مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن0%

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 221

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 221
المشاهدات: 47502
تحميل: 5185

توضيحات:

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47502 / تحميل: 5185
الحجم الحجم الحجم
مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف:
العربية

المحدود، حينما تصل البشرية إلى النقطة التي أثارت هذه المثل، يتحوّل هذا المثل إلى واقع محدود بحسب الخارج، حينئذٍ يصبح مثلاً تكرارياً.

من هنا قلنا في ما سبق: إنّنا لو رجعنا خطوة إلى الوراء بالنسبة إلى آلهة النوع الأوّل، مُثل النوع الأوّل، لو رجعنا إلى الوراء لوجدنا آلهة النوع الثاني، فالمسألة في كثير من الأحيان تبدأ هكذا:

* تبدأ بمثل أعلى له طموح مشتق من طموح مستقبلي.

* ثم يتحوّل هذا المثل الأعلى إلى مثل تكراري.

* ثم يتمزّق هذا المثل التكراري - كما قلنا - وتتحوّل الأمّة إلى شبح أمة.

في هذه الفترة الزمنية تمرّ الأمّة بمراحل في الحقيقة يمكننا تلخيصها في أربعة مراحل:

المرحلة الأولى:

هي مرحلة فاعلية هذا المثل بحكم أنّه قد بدأ مشتقّاً من طموح مستقبلي، ولكن طبعاً هذه الفاعلية وهذا العطاء هو عطاء يسمِّيه القرآن بالعاجل، هذه المكاسب عاجلة وليست مكاسب على الخط الطويل. عاجلة؟

- لأنّ عُمْر هذا المثل قصير.

- وعطاءه محدود.

- لأنّ هذا المثل سوف يتحوّل في لحظة من اللحظات إلى قوّة إبادة لكل ما أعطاه من مكاسب؛ ولهذا يسمى بالعاجل.

انظروا إلى قوله تعالى:

( مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ

١٤١

مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١) .

الله سبحانه وتعالى خيرٌ محض، عطاء محض، جود كلّه، فبقدر ما تتبنّى الأمّة مثلاً قابلاً للتحريك، الله سبحانه وتعالى أيضاً يعطي، لكنّه يعطي بقدر قابليّة هذا المثل، يعطي شيئاً عاجلاً لا أكثر.

في حالة من هذا القبيل تكون السلطة التي تمثّل هذا المثل ذات مثل أعلى، ذات مثل يعطي ويبدع، وتكون قيادة موجّهة للأمّة في حدود هذا المثل، وتكون للأمّة دور المشاركة في صنع هذا المثل، وفي تحقيق هذا المثل.

هذه المرحلة سوف تؤدي إلى مكاسب، ولكنّها في النظر القرآني العميق الطويل الأمد مكاسب عاجلة تعقبها جهنّم، جهنّم في الدنيا وجهنّم في الآخرة. هذه المرحلة الأولى، مرحلة الإبداع والتجديد.

المرحلة الثانية:

حينما يتجمّد هذا المثل الأعلى، حينما يستنفذ طاقته وقدرته على العطاء، حينئذٍ يتحوّل هذا المثل إلى تمثال، والقادة الذين كانوا يعطون ويوجِّهون على أساسه يتحوَّلون إلى سادة وكُبَراء لا إلى قادة، وجمهور الأمّة يتحوّل إلى مطيعين ومنقادين لا إلى مشاركين في الإبداع

____________

(١) سورة الإسراء: الآية (١٨ - ٢٠).

١٤٢

والتطوير. وهذه المرحلة هي المرحلة التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله:

( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ ) (١) .

ثم تأتي المرحلة الثالثة:

مرحلة الامتداد التاريخي لهؤلاء. هذه السلطة تتحوّل إلى طبقة، بعد ذلك تتوارث مقاعدها عائليّاً أو طَبَقِيّاً وراثياً بشكل من أشكال الوراثة، وحينئذٍ تصبح هذه الطبقة هي:

- الطبقة المترفة، المنعّمة.

- الخالية من الأغراض الكبيرة.

- المشغولة بهمومها الصغيرة. وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله:

( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) (٢) .

