التعرف على القرآن

التعرف على القرآن60%

التعرف على القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 93

التعرف على القرآن
  • البداية
  • السابق
  • 93 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30664 / تحميل: 8228
الحجم الحجم الحجم
التعرف على القرآن

التعرف على القرآن

مؤلف:
العربية

التعرف على القرآن

الشهيد مرتضى المطهري

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

الفصل الأوّل

* ضرورة معرفة القرآن.

* أقسام معرفة القرآن.

أوّلاً : المعرفة الإسناديّة أو الانتسابيّة.

ثانياً : المعرفة التحليليّة.

ثالثاً : المعرفة الجذريّة.

* أصالة ثلاثيّات المعرفة في القرآن.

* شروط التعرّف على القرآن.

* هل يمكن معرفة القرآن ؟

٣

ضرورة معرفة القرآن

معرفة القرآن لكلّ شخص بعنوان أنّه إنسان عالم ، ولكلّ مؤمن على أساس أنّه فرد مؤمن ، أمر واجب وضروري.

أمّا بالنسبة للعالم الخبير بشؤون الناس والمجتمع ، فمعرفة القرآن ضروريّة ؛ لأنّ هذا الكتاب عامل مؤثّر في تكوين مصير المجتمعات الإسلاميّة ، بل وفي تكوين المجتمعات البشريّة.

نظرة إلى التاريخ توضّح لنا هذه النقطة ، وهي أنّه لا يوجد كتاب في التأريخ أثر كالقرآن في حياة الإنسان ، وفي تكوين المجتمعات البشريّة وأمّا :

- في أيّ اتجاه كان هذا التأثير ؟

- وهل حوّل مسيرة التأريخ إلى جهة السعادة ورفاهيّة البشريّة ، أمْ إلى جهة الانحطاط والنقص؟

- وهل كان بسبب تأثير هذا القرآن ، أن وجدت حركة وثورة في التأريخ ، وجرى دم جديد في عروق المجتمعات البشريّة ، أَمْ بالعكس ؟

إنّه موضوع خارج عن نطاق بحثنا هذا.

٤

ولهذا الغرض ، فإنّ القرآن يدخل ضمن مبحث علم الاجتماع ، وضمن المواضيع التي يهتمّ بها هذا العلم.

ومعنى كلامنا: أنّ البحث والتحقيق حول تأريخ العالم خلال ( ١٤ قرناً ) بصورة عامّة ، ومعرفة المجتمعات الإسلاميّة بصورة خاصّة ، بدون معرفة القرآن ، أمر محال.

وأمّا ضرورة معرفة القرآن لكلّ مسلم مؤمن؛ فإنّها تأتي لكون القرآن المنبع الأصلي والأساسي للدين والإيمان وتفكّر كل مسلم ‎ ، ولأنّه ( القرآن ) يَهَبُ الحياة حرارةً وروحاً وحرمةً ومعنىً.

القرآن مثل بعض الكتب الدينيّة التي تعرض مجموعة من المسائل الغامضة حول الله والخِلْقة والكون ، أو تعرض - على الأكثر - مجموعة من النصائح الخُلُقيّة العاديّة ولا غير؛ حتّى يضطرّ المؤمنون إلى أخذ أفكارهم ومعتقداتهم ومفاهيم حياتهم من منابع أخرى.

٥

القرآن عَرَضَ ووضّح أصول العقائد والأفكار التي يحتاج إليها الإنسان ، على أساس أنّه موجود مؤمن وصاحب عقيدة.

وهكذا بيّن القرآن الأصول التربويّة والخلقيّة والأنظمة الاجتماعيّة والروابط الأُسَرِيَّة ، إلاّ أنّه يبقى التفصيل والتفسير ، وأحيانا الاجتهاد ، وتطبيق الأصول على الفروع ، فذلك موكول إلى السُنّة أو الاجتهاد ( استنباط الأحكام ).

ولذا تتوقّف الاستفادة من أيّ منبع آخر على معرفة القرآن مقدّماً.القرآن مقياس ومعيار للمنابع الأخرى ، وعلينا أنْ نطبّق الحديث والسُنّة مع المعايير القرآنيّة ، فلو تطابقتْ معها قبلناها ، ولو لم تطابقها رفضناها.

