مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن0%

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 221

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 221
المشاهدات: 47500
تحميل: 5185

توضيحات:

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47500 / تحميل: 5185
الحجم الحجم الحجم
مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف:
العربية

لأنّ مرحلة الاختلاف تعني مرحلة انتصاب تلك المُثُل المنخفضة أو التكرارية، تعني وجود تلك الآلهة المزوَّرة على الطريق، وجود تلك الحواجب والعوائق عن الله سبحانه وتعالى.

إذاً، لابدّ للبشرية من أنْ تخوض معركة ضد الآلهة المُصْطَنَعَة، ضد تلك الطواغيت والمُثُل المنخفضة التي تنصب من نفسها قيِّماً على البشرية، وحاجب وقاطع طريق بالنسبة للمسيرة التاريخية، لابدّ من معركة ضد هذه الآلهة، لابدّ من قيادة تتبنَّى هذه المعركة، وهذه القيادة هي الإمامة، هي دور الإمام، الإمام هو القائد الذي يتولّى هذه المعركة.

ودور الإمامة يندمج مع دور النبوة في مرحلة من مراحل النبوة، يتحدّث عنها القرآن، وسوف نتحدّث عنها إنْ شاء الله تعالى، ونقول: بأنّها بدأت في أكبر الظن مع نوح عليه الصلاة والسلام، ودور الإمام يندمج مع دور النبوة ولكنّه يمتد حتى بعد النبي إذا ترك النبي الساحة وبعد لا تزال المعركة قائمة، ولا تزال الرسالة بحاجة إلى مواصلة، هذه المعركة من أجل القضاء على تلك الآلهة، حينئذٍ يمتدّ دور الإمامة بعد انتهاء النبي. هذا هو الشرط الرابع في تبني المسيرة التاريخية لهذا المثل الأعلى.

على هذا الضوء سوف نُكَوِّن رؤية واضحة لِمَا نُسمِّيه ( الأصول الخمسة ) سوف تقع أُصول الدين الخمسة في موقعها الطبيعي، الصحيح،

١٦١

السليم من مسار الإنسان، أصول الدين الخمسة:

* التوحيد:

هو الذي يعطي الرؤية الواضحة فكريّاً وإيديولوجياً، هو الذي يجمع ويعبّئ كل الطموحات وكل الغايات في مثل أعلى واحد، وهو الله سبحانه وتعالى.

* العدل:

هو جانب من التوحيد، ولكن إنّما فُصِلَ: العدلُ صفةٌ من صفات الله سبحانه وتعالى، حال العدل حال العلم، حال القدرة، لا يوجد ميزة عقائديّة في العدل في مقابل العلم، في مقابل القدرة، ولكنّ الميزة هنا ميزة اجتماعية، ميزة القدوة؛ لأنّ العدل هو الصفة التي تعطي للمسيرة الاجتماعية وتغنيها، والتي تكون المسيرة الاجتماعية بحاجة إليها أكثر من أي صفة أخرى.

أُبرز العدل هنا كأصل ثاني من أصول الدين باعتبار المدلول التوجيهي، باعتبار المدلول التربوي لهذه الصفة، قلنا بأنّ صفات الله وأخلاق الله علّمنا الإسلام بان لا نتعامل معها كحقائق عينية ميتافيزيقية فوقنا لا صلة لنا بها، وإنّما نتعامل معها كمؤشّرات وكمنارات على الطريق.

إذاً، من هنا كان العدل له مدلوله الأكبر بالنسبة إلى توجيه المسيرة البشرية، ولأجل ذلك أُفرز. وإنّ العدل في الحقيقة هو داخل في إطار التوحيد العام، في إطار المثل الأعلى.

١٦٢

* الأصل الثالث النبوّة:

النبوّة: هي التي توفّر الصلة الموضوعية بين الإنسان وبين المثل الأعلى. المسيرة البشرية كما قلنا حينما تبنَّتْ المثل الأعلى - الحق المنفصل عنها الذي ليس من إفرازها ومن إنتاجها المنخفض - كانت بحاجة إلى صلة موضوعية، هذه الصلة الموضوعية يجسّدها النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) النبي على مر التاريخ، الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الذين يُجسِّدون هذه الصلة الموضوعية.