هؤلاء امتداد تاريخي لآباء لهم تاريخ، وهم امتداد تاريخي، وهذا الامتداد التاريخي تحوّل من مستوى مُثُل وعطاء إلى مستوى طبقة مترفة تتوارث هذا المقعد بشكل من أشكال التوارث. هذه هي المرحلة الثالثة.

المرحلة الرابعة:

ثم حينما تتفتّت الأمّة، حينما تتمزّق الأمّة، حينما تفقد ولاءها لذلك المثل التكراري على ضوء ما قلناه، تدخل في مرحلة رابعة وهي أخطر المراحل.

ففي هذه المرحلة يسيطر عليها مجرموها، يسيطر عليها أُناس لا يرعون إلاًّ ولا ذِمَّة، وهذا ما عبّر

____________

(١) سورة الأحزاب: الآية (٦٧).

(٢) سورة الزخرف: الآية (٢٣).

١٤٣

عنه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى:

( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ... ) (١) . حينئذ يسيطر مجموعة من هؤلاء المجرمين.

يسيطر ( هتلر ) والنازية مثلاً في جزء من أوروبا؛ لكي يحطّم كلَّ ما في أوروبا من خير وكل ما فيها أوروبا من إبداع، لكي يقضي على كل تبعات ذلك المثل الأعلى الذي رفعه الإنسان الأوروبي الحديث، والذي تحوّل بالتدريج إلى مثل تكراري، ثم تفسَّخ هذا المثل لكنْ بقيتْ مكاسبه في المجتمع الأوروبي. يأتي شخص كهتلر؛ لكي يُمزِّق كلّ تلك المكاسب ويقضي عليها.

الآن نصل إلى النوع الثالث من المثل العليا وهو الله سبحانه وتعالى. في هذا المثل التناقض الذي واجهناه سوف يُحَل بأروع صورة، كنّا نجد تناقضاً، وحاصل هذا التناقض هو:

* إنّ الوجود الذهني للإنسان محدود، والمثل يجب أنْ يكون غير محدود، فكيف يمكن توفير المحدود وغير المحدود؟

* وكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود؟

هذا التنسيق سوف نجده في المثل الأعلى الذي هو الله سبحانه وتعالى.. لماذا؟

لأنّ هذا المثل الأعلى ليس من نتاج الإنسان، ليس إفرازاً ذهنيّاً للإنسان، بل هو مثل أعلى

____________

(١) سورة الأنعام: الآية (١٢٣).

١٤٤

عيني، له واقع عيني. هو:

- موجود مطلق في الخارج.

- له قدرته المطلقة.

- وله علمه المطلق.

- وله عدله المطلق.

هذا الوجود العيني بواقعه العيني يكون مثلاً أعلى؛ لأنّه مطلق، لكن الإنسان حينما يريد أنْ يستلهم من هذا النور، حينما يريد أنْ يمسك بحزمة من هذا النور، طبعاً هو لا يمسك إلاّ بالمقيّد، إلاّ بقدر محدود من هذا النور، إلاّ أنّه يميّز بين ما يمسك به وبين مثله الأعلى، المثل الأعلى خارج حدود ذهنه، لكنّه يمسك بحزمة من النور، هذه الحزمة مقيّدة لكن المثل الأعلى مطلق.

ومن هنا حرص الإسلام على التمييز دائماً بين الوجود الذهني وما بين الله سبحانه وتعالى الذي هو المثل الأعلى. فرّق حتى بين الاسم والمُسمّى، وأكّد على أنّه لا يجوز عبادة الاسم، وإنّما تكون العبادة للمسمَّى؛ لأنّ الاسم ليس إلاّ وجوداً ذهنيّاً، إلاّ واجهة ذهنية لله سبحانه وتعالى.

بينما الواجهات الذهنية دائماً محدودة، العبادة يجب أنْ تكون للمسمّى لا للاسم؛ لأنّ المسمَّى هو المطلق، أمّا الاسم فهو مقيّد ومحدود. الواجهات الذهنية تبقى كواجهات ذهنيّة محدودة مرحليّة، وأمّا صفة المثل الأعلى فتبقى قائمة بالله سبحانه وتعالى.

