مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن0%

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 221

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 221
المشاهدات: 47498
تحميل: 5185

توضيحات:

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47498 / تحميل: 5185
الحجم الحجم الحجم
مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف:
العربية

الدرس الثامن:

قلنا: بأنّ توضيح واقع هذه السنّة القرآنية في سنن التاريخ يتطلب مِنّا أن نُحلِّل عناصر المجتمع:

* ما هي عناصر المجتمع من زاوية نظر القرآن الكريم؟

* ما هي مقومات المركّب الاجتماعي؟

* كيف يتم التنفيذ بين هذه العناصر والمقوّمات وضمن أي إطارٍ وأي سننٍ؟

هذه الأسئلة نحصل على جوابها في النص القرآني الشريف الذي تحدّث عن خلق الإنسان الأوّل:

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) (١) .

حينما نستعرض هذه الآية الكريمة نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يُنَبِّأُ الملائكة بأنّه قرَّر إنشاء مجتمع على الأرض.

* فما هي العناصر التي تتحدّث عن هذه الحقيقة العظيمة؟ هناك ثلاثة عناصر يمكن استخلاصها من العبارة القرآنية:

____________

(١) سورة البقرة: الآية (٣٠).

١٠١

١ - الإنسان.

٢ - الأرض أو الطبيعة على وجهٍ عام

( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) . فهناك أرض أو طبيعة على وجه عام، وهناك الإنسان الذي يجعله الله سبحانه وتعالى على الأرض.

٣ - العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالأرض وبالطبيعة، وتربط من ناحية أخرى الإنسان بأخيه الإنسان، هذه العلاقة المعنوية التي سماها القرآن الكريم بالاستخلاف.

هذه هي عناصر المجتمع: الإنسان والطبيعة والعلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالطبيعة من ناحيةٍ، وتربط الإنسان بأخيه الإنسان من ناحيةٍ أخرى، وهي العلاقة التي سُمِّيَتْ قرآنياً بالاستخلاف.

ونحن حينما نلاحظ المجتمعات البشرية نجد أنّها جميعاً تشترك بالعنصر الأوّل والعنصر الثاني. فلا يوجد مجتمع بدون إنسان يعيش مع أخيه الإنسان، ولا يوجد مجتمع بدون أرض أو طبيعة يمارس الإنسان عليها دوره الاجتماعي. وفي هذين العنصرين تتفق المجتمعات التاريخية والبشرية.

وأمّا العنصر الثالث: ففي كلِّ مجتمعٍ علاقةٌ كما ذكرنا، ولكن المجتمعات تختلف طبيعة هذه العلاقة، وفي كيفية صياغتها.

فالعنصر الثالث هو العنصر المَرِن والمتحرِّك من

١٠٢

عناصر المجتمع، وكل مجتمع يبني هذه العلاقة بشكل قد يتّفق وقد يختلف مع طريقة بناء المجتمع الآخر لها.

وهذه العلاقة لها صيغتان:

* إحداهما: صيغة رباعية، وقد أُطلق عليها اسم ( الصيغة الرباعية ).

* والأخرى: صيغة ثلاثية.

الصيغة الرباعية: ( هي الصيغة التي ترتبط بموجبها الطبيعة والإنسان مع الإنسان ). هذه أطراف ثلاثة، فالعلاقة إذن اتخذتْ صيغةً تربط بموجبها بين هذه الأطراف وهي: الطبيعة والإنسان مع أخيه الإنسان، ولكن مع افتراض طرف رابع أيضاً.

الصيغة الرباعية تربط بين هذه، وهذا الطرف الرابع ليس داخلاً في إطار المجتمع، وإنّما خارج عن إطاره. ولكن الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية تعتبر هذا الطرف الرابع مقوِّماً من المقوِّمات الأساسية للعلاقة الاجتماعية على رغم خروجه خارج إطار المجتمع، وهذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية ذات الأبعاد الأربعة هي التي طرحها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف.

الاستخلاف إذن: ( هو العلاقة الاجتماعية من زاوية نظر القرآن الكريم ). وعند تحليل الاستخلاف نجد أنّه ذو أربعة أطراف؛ لأنّه يَفترض مستخلِفاً أيضاً.

