التعرف على القرآن

التعرف على القرآن40%

التعرف على القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 93

التعرف على القرآن
  • البداية
  • السابق
  • 93 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30666 / تحميل: 8229
الحجم الحجم الحجم
التعرف على القرآن

التعرف على القرآن

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فطرة القرآن عن العقل

ذكرنا في الفصل السابق موجَزاً عن أَلْسِنَة القرآن ، وذكرنا أنّ القرآن استعان بلسانَين لإبلاغ رسالته وهما :

الاستدلال المنطقي ، والإحساس.ولكلّ هذين اللسانَين مخاطب خاص به ، فمخاطب الأوّل العقل ، ومخاطب الثاني القلب.

وفي هذا الفصل نريد أنْ نبحث عن وجهة نظر القرآن حول العقل.

يجب أنْ نرى أنّ العقل سند من وجهة نظر القرآن أمْ لا ؟ وبتعبير علماء الفقه والأصول هل العقل حجّة أَمْ لا ؟ وهذا يعني أنّه إذا حصلنا على حكم واقعي صحيح من العقل ، هل يجب على البشر أنْ تحترم هذا الحكم ويعمل وفقاً له أم لا ؟ وإذا عمل بناء عليه ، وارتكب الخطأ في بعض الموارد ، هل يعذره الله ، أم يعاقبه عليه ؟

٦١

ولو لم يعمل هل يجازيه الله على أساس أنّه لم يتبع حكم عقله ، أَمْ لا ؟

دلائل حجِّيَّة العقل

إنّ موضوع حجِّيَّة العقل من وجهة نظر الإسلام ثابت في مقامه ‎ ، ولم يتردّد علماء الإسلام من الابتداء إلى الآن - باستثناء قليل منهم - في سَنَدِيَّة العقل ، واعتبروه أحد المصادر الأربعة ( الأصليّة ) في الفقه.

١ - الدعوة إلى التعقّل من قِبل القرآن :

بما أنّنا نبحث حول القرآن ، علينا أنْ نستخرج دلائل حجِّيّة العقل من القرآن نفسه.

لقد صادق القرآن من جهات مختلفة وأكد - خاصّة على الجهات المختلفة - على حجِّيّة العقل.وقد أشير إلى مورد واحد فقط من ستّين إلى سبعين آية من القرآن إلى هذه المسألة ، وهي : إنّنا عرضنا هذا الموضوع لتعقلوا ( ويتدبّروا ) فيه.

* وعلى سبيل المثال أذكر نموذجاً لإحدى التعابير العجيبة للقرآن ، يقول القرآن :

( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ

٦٢

الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) ( سورة الأنفال : آية : ٢٢ ).

وأوضح أنّ غرض القرآن من الصمّ والبكم ليس الصمّ والبكم العضوي ، بل الغرض منهما هم الأشخاص الذين لا يريدون أنْ يستمعوا الحقيقة ، أو أنّهم يسمعونها ولا يعترفون بألسنتهم.

فالأُذن التي تعجز عن سماع الحقائق وتستعد فقط لسماع المهملات والأراجيف ، إنّ هذه الأذن صمّاء من وجهة نظر القرآن.

واللسان الذي يستخدم فقط في بثّ الأراجيف ، يعتبر لساناً أَبْكَمَاً حسب رأي القرآن.

( لا يعقلون ) : هم الذين لا ينتفعون من أفكارهم ، يعتبر القرآن مثل هؤلاء الأشخاص الذين لا يحقّ أن يطلق عليهم اسم ( الإنسان ) بالحيوانات ، ويخاطبهم بالبهائم.

* وفي آية أخرى ‎ ، يبحث ضمن عرض مسألة

٦٣

توحيديّة ، حول ( التوحيد الأفعالي والتوحيد الفاعلي ) ، بقوله :

( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ... ) ( سورة يونس : آية : ١٠٠ ).

وبعد عرض هذه المسألة الغامضة التي لا يستطيع كلُّ عقل أنْ يدركها ويتحمّلها ، وأنّها تهزّ الإنسان حقيقة ، تقول الآية :( ... وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) ( تتمّة نفس الآية السابقة ).

في هاتَين الآيتَين اللَتين ذكرتهما بعنوان المثال ، يدعو القرآن إلى التعقّل بالدلالة المطابقيّة كما في اصطلاح المنطقيّين.

* وهناك آيات كثيرة أخرى يصادق القرآن على حجِّيَّة العقل فيها بالدلالة الالتزاميّة -إذا دلّ وجود أمر على أمر آخر ، تُطلق عليه اسم الدلالة - وللدلالة أنواع :

-الدلالة المطابقيّة : أي أنْ يدلّ اللفظ على تمام معناه ، مثل أنْ نقول : سيّارة ، ونقصد جميع أجزائها.

-الدلالة التضمّنيّة : أي أنْ يدلّ اللفظ على جزء من معناه ، مثل أنْ نقول : هنا توجد السيارة ، ونفهم منها أنّ ماكنة السيّارة موجودة أيضاً.

-الدلالة الالتزاميّة : حيث يدلّ اللفظ فيها على موضوع غير معناه ( الظاهري ) مثل : أنْ نسمع اسم ( حاتم ) ويخطر على بالنا ( الجود والسخاء ).