١٤٥

الدرس الحادي عشر:

قال الله سبحانه وتعالى:

( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (١) .

هذه الآية الكريمة تضع الله سبحانه وتعالى هدفاً أعلى للإنسان، والإنسان هنا بمعنى: الإنسانية ككل. فالإنسانية بمجموعها تكدح نحو الله سبحانه وتعالى.

والكدح هنا - كدح الإنسانية ككل - نحو الله سبحانه وتعالى، يعني: ( السير المستمر بالمعاناة والجهد والمجاهدة ) لأنّ هذا السير ليس سيراً اعتيادياً، بل هو سير ارتقائي، هو تصاعد وتكامل، هو سير تسلّق.

فهؤلاء الذين يتسلّقون الجبال ليصلوا إلى القمم يكدحون نحو هذه القمم، يسيرون سير معاناة وجهد، كذلك الإنسانية حينما تكدح نحو الله فإنّما هي تتسلّق إلى قمم كمالها وتكاملها وتطورها إلى الأفضل

____________

(١) سورة الانشقاق: الآية (٦).

١٤٦

باستمرار.

وهذا السير الذي يحتوي على المعاناة باستمرار يفترض طريقاً لا محالة، فإنّ السير نحو هدف يفترض حتماً طريقاً ممتدّاً بين السائر وبين ذلك الهدف.

وهذا الطريق هو الذي تحدّثت عنه الآيات الكريمة في المواضع المتفرِّقة تحت اسم: سبيل الله، واسم الصراط، واسم صراط الله. هذه الصيغ القرآنية المتعدّدة كلّها تتحدّث عن الطريق الذي يفترضه ذلك السير، وكما أنّ السير يفترض الطريق، كذلك الطريق يفترض السير أيضاً، وهذه الآية الكريمة:

( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) . تتحدّث عن حقيقة قائمة، عن واقع موضوعي ثابت، فهي ليست بصدد دعوة الناس إلى أنْ يسيروا في طريق الله سبحانه وتعالى، ليست بصدد الطلب والتحريك، كما هو الحال في آيات أخرى في مقامات وسياقات قرآنية أخرى.

الآية القرآنية الكريمة لا تقول يا أيّها الناس تعالوا إلى سبيل الله، توبوا إلى الله، بل تقول:

( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) . لغةُ الآيةِ لغةُ التحدّث عن واقع ثابت، وحقيقة قائمة، وهي أنّ كل سير وكل تَقدُّم للإنسان في مسيرته التاريخية الطويلة الأَمَد، فهو تَقدُّم نحو الله سبحانه وتعالى، وسير نحو الله

١٤٧

سبحانه وتعالى، حتى تلك الجماعات التي تمسّكت بالمثل المنخفضة وبالآلهة المصطنعة، واستطاعتْ أنْ تحقِّق لها سيراً ضمن خطوة على هذا الطريق الطويل، حتى هذه الجماعات التي يسمِّيها القرآن بـ ( المشركين ) هم يسيرون هذه الخطوة نحو الله، هذا التقدُّم بقدر فاعليَّته وبقدر زخمه هو اقتراب نحو الله سبحانه وتعالى، لكن هناك فرق بين تقدّم مسؤول وتقدّم غير مسؤول على ما يأتي شرحه إنْ شاء الله.

حينما تتقدّم الإنسانية في هذا المفاض، واعيةً على المثل الأعلى وعياً موضوعياً، يكون التقدّم تقدّماً مسؤولاً، يكون عبادة بحسب لغة الفقه، لوناً من العبادة، يكون له امتداد على الخط الطويل، وانسجام مع الوضع العريض للكون.

وأما حينما يكون التقدّم منفصلاً عن الوعي على ذلك المثل فهو تقدّم على أي حال، سير نحو الله على أي حال، ولكنّه تقدّم غير مسؤول على ما يأتي تفصيله.