الإمامة:

الإمامة: هي في الحقيقة تلك القيادة التي تندمج مع دور النبوة، النبي هو إمام أيضاً، النبيُّ نبيٌّ والنبيُّ إمامٌ، ولكن الإمامة لا تنتهي بانتهاء النبي إذا كانت المعركة قائمة وإذا ما كانت الرسالة لا تزال بحاجة إلى قائد يواصل المعركة. إذاً، سوف يستمر هذا الجانب من دور النبي خلال الإمامة، فالإمامة هو الأصل الرابع من أصول الدين.

والأصل الخامس هو إيمان بيوم القيامة: هو الذي يوفّر الشرط الثاني من الشروط الأربعة التي تقدّمت، هو الذي يعطي تلك الطاقة الروحية، ذلك الوقود الربّاني الذي يجدّد دائماً إرادة الإنسان وقدرة الإنسان ويوفر الشعور بالمسؤولية والضمانات الموضوعية.

إذاً، أصول الدين في الحقيقة

١٦٣

وبالتعبير التحليلي - على ضوء ما ذكرناه - هي كلّها عناصر تساهم في تركيب هذا المثل الأعلى، وفي إعطاء تلك العلاقة الاجتماعية بصفتها التاريخية، بصفتها القرآنية الرباعية التي تحدّثنا عنها في الدروس الماضية.

تحدّثنا بأنّ القرآن الكريم طرح العلاقة الاجتماعية ذات أربعة أبعاد لا ذات ثلاثة أبعاد، طرحها بصيغة الاستخلاف، وشرحنا في ما سبق صيغة الاستخلاف وقلنا: بأنّ الاستخلاف يفترض أربعة أبعاد، يفترض إنساناً، وطبيعة، والله سبحانه وتعالى وهو المستخلف. هذه الصيغة الرباعية للعلاقة الاجتماعية هي التعبير الآخر عن صيغة تدمج أصول الدين الخمسة في مركّب واحد، من أجل أنْ يسير الإنسان ويكدح نحو الله سبحانه وتعالى في طريقه الطويل.

بما ذكرناه توضّح دور الإنسان في المسيرة التاريخية، توضّح:

- أنّ الإنسان هو مركز الثقل في المسيرة التاريخية.

- هو مركز الثقل لا بجسمه الفيزيائي وإنّما بمحتواه الداخلي، وهذا المحتوى الداخلي توضّح أيضاً من خلال ما شرحناه.

- أنّ الأساس في بناء هذا المحتوى الداخلي هو المثل الأعلى الذي يتبنّاه الإنسان؛ لأنّ المثل الأعلى هو الذي تنبثق منه كل الغايات التفصيليّة.

١٦٤

- والغايات التفصيلية هي المحرّكات التاريخية للنشاطات على الساحة التاريخية.

إذاً، المثل الأعلى وتبنّي المثل الأعلى هو في الحقيقة الأساس في بناء المحتوى الداخلي للإنسان، ومن هنا ظهر دور هذا البعد الرابع.

١٦٥

الدرس الثاني عشر:

مقدمة في تحليل عناصر المجتمع

إنّ المجتمع يتكوّن من ثلاثة عناصر وهي:

١- الإنسان.

٢- والطبيعة.

٣- والعلاقة في الحلقة التاريخية.

وقد تحدّثنا عن الإنسان ودوره الأساسي في الحلقة التاريخية، وتحدّثنا عن الطبيعة وشأنها على الساحة التاريخية، وبقي علينا أنْ نأخذ العنصر الثالث وهو: العلاقة الاجتماعية؛ لنحدد موقفنا من هذه العلاقة الاجتماعية على ضوء ما انتهينا إليه من مواقف قرآنيّة تجاه دور الإنسان والطبيعة على الساحة التاريخية.

العنصر الثالث هو العلاقة الاجتماعية، وقد تقدّم أنّ العلاقة الاجتماعية تتضمّن علاقتين مزدوجتين:

* إحداهما: علاقة الإنسان مع الطبيعة.