وأمّا أكثر المنابع اعتباراً وتقديساً عندنا بعد القرآن ، هي:

- الكتب الأربعة في الحديث : ( الكافي ، مَن لا يحضره الفقيه ، التهذيب ، والاستبصار ).

- وفي الخطب : نهج البلاغة.

- وفي الأدعية : الصحيفة السجّاديّة.

وكلّ هذه المنابع متفرّعة من القرآن ، ولا نقطع بها كما نقطع

٦

بالقرآن ، أي إنّ حديث الكافي : نستطيع أنْ نأخذ به ونستدلّ عليه عندما نطبّقه مع القرآن ، ولا بدّ أنْ يتطابق معه ومع تعاليمه ولا يختلف معه شيئاً.

كان الرسول الأعظم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام يقولون - بما معناه - :

اعرضوا أحاديثنا على القرآن ، فإنْ لم تنطبق معه فأعلموا أنّها مزوّرة مجعولة ، نحن لا نقول خلافاً للقرآن.

أقسام معرفة القرآن

الآن ، و بعد أنْ علمنا ضرورة معرفة القرآن ، لا بدّ أنْ نرى ما هي طريقة معرفة هذا الكتاب؟

لمطالعة وفَهْم أي كتاب بصورة عامّة ، هناك ثلاثة أقسام للمعرفة لا بدّ منها :

أوّلاً: المعرفة الإسناديّة أو الانتسابيّة:

في هذه المرحلة نريد أنْ نعرف مدى ضرورة انتساب الكتاب إلى كاتبه ، لنفرض مثلاً : أنّنا نريد أنْ نعرف ديوان ( حافظ ) أو ( خيّام ) ، في المقدّمة لا بدّ

٧

من معرفة أنّ ما اشتهر من ديوان حافظ له كلّه ، أَمْ أنّ بعض الكتاب له والباقي يُنسَب إليه ، وهكذا بالنسبة إلى خيّام أو غيرهما.هنا لا بدّ من الاستعانة بنسخ الكتاب أقدمها وأكثرها اعتبارا.ونلاحظ أنّ جميع الكتب لا تستغني عن هذا النوع من المعرفة. ديوان( حافظ ) الذي طبعه المرحوم القزويني واستفاد فيه من أكثر النسخ اعتباراً ، يختلف اختلافاً كبيراً مع النسخة الموجودة في كثير من البيوت والمطبوعة في( بمبئي ) .

وعندما تُلقي نظرة إلى( رباعيّات الخيام ) ، ربّما ترى( ٢٠٠ رباعيّة ) في منزلة واحدة ومستوى واحد تقريباً ، وإذا كان فيها أي اختلاف فإنّه كاختلاف أشعار كل شاعر.مع العلم بأنّنا لو رجعنا تاريخيّاً إلى الوراء واقتربنا من عصر الخيّام ، لرأينا أنّ المنسوب إليه - قطعاً - يقلّ عن(٢٠ رباعيّة ) ، والباقي يُشكّ في صحّة انتسابه إليه ، أو أنّه من نَظْم شعراء آخرين دون ترديد.

وعلى هذا فإنّ أولى مراحل معرفة الكتاب هي أنْ نرى مدى اعتبار إسناد الكتاب الذي بين يدينا إلى مؤلّفة.

وهل يصحّ إسناد كل الكتاب أو بعضه إليه ؟ وفي هذه

٨

الحالة كم في المئة من الكتاب نستطيع تأييد إسناده إلى المؤلّف ؟ وعلاوة على ذلك ، بأيّ دليل نستطيع أنْ ننفي بعضاً ونُؤيّد بعضاً ونشكّ في البعض الآخر ؟

القرآن مستغنٍ عن هذا النوع من المعرفة ، ولهذا فإنّه يعتبر الكتاب الوحيد( الذي يصح إسناده ) منذ القدم ، ولا يمكننا الحصول على أيّ كتاب قديم قد مضى عليه قروناً من الزمان وبقي إلى هذا الحدّ صحيحاً معتبراً دون شبهة.وأمّا الموضوعات التي تطرح أحياناً ، ومن قبيل المناقشة في بعض السور أو بعض الآيات ، فإنّها موضوعات خاطئة ولا داعي لعرضها في الدراسات القرآنيّة ، القرآن تقدّم على عل-م معرفة النسخ ، ولا يوجد أدنى ترديد في أنّ الذي جاء بهذه الآيات من الله عزّ وجل هو محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