إذاً، كل تقدّم هو تقدم نحو الله، حتى أولئك الذين ركضوا وراء سراب كما تحدّثت الآية الكريمة فإنّ هؤلاء الذين يركضون وراء السراب الاجتماعي، وراء المُثُل المنخفضة، حينما يصلوا إلى هذا السراب لا يجدون شيئاً، ويجدون الله سبحانه وتعالى فَيُوَفِّيْهِم حسابهم، كما تتحدّث الآية الكريمة التي قرأْناها فيما سبق. والله

١٤٨

سبحانه وتعالى هو نهاية هذا الطريق ولكنّه ليس نهاية جغرافيّة، ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافيّة للطرق الممتدّة مكانيّاً. كربلاء مثلاً نهاية طريق ممتد بين النجف وكربلاء، كربلاء بمعناها المكاني نهاية جغرافية، ومعنى أنّها نهاية جغرافيّة: أنّها موجودة على آخر الطريق، ليست موجودة على طول الطريق.

لو أنّ إنساناً سار نحو كربلاء ووقف في نصف الطريق، لا يحصل على شيء من كربلاء، لا يحصل على حفنة من تراب كربلاء إطلاقاً؛ لأنّ كربلاء نهاية جغرافية موجودة في آخر الطريق، ولكن الله سبحانه وتعالى ليس نهاية على نمط النهايات الجغرافية.

الله سبحانه وتعالى هو المطلق، هو المثل الأعلى، أي المطلق الحقيقي العيني، وبحكم كونه هو المطلق، إذاً:

- هو موجود على طول الطريق أيضاً.

- ليس هناك فراغ منه.

- ليس هناك انحسار عنه.

- ليس هناك حدّ له.

- الله سبحانه وتعالى هو نهاية الطريق، ولكنّه موجود أيضاً على طول الطريق، مَن وصل إلى نصف الطريق، مَن وصل إلى سرابه فتوقّف واكتشف أنّه سراب، ماذا يجد؟

ماذا وجد في الآية؟

وجد الله فوفاه الله حسابه؛ لأنّ المطلق موجود على طول الطريق، وبقدر زخم الطريق، وبقدر التقدّم في الطريق، يجد الإنسان مثله الأعلى، يَلقَى الله سبحانه وتعالى

١٤٩

أينما توقّف بحجم سيره، وبحجم تقدّمه على هذا الطريق.

وبحكم أنّ الله سبحانه وتعالى هو المطلق، إذاً، الطريق أيضاً لا ينتهي هذا الطريق، طريق الإنسان نحو الله هو اقتراب مستمِر بقدر التقدّم الحقيقي نحو الله.

ولكن هذا الاقتراب يبقى اقتراباً نِسْبياً، يبقى مجرّد خطوات على الطريق من دون أنْ يجتاز هذا الطريق؛ لأنّ المحدود لا يصل إلى المطلق. الكائن المتناهي لا يمكن أنْ يصل إلى اللامتناهي، فالفسحة الممتدة بين الإنسان وبين المثل الأعلى هنا فسحة لا متناهية، أي أنّه ترك له مجال الإبداع إلى اللانهاية، مجال التطور التكاملي إلى اللانهاية، باعتبار أنّ الطريق الممتد طريق لا نهائي.

وهذا المثل الأعلى الحقيقي حينما تتبنّاه المسيرة الإنسانية، وتُوفِّق بين وَعْيِها البشري والواقع الكوني الذي يفترض هذا المثل الأعلى حقيقةً قائمةً كما افترضتْه الآية، المسيرة الإنسانية حينما توفّق بين وَعْيِها على المسيرة وبين الواقع الكوني لهذه المسيرة، بوصفها سائرة ومتَّجِهة نحو الله، سوف يحدث تغييرٌ ( كَيْفِي وكَمِّي ) على هذه المسيرة، هذه الحركة سوف يحدث فيها تغيير كيفي وكمي.

* أمّا التغيّر الكمِّي على هذه الحركة فهو باعتبار ما أشرنا إليه مِن أنّ الطريق حينما يكون طريقاً إلى المثل الأعلى الحق يكون طريقاً غير

١٥٠

متناهي، أي أنّ مجال التطوّر والإبداع والنمو، قائم أبداً ودائماً، مفتوح للإنسان باستمرار من دون توقّف، هذا المثل الأعلى حينما يتبنّى سوف نمسح من الطريق كل الآلهة المزوَّرة، كل الأصنام وكل الأقزام المتصنّمة على طريق الإنسان، التي تقف عقبةً بين الإنسان وبين وصوله إلى الله سبحانه وتعالى.