٦٤

وبعبارة أخرى : يقول أقوالاً لا يمكن أبداً قبولها ، إلاّ بعد قبول حجِّيَّة العقل ، مثلاً يطلب من الخصم استدلالاً عقليّاً :

( ... قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ... ) ( سورة البقرة : آية : ١١١ ).

يريد أنْ يوضّح بالدلالة الالتزاميّة هذه الحقيقة ، وهي :

أنّ العقل حجّة وسند ، أو أنّه يرتّب قياساً منطقيّاً لإثبات وحدة واجب الوجود ، بقوله :( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا... ) ( س-ورة الأنبياء : آية : ٢٢ ) ، هنا يُرتِّب القرآن قضيّة شرطيّة ، يستثني فيها المقدّم ولا يذكر التالي.

وقع كلّ هذا التأكيد على العقل ، يريد القرآن أنْ يبطل ادّعاء بعض الأديان التي تقول بأنّ الإيمان أجنبي عن العقل ، ولا بدّ لِمَن يريد الإيمان أنْ يعطّل فكره ويشغل قلبه فقط ؛ لكي ينفذ فيه نور الله.

٢ - الاستفادة من نظام العلّة والمعلول :

الدليل الآخر الذي يثبت أنّ القرآن يعتقد بأصالة

٦٥

العقل هو أنّه يذكر المسائل في علاقاتها العلِّيَّة والمعلوليّة.إنّ علاقة العلّة والمعلول وأصل العلِّيَّة أساس للتفكّرات العقليّة ، والقرآن يحترمها ويستعملها.

وبالرغم من أنّ القرآن يتكلّم باسم الله ، والله هو الخالق لنظام العلّة والمعلول ، وبالطبع فإنّ الحديث يدور حول ما وراء الطبيعة ، ويعتبر نظام العلّة دونها ، بالرغم من كلّ ذلك لا ينسى القرآن هذا الموضوع ، وهو أنْ يذكر شيئاً عن نظام السبب والمسبَّب في العالَم ، ويعتبر الحوادث والوقائع مقهورة لهذا النظام.

وعلى سبيل المثال لا حظوا هذه الآية التي تقول :

( ... إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ... ) ( سورة الرعد : آية : ١١ ).يريد أنْ يقول بأنّه : لا ش--كّ أنّ كلّ المصائر بإرادة الله ، ولكنّ الله لم يفرض المصير على البشر من ما وراء اختيار البشر وإرادتهم وأعمالهم ، ولا يعمل عملاً عبثاً ، بل إنّ للمصائر نظاماً أيضاً ، وإنّ الله لا يُغيِّر مصير أيّ مجتمع عبثاً ، وبدون وجه ، إلاّ أنْ يُغيِّروا بأنفسهم

٦٦

فيما يرتبط بهم ، مثل الأنظمة الأخلاقيّة والاجتماعيّة وكل ما يتعلّق بواجباتهم الفرديّة.

ومن طرف آخر يرغّب القرآنُ المسلمين بمطالعة أحوال وأخبار الأمم السالفة ؛ لكي يعتبروا منها.وطبيعي أنّه لو كانت قصص الأقوام والأمم والأنظمة على أساس عبث أو كانت مصادفة ، ولو كانت المصائر تُفرض من الأعلى إلى الأسفل ، فلم يكن هناك معنى للمطالعة وأخذ العبرة.

يريد القرآن بهذا التأكيد أنْ يذكر بأنّ هناك أنظمة موحّدة تحكم مصائر الأمم ، وبهذا الترتيب لو تشابهتْ ظروف مجتمعٍ ما مع ظروف مجتمع آخر ، فإنّ مصير ذلك المجتمع يكون في انتظار المجتمع الآخر.

يقول في آية أخرى :( فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ... *... يَسْمَعُونَ بِهَا... ) ( سورة الحج : آية : ٤٥ - ٤٦ ).

٦٧

إنّ قبول الأنظمة بالدلالة الالتزاميّة ، في كلّ هذه المواضيع ، يؤيّد نظام العلِّيَّة وقبول العلاقة العلِّيَّة يعني قبول حجِّيَّة العقل.

٣ - فلسفة الأحكام :

من الدلائل الأخرى لحجِّيَّة العقل - من وجهة نظر القرآن - هو أنّ القرآن يذكر فلسفة للأحكام والقوانين ، ويعني هذا الأمر : أنّ الحكم الصادر معلول لهذه المصلحة.

يقول علماء الأصول :

بأنّ المصالح والمفاسد تقع في مجموعة علل الأحكام ، مثلاً يقول القرآن في آية :( أَقِيمُوا الصَّلاَةَ... ) ، وفي آية أخرى يذكر فلسفتها :( ... الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ... ) ( سورة العنكبوت : آية : ٤٥ ).

يذكر الأثر الروحي للصلاة ، وأنّها كيف ترفع الإنسان ، وبسبب هذا الاعتلاء ينزجر الإنسان وينصرف عن الفواحش والآثام.

٦٨

وعندما يذكر القرآن الصوم ويأمر به ، يُتْبِع ذلك بقوله :( ... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُُ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( سورة البقرة : آية : ١٨٣ ).