جاء بها عنواناً للإعجاز ؛ لأنّها كلام الله ، ولا يقدر أحد أنْ يدّعي أو يحتمل وجود نسخة أخرى غير هذا القرآن ، ولا يوجد في العالم مستشرق واحد ، يبدأ - في بحثه عن القرآن - بالتحقيق حول نسخ القرآن القديمة ، ( فلا توجد هناك نسخ متعدّدة من القرآن ) ، وبالرغم من

٩

أنّ هذه الحاجة - حاجة ملاحظة النسخ القديمة - موجودة لدى التحقيق في: التوراة ، والإنجيل ، والشاهنامه ( للفردوسي ) ، وديوان سعدي ، وأي كتاب آخر ، فإنّ القرآن لا يُقال بحقّه مثل ذلك.

والسرّ في هذا الأمر - كما تقدّم - هو تقدّم القرآن على علم معرفة النسخ.والقرآن علاوة على أنّه كتاب سماوي مقدّس وأتباعه ينظرون إليه بهذه العين ، فإنّه أصدق دليل على صدق ادّعاء الرسول ، ويعتبر أكبر معجزاته.

وإضافة إلى ذلك ، فإنّ القرآن ليس مثل التوراة التي نزلتْ مرّة واحدة ، حتّى يصح هذا الإشكال : ما هي النسخة الأصليّة ؟ بل وإنّ آيات القرآن نزلتْ بالتدرّج وطوال ثلاث وعشرين سنة.

ومن اليوم الأوّل لنزول القرآن ، تنافس المسلمون على تعلّمه وحفظه وفَهْمه ، كما يتهالك الظمآن على شرب الماء ، وخصوصاً فإنّ المجتمع الإسلامي وقتئذٍ كان مجتمعاً بسيطاً ، ولم يكن هناك كتاب لا بدّ للمسلمين من

١٠

حِفْظه وفَهْمه إلى جنْب القرآن.

خلوّ الذهن ، فراغ الفكر ، قوّة الذاكرة وعدم الإلمام بالقراءة والكتابة ، كلّها كانت الدافع إلى أنْ تُرَكّز المعلومات السمعيّة والبصريّة - لدى الإنسان المسلم - وفي ذاكرته - تركيزاً قويّاً ، ولأجل ذلك ، فإنّ موافقة بيان القرآن مع عواطفهم وأحاسيسهم أدّى إلى تركيزه في قلوبهم كما يرتكّز الرسم المحفور في الصخر.

كانوا يقدّسونه باعتباره كلام الله لا كلام البشر ، ولا يسمحون لأنفسهم أنْ يغيّروا كلمة واحدة ، بل حرفاً واحدا فيه ، أو أنْ يقدّموا أو يؤخّروا حرفاً ، وكان كل هَمّهم أنْ يقتربوا من الله بتلاوة هذه الآيات ( تلاوة صحيحة ).

علاوة على كلّ هذا ، فإنّ ذكر هذه النقطة ضروريّة ، وهي أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ الأيّام الأولى ، انتخب عدداً من خواصّ الكتاب ، ويُعْرَفون باسم( كُتّاب الوحي ) ، وتُحسب هذه ميزة للقرآن ، إذ إنّ الكتب القديمة لم تكن كذلك ، كتابة كلام الله منذ البداية تعتبر عاملاً قطعيّاً لحفظ القرآن وصَونه من التحريف.

١١

وهناك سبب آخر لحسن تقبّل القرآن لدى الناس ، وهو الناحية الأدبيّة والفنِّيّة للقرآن ، والتي يُعبَّر عنها بالفصاحة والبلاغة ، الجاذبيّة الأدبيّة الشديدة للقرآن ، كانت تدعو الناس بالتوجّه إليه ، والاستفادة منه بسرعة ، وذلك خلافاً للكتب الأدبيّة الأخرى ، التي يتصرّف فيها روّاد الأدب كيفما يشاؤون ، ليكملوها حسب تصوّرهم.