* والأخرى: علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان.

هذان خطّان من العلاقة الاجتماعية، وهذان الخطّان نؤمن بأنّ كلّ واحد منهما مختلف عن الآخر، ومستقلّ استقلالاً نسبيّاً عن الآخر مع

١٦٦

شيء من التفاعل والتأثير المتبادل المحدود الذي سوف نشرحه بعد ذلك إنْ شاء الله تعالى من حيث الأساس.

هذان الخطّان أحدهما مختلف عن الآخر ومستقلّ استقلالاً نسبيّاً عنه، تبعاً للاختلاف النوعي في طبيعة المشكلة التي يواجهها كل واحد من هذين الخطّين ونوع الحل الذي ينسجم مع طبيعة تلك المشكلة.

فالخط الأوّل:

الذي يمثّل علاقات الإنسان مع الطبيعة من خلال استثمارها، ومحاولة تطويعها، وإنتاج حاجاته الحياتية منها. هذا الخط يواجه مشكلة وهي مشكلة التناقض بين الإنسان والطبيعة، ويعني تمرّد الطبيعة وتعصّيها عن الاستجابة للطلب الإنساني وللحاجة الإنسانية من خلال التفاعل ما بينهما. هذا التناقض بين الإنسان والطبيعة هو المشكلة الرئيسية على هذا الخط.

وهذا التناقض له حلّ من قانون موضوعي يمثّل سنّة من سنن التاريخ الثابتة، وهذا القانون هو قانون التأثير المتبادَل بين الخبرة والممارسة؛ ذلك لأنّ الإنسان كلّما تضاءل جهله بالطبيعة، وكلّما ازدادت خبرته بِلُغَتِهَا وبقوانينها ازدادت سيطرةً عليها وتمكّناً من تطويعها وتذليلها لحاجاته، وحيث إنّ كل خبرة هي تتولّد في هذا الحقل عادة من الممارسة، وكل ممارسة تولّد بدورها خبرة، ولهذا كان قانون التأثير المتبادَل بين الخبرة

١٦٧

والممارسة قانوناً موضوعيّاً يَكْفُل حلّ هذا التناقض، يقدّم الحلّ المستمر والمتنامي لهذا التناقض بين الإنسان والطبيعة؛ إذْ يتضاءل جهل الإنسان باستمرار، وتنمو معرفته باستمرار، من خلال ممارسته للطبيعة يكتسب خبرة جديدة، هذه الخبرة الجديدة تعطيه سيطرة على ميدان جديد من ميادين الطبيعة فيمارس على الميدان الجديد، وهذه الممارسة بدورها أيضاً تتحوّل إلى خبرة، وهكذا تنمو الخبرة الإنسانية باستمرار ما لم تقع كارثة كبرى طبيعية أو بَشَريّة.

وهذا القانون بنموّه وبتطبيقاته التاريخية يُعطي الحلول التدريجية لهذه المشكلة، فهي مشكلة محلولة تاريخيّاً ومحلولة موضوعيّاً، ولعلّ في الآية الكريمة:

( وَآتَاكُم مِن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) (١) .

لعل في الآية الكريمة إشارة إلى هذا الحل الموضوعي المستمَد من قانون التأثير المتبادَل بين الخبرة والممارسة؛ لأنّ السؤال في الآية الكريمة:( وَآتَاكُم مِن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) . لا يراد منه الدعاء، طبعاً السؤال اللفظي الذي هو الدعاء؛ لأنّ الآية تتكلّم عن الإنسانية ككل، عمّن يؤمن بالله ومَن لا يؤمن بالله، مَن يدعو الله ومَن لا يدعو الله، كما أنّ الدعاء لا يتضمن حتماً تحصيل الشيء المدعو به، نعم كل دعاء له استجابة،

____________

(١) سورة إبراهيم: الآية (٣٤).

١٦٨

لكن ليس لكل دعاء تحقيق لِمَا تعلّق به الدعاء، بينما هنا يقول:

( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) .