وهكذا في سائر الأحكام ، مثل : الزكاة ، والجهاد ، و..... ، حيث يوضّح في كلٍّ منها من الناحيتَين الفرديّة والاجتماعيّة.

وبهذا الترتيب :

فإنّ القرآن يمنح الأحكام السماويّة جانباً دنيويّاً وأرضيّاً ، بالرغم من أنّها ما ورائيّة ( ما وراء الطبيعة ) ، ويطلب من الإنسان أنْ يتدبّر فيها ليتّضح له واقع الأمر ، ولا يتصوّر أنّ هذه الأحكام مجرّد مجموعة من رموز تفوق فكر الإنسان.

٤ - النضال مع انحرافات العقل :

والدليل الآخر الذي يدلّ على أصالة العقل لدى القرآن - وأوضح من الدلائل السابقة - هو نضال القرآن مع أعداء العقل.

لتوضيح هذا الموضوع لا بدّ من ذكر مقدّمة :

٦٩

يتعرّض فكر الإنسان وعقله إلى الخطأ في كثير من الموارد - هذا الموضوع شائع ورائج عندنا جميعاً - ولا ينحصر ذلك بالعقل ، بل إنّ الحواس والأحاسيس ترتكب الخطأ أيضاً ، فمثلاً ذكروا عشرات الأخطاء لحاسّة البصر.

وبالنسبة للعقل ، ففي كثير من الأحيان يرتب الإنسان استدلالاً ، ويحصل على نتيجة بناءً عليه ، وبعد ذلك يرى أحياناً أنّ الاستدلال كان خطأ من الأساس.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه : هل يجب تعطيل القوّة الفكريّة بسبب بعض الأعمال الخاطئة للعقل ؟

وفي جواب هذا السؤال : كان السفسطائيّون يقولون بعدم جواز الاعتماد على العقل ، وأنّ الاستدلال أساساً على عبث.

وفي هذا المجال : ردّ الفلاسفة على أهل السفسطة ردوداً قويّة ، ومن ضمنها : أنّ سائر الحواس أيضاً تُخطئ مثل العقل ، ولكنّ أحداً لم يحكم بعدم الاستفادة منها.

وبما أنّ ترك العقل غير ممكن ؛ لذلك اضطرّ المتفكّرون

٧٠

أنْ يعزموا على إيجاد حل لسدّ طرق الخطأ.

وفي البحث حول هذا الموضوع لاحظوا أنّ كلّ استدلال ينقسم إلى قسمين : المادّة والصورة ، تماماً مثل بناء استُخدم فيه مواد البناء ، كالإسمنت والحديد والجص ( المادّة ) وأتّخذ في النهاية شكلاً خاصّاً ( الصورة ) ، ولكي يكون البناء محكماً جيّداً من كلّ النواحي ، لا بدّ من استخدام مواد مناسبة في بنائه ، ولا بدّ أنْ تكون خارطته صحيحة دون نقص.

وفي الاستدلال أيضاً لا بدّ أنْ تكون مادّته وصورته صحيحتَين.

وللبحث والتحقيق حول صورة الاستدلال ، وُجد المنطق الأرسطي أو المنطق الصوري.وكان واجب المنطق الصوري أنْ يعيّن صحّة أو عدم صحّة صورة الاستدلال ، وأنْ يساعد العقل ؛ كي لا يتعرّض للخطأ في صورة الاستدلال ( من الأخطاء التي تعرّض لها العلم منذ عدّة قرون ، وأصبح منشأ فهم خاطئ للكثير ، هو تصوّر البعض بأنّ وظيفة منطق أرسطو هي تعيين صحّة أو عدم صحّة مادّة الاستدلال أيضاً ، وبما أنّ منطق أرسطو لم يستطع ذلك ، حكموا بعدم فائدة اللجوء إليه.ومع الأسف ، فإنّ هذا الخطأ يتكرّر كثيراً في عصرنا أيضاً ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر دليل على أنّ هؤلاء ليس لهم معرفة صحيحة عن المنطق الأرسطي ولم يفهموه.

وإذا أردنا أنْ نستفيد من نفس مثال المبنى ، فعلينا أنْ نقول : بأنّ وظيفة منطق أرسطو في تعيين صحّة الاستدلال ، تشبه تماماً الشاقول في تعيين استقامة الجدار ، بالاستعانة بالشاقول لا يمكن معرفة مواد البناء المستخدمة في الجدران هل أنّها من نوع ممتاز أَمْ لا ؟ فمنطق أرسطو الذي تكامل أخيراً بواسطة سائر العلماء وأصبح غنيّاً جدّاً ، يحكم فقط في صورة الاستدلال ، وأمّا بالنسبة لمادّة الاستدلال ، فإنّه ساكت نَفْياً وإثْباتاً ، ولا يستطيع أنْ يقول شيئاً ).

٧١

ولكنّ الأمر الهام هو :

عدم كفاية المنطق الصوري في تضمين صحّة الاستدلال ، يستطيع هذا المنطق تضمين جهة واحدة فقط ، ولحصول الاطمئنان في صحّة مادّة الاستدلال ، علينا أنْ نستخدم المنطق المادّي أيضاً.أي إنّنا نحتاج إلى معيار نقيس بمعونته كيفيّة المواد الفكريّة.