لا بدّ من مستخلِفٍ، ومستَخْلَفٍ عليه، ومستخلَف. فهناك

١٠٣

إضافةً إلى الإنسان وأخيه الإنسان والطبيعة، يوجد طرفٌ رابع في طبيعة وتكوين علاقة الاستخلاف وهو المستخلِف؛ إذ لا استخلاف بدون مستخلِف، فالمستخلِف هو الله سبحانه وتعالى، والمستخلَف هو الإنسان وأخوه الإنسان، أي الإنسانية ككل الجماعة البشرية، والمستخلَف عليه هو الأرض وما عليها ومَن عليها.

فالعلاقة الاجتماعية ضمن صيغة الاستخلاف تكون ذات أطراف أربعة، وهذه الصيغة تنطبق بوجهة نظرٍ معيّنة نحو الحياة والكون، بوجهة نظرٍ قائلة: بأنّه لا سيدَ ولا إلهَ للكون وللحياة إلاّ الله سبحانه وتعالى، وأنّ دور الإنسان في ممارسة حياته إنّما هو دور الاستخلاف والاستئمان.

وأي علاقة تنشأ بين الإنسان والطبيعة فهي في جَوهرها ليست علاقة مالك بمملوك وإنّما هي علاقة أمين على أمانة استُؤمِنَ عليها، وأي علاقة تنشأ بين الإنسان وأخيه الإنسان - مهما كان المركز الاجتماعي لهذا أو لذاك - فهي علاقة استخلاف وتفاعل بقدر ما يكون هذا الإنسان مؤدِّياً لواجبه بهذه الخلافة، وليس علاقة سِيَادَة أو الُوهِيَّة أو مالكيّة.

هذه الصيغة الاجتماعية الرباعية الأطراف التي صاغها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف ترتبط بوجهة النظر المعينة للحياة والكون. في مقابلها يوجد للعلاقة الاجتماعية صيغة ثلاثية الأطراف، صيغة تربط بين

١٠٤

الإنسان والإنسان والطبيعة، ولكنّها تقطع صلة هذه الأطراف مع الطرف الرابع، تجرّد تركيب العلاقة الاجتماعية عن البُعد الرابع، عن الله سبحانه وتعالى، وبهذا تتحوّل نظرة كل جزء إلى الجزء الآخر داخل هذا التركيب وداخل هذه الصيغة.

وجدت الألوان المختلفة للمِلْكية والسيادة، سيادة الإنسان على أخيه الإنسان بأشكالها المختلفة التي استعرضها التاريخ بعد أن عطّل البُعد الرابع، وبَعْد أنْ افتُرض أنّ البداية هي الإنسان، حينئذٍ تنوّعتْ على مسرح الصيغة الثلاثية أشكال المِلكية وأشكال السيادة، سيادة الإنسان على أخيه الإنسان.

وبالتدقيق في المقارنة بين الصيغتين، الصيغة الرباعية والصيغة الثلاثية يتضح:

أنّ إضافة الطرف الرابع للصيغة الرباعية ليس مجرد إضافة عدديّة، ليس مجرد طرف جديد يُضاف إلى الأطراف الأخرى، بل إنّ هذه الإضافة تُحدِث تغييراً نوعياً في بُنْية العلاقة الاجتماعية وفي تركيب الأطراف الثلاثة الأخرى نفسها، ليس هذا مجرد عملية جمع ثلاثة زائد واحد، بل هذا الواحد الذي يُضاف إلى الثلاثة سوف يُعطي للثلاثة روحاً أُخرى ومفهوماً آخر، سوف يُحدث تغييراً أساسياً في بُنْية هذه العلاقة ذات الأطراف الأربعة كما رأينا؛

١٠٥

إذْ يعود الإنسان مع أخيه الإنسان مجرد شركاء في محلّ هذه الأمانة والاستخلاف، وتعود الطبيعة - بكل ما فيها مِن ثروات وبكل ما عليها ومَن عليها - مجرد أمانة، لابدّ من رعاية واجبها وأداء حقّها. هذا الطرف الرابع هو في الحقيقة مُغيِّر نوعي لتركيب العلاقة.

إذنْ، أمامنا للعلاقة الاجتماعية صيغتان: صيغة رباعية وصيغة ثلاثية، والقرآن الكريم آمن بالصيغة الرباعية كما رأينا في الآية الكريمة.