هنا إيتاء، استجابة فعليّة بعطاء ما سُئل عنه، فأكبر الظنّ أنّ هذا السؤال من الإنسانية ككل وعلى مرّ التاريخ وعبر الماضي والحاضر والمستقبل، يتمثّل في السؤال الفعلي والطلب التكويني الذي يحقّق باستمرار التطبيقات التاريخية لقانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة، هذه هي المشكلة التي يواجهها الخط الأوّل من العلاقات، وهذا هو الحل الذي يوضع لهذه المشكلة.

وأمّا الخط الثاني من العلاقات:

- علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان في مجال توزيع الثورة.

- أو في سائر الحقول الاجتماعية.

- أو في أوجه التفاعل الحضاري بين الإنسان وأخيه الإنسان.

فهذا الخط يواجه مشكلة أخرى، ليست المشكلة هنا هي التناقض بين الإنسان والطبيعة بل هي التناقض الاجتماعي بين الإنسان وأخيه الإنسان.

وهذا التناقض الاجتماعي بين الإنسان وأخيه الإنسان يتّخذ على الساحة الاجتماعية صِيَغَاً متعدِّدة وألواناً مختلفة، ولكنّه يظل في حقيقته وجوهره، يظل شيئاً ثابتاً، وحقيقة واحدة، وروحاً عامّة، وهي التناقض ما بين القوي والضعيف، بين كائن في مركز القوّة وكائن في مركز الضعف.

هذا الكائن

١٦٩

الذي هو في مركز القوّة إذا لم يكن قد حلّ تناقضه الخاص، جدله الإنساني من الداخل، فسوف يفرز لا محالة صيغة من صيغ التناقض الاجتماعي، ومهما اختلفت الصيغة في مضمونها القانوني، وفي شكلها التشريعي، وفي لونها الحضاري، فهي بلا شك صيغة من صيغ التناقض بين القوي والضعيف، قد يكون هذا القوي فرداً فرعوناً، قد يكون طبقة، قد يكون شعباً، قد يكون أُمّة.

كل هذه ألوان من التناقض، كلّها تحتوي روحاً واحداً وهي روح الصراع، روح الاستغلال من القوي الذي لم يَحل تناقضه الداخلي وجدله الإنساني، الصراع بينه وبين الضعيف ومحاولة استغلال هذا الضعيف.

هذه أشكال متعدِّدة من التناقض الاجتماعي الذي يواجهه خط العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، وهذه الأشكال المتعدّدة ذات الروح الواحدة كلّها تنبع من مَعِين واحد، من تناقض رئيسي واحد، وهو ذلك الجدل الإنساني - الذي شرحناه - القائم بين حفنة التراب وبين أشواق الله سبحانه وتعالى.

ما لم ينتصر أفضل النقيضين في ذلك الجدل الإنساني، فسوف يظل هذا الإنسان يفرز التناقض تِلْوَ التناقض، والصيغة بعد الصيغة حسب الظروف والملابسات، حسب الشروط الموضوعية ومستوى الفكر والثقافة.

إذاً، النظرة الإسلامية من

١٧٠

زاوية المشكلة التي يواجهها خط العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان:

- نظرة واسعة، منفتحة، مُعمّقة.

- لا تقتصر على لون من التناقض.

- ولا تهمل ألوان أخرى من التناقض.

- بل هي تستوعب كلّ أشكال التناقض على مرّ التاريخ.

- وتَنْفُذُ إلى عُمْقها، وتكشف حقيقتها الواحدة، وروحها المشتركة.

- ثم تربط كل هذه التناقضات، تربطها بالتناقض الأعمق، بالجدل الإنساني.

ومن هنا يؤمن الإسلام بأنّ الرسالة الوحيدة القادرة على حلّ هذه المشكلة التي يواجهها خط علاقات الإنسان مع الإنسان، هو تلك الرسالة التي تعمل على مستوَيَيْن في وقت واحد:

* تعمل مِن أجل تصفية التناقضات الاجتماعية على الساحة.