حاول علماء مثل( بيكن ) و( ديكارت ) أنْ يؤسِّسوا منطقاً لمادّة الاستدلال يشبه المنطق الذي وضعه أرسطو لصورة الاستدلال ، واستطاعوا أنْ يعينوا بعض المعايير في هذا المجال إلى حدٍّ ما ، لو أنّها لم تكن مثل منطق أرسطو

٧٢

من الناحية الكلِّيَّة ، ولكنّها استطاعتْ أنْ تساعد الإنسان - إلى حدٍّ ما - لمنعه من الخطأ في الاستدلال ، غير إنّكم ربّما تعجَّبْتُم إذا علمتم أنّ القرآن عرض أموراً لمنع الخطأ في الاستدلال لها فضل التقدّم وتقدّم الفضل على تحقيقات أمثال( ديكارت ) .

مواطن الخطأ من وِجهة نظر القرآن

* من مواطن الخطأ التي يذكرها القرآن :

اتخاذ الإنسان الظن بدل اليقين ( وهذه هي القاعدة الأولى لديكارت أيضاً.يقول : إنّه لنْ يقبل بعدئذٍ أيّ موضوع ، إلاّ أنْ يبحث ويحقّق فيه مقدّماً ، ولو وجدتُ احتمالاً واحداً للخلاف في مئة احتمال ، فلنْ أستفيد منه وأطرحه جانباً.وهذا هو المعنى الصحيح لليقين ).

لو قيّد الإنسان نفسه ليتّبع اليقين في جميع المسائل ، ولنْ يقبل الظن بدل اليقين ، فلنْ يُخطئ أبد.( لا بدّ من ملاحظة : أنّه في الأمور الظنِّيَّة والاحتماليّة ، وفي الموارد التي لا يمكن الحصول على اليقين ، يجب الأخذ بنفس ذلك الظن أو الاحتمال.ولكن يجب قبول الظن والاحتمال بدل الاحتمال ، ولا يمكن الأخذ بالظن والاحتمال بدل اليقين.هذا المورد الثاني الذي يدعو إلى الخطأ).

٧٣

* لقد أكّد القرآن كثيراً حول هذا الموضوع ، وقد صرّح في إحدى الآيات أنّ أكبر خطأ للفكر البشري هو اتّباع الظن :

وفي مقام آخر يخاطِب الرسولَصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) ( سورة الأنعام : آية : ١١٦ ).

ويقول في آية أخرى :( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... ) ( سورة الإسراء : آية : ٣٦ ).

إنّها أوّل ذكرى للبشر طوال التاريخ الفكري ، ذكرها له القرآن ونهى البشر عن مثل هذه الأخطاء.

* الموطن الثاني للخطأ في مادّة الاستدلال - وخاصّة في المسائل الاجتماعيّة - هو مسألة التقليد :

يعتقد كثير من الناس بالأمور التي يعتقدها المجتمع ، أي أنّ الموضوع الذي يتقبّله المجتمع ، أو تقبله الأجيالُ السالفة ، يقبلونه بدليل أنّ الأجيال السالفة قد رضيتْ وآمنت به ، ( يوجد هذا الأمر في أحد أقوال ( بيكن ) وعندما يعرف أحد الأصنام التي يتحدّث عنها بالصنم الاجتماعي أو الصنم العُرفي ، فإنّ غرضه هذا التقليد الأعمى ).

٧٤

إلاّ أنّ القرآن يدعونا لكي نقيس كلّ مسألة بمعيار العقل ، لا يَعتبر بما صنعه الأجداد الأقدمون ، أو أنْ نتركها تماماً.

فكم من أمور كانت معتبرة في الماضي مع أنّها خاطئة ولكنّ الناس قبلوها ، وكم من أمور صحيحة في الأزمنة البعيدة ولكنّ الناس امتنعوا عن الاعتراف بها بسبب جَهْلهم.

في قبول هذه المسألة لا بدّ من الاستعانة بالعقل والفكر ، وعدم اتّباع التقليد الأعمى.القرآن يقابل كثيراً بين اتّباع الآباء والأجداد وبين العقل والفكر.

قال تعالى :( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا... وَلاَ يَهْتَدُونَ ) ( سورة البقرة : آية :١٧٠ ).

يؤكّد القرآن أنّ قِدَمَ فِكْرٍ ما ، ليس دليلاً على خطئه

٧٥

ولا يُوجِب صحّته ، وأنّ القِدَم يجري في الأمور المادِّيَّة ، ولكنّ حقائق الوجود لنْ تُصبح قديمة متروكة مهما مضى عليها الزمان.

فحقيقة مثل :( .... إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ... ) تكون صادقة محكمة ثابتة طوال عمر الدنيا.

يقول القرآن : إنّه لا بدّ من مواجهة المسائل بسلاح العقل والفكر ، ويجب أنْ لا يترك الإنسان عقيدة سليمة بدليل مخالفة الآخرين له ، كما يجب أنْ لا يقبل عقيدة بمجرّد تعلّقها بهذه الشخصيّة المعروفة أو تلك الشخصيّة الكبيرة ، ولا بدّ أنْ يحقّق الإنسان بنفسه في كلّ المسائل ( يجب أنْ لا يشتبه بين موضوع تقليد الآباء والأجداد ، أو الموضة العصريّة ، أو صبغة المجتمع التي نهى عنها القرآن بشدّة ، وبين موضوع تقليد المجتهد الأعلم الأعدل في الفقه ؛ لأنّه أمر واجب يبتني على رعاية التخصّص والاستفادة من العلم التخصّصي ).