ومن هنا كان دين التوحيد صراعاً مستمرّاً مع مختلف أشكال الآلهة والمثل المنخفضة والتكراريّة التي حاولت أنْ تحدِّد من كمِّية الحركة إلى نقطة، ثم تقول: قف أيّها الإنسان.

هذه الآلهة التي أرادت أنْ تُوقِف الإنسان في وسط الطريق وفي نقطة معيّنة، كان دين التوحيد على مرّ التاريخ هو حامل لواء المعركة ضدَّها.

هذا المثل الأعلى إذاً، سوف يُحدِث تغييراً كمِّيّاً على الحركة؛ لأنّه يطلقها من عقالها، يطلقها من هذه الحدود المصطَنَعَة لكي تسير باستمرار.

* وأما التغيير الكيفي الذي يحدثه المثل الأعلى على هذه المسيرة فهذا التغيير الكيفي هو إعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الإنساني، للتناقض الإنساني، إعطاء الشعور بالمسؤولية الموضوعية لدى الإنسان، الإنسان من خلال إيمانه بهذا المثل الأعلى ووعيه على طريق بحدوده الكونيّة الواقعيّة، من خلال هذا الوعي ينشأ بصورة موضوعية شعورٌ معمّق لديه بالمسؤولية تجاه

١٥١

هذا المثل الأعلى لأوّل مرّة في تاريخ المُثُل البشريّة التي حرّكت البشر على مرّ التاريخ، لماذا؟

لأنّ هذا المثل الأعلى حقيقة وواقع عَيْنِي منفصل عن الإنسان، وبهذا يعطي للمسؤولية شرطها المنطقي، فإنّ المسؤولية الحقيقية لا تقوم إلاّ بين جهتين، بين مسؤول و مسؤول لديه، إذا لم تكن هناك جهة أعلى من هذا الكائن المسؤول، وإذا لم يكن هذا الكائن المسؤول مؤمناً بأنّه بين يديه جِهَة أعلى، لا يمكن أنْ يكون شعوره بالمسؤولية شعوراً موضوعياً، شعوراً حقيقياً.

مثلاً تلك المثل المنخفضة، تلك الآلهة، تلك الأقزام المُتَعَمْلِقَة على مرِّ التاريخ، على مرِّ المسيرة البشرية، هي في الحقيقة لم تكن كما رأينا وكما حلّلنا إلاّ إفرازاً بشرياً، إلاّ إنتاجاً إنسانياً، يعني أنّها جزء من الإنسان، جزء من كيان الإنسان، والإنسان يمكن أنْ يستشعر بصورة موضوعية حقيقة المسؤولية تجاه ما يفرزه، هو اتجاه ما يصنعه هو،

( إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا ).

تلك المثل لا تصنع الشعور الموضوعي بالمسؤولية، نعم قد تصنع قوانين، قد تصنع عادات، قد تصنع أخلاق، ولكنّها كلها عطاء ظاهري، وكلّما وجد هذا الإنسان مجالاً للتحلّل من هذه العادات، ومن هذه الأخلاق، ومن هذه القوانين، فسوف يتحلّل.

١٥٢

بينما المثل الأعلى لدين التوحيد، للأنبياء على مرّ التاريخ باعتباره واقعاً عينياً منفصلاً عن الإنسان، باعتباره جهة أعلى من الإنسان ليست إفرازاً بشرياً، ليست انتاجاً إنسانياً.