الاستخلاف هو الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية لكن القرآن الكريم أكثر مِن أنّه آمن بالصيغة الرباعية، في المقام أعتبر الصيغة الرباعية سنّة من سنن التاريخ، كما رأينا في الآية السابقة كيف اعتبر الدين سنّة من سنن التاريخ، كذلك اعتبر الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية التي هي صيغة الدين في الحياة، اعتبر هذه العلاقة بصيغتها الرباعية سنّة من سنن التاريخ. كيف؟

هذه الصيغة الرُباعية عرضها القرآنُ الكريم على نَحوَين:

* عرضها تارةً بوصفها فاعلية ربّانية مِن زاوية دَور الله سبحانه وتعالى في العطاء. وهذا هو العرض الذي قرأناه:

( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ). هذه العلاقة الرُباعية معروضة في هذا النص الشريف باعتبارها عطاءً من الله، جَعْلاً من الله، يُمثِّل الدور

١٠٦

الإيجابي والتكريمي من ربِّ العالمين للإنسان.

* وعرض الصيغة الرباعية نفسها من زاوية أخرى، عرضها بوصفها وبنحو ارتباطها مع الإنسان بما هي أمر يتقبّله الإنسان، عرضها من زاوية تقبّل الإنسان لهذه الخِلافة، وذلك في قوله سبحانه وتعالى:

( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (١) .

الأمانة: هي الوجه التقبُّلي للخلافة.

الخلافة: هي الوجه الفاعلي والعطائي للأمانة.

الأمانة والخلافة: عبارة عن الاستِخلاف والاستِئمان وتحمّل الأعباء، عبارة عن الصيغة الرباعية.

* وهذه تارة نلحظها من زاوية ربْطها بالفاعل، وهو الله سبحانه وتعالى بقوله:

( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) .

* وأخرى نلحظها من زاوية القابل كما يقول الفلاسفة، من ناحية دَور الإنسان في تقبّل هذه الخلافة وتحمل هذه الأمانة، وذلك بقوله تعالى:

( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ... ) . وهذه الأمانة التي تقبّلها الإنسانُ وتحمّلها حينما عُرضت عليه بعض هذه الآية الكريمة، هذه الأمانة أو هذه الخلافة أو بالتفسير الذي قلناه: هذه العلاقة الاجتماعية بصيغتها الرباعية، لم تُعرض على الإنسان بوصفها

____________

(١) سورة الأحزاب: الآية (٧٢).

١٠٧

تكليفاً أو طلباً،

* ليس المقصود من عرضها على الإنسان هو العرض على مستوى التكليف والطلب،

* وليس المقصود من تقبّل هذه الأمانة هو تقبّل هذه الخلافة على مستوى الامتثال والطاعة، ليس المفروض أنْ يكون هكذا العرض وأنْ يكون هكذا التقبّل، بقرينة:

أنّ هذا العرض كان معروضاً على الجبال أيضاً، على السماوات والأرض أيضاً، فمن الواضح أنّه لا معنى لتكليف السماوات والجبال والأرض.

نعرف من ذلك أنّ هذا العرض ليس عرضاً تشريعيّاً، هذا العرض معناه أنّ هذه العَطيّة الربّانية كانت تفتِّش عن الموضع المُنْسجِم معها بطبيعته، بفطرته، بتركيبه التاريخي والكوني.

الجبال لا تنسجم مع هذه الخلافة، السماوات والأرض لا تنسجم مع هذه العلاقة الاجتماعية الرباعية، الإنسان هو الكائن الوحيد الذي - بحكم تركيبه، وبحكم بُنْيته، وبحكم فطرة الله التي قرأْناها في الآية السابقة - كان مُنْسجِماً مع هذه العلاقة الاجتماعية ذات الأطراف الأربعة، والتي تصبح أمانة وخِلافة.

إذنْ، العرض هنا عرض تكويني، والقبول هنا قبول تكويني، وهو معنى سنّة التاريخ، يعني: أنّ هذه العلاقة الاجتماعية ذات الأطراف الأربعة داخلةٌ في تكوينة الإنسان وفي تركيب مسار الإنسان الطبيعي والتاريخي.

ونلاحظ أنّه في

١٠٨

هذه الآية الكريمة أيضاً جاءت الإشارة إلى هذه السنّة التاريخية وأنّها سنّة من الشكل الثالث، سنّة تَقْبل التحدِّي وتقبل العصيان. ليست من تلك السنن التي لا تقبل التحدِّي أبداً ولو لِلَحظة، لا، هي سنّةٌ، فطرةٌ، ولكن هذه الفطرة تقبل التحدّي.