* لكن في نفس الوقت، وقبل ذلك، وبعد ذلك، تعمل من أجل تصفية ذلك الجدل في المحتوى الداخلي للإنسان، من أجل تجفيف منبع تلك التناقضات الاجتماعية.

ويؤمن الإسلام بأنّ ترك ذلك المَعِين من الجدل والتناقض على حالةٍ، والاشتغال بتصفية التناقضات على الساحة الاجتماعية بصيغتها التشريعية فقط، هذا نصف العمليّة، النصف المبتور من العمليّة؛ إذْ سرعان ما يفرز ذلك المعين صِيَغَاً أخرى، وِفق هذه العملية التي سوف نستأصل بها الصيغ السابقة.

فلا بدّ للرسالة التي تريد أنْ تضع الحل الموضوعي للمشكلة، أنْ تعمل على كلا المستوَيَيْن،

١٧١

أنْ تؤمِن بجهادَيْن، جهاد أكبر سمّاه الإسلام:

* بالجهاد الأكبر:

وهو الجهاد لتصفية ذلك التناقض الرئيسي، لحلّ ذلك الجدل الداخلي.

* وجهاد آخر:

جهاد في وجه كل صيغ التناقض الاجتماعي، وفي وجه كل ألوان استئثار القوي للضعيف، من دون أنْ نحصر أنفسنا في نطاق صيغة معيّنة من صيغ هذا الاستئثار؛ لأنّ الاستئثار جوهرهُ واحد مهما اختلفت صِيَغُه.

هذه هي النظرة المنفتحة الواقعيّة التي أثبتت التجربة البشرية باستمرار انطباقها على واقع الحياة، خلافاً للنظرة الضَيِّقة التي فَسّرت بها المادِّية والثوّار المادِّيون التي فسّروا بها التناقض، فإنّ ( ماركس ) على الرغم من ذكائه الفائق إلاّ أنّه لم يستطع أنْ يتجاوز حدود النظرة التقليدية للإنسان الأوروبّي، كان بحكم كونه فرداً أوروبِّيَّاً، كان رَهِيْن هذه النظرة التقليدية.

الإنسان الأوروبّي دائماً يرى العالم ينتهي حيث تنتهي الساحة الأوروبّية أو الساحة الغربية، بتعبيرٍ أَعَم كما يعتقد اليهود بأنّ الإنسانية هي كلّها في إطارهم:

( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) (١) . أولئك ليسو بشراً، ليسو أُناساً، أولئك أُمّيُّون هَمَجٌ، كذلك الإنسان الأوروبّي اعتاد أنْ يضع الدنيا كلّها في إطار ساحته الأوروبّية والغربية. لم يتخلّص هذا

-ـ-ـ-ـ-ـ-ـ-ـ-

(١) سورة آل عمران: الآية (٧٥).

١٧٢

الرجل(١) من تقاليد هذه النظرة الأوروبّية، كما أنّه لم يتخلّص من هيمنة العامل الطبقي الذي لعب دوراً في أفكار المادّية التاريخية.

ومن هنا جاء لنا بتفسير محدود ضيِّق للتناقض الذي تواجهه الإنسانية على هذا الخط: اعتَقَدَ بأنّ مَرَدّ كل التناقضات على الساحة البشرية إلى تناقض واحد هو( التناقض الطَبَقِي ) .

* التناقض بين طبقة تملك كل وسائل الإنتاج أو معظم وسائل الإنتاج.

* وطبقة لا تملك شيئاً من وسائل الإنتاج، وإنّما تعمل من أجل مصالح الطبقة الأولى، تستثمر في تشغيل وسائل الإنتاج التي تملكها الطبقة الأولى.

ثم هذه الثرْوَة المنتَجَة التي جسّدتْ عَرَق جَبِين هذا العامل المُسْتَغَل، هذه الثورة المنتجَة تستولي عليها الطبقة الأولى المالِكَة ولا تعطي للطبقة الثانية منها إلاّ الحد الأدنى، حدّ الكفاف الذي يضمن استمرار حياة هذه الطبقة لكي تواصل خدمتها وممارستها ضمن إطار الطبقة الأولى.