إذاً، سوف يتوصّل للشعور بالمسؤولية شرطُه الموضوعي في المقام،

* لماذا كان الأنبياء على مرّ التاريخ أصلاب الثوار على الساحة التاريخية أنظف الثوار على الساحة التاريخية؟

* لماذا كانوا على الساحة التاريخية فوق كل مساومة، فوق كل مهادنة، فوق كل تململ يمنة أو يسرة؟ لماذا كانوا هكذا؟

* لماذا انهار كثيرٌ من الثوّار على مرّ التاريخ، ولم يُسمع أنّ نبيّاً من أنبياء التوحيد انهار أو تململ أو انحرف يمنة أو يسرة عن الرسالة التي بيده، وعن الكتاب الذي يحمله من السماء؟

لأنّ المثل الأعلى المنفصل عنه الذي فوقه هو الذي أعطاه نفحة موضوعية من الشعور بالمسؤولية، وهذا الشعور بالمسؤولية تجسّد في كل كيانه، في كل مشاعره وأفكاره وعواطفه. ومن هنا كان النبي معصوماً على مرّ التاريخ.

إذاً هذا المثل الأعلى بحسب الحقيقة يحدث تغييراً كيفيّاً على المسيرة؛ لأنّه يعطي الشعور بالمسؤولية، وهذا الشعور بالمسؤولية ليس أمراً عرضياً، ليس أمراً ثانويّاً في مسيرة الإنسان، بل هو شرط أساسي في إمكان إنْجاح

١٥٣

هذه المسيرة وتقديم الحل الموضوعي للتناقض الإنساني، للجدل الإنساني؛ لأنّ الإنسان يعيش تناقضاً، بحسب تركيبه وخلقته؛ لأنّه هو تركيب من حفنة من تراب ونفخة من روح الله سبحانه وتعالى كما وصفت ذلك الآيات الكريمة.

الآيات الكريمة قالت: بأنّ الإنسان خُلق من تراب، وقالت: بأنّه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى.

إذاً فهو مجموع نقيضين اجتمعا والتحما في الإنسان.* حفنة التراب:

- تجرّه إلى الأرض.

- تجرّه إلى الشهوات إلى الميول.

- تجرّه إلى كل ما ترمز إليه الأرض من انحدار وانحطاط.

* وروح الله سبحانه وتعالى التي نفخها فيها:

- تجرّه إلى أعلى.

- تتسامى بإنسانيته إلى حيث صفات الله، إلى حيث أخلاق الله.

- تتخلّق بأخلاق الله، إلى حيث:

العلم الذي لا حدّ له.

والقدرة التي لا حدّ لها.

إلى حيث العدل الذي لا حدّ له.

إلى حيث الجود والرحمة والانتقام، إلى حيث هذه الأخلاق الإلهية.

هذا الإنسان واقع في تيّار هذا التناقض، في تيّار هذا الجدل بحسب محتواه النفسي، بحسب تركيبه الداخلي، هذا الجدل وهذا التناقض الذي احتوته طبيعة الإنسان وشرحتْه قصةُ آدم - على ما يأتي إنْ شاء الله تعالى - هذا الجدل الإنساني له حل واحد فقط، هذا الحل الواحد

١٥٤

الذي يمكن أنْ يفرض لهذا التناقض هو الشعور بالمسؤولية، لا الشعور المنبثق عن هذا الجدل، فإنّ الشعور المنبثق عن نفس هذا الجدل لا يحلّ هذا الجدل، بل هو يساهم في إفراز هذا التناقض، وهذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية لا يكفلّه إلاّ المثل الأعلى الذي يكون جهة عُلْيَا، يحسّ الإنسان من خلالها بأنّه بين يدي ربّ قادر سميع بصير محاسب مجازِ على الظلم، مجاز على العدل.

إذاً، هذا الشعور الموضوعي بالمسؤولية الذي هو التغيّر الكيفي على المسيرة، هو في الحقيقة الحل الوحيد للتناقض وللجدل الذي تستبطنه طبيعة الإنسان وتركيب الإنسان.

دور دين التوحيد إذاً، هو عبارة عن: تعبيد هذا الطريق الطويل الطويل، تعبيده وإزالة العوائق من خلال تنمية الحركة كمّياً وكيفيّاً، ومحاربة تلك المثل المصطنعة والمنخفضة والتكرارية التي تريد أنْ تجمد الحركة من ناحية، وأنْ تُعرِّيها من الشعور بالمسؤولية من ناحية أخرى، ومن هنا كان حرب الأنبياء - كما أشرنا - كان حرب الأنبياء مع الآلهة المصطَنعة على مرّ التاريخ.