كيف أشار القرآن الكريم إلى ذلك بعد أنْ أوضح أنّها سنّة من سنن التاريخ؟ قال:

( وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) . هذه العبارة الأخيرة:

( إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) . تأكيدٌ على طابع هذه السنّة، وأنّ هذه السنّة على الرغم من أنّها سنّة من سنن التاريخ ولكنّها سنّة تَقْبل التحدِّي، تقبل أنْ يقف الإنسان منها موقفاً سلبيّاً. هذا التعبير يوازي تعبير:

( وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) في الآية السابقة.

إذنْ، الآية السابقة استخلصنا منها:

* أنّ الدين سنّة من سنن الحياة ومن سنن التاريخ. ومن هذه الآية نستخلص:

* أنّ صيغة الدين للحياة التي هي عبارة عن العلاقة الاجتماعية الرباعية، العلاقة الاجتماعية ذات الأطراف الأربعة التي يسمِّيها القرآن بالخلافة والأمانة والاستخلاف، هذه العلاقة الاجتماعية هي أيضاً بدورها سنّة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم.

فالحقيقة أنّ الآية الأولى والآية الثانية متطابقتان تماماً في مفادهما؛ لأنّه في الآية الأولى قال:

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ

١٠٩

الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (١) .

التعبيرُ بالدين القيِّم تأكيدٌ على أنّ ما هو الفطرة، وما هو داخل في تكوين الإنسان وتركيبه وفي مسار تاريخه هو الدين القيِّم، يعني أنْ يكون هذا الدِّين قيِّماً على الحياة، أنْ يكون مُهَيْمِنَا على الحياة، هذه القيمومة في الدّين هي التعبير المُجمَل في تلك الآية عن العلاقة الاجتماعية الرباعية التي طُرِحَتْ في الآيتين، في آية:

( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) . وآية:

( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) .

فالدين سنّة الحياة والتاريخ، الدين يدخل فيها بُعْداً رابِعاً؛ لكي يحدث تغييراً في بُنْيَة هذه العلاقة، لا لكي تكون مجرّد إضافة عددية.

هذه مفاهيم القرآن الكريم مستخلصة من هذه الآيات عن هذه السنة، أمّا كيف؟

* نريد أنْ نتعرّف بصورة أوضح وأوسع عن هذه السنّة.

* عن دور التاريخ كسنّة.

* عن دور الدِّين القيِّم، ودور الخلافة والأمانة.

* عن دور العلاقة الاجتماعية ذات الأطراف الأربعة. دور الطرف الرابع:

* ما هو دوره كسنّة من سنن التاريخ.

* وكيف كان سنّة من سنن التاريخ؟

* وكيف كان مقوّماً أساسياً لمسار الإنسان على الساحة التاريخية؟ لكي نتعرف على

____________

(١) سورة الروم: الآية (٣٠).

١١٠

ذلك لا بدّ من أنْ نتعرّف على الرُكنين الثابتين في العلاقة الاجتماعية، هناك ركنان ثابتان في العلاقة الاجتماعية:

* أحدهما: الإنسان وأَخُوه الإنسان.

* والآخر: الطبيعة، الكون، والأرض.

هذان الركنان داخلان في الصيغة الثلاثية، وداخلان في الصيغة الرباعية، ومن هنا نسمِّيهما بالركنين الثابتين في العلاقة الاجتماعية. لكي نعرف دور الركن الجديد ودور هذا الركن الجديد، دور هذا الطرف الرابع، دور الله سبحانه وتعالى في تركيب العلاقة الاجتماعية، يجب أنْ نعرف - مقدّمةً لذلك - دور الركنين الثابتين.

* ما هو دور الإنسان في عمليّة التاريخ من زاوية النظرة القرآنية، من زاوية النظرة للقرآن والفهم الرباني من القرآن للتاريخ وسنن الحياة؟

* ما هو دور الإنسان في العلاقة الاجتماعية؟

* وما هو دور الطبيعة في العلاقة الاجتماعية؟

على ضوء تشخيص هذين الدورَين وتحديد هذين الموقفين سوف يتّضح حينئذٍ دور هذا الطرف الجديد، دور الطرف الرابع الذي تتميّز به الصيغة الرُباعية عن الصيغة الثلاثية. ويتّضح أنّ هذا الطرف الرابع عنصرٌ ضروري بحكم سنّة التاريخ وتركيب خلقة الإنسان، ولابدّ وأنْ يَنْدمج مع الأطراف الأخرى لتكوين علاقة

١١١

اجتماعية رباعيّة الأطراف.