* العامل الآخر الذي يؤثر في تكوّن الخطأ ويذكره

٧٦

القرآن ، هو اتّباع هوى النفس والميول النفسيّة ، يقول مولوي ( الشاعر ) :

( عندما جاء الغرض ( هوى النفس ) احتجب الفن ، وانتقلتْ مئات الحجب من القلب إلى العين ).

لو لم يتخلَّ الإنسان - في أيّ أمر - من شرّ الأغراض النفسيّة ، لا يستطيع أنْ يفكّر تفكيراً سليماً ، أي : أنّ العق-ل يتمكّن من العم-ل الصحيح ، في بيئة لا توجد فيها الأهواء النفسيّة.هناك قصّة معروفة عن العلاّمة الحلّي نذكرها ، لأنّها مثال جيّد :

لقد عرض للعلاّمة الحلّي هذه المسألة الفقهيّة ، وهي أنّه لو مات حيوان في البئر وبقيتْ الميتة النجسة في البئر ، ماذا يجب العمل بماء البئر ؟ وبالصدفة سقط - في تلك الآونة - حيوان في بئر العلاّمة الحلّي ، واضطرّ ليستنبط حكماً لنفسه.كان لا بدّ له أنْ يحكم في هذا المورد عند طريقين:

الأول : أنْ يملأ البئر بالتراب ، ويستفيد من بئر آخر.

٧٧

الثاني : أنْ يأخذ مقداراً معيّناً من ماء البئر ، ثمّ يستفيد من بقيّة الماء بلا إشكال.فرأى العلاّمة الحلّي أنّه لا يستطيع أنْ يحكم في هذه المسألة بلا غرض ؛ لأنّ له مصلحة في القضيّة ، ولذلك أمر أنْ يملأ البئر بالتراب أوّلاً ، ثمّ بدأ بإصدار الحكم وإظهار الفتوى ببال مريح ، وبعيداً عن ضغط الوساوس النفسيّة.

وللقرآن إشارات كثيرة في موضوع متابعة هوى النفس ، نكتفي بذكر مورد واحد ، يقول القرآن:

( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ... ) ( النجم : آية : ٢٣ ).

نظرة القرآن عن القلب

أظنُّ أنّه لا داعي للتوضيح ، بأنّ الغرض من القلب في اصطلاح العرفاء والأدباء ليس ذلك العضو اللحمي الموجود في الجانب الأيسر من البدن ، ويجري الدم كالمضخّة في العروق ، فمثلاً في تعبير القرآن :( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ... ) ( سورة ق : آية : ٣٧ ).

٧٨

أو في التعبير العرفاني اللطيف لحافظ ( الشاعر ) :

( لقد نفر قلبي ، وغافلٌ أنا المسكين ، ماذا قد حلّ بهذا الصيد التائه للحيوان ).

واضح أنّ المقصود من القلب في هذين المثالَين حقيقة سامية ممتازة ، تختلف تماماً عن هذا العضو الموجود في البدن ، وهكذا عندما يذكر القرآن مرضى القلوب :( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً... ) ( سورة البقرة : آية : ١٠ ).

فإنّ معالجة هذا المرض خارجة عن طاقة طبيب أمراض القلب ، وإذا وجد طبيب يتمكّن من معالجة هذه الأمراض ، فلا شكّ أنّه طبيب متخصّص في الأمراض الروحيّة.

تعريف القلب

* إذن ما هو المقصود من القلب ؟

للإجابة على هذا السؤال يجب البحث في حقيقة وجود الإنسان ، فالإنسان

٧٩

في الوقت الذي هو موجود واحد ، إلاّ أنّ له مئات بل وآلاف الأبعاد الوجوديّة.

( أنا ) الإنسانيّة عبارة عن مجموعة كبيرة من الأفكار ، والآمال ، والخوف ، والحب ، و... ، وإنّها بمثابة الأنهار والجداول ، التي تتجمّع في مركز واحد ، وإنّ هذا المركز بنفسه بحرٌ عميق ، بحيث ما استطاع - إلى الآن - أيُّ إنسان أنْ يدعي أنّه اطّلع على أعماق هذا البحر.

فالفلاسفة والعرفاء وعلماء النفس ، ساهم كلٌّ إلى حدٍّ ما في السباحة في أغوار هذا البحر ، ووفّق كلٌّ منهم إلى كشف بعض أسراره ، ولربّما كان العرفاء أكثر حظّاً من الآخرين في هذا المجال.

وما يسمِّيه القرآن بالقلب عبارة عن حقيقة هذا البحر ، وإنّ ما نسمِّيه بالروح الظاهريّة عبارة عن الأنهار والجداول التي تتّصل بهذا البحر.وحتّى العقل بنفسه أحد هذه الأنهار التي تتّصل بهذا البحر.