ولما كان كل مثل من هذه المثل العُليا التي تتحوّل إلى تمثال ضمن ظروف تطوّرها بالشكل الذي شرحناه فيما سبق، حينما تتحوّل إلى تمثال نجد في مجموعة من الناس، تجد فيهم مدافعين طبيعيين عنها؛ باعتبار أنّ مجموعة من الناس ترتبط مصالحهم، وترفهم، وكيانهم المادِّي

١٥٥

والدنيوي ببقاء هذا المثال، الذي تحوّل إلى تمثال.

ولهذا يقف دائماً هؤلاء الذين يرتبطون مصلحيّاً بهذا التمثال، يقفون دائماً في وجه الأنبياء؛ ليدافعوا عن مصالحهم، عن دنياهم، عن ترفهم.

ومن هنا أبرز القرآنُ الكريم سنّةً من سنن التاريخ، وهي: أنّ الأنبياء دائماً كانوا يواجهون المترفين من مجتمعاتهم كقطب آخر من المعارضة مع هذا النبي؛ لأنّ هذا المُتْرف المستفيد من هذا المثال بعد أنْ تحوّل إلى ذلك التمثال، هذا المثال تحوّل إلى تمثال فمَنْ هو المستفيد منه؟

المستفيد منه المترفون في ذلك المجتمع، المنعمون على حساب الناس الذين يجعلون من هذا التمثال مبرراً لوجودهم، من هنا يكون من الطبيعي أنّ هؤلاء المترفين وهؤلاء المستفيدين تجدهم دائماً في الخط المُعارِض للأنبياء:

( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) (١).

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ) (٢) .

( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَ

____________

(١) سورة الزخرف: الآية (٢٣).

(٢) سورة سبأ: الآية (٣٤).

١٥٦

يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ) (١).

( وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) (٢) .

إذاً، دين التوحيد هو الذي يستأصل مصالح هؤلاء المترفين، بالقضاء على آلهتهم وعلى مُثُلهم التي تحوّلت إلى تماثيل، يقطع صلة البشرية بهذه المثل العُليا المنخفضة، ولكنّه لا يقطع صلتها بهذه المُثُل العُليا المنخفضة لكي يطأ برأسها في التراب، لكي يحوّلها إلى كومة مادّية ليس لها أشواق، ليس لها طموحات، ليس لها تطلّعات إلى أعلى كما هو شأن الثوار الماديين الذين يستلهمون من المادّية التاريخية ومن الفهم المادي للتاريخ، أولئك أيضاً يحاربون هذه الآلهة المصطَنعة ويسمّونها( أفيون الشعوب ) ونحن أيضاً نحارب هذه الآلهة المصطَنعة، ولكنّنا نحن نحاربها:

- لا لكي نحوّل الإنسان إلى حيوان.

- لا لكي نقطع صلة الإنسان بأشواقه العليا.

- لا لكي نحوّل مسار

____________

(١) سورة الأعراف: الآية (١٤٦).

(٢) سورة المؤمنون: الآية (٣٣).

١٥٧

الإنسان من أعلى إلى أسفل.

وإنّما نقطع صلة الإنسان بهذه المُثل المنخفضة؛ لكي نشدّه إلى المثل الأعلى، لكي نشدّه إلى الله سبحانه وتعالى.

وتبني المسيرة البشرية لهذا المَثَل الأعلى الحق الذي يُحدث هذه التغيرات الكيفيّة والكمِّية على اتجاه المسيرة وحجمها، تَبَنِّي المسيرة البشرية لهذا المثل يتوقف على عدّة أمور:

١ - على رؤية واضحة فكرياً وإيديولوجيّاً لهذا المثل الأعلى.

وهذه الرؤية الواضحة لهذا المَثل الأعلى هو الذي تقدِّمه عقيدة التوحيد على مرّ التاريخ، عقيدة التوحيد التي تنطوي على الإيمان بالله سبحانه وتعالى، التي تُوحِّد بين كل المُثل، بين كل الغايات وكل الطموحات وكل التطلعات البشرية، وتوحِّد بينها في هذا المثل الأعلى الذي هو علم كلّه، وقدرة كلّه، وعدل كلّه ورحمة، كلّه انتقام من الجبارين.