إذنْ، ففهم هذه السنّة التاريخية يتطلّب منّا أنْ نتحدّث عن دور الإنسان والطبيعة في عملية التاريخ من زاوية نظر القرآن الكريم، وهذا ما سيأتي إنْ شاء الله.

١١٢

الدرس التاسع:

قلنا في ما سبق: إنّ اكتشاف الأبعاد الحقيقية لدور الدين في حركة التاريخ والمسيرة الاجتماعية للإنسان، يتوقّف على تحقيق وتقييم دور العنصرَين أو الركنَين الثابتَين في الصيغة وهما: الإنسان والطبيعة.

الآن نتحدّث عن الإنسان ودور الإنسان في الحركة التاريخية من زاوية مفهوم القرآن الكريم.

من الواضح على ضوء المفاهيم التي قرأناها سابقاً أنّ الانسان أو المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ.

وأنّنا ذكرنا أنّ حركة التاريخ تتميّز عن كل الحركات الأخرى بأنّها حركة غائية لا سببية فقط، ليست مشدودة إلى سببها، إلى ماضيها، بل هي مشدودة إلى الغاية؛ لأنّها حركةٌ هادفة، لها علة غائية متطلِّعة إلى المستقبل.

فالمستقبل هو المحرِّك لأي نشاط من النشاطات التاريخية، والمستقبل معدوم فعلاً، وإنّما

١١٣

يحرِّك من خلال الوجود الذهني الذي يتمثّل فيه هذا المستقبل.

إذن، فالوجود الذهني هو الحافز والمحرِّك والمدار لحركة التاريخ، وهذا الوجود الذهني يجسِّد من ناحيةٍ:

* جانباً فكرياً، وهو الجانب الذي يضم تصورات الهدف.

* وأيضاً يمثّل من جانبٍ آخر: الطاقة والإرادة التي تحفِّز الإنسان نحو هذا الهدف.

إذن، هذا الوجود الذهني الذي يجسّد المستقبل المحرّك يعبِّر بجانبٍ منه عن: الفكر. وفي جانب آخر منه عن: الإرادة. وبالامتزاج بين الفكر والإرادة تتحقّق فاعلية المستقبل ومحرِّكيّته للنشاط التاريخي على الساحة الاجتماعية.

وهذان الأمران: الفكر والإرادة، هما في الحقيقة المحتوى الداخلي الشعوري للإنسان. إنّه يتمثّل في هذين الركنَين الأساسيين وهما الفكر والإرادة. إذنْ، المحتوى الداخلي للإنسان هو الذي يصنع هذه الغايات ويجسّد هذه الأهداف من خلال مَزْجَهُ بين فكرةٍ وإرادةٍ.

وبهذا صحّ القول بأنّ المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس لحركة التاريخ. والبناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات ومن أنظمة ومن أفكار وتفاصيل، هذا البناء العلوي في الحقيقة مرتبِط بهذه القاعدة في المحتوى الداخلي للإنسان، ويكون تغيّره وتطوّره تابعاً لتغيّر هذه القاعدة وتطورها، فإذا تغيّر الأساس تغيّر

١١٤

البناء العلوي، وإذا بقي الأساس ثابتاً، بقي البناء العلوي ثابتاً.

فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان والبناء الفَوقي والتاريخي للمجتمع، هذه العلاقة علاقةٌ تبعيّة، أي علاقة سبب بسبب. هذه العلاقة تمثل سنة تاريخية تقدم الكلام عنها في قوله سبحانه وتعالى:

( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (١) .

هذه الآية واضحة جداً في المفهوم الذي أعطيناه، وهو أنّ المحتوى الداخلي للإنسان هو القاعدة والأساس للبناء العلوي، للحركة التاريخية؛ لأنّ الآية الكريمة تتحدّث عن تغييرَين:

* أحدهما تغيير القول:

( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ) .

يعني تغيير أوضاع القوم، شؤون القوم، الأبنية العلوية للقوم، ظواهر القوم، هذه لا تتغيّر حتى يتغيّر ما بأنفس القوم.

إذنْ، التغيير الأساس هو تغيير ما بـ ( نفس القوم ) والتغيير النابع المترتِّب على ذلك هو تغيير حالة القوم النوعية والتاريخية والاجتماعية.