وأمّا القرّاء، فلا يُجيز أحد لنفسه التصرّف فيه ؛ لأنّ هذه الآية :

( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) ( سورة الحاقّة ، الآية : ٤٤ - ٤٦ ) ، وآيات أُخرى توضّح مدى عقوبة الكذب على الله ، وعندما تتمركز هذه الآيات في مخيّلته ينصرف عن هذا الأمر.

وبهذا الترتيب ، قبل أنْ يرى التحريف له طريقاً إلى هذا الكتاب السماوي ، تواترتْ آياته ووصلتْ إلى مرحلة لا يمكن إنكار أو تحريف حرف واحد منه ؛ ولذا ، لا يلزمنا البحث في هذه الناحية من القرآن ، كما أنّ كلّ عارف للقرآن في العالَم لا يرى لنفسه ضرورة البحث في هذا المجال.

١٢

هنا لا بدّ أنْ نتذكّر نقطة واحدة ، وهي أنّه بسبب سعة نطاق الحكومة الإسلاميّة ، واهتمام الناس الشديد بالقرآن ، وبواسطة بُعْد عامّة المسلمين عن المدينة المنوّرة التي كانت مركز الصحابة وحفّاظ القرآن ، فإنّ احتمال خطر بروز تغييرات مُتعمَّدة أو غير مقصودة في نسخ القرآن كان أمراً وارداً ، خاصّة بالنسبة إلى المناطق النائية على الأقل.

إلاّ أنّ فطانة ودقّة مراقبة المسلمين مَنَعَتَا حدوث هذا الأمر.فالمسلمون منذ أواسط القرن الأوّل للهجرة احتملوا هذا الخطر ؛ ولذلك استفادوا من وجود الصحابة وحفّاظ القرآن ، ولتجنّب أيّ خطأ أو اشتباه - عمداً كان أو سهواً في المناطق البعيدة - فإنّهم استنسخوا نُسَخَاً مصدّقة - من قِبل الصحابة الكبار وحفّاظ القرآن - من القرآن ، ووُزِّعتْ هذه النسخ من المدينة إلى الأطراف ، ولذلك قطعوا الطريق إلى الأبد من ظهور مثل هذه الاشتباهات أو الانحرافات ، وخصوصاً من قِبل اليهود الذين يُعتبرون أبطالاً في فنّ التحريف.

١٣

ثانياً : المعرفة التحليليّة:

* هذه المرحلة تعني بتحقيق تحليلي حول الكتاب ، أي :

- توضيح أنّ هذا الكتاب يشتمل على أيّة مواضيع ؟

- وما هو الهدف الذي وضع له ؟

- ما رأيه حول الإنسان ؟

- ما هي نظرته إلى المجتمع ؟

- وكيفيّة عرضه للمواضيع وطريقة مقابلته للمسائل المختلفة ؟

- هل له نظرة فلسفيّة ، أو - باصطلاح اليوم - علميّة ؟

- هل ينظر إلى القضايا من زاوية عين رجل عارف ، أَمْ إنّ له أسلوباً خاصّاًَ به ؟

- وسؤال آخر أيضاً في هذا المجال : هل لهذا الكتاب رسالة ونداء إلى الإنسانيّة ؟

- وإذا كان الجواب بالإيجاب فما هي هذه الرسالة ؟

* إنّ المجموعة الأولى لهذه الأسئلة ترتبط - في الحقيقة - بنظرة الكتاب إلى العالَم والإنسان والحياة والموت و....، أو بعبارة أكمل ، ترتبط بمعرفة الكتاب ، وفي اصطلاح فلاسفتنا ترتبط بفلسفة الكتاب النظريّة.

* وأمّا المجموعة الثانية من الأسئلة فتختصّ بأطروحة الكتاب بالنسبة لمستقبل الإنسان ، كيف يريد أنْ يبني

١٤

المجتمع البشري ، ومَن هو الإنسان النموذجي في نظره ؟

وعلى أيّ حال ، فإنّ هذا النوع من المعرفة يرتبط بمحتوى الكتاب ، ونستطيع أنْ نبحث من هذه الزاوية أيّ كتاب ، إنْ كان كتاب ( الشفاء ) لابن سينا أو ديوان ( سعدي ).من الممكن أنْ نرى كتاباً ليس له نظرة ولا رسالة ، أو أنّ له نظرة بدون رسالة ، أو أنّه يحتوي على الاثنتين.