هذا هو التناقض الطَبَقِي الذي اتخذه قاعدةً وأساساً لكلّ ألوان التناقض الأخرى، وهذا التناقض يتّخذ مدلوله الاجتماعي من خلال صراع مرير بين الطبقة المالكة وبين الطبقة العاملة، وهذا الصراع المرير بين هاتين الطبقَتَين ينمو ويشتدّ كلّما تطوّرت الآلة وكلّما نَمَتْ الآلة الصناعية

____________

(١) يقصد به كارل ماركس.

١٧٣

وتعقّدتْ؛ وذلك لأنّ الآلة كلّما تطوّرت أدّت إلى تخفيض في مستوى المعيشة، وهذا التخفيض في مستوى المعيشة يعطي فرصةً للطبقة الرأسمالية المالِكة في أنْ تخفض أجرَ العامِل؛ لأنّها لا تريد أنْ تعطي العامل أكثر مِمّا يُدِيْم به حياته ونفسه.

* إذاً، باستمرار تتطور الآلة، باستمرار تنخفض كُلفة المعيشة، وباستمرار يخفِّض الرأسمالي أُجرة العامِل، هذا من ناحية.

* من ناحية ثانية إنّ تطوّر الآلة وتعقّدها يقتضي إمكانية التعويض عن العدد الكبير من العمّال بالعدد القليل من العمّال؛ لأنّ دقّة الآلة وعَمْلَقَة الآلة سوف يُعوِّض عن الجزء الآخر من العمّال، وهذا يجعل الطبقة الرأسمالية تَطْرد الفائض من العمّال باستمرار.

وهكذا يشتدّ الصراع بين الطبقتين ويَحْتدِم التناقض حتى ينفجر في ثورة، هذه الثورة تُجَسِّدها الطبقة العامِلَة، تقضي بها على التناقض الطَبَقِي في المجتمع، وتوحِّد المجتمع في طبقة واحده، وهذه الطبقة الواحدة تمثّل حينئذٍ كل أفراد المجتمع، وفي حالة من هذا القبيل سوف تستأصل كل ألوان التناقض؛ لأنّ أساس التناقض هو التناقض الطبقي، فإذا أُزيل التناقض الطبقي زالتْ كلّ التناقضات الأخرى الفرعيّة والثانوية.

هذا تلخيص سريع جدا لوِجْهَة نظر هؤلاء الثوّار تجاه التناقض الذي عالجناه. إلاّ أنّ هذه النظرة الضيِّقة لا

١٧٤

تنسجم في الحقيقة مع الواقع، ولا تنطبق على تيّار الأحداث في التاريخ.

ليس التناقض الطبقي وليد تطوّر الآلة، بل هو وليد الإنسان، هو من صنع الإنسان الأوروبي، ليست الآلة هي التي صنعت استغلال الرأسمالي للعامِل، ليست الآلة هي التي خلقتْ النظام الرأسمالي، وإنّما الإنسان الأوروبي الذي وقعتْ هذه الآلة بيده أفرز نظاماً رأسماليّاً يُجسِّد قِيَمَه في الحياة وتصوّراته للحياة.

- وليس التناقض الطبقي هو الشكل الوحيد من إشكال التناقض، هناك صِيَغ كثيرة للتناقض على الساحة الاجتماعية.

- وليس التناقض الطبقي هو التناقض الرئيسي بالنسبة إلى تلك الأشكال، وإنّما كل هذه الأشكال من التناقض على الساحة الاجتماعية هي وليد تناقض رئيس، وهو جدل الإنسان، هو الجدل المخبوء في داخل محتوى الإنسان، ذاك هو التناقض الرئيس الذي يفرز دائماً وأبداً صِيَغاً متعدِّدة من التناقض.