ومن الواضح أنّ المقصود من تغيير ما بالأنفس: تغيير ما بأنفس القوم، بحيث يكون المحتوى الداخلي للقوم كقومٍ، وكأمَّةٍ، وكشجرةٍ مباركةٍ تُؤْتي أُكُلها كل حين، متغيِّراً، وإلاّ تغيُّر الفرد الواحد أو الفردَين أو الأفراد الثلاثة

____________

(١) سورة الرعد: الآية (١١).

١١٥

لا يشكّل الأساس لتغيّر ما بالقوم، وإنّما يكون تغيّر ما بالقوم تابعاً لتغيّر ما بأنفسهم كقومٍ، وكأمّةٍ، وكشجرة مباركة تؤتي أُكلها كل حين.

فالمحتوى النفسي والداخلي للأمّة كأمّة لا لهذا الفرد أو لذلك الفرد، هو الذي يعتبر أساساً وقاعدة للتغييرات في البناء العلوي للحركة التاريخية كلها.

والإسلام والقرآن الكريم يؤمن بأنّ العمليّتَين يجب أنْ تسيرا جنباً إلى جنب في عملية صُنع الإنسان لمحتواه الداخلي وبناء الإنسان لنفسه ولفكره ولإرادته ولطموحاته.

هذا البناء الداخلي يجب أنْ يسير جنباً إلى جنب مع البناء الخارجي، مع الأبنية العلوية، ولا يمكن أنْ يفترض انفكاك البناء الداخلي عن البناء الخارجي، إلاّ إذا بقي البناء الخارجي بناءً مهزوزاً متداعياً.

ولهذا سَمَّى الإسلامُ عمليةَ بناء المحتوى الداخلي إذا اتجهت اتجاهاً صالحا بـ ( الجهاد الأكبر ). وسَمّى عمليةَ البناء الخارجي إذا اتجهت اتجاهاً صالحاً بعملية ( الجهاد الأصغر ). ورَبَطَ الجهاد الأصغر بالجهاد الأكبر، واعتبر أنّ الجهاد الأصغر إذا فُصِل عن الجهاد الأكبر فَقَدَ مُحتواه ومضمونه، بل فقد قدرته على التغيير الحقيقي على الساحة التاريخية والاجتماعية.

إذنْ هاتان العمليّتان يجب أنْ تسيرا جنباً إلى جنب. فإذا

١١٦

انفكّت إحداهما عن الأخرى فقدتْ حقيقتها ومحتواها وسَمَّى الإسلامُ العمليةَ الأولى - عمليةَ بناءِ المحتوى الداخلي - بـ ( الجهاد الأكبر ) تأكيداً على الصفة الأساسية للمحتوى الداخلي وتوضيحاً لهذه الحقيقة، حقيقة أنّ المحتوى الداخلي للإنسان هو الأساس، ولهذا سُمِّي بالجهاد الأكبر. فإذا بقي الجهاد الأصغر منفصلاً عن الجهاد الأكبر، حينئذٍ لا يحقِّق ذلك في الحقيقة أيّ مضمون تغييري صالح.

القرآن الكريم يعرض لحالة من حالات انفصال عملية البناء الخارجي عن عملية البناء الداخلي، قال سبحانه وتعالى:

( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ) (١) .

يريد أنْ يقول بأنّ الإنسان إذا لم ينفذ بعملية التغيير إلى قلبه وإلى أعماق روحه، إذا لم يَبْنِ نفسه بناءً صالحاً لا يمكنه أبداً أنْ يطرح الكلمات الصالحة، التي يمكن أنْ تتحوّل إلى بناءٍ صالح في المجتمع إذا نَبَعَتْ عن قلبٍ يعمر بالقِيَم التي تدلّ عليها تلك الكلمات، وإلاّ فتبقى الكلمات مجرد ألفاظ جوفاء دون أنْ يكون لها مضمون ومحتوى. فمسألة القلب هي التي

____________

(١) سورة البقرة: الآية (٢٠٤ - ٢٠٥).

١١٧

تعطي للكلمات معناها، وللشعارات أبعادها، ولعملية البناء الخارجي أهدافها ومسارها.

إلى هنا عرفنا أنّ الأساس في حركة التاريخ هو المحتوى الداخلي للإنسان. وهذا المحتوى الداخلي للإنسان يشكّل القاعدة. الآن نتساءل:

* ما هو الأساس في هذا المحتوى الداخلي نفسه؟

* ما هي نقطة البدء في بناء هذا المحتوى الداخلي للإنسان؟

* وما هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسان؟

هو المثل الأعلى.