عندما يذكر القرآن الوحي ، لم يقل شيئاً عن

٨٠

العقل ، بل إنّ علاقته ترتبط مع قلب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومعنى هذا الكلام :

أنّ القرآن لم يرد على الرسول بقوّة العقل وبالاستدلال العقلي ، بل كان هذا قلب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث ارتقى إلى حالة لا يمكن لن-ا تصوّره-ا ، وفي تلك الحالة حصل على قابليّةِ أدراك ومشاهدة تلك الحقائق المتعالية ، وها هي آيات سورة النجم وسورة التكوير توضّح كيفيّة هذا الارتباط إلى حدٍّ ما.

نقرأ في سورة النجم :

( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) : يقول القرآن ذلك ، ليبيِّن أنّ مستوى هذه المسائل فوق حَيِّز عمل العقل الحديث هنا عن المشاهدة والاعتلاء.

ونقرأ في سورة التكوير :

( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) .

خصائص القلب

يعتبر القلب من وجهة نظر القرآن وسيلة للمعرفة

٨١

أيضاً ، وإنّ القسم الأكبر من نداءات القرآن تخاطب قلب الإنسان ، تلك النداءات التي لا طاقة لسماعها إلاّ بواسطة أذن القلب ؛ ولذلك فإنّ القرآن يؤكّد كثيراً بالمحافظة على هذه الوسيلة ، والعمل على تكاملها.نلتقي في القرآن كثيراً بأمور مثل تزكية النفس وصفاء القلب :

( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ) ( سورة الشمس : آية : ٩ ).

و( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( سورة المطففين : آية : ١٤ ).

وحول إنارة القلب يقول :( ... إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً... ) ( سورة الأنفال : آية : ٢٩ ).

و( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ( سورة العنكبوت : آية : ٦٩ ).

وفي مقابل ذلك ، فإنّ الأعمال القبيحة تسود روح الإنسان وتسلب منه الاتجاهات الطاهرة النقيّة ، وقد تكرّر هذا الحديث في القرآن.يقول عن لسان المؤمنين :

( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ) ( سورة آل عمران : آية : ٨ ).

٨٢

وفي وصف المسيئين يقول :( كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( سورة المطففين : آية : ١٤ ).

( ... فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ... ) ( سورة الصف : آية : ٥ ).

ويتحدّث القرآن عن قساوة القلوب وتختمها :

( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ... ) ( سورة البقرة :آية:٧).

و( ... وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ... ) ( سورة الأنعام : آية : ٢٥ ).

و( .... كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ) ( سورة الأعراف : آية : ١٠١ ).

و( ... فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) ( سورة الحديد : آية : ١٦ ).

كلّ هذه التأكيدات تُبيّن أنّ القرآن يريد جوّاً روحيّاً ، ومعنويةً عالية للإنسان. ويوجب على كلّ فرد أنْ يحافظ على سلامة ونقاء هذا الجو.

٨٣

وبالإضافة إلى ذلك ، ففي الجوّ الاجتماعي المريض ، وحيث تصبح أكثر جهود الإنسان لنظافة البيئة عقيمة غير موفّقة ، يؤكّد القرآن أنْ يستغل البشر كلَّ طاقاته في سبيل تصفية وتزكية بيئته الاجتماعيّة.

يصرّح القرآن بأنّ ذلك الإيمان والعشق والمعرفة ، والتوجهات السامية ، وتأثيرات القرآن ، وقبول نصائحه ، كلّ ذلك يرتبط بابتعاد الإنسان والمجتمع الإنساني عن الدنيا ، والرذائل ، والأهواء النفسيّة ، والشهوات.

يشير التأريخ البشري أنّ القوى الحاكمة عندما أرادت السيطرة على مجتمع ما واستثماره ، تسعى لإفساد روح المجتمع ؛ ولهذا الغرض تُهيّئ وسائل الشهوة للناس ، وتحرّضهم على الشهوات.

والنموذج الذي يدعو إلى الاعتبار من هذا الأسلوب القذر ، الفاجعة التي حدثتْ للمسلمين في إسبانيا المسلمة ، التي كانت تُعدّ من مواطن النهضة ، ومن أكثر الدول الأوروبِّيَّة حضارة وتقدّماً.

ولأجل إخراج إسبانيا من أيدي المسلمين ، بدأ

٨٤

وهكذا استطاعوا القضاء على عزيمة المسلمين ، وقوّتهم ، وإرادتهم ، وشجاعتهم ، وإيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وبدّلوهم إلى أشخاص أذلاّء ضعفاء فاسدين ، يتبعون الشهوات ويشربون الخمور ويرتكبون الفواحش والمنكرات.وواضح جدّاً أنّ التغلّب على مثل هؤلاء الأشخاص لم يكن أمراً صعباً.

لقد انتقم المسيحيّون من حكومة المسلمين التي مضى عليها ( ٣٠٠ - ٤٠٠ عاماً ) ، انتقاماً يخجل التاريخ من تذكّره وتذكّر تلك الجرائم.

أولئك المسيحيّون الذين يسلمون الطرف الأيسر من وجوههم إلى مَن لَطَمَ على يمينها - حسب تعاليم السيّد المسيح - ، أجروا بحراً من دماء المسلمين في الأندلس ،

٨٥

وبيّضوا - بذلك -وجه جنكيز ( المغولي ) ، وطبيعي أنّ فشل المسلمين كان نتيجة هممهم المنحطّة وفساد نفوسهم ، وجزاء عدم اتّباعهم للقرآن وتعاليمه.

