه، وإيقاعه بالصحابة الذين اعترضوا على ذلك، يبدو بشكل أوضح مما ذكرناه إذا قارناه - حسب قاعدة: وبضدها تتميز الأشياء - بتصرف علي أثناء خلافته في بيت المال، وبموقفه ممن لامه على اتباعه الحق، بله الباطل الذي هو أسمى من أن يهبط إليه.

(نزل بالحسين ابنه ضيف، فاستسلف درهماً اشترى به خبزاً، واحتاج إلى الإدام فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح لهم زقاً من زقاق عسل جاءتهم من اليمن. فأخذ منها رطلاً، فلما طلبها علي ليقسمها، قال:يا قنبر، أظن أنه حدث بهذا الزق حدث!، فأخبره، فغضب، وقال:عليّ بحسين. فقال له:ما حملك أن أخذت من قبل القسمة؟ قال:إن لنا فيه حقاً فإذا أعطينا رددناه ، قال:

وإن كان لك حق فليس أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم.. ثم دفع إلى قنبر درهماً كان مصروراً في ردائه، وقال:اشتر به خير عسل تقدر عليه )(٢) .

وذكر عقيل بن أبي طالب لمعاوية بن أبي سفيان عندما التحق به فاراً من عدل الإمام (أصابتني مخمصة شديدة، فجمعت صبياني وجئت علياً بهم، والبؤس والضر

____________________

(١) التوبة: ٣٤.

(٢) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ٣ / ٨١ - ٨٣. هذا النص مخالف لما عليه الشيعة الإمامية. (الناشر)

١٠٠