عرفنا أنّ المحتوى الداخلي للإنسان يجسّد الغايات التي تحرّك التاريخ، يجسِّدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الإرادة بالتفكير، وهذه الغايات التي تحرِّك التاريخ يحدّدها المثل الأعلى، فإنّها جميعاً تنبثق عن وجهة نظر رئيسية إلى مثلٍ أعلى للإنسان في حياته، للجماعة البشرية في حياتها. وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدّد الغايات التفصيلية، وينبثق عنه هذا الهدف الجزئي وذلك الهدف الجزئي.

فالغايات بنفسها محرّكة للتاريخ، وهي بدورها نتاج لقاعدة أعمق منها في المحتوى الداخلي للإنسان، وهو المثل الأعلى الذي تتمحْور فيه كلُّ تلك الغايات، وتعود إليه كل تلك الأهداف، فبقدر ما يكون المثل الأعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتدّاً تكون الغايات صالحة وممتدّة،

١١٨

وبقدر ما يكون هذا المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة أيضاً.

إذنْ، المثل الأعلى هو:

* نقطة البدء في بناء المحتوى الداخلي للجماعة البشرية.

* وهذا المثل الأعلى يرتبط في الحقيقة بوجهة نظر عامّة إلى الحياة والكون، يتحدّد من قِبَل كل جماعة بشرية على أساس وجهة نظرها العامّة نحو الحياة والكون. على ضوء ذلك تحدِّد مَثَلها الأعلى.

* ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع ذلك المثل الأعلى ومع وجهة نظرها إلى الحياة والكون تُحقِّق إرادتها للسير نحو هذا المثل، وفي طريق هذا المثل.

إذن هذا المثل الأعلى هو في الحقيقة أيضاً يتجسّد من خلال رؤية فكرية، ومن خلال طاقة روحية تزحف بالإنسان في طريقه، وكل جماعة اختارت مثلها الأعلى فقد اختارت في الحقيقة سبيلها وطريقها ومنعطفات هذا السبيل وهذا الطريق.

كما رأينا أنّ الحركة التاريخية تتميّز عن أيّ حركة أخرى في الكون بأنّها:

* حركة غائية وهادفة.

* وكذلك تتميّز وتتمايز الحركات التاريخية أنفسها بعضها عن بعض بمثلها العليا. فلكل حركة تاريخية مثلها الأعلى، وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدّد الغايات والأهداف، وهذه الأهداف والغايات هي التي تحدد النشاطات والتحركات ضمن مسار ذلك المثل الأعلى.

والقرآن الكريم والتعبير الديني يطلق على المثل الأعلى في

١١٩

جملة من الحالات اسم: ( الإله ) باعتبار أنّ المثل الأعلى هو القائد الآمر المطاع الموجّه. هذه صفات يراها القرآن للإله، ولهذا يعبّر عن كل من يكون مثل أعلى، كل ما يمثّل مركز المثل الأعلى، يعبّر عنه بالإله؛ لأنّه هو الذي يصنع مسار التاريخ، حتى ورد في قوله سبحانه وتعالى:

( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) (١) .

عبّر حتى عن الهوى حينما يتصاعد تصاعداً مصطَنعاً، فيصبح هو المثل الأعلى، وهو الغاية القصوى، لهذا الفرد أو لذاك، عبّر عنه بأنّه إله. فالمثل العليا بحسب التعبير القرآني والديني هي آلهة في الحقيقة؛ لأنّها هي المعبودة حقّاً وهي الآمرة والناهية حقّاً وهي المحرِّكة حقّاً، فهي آلهة في المفهوم الديني والاجتماعي.

وهذه المثل العليا التي تتبنّاها الجماعات البشرية على ثلاثة أقسام:

* القسم الأوّل: المثل الأعلى الذي يستمد تصوّره من الواقع نفسه، ويكون منتزعاً من واقعٍ ما، تعيشه الجماعة البشرية من ظروف وملابسات، أي أنّ الوجود الذهني الذي صاغ المستقبل هنا، لم يستطع أنْ يرتفع على هذا الواقع، بل انتزع مثله الأعلى من هذا الواقع بحدوده، وبقيوده، وبشؤونه.

وحينما يكون المثل الأعلى منتزعاً عن واقع الجماعة بحدودها وقيودها

____________

(١) سورة الفرقان: الآية (٤٣).

١٢٠