تعالَوا نلاحظ ونقارن بين هذه النظرة الضيِّقة وبين واقع التجربة البشريّة المعاصِرَة:

* لنرى أيَّ النظريتَين أكثر انطباقاً على العالم الذي نعيشه؟

* ونرى ماذا كنّا نتوقّع، ماذا كنا ننتظر لو كانت هذه النظرة وكان هذا التفسير للتناقض، لو كان صحيحاً وواقعيّاً؟ ماذا كنّا ننتظر وماذا كنّا نتوقّع؟

كنّا ننتظر ونتوقّع أنْ

١٧٥

يزداد يوماً بعد يوم التناقضُ الطبقي، والصراع بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في المجتمعات الأوروبية الصناعية، التي تطوّرت فيها الآلة تطوّراً كبيراً.

كان من المفروض أنّ هذه المجتمعات: ( كانكلترا، والولايات الأمريكية المتحدة، وفرنسا، وألمانيا ):

- أنْ يشتدّ فيها التناقض الطبقي والصراع يوماً بعد يوم.

- ويتزلزل النظام الرأسمالي المستغِل ويتداعى يوماً بعد يوم.

- ويزداد الثراء على حساب هؤلاء العامِلين في طبقة الرأسماليين المستغِلِّين من ( الأمريكان، والانجليز، والفرنسيين، وغيرهم ).

كما نترقّب حالة من هذا القبيل، كنّا نترقّب:

- أنْ تتضاعف النقمة.

- أنْ يشتدّ إيمان العامِل الأوروبي، والعامل الأمريكي بالثورة وبضرورة الثورة، وبأنّها هي الطريق الوحيد لتصفية هذا التناقض الطبقي. هذا ما كنّا ننتظره لو صحّت هذه الأفكار عن تفسير التناقض.

لكن ما وقع خارجاً هو عكس ذلك تماماً، نرى وبكلّ أسف:

- أنّ النظام الرأسمالي في الدول الرأسمالية المستغِلَّة يزداد ترسّخاً يوماً بعد يوم.

- لا تَبْدُو عليه بوادر الانهيار السريع.

- تلك التمنِّيات الطيِّبة التي تَمَنّاها ثوّارُنا المادِّيُّون لانكلترا وللدول الأوروبّية المتقدّمة صناعيّاً، تمنّوا لها الثورة في أقرب وقت، بحكم التطوّر الآلي والصناعي فيها، تلك التمنِّيات الطيِّبة

١٧٦

تحوّلت إلى سراب.

بينما تحقّقت هذه النبوءات بالنسبة إلى بلادٍ لم تعش تطوّراً آليّاً، بل لم تعِش تناقضاً طبقيّاً بالمعنى الماركسي؛ لأنّها لم تكن قد دخلت الباب العريض الواسع للتطوّر الصناعي، من قبيل: ( روسيا القيصرية والصين ).

من ناحية أخرى:

* هل ازداد العمال بؤساً وفقراً؟

* هل ازدادوا استغلالاً؟

لا، بالعكس:

- العمّال ازدادوا رخاءً.

- ازدادوا سعةً.

- أصبحوا مُدَلَّلِين من قِبَل الطبقة الرأسمالية المستغِلّة.

العامل الأمريكي يحصل على ما لا يطمع به إنسان آخر يعمل بِكَدّ يمينه، ويقطف ثمار عمله في المجتمعات الاشتراكية الأخرى.

* هل ازدادت النقمة لدى الطبقة العاملة؟

العكس هو الصحيح. العمّال والهيئات التي تُمثّل العمّال في الدول الرأسمالية المستغِلّة تحوّلت بالتدريج أكثر هذه الهيئات:

- تحوّلت إلى هيئات ذات طابع شبه ديمقراطي.

- تحوّلت إلى أشخاص لهم حالة الاسترخاء السياسي.

- تركوا هموم الثورة، تركوا منطق الثورة.

- أصبحوا يتصافحون يداً بيد مع تلك الأيدي المستغِلّة، مع أيدي الطبقة الرأسمالية.

- أصبحوا يرفعون شعار تحقيق حقوق العمّال عن طريق النقابات، وعن طريق البرلمانات، وعن طريق الانتخابات.

هذه الحالة هي حالة الاسترخاء السياسي، كل هذا وقع في هذه الفترة القصيرة من

١٧٧

الزمن التي نحسّها.