* وبالنسبة للمعرفة التحليليّة للقرآن ، لا بدّ أنْ نرى :

- ما هي المواضيع التي يشتمل عليها القرآن ؟

- وكيف يعرض القرآن هذه المسائل ؟

- وما هي استدلالات واحتجاجات القرآن في المستويات المختلفة ؟

- بما أنّ القرآن حافظ وحارس للإيمان ورسالته إيمانية ، فهل ينظر إلى العقل نظرة ترقّب وترصّد ، ويسعى ليصدّ هجوم العقل ويكبّل يديه ورجلَيه ، أَمْ بالعكس ‎ ، ينظر إليه دائماً نظرة مساندة وحماية ( ويستعين به ) ويستنجد مِن قوّته ؟

هذه الأسئلة ومئات الأسئلة المشابهة التي تطرح ضمن المعرفة التحليليّة ، توضّح لنا وتعرّفنا ماهيّة القرآن.

١٥

ثالثاً : المعرفة الجذريّة :

في هذه المرحلة ، وبعد معرفة صحّة استناد وانتساب الكتاب إلى مؤلّفه ، وبعد تحليل وتحقيق محتويات الكتاب بدقّة ، يجب أنْ نحقّق فيما إذا كانت مواضيع ومحتويات الكتاب نابعة من أفكار الكاتب ، أَمْ إنّ المؤلّف استدان واقتبس من أفكار الآخرين.

مثلاً ، بالنسبة لديوان حافظ :

بعد أنْ اجتزنا مرحلتَي المعرفة الإسناديّة والمعرفة التحليليّة ، يجب أنْ نعرف هذا الأمر : هل هذه الأفكار والمواضيع التي أوردها في الكلمات والجمل والأبيات وأخرجها بأسلوبه الخاص ، هل هي من إبداعاته ، أَمْ إنّ صياغة الكلمات بهذا الفن والجمال من الشاعر ، وأنّ الأفكار من آخر أو من آخرين.وبعبارة أخرى بما أنّ العلم بالأصالة الفنِّيّة لدى حافظ يجب أنْ نتيقّن بالأصالة الفكريّة له أيضاً.

هذا النوع من المعرفة بالنسبة لحافظ أو أيّ مؤلّف آخر ، معرفة تنبع من جذور أفكار المؤلّف ، وهذا المعرفة فرع للمعرفة التحليليّة.أي إنّ يجب معرفة محتوى أفكار

١٦

المؤلّف بدقّة أوّلاً ، ثمّ نبدأ بالمعرفة الجذريّة.وخلافات لهذا الأمر ، فإنّ النتيجة تشبه مؤلّفات بعض كُتّاب تأريخ العلوم الذين لم يفقهوا شيئاً من العلوم ، غير أنّهم يكتبون في تأريخ العلوم.أو نستطيع أنْ نُمثّل أيضاً بأولئك الذين يكتبون الكتب الفلسفيّة ويريدون أنْ يبحثوا - مثلاً - حول ابن سينا وأرسطو ، ووجوه التشابه والاختلاف بينهما ، ولكنّهم لم يعرفوا مع الأسف ابن سينا ولا أرسطو.

هؤلاء مع مقايسة بسيطة ، وفور تعلُّمهم بعض المشابهات اللفظيّة يجلسون على منصّة القضاء ، مع أنّ في المقايسة يجب أنْ يدرك عمق الأفكار ، ولمعرفة عمق أفكار كبار المفكّرين - أمثال ابن سينا وأرسطو - يلزمنا عمراً كاملاً من الزمان ، وإلاّ فما نحصل عليه ليس سوى كلمات تخمينيّة أو تقليديّة.