وفي زماننا أيضاً ، أينما وضع الاستعمار رجله ، يستند على ذلك الموضوع الذي حذّر منه القرآن ، أي أنّه يسعى ليُفسد القلوب ، فإذا فسد القلب لا يستطيع العقل أنْ يعمل شيئاً ، بل تصبح نفسه قيداً أكبر في أيدي وأرجل الإنسان.

ولذلك نرى أنّ المستعمرين والمستثمرين لا يخشون من افتتاح المدارس والجامعات ، بل ويقْدِمون بأنفسهم على تأسيسها ، ولكنّهم يسعون من طرف آخر لإفساد قلوب ونفوس الطلاّب والتلاميذ بكلّ طاقاتهم.

إنّهم يدركون تماماً هذه الحقيقة ، وهي أنّ المريض في قلبه وروحه لا يستطيع أنْ يعمل شيئاً ، ويتقبّل كلّ ذلّة ، واستثمار ، وإساءة.

يهتمّ القرآن كثيراً بنقاء وعلوّ روح المجتمع ، حيث يقول في الآية الشريفة :( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ

٨٦

وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ... ) ( سورة المائدة : آية : ٢ ).

ابحثوا أوّلاً : عن كلّ عمل خير ، وابتعدوا عن كلّ سوء ورذالة.

وثانياً : اعملوا معاً وبصورة اجتماعيّة ولا تعملوا منفردين.

وبالنسبة إلى القلب ، اذكر بعض النقاط على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ؛ ليكون ختاماً حسناً لهذا الموضوع :

مكتوب في كتب السيرة أنّ شخصاً حضر عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : إنّ لي أسئلة أريد أنْ أعرضها عليكم.

فسأله الرسول : هل تريد أنْ تسمع أجوبة أَمْ ترغب في طرح الأسئلة فقط.فأجاب : إنّه يريد الجواب.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -ما معناه - : جئتُ تسأل عن البرّ والإحسان والإثم والعدوان ؟

أجاب : نعم.

فجمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة من أصابعه ووضعها على صدر الرجل براحة قائلا : ( اسْتَفْتِ قلبَكَ ، وإنْ أفتاك المفتون ).

ثمّ أضاف - ما معناه - :( لقد خُلق القلب بحيث

٨٧

يرتبط مع الحسنات ويرتاح معها ، ولكنّه يضطرب وينزجر من السيّئات والقبائح ، تماماً مثل بدن الإنسان ، فإذا ورده شيء لا يتجانس معه ، يُغَيِّر نظامه ، وهكذا روح الإنسان تتعرّض للاختلال والاضطراب بواسطة الأعمال السيّئة ) .

إنّ ما يسمّى عندنا بعذاب الضمير ناشئ عن عدم تجانس الروح مع المفاسد والسيّئات والآثام.

يشير الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه النقطة ، وهي أنّ الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة ويخلص نفسه لمعرفة الحقيقة ، لا يمكن لقلبه - في هذه الحالة - أنْ يخونه ، وسوف يهديه إلى مسير الهداية المستقيم.

والإنسان - أساساً - يبحث صادقاً عن الحق والحقيقة الخالصة المحضة.

٨٨

يرد الرسول على مَن سأله عن البر : ( استفت قلبك ) ، أي أنّك لو كنتَ تريد البر حقيقة ، فإنّ ما يطمئنّ قلبُك به ويسكن ضميرُك له هو البر ، ولكن إذا كنتَ ترغب شيئاً غير أنّ قلبك لم يطمئن له ، فتيقّن أنّه هو الإثم.

وفي مكان آخر يسأل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن معنى الإيمان ؟

فيجيب ( ما معناه ) :( المؤمن هو الذي إذا ارتكب عملاً سيّئاً تعرّض للندم وعدم الراحة ، وإذا ارتكب عملاً صالحاً سرّ وفرح ) .

عن عبد الله بن القاسم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : ( إذا تخلّى المؤمن من الدنيا ، سما ووجد حلاوة حبّ الله ، وكان عند أهل الدنيا كأنّه قد خولط ، وإنّما خالط القوم حلاوة حب الله ، فلم يشتغلوا بغيره ) ، أي إنّ المؤمن إذا زهد في الدنيا ، يسمو ويرتفع ويحسّ حلاوة محبّة الله ، ويتصوّر أهل الدنيا أنّه قد جُنّ ، في حين أنّ حلاوة حبّ الله جعلتْه في غنى عنهم ، وشغله حبُّ الله عن غيره.

قال ( الراوي ) وسمعتُه ( الإمام الصادق ) يقول :

٨٩

( إنّ القلب إذا صفا ضاقتْ به الأرض حتّى يسمو ) ( أصول الكافي : ٢/١٣٠ )

عن إسحاق بن عمّار قال : سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول : ( إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى بالناس الصبح ، فنظر إلى شابٍّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرّاً لونه ، قد نَحُفَ جسمه وغارتْ عيناه في رأسه.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :كيف أصبحتَ يا فلان ؟

قال : أصبحتُ يا رسول الله موقناً.