* كيف وقع هذا كله؟

* هل كان ماركس سيّء الظن إلى هذه الدرجة بهؤلاء الرأسماليين، بهؤلاء المجرمين، والمستغلّين، بحيث تنبّأَ بهذه النبوءات ثم ضاعت هذه النبوءات كلّها فلم يتحقّق شيء منها؟

* هل كان هذا سوء ظن من ( ماركس ) لهؤلاء المستغلّين؟

* هل أنّ هؤلاء الرأسماليين المستغلّين دخل في نفوسهم الرعب من ( ماركس ) ومن الماركسية، ومن الثورات التحرّريّة في العالم؟

* هل دخل في أنفسهم الرعب فحاولوا أنْ يتنازلوا عن جزء من مكاسبهم، خوفاً من أنْ يثور العامل عليهم؟

* هل هذا صحيح؟

* هل أنّ المليونير الأمريكي يُخَالِج ذهنه فعلاً أيّ شبح من خوف من هذه الناحية؟

أشدّ الناس تفاؤلاً بمصائر الثورة في العالم لا يمكنه أنْ يفكّر في أنّ ثورةً حقيقية على الظلم في أمريكا يمكن أنْ تحدث قبل مئة سنة من هذا التاريخ.

* فكيف يمكن أنْ نفترض أنّ المليونير الأمريكي أصبح أمامه شبح الخوف والرعب، على أساس هذا الشبح تنازل عن جزء من مكاسبه؟

* هل أنّه دخلت إلى قلوبهم التقوى فجأةً؟ استنارت قلوبهم بنور الإسلام الذي أنَارَ قلوب المسلمين الأوائل الذين كانوا لا يعرفون حدّاً للمشاركة والمواساة، والذين كانوا يُشاطِرُون إخوانَهم غنائِمَهم وسَرَّائِهِم وضَرَّائِهِم؟

* هل تحوّل هؤلاء بين عَشِيَّة وضُحاها إلى مسلمين، إلى

١٧٨

قلوب مسلمة؟

لا.. لم يتحقّق شيء من ذلك:

* لا ( كارل ماركس ) كان سَيّء الظن بهؤلاء، كان ظنّه مُنطبِقا على هؤلاء انطباقاً تامّاً.

* ولا أنّ هؤلاء أَرْعَبَهم شبح العامِل فتنازلوا من أجل إسكاته.

* ولا أنّ قلوبهم خفقت بالتقوى. لم تعرف التقوى ولن تعرف التقوى؛ لأنها انغمستْ في لذّات المال وفي الشهوات، لم يتحقّق شيء من ذلك.

إذاً، ماذا وقع وكيف نُفَسِّر هذا الذي وقع؟

هذا الذي وقع في الحقيقة كان نتيجة تناقض آخر عاش مع التناقض الطبقي منذ البداية، ولكن ( ماركس ) والثوّار الذين ساروا على هذا الطريق، لم يستطيعوا أنْ يكتشفوا ذلك التناقض؛ ولهذا حصروا أنفسهم في التناقض الطبقي، في التناقض بين المليونير الأمريكي والعامِل الأمريكي، بين الغني الانجليزي والعامل الانجليزي، ولم يُدْخِلُوا في الحسابِ التناقضَ الآخر الأكبر، الذي أفرزه جَدَل الإنسان الأوروبي، أَفْرَزَه تناقض الإنسان الأوروبي، فغطّى على هذا التناقض الطبقي، بل جمّده، بل أوقفه إلى فترة طويلة من الزمن.

* ما هو ذلك التناقض؟

نحن بنظرتنا المنفتحة يمكننا أنْ نُبْصر ذلك التناقض، أنْ نضع أصبعنا على ذلك التناقض؛ لأنّنا لم نحصر أنفسنا في إطار التناقض الطبقي، بل قلنا: إنّ جَدَل الإنسان دائماً يفرز أيّ شكل من أشكال التناقض الاجتماعي.

١٧٩

ذلك التناقض الآخر وجد فيه الرأسمالي المستغِل الأوروبي والأمريكي، وجد فيه أنّ