في التحقيق حول القرآن ومعرفته ، بعد إجراء المطالعة التحليلية حول القرآن ، يأتي دور المقايسة والمعرفة التأريخيّة ، أي إنّنا يجب أنْ نقارن القرآن وما يحتويه بالكتب الأخرى الموجودة في ذلك العصر ، وخصوصاً الكتب الدينيّة ، ويلزمنا في هذه المقارنة

١٧

ملاحظة جميع الشروط والإمكانات ( الخاصّة بذلك العصر ).

مثل :

- مدى علاقة شبة الجزيرة العربيّة بسائر البلدان.

- وعدد المتعلّمين الذين كانوا يعيشون في مكّة وقتئذٍ و.....

- ثمّ نستنتج أنّ ما في القرآن هل يوجد في الكتب الأخرى أَمْ لا ؟ وإنْ كان يوجد فبأيّة نسبة؟

- وتلك المواضيع التي تشبه بقيّة الكتب هل هي مستقلّة أَمْ مقتبسة ؟

- وما هو دور هذه المواضيع في تصحيح أخطاء تلك الكتب وتوضيح انحرافاتها ؟

أصالة ثلاثيّات المعرفة في القرآن

بمطالعة القرآن نعرف أصالة المعرفة بأقسامها الثلاثة في القرآن :

* الأصالة الأولى هي أصالة الانتساب :

أي إنّه بدون أيّ شكٍّ وبدون الحاجة إلى البحث والتفتيش حول النسخ القديمة ، فإنّنا نعرف بوضوح : أنّ ما يُتْلَى هذا اليوم باسم القرآن الكريم ، فهو نفس الكتاب الذي أتى به محمّد بن

١٨

عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند الله ، وعرضه على العالَم.

* الأصالة الثانية ، أصالة المواضيع :

أي إنّ معلومات ومعارف القرآن إبداعيّة مبتكَرة ، وليست الْتقاطيّة ولا مقتبسة.والتحقيق حول هذا الأمر من واجبات المعرفة التحليليّة.

* الأصالة الثالثة هي أصالة القرآن الإلهيّة :

أي إنّ هذه المعلومات أُلقيتْ على الرسول الأعظم من أُفُق أعلى ، من أُفُق أفكار الرسول ، وإنّما كان الرسول مُتلقِّياً من الوحي وحاملاً لهذه الرسالة.وهذه النتيجة نحصل عليها من المعرفة الجذريّة للقرآن.

وهذه المعرفة الجذريّة ، وبعبارة أخرى تعيين أصالة العلوم القرآنيّة مبتنية على المعرفة من القسم الثاني.ولذلك ، فإنّنا نبدأ البحث من المعرفة التحليلية ، أي نحقق في هذا الأمر :

- ما هي محتويات القرآن ؟

- وما هي المواضيع المعروضة في القرآن ؟

- وفي أي المواضيع أظهر القرآن اهتمامنا أكثر ؟

- وكيف عرضتْ تلك المواضيع ؟

١٩

إذا استطعنا - في المعرفة التحليلية - أنْ نؤدّي حقّ الموضوع ، وإذا فهمناه فهماً جيّداً ، وعرفنا معارف القرآن معرفة كافية ، عندئذٍ - وكما قلنا - نصل إلى هذه الأصالة التي هي أساس أصالات القرآن ، وهي الأصالة الإلهيّة ، أي كون القرآن معجزة.

شروط التعرّف على القرآن

تحتاج معرفة القرآن إلى مقدّمات وشروط نذكرها بإيجاز :

* أحد الشروط الضروريّة لمعرفة القرآن : معرفة اللغة العربيّة :

وكما لا يمكن معرفة ( أشعار ) حافظ وسعدي ، دون الإلمام بالفارسيّة ، فإنّ معرفة القرآن المكتوب باللغة العربيّة دون معرفة اللغة العربيّة أمر محال.

* الشرط الآخر : هو الإلمام بتاريخ الإسلام :

لأنّ القرآن ليس مثل التوراة أو الإنجيل ، إذْ عُرض كلٌّ منهما ( وبلغ إلى الناس ) مرّة واحدة من قِبل الرسول ( موسى وعيسى )، بل إنّ هذا الكتاب نزل طوال ( ٢٣ سنة ) من حياة الرسول الأعظم ، من البعثة حتّى الوفاة ، وخلال

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93