هذا المثل الأعلى الذي تتوحَّد فيه كل الطموحات وكل الغايات، هذا المثل الأعلى تعطينا عقيدةُ التوحيد رؤيةً واضحة له، تُعلِّمنا على أنْ نتعامل مع صفات الله وأخلاق الله، بوصفها حقائق عينيّة منفصلة عنّا، كما يتعامل فلاسفة الإغريق، وإنّما نتعامل مع هذه الصفات والأخلاق بوصفها رائداً عملياً، بوصفها هدفاً لمسيرتنا العملية، بوصفها مؤشرات على الطريق الطويل للإنسان نحو الله

١٥٨

سبحانه وتعالى. عقيدة التوحيد هي التي توفِّر هذا الشرط الأوّل وهو الرؤية الواضحة فكريّاً وإيديولوجيّاً للمثل الأعلى.

٢- لابدّ من طاقة روحية مُستمَدّة من هذا المثل الأعلى؛ لكي تكون هذه الطاقة الروحية رصيداً ووقوداً مستمراً للإرادة البشرية على مرّ التاريخ.

هذه الطاقة الروحية، هذا الوقود الذي يستمد من الله سبحانه وتعالى يتمثّل في عقيدة يوم القيامة، في عقيدة الحشر والامتداد، عقيدة يوم القيامة تعلّم الإنسان أنّ هذه الساحة التاريخية الصغيرة التي يلعب عليها الإنسان مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بساحات برزخية وبساحات حشرية في عالم البرزخ والحشر. وأنّ مصير الإنسان على تلك الساحات العظيمة الهائلة مرتبطٌ بدوره على هذه الساحة التاريخية. هذه العقيدة تعطي تلك الطاقة الروحية وذلك الوقود الربّاني الذي ينعش إرادة الإنسان، ويحقّق له دائماً قدرته على التمديد والاستمرار.

٣ - إنّ هذا المثل الأعلى - الذي تحدّثنا عنه - يختلف عن المثل العليا الأخرى التكرارية والمنخفضة التي تحدثنا عنها سابقاً على أساس:

- أنّ هذا المثل منفصلٌ عن الإنسان.

- ليس جزءً من الإنسان.

- ليس من إفراز الإنسان.

- بل هو منفصل عنه. هو واقعٌ عَيْنِي قائم هناك، قائم في كل

١٥٩

مكان وليس جزءً من الإنسان، هذا الانفصال يفرض وجود صلة موضوعية بين الإنسان وهذا المثل الأعلى.

بينما الـمُثُل الأخرى السابقة كانت إنسانية، كانت إفرازاً بشريّاً لا حاجة إلى افتراض صِلة موضوعية، نعم هناك طواغيت وفراعنة على مرّ التاريخ نصبوا من أنفسهم صِلات موضوعية بين البشرية وبين آلهة الشمس، آلهة الكواكب، ولكنّها صلة موضوعية مزيَّفة؛ لأنّ هذا الإله هناك كان وهماً، كان وجوداً ذهنيّاً، كان إفرازاً إنسانياً، أمّا هنا فالمثل الأعلى منفصل عن الإنسان، ولهذا كان لابدّ من صلة موضوعية تربط هذا الإنسان بذلك المثل الأعلى.

وهذه الصلة الموضوعية تتجسّد في النبي في دور النبوة، فالنبي:

هو ذلك الإنسان الذي يركّب بين الشرط الأوّل والشرط الثاني بأمر الله سبحانه وتعالى، بين رؤية إيديولوجية واضحة للمثل الأعلى وطاقة روحيّة مُستمدَّة من الإيمان بيوم القيامة، يركّب بين هذين العنصرين ثم يجسّد بدَوْر النبوة الصلةَ بين المَثَل الأعلى والبشرية،ليحمل هذا المركّب إلى البشرية بشيراً ونذيراً.

٤ - البشريّة بعد أنْ تدخل مرحلة يسمِّيها القرآن مرحلة الاختلاف - على ما يأتي إنْ شاء الله شرحه في الدروس القادمة -سوف لن يكفي مجيء البشير النذير .

١٦٠