فعجب رسول الله من قوله وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ لكلّ يقين حقيقة ، فما حقيقة يقينك.

فقال : إنّ يقيني يا رسول الله ، هو الذي أحزنني وأسهر ليلي ، وأظمأ هواجري ، فعزفتْ نفسي عن الدنيا وما فيها ، حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد نُصِبَ للحساب ‎ ، وحُشِرَ الخلائق لذلك وأنا فيهم ، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون ، على الأرائك متّكئون ، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها

٩٠

معذّبون مصطرخون ، وكأنّي الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : ( هذا عبد نوّر الله قلبَه بالإيمان ) ، ثمّ قال له : ( إلزَم ما أنت عليه ).

فقال الشاب : ادع الله لي يا رسول الله أنْ أُرزق الشهادة معك ، فدعا له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يلبث أنْ خرج في بعض غزوات النبي ، فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر ) ( أصول الكافي - كتاب الإيمان والكفر - : ٢/٥٣ ).

يقول القرآن بأنّ صفاء القلب يوصِل الإنسان إلى مقام يقول عنه أمير المؤمنين عليه‌السلام : ( لو كُشِفَ لي الغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيْنَا ).

إنّ القرآن بتعاليمه يريد أنْ يُربّي أناساً مسلّحين بسلاح العلم والعقل ، ويستفيدون من سلاح القلب أيضاً ، ويستخدمون هذَين السلاحين في أحسن أساليبه وأسمى كيفيّاته في طريق الحق.وإنّ أئمّتنا وتلامذتهم الصالحين المؤمنين نماذج حيّة واضحة لهؤلاء الأناس.

٩١

الفهرس

التعرف على القرآن الشهيد مرتضى المطهري ١

الفصل الأوّل ٣

ضرورة معرفة القرآن ٤

أقسام معرفة القرآن أوّلاً: المعرفة الإسناديّة أو الانتسابيّة: ٧

ثانياً : المعرفة التحليليّة: ١٤

ثالثاً : المعرفة الجذريّة : ١٦

أصالة ثلاثيّات المعرفة في القرآن * الأصالة الأولى هي أصالة الانتساب : ١٨

* الأصالة الثانية ، أصالة المواضيع : * الأصالة الثالثة هي أصالة القرآن الإلهيّة : ١٩

شروط التعرّف على القرآن * أحد الشروط الضروريّة لمعرفة القرآن : معرفة اللغة العربيّة :

* الشرط الآخر : هو الإلمام بتاريخ الإسلام : ٢٠

* الشرط الثالث : ٢١

هل يمكن معرفة القرآن ٢٦

الفصل الثاني ٣٦

المعرفة التحليليّة للقرآن * يجب أنْ نلاحظ تعريف القرآن لذات الله : ٣٧

* الموضوع الآخر والمعروض في القرآن هو موضوع العالَم.يجب أنْ نلاحظ نظرة القرآن حول العالم : * ومن المسائل العامّة الواردة في القرآن ، مسألة الإنسان ، يجب علينا أنْ نحلّل رأي القرآن بالنسبة للإنسان : * المسألة الأخرى هي مسألة المجتمع البشري : * وبهذه المناسبة ، يأتي الحديث عن التأريخ : ٣٨

* وهناك مواضيع كثيرة جدّاً وردتْ في القرآن ، نُشير إلى بعض منها بإيجاز ، من ضمن هذه المواضيع : * وبالطبع ، فإنّ لكلّ هذه البحوث الكلّيِّة شعب وفروع ( مختلفة ) ، فمثلاً : كيف يعرّف القرآن نفسه ؟ * إنّ أوّل ٣٩

٩٢

* نقطة يُصرّح بها القرآن - لدى التعريف عن نفسه - : * والتوضيح الآخر الذي يعرضه القرآن في تعريف نفسه : ٤٠

التعرّف على لغة القرآن ٤٢

المخاطبون في القرآن ٥٥

الفصل الثالث ٦٠

فطرة القرآن عن العقل ٦١

دلائل حجِّيَّة العقل ١ - الدعوة إلى التعقّل من قِبل القرآن : * وعلى سبيل المثال أذكر نموذجاً لإحدى التعابير العجيبة للقرآن ، يقول القرآن : ٦٢

* وفي آية أخرى ‎ ، يبحث ضمن عرض مسألة ٦٣

توحيديّة ، حول ( التوحيد الأفعالي والتوحيد الفاعلي ) ، بقوله : * وهناك آيات كثيرة أخرى يصادق القرآن على حجِّيَّة العقل فيها بالدلالة الالتزاميّة - إذا دلّ وجود أمر على أمر آخر ، تُطلق عليه اسم الدلالة - وللدلالة أنواع : ٦٤

٢ - الاستفادة من نظام العلّة والمعلول : ٦٥

٣ - فلسفة الأحكام : ٦٨

٤ - النضال مع انحرافات العقل : ٦٩

مواطن الخطأ من وِجهة نظر القرآن * من مواطن الخطأ التي يذكرها القرآن : ٧٣

نظرة القرآن عن القلب ٧٨

تعريف القلب ٧٩

خصائص القلب ٨١

الفهرس ٩٢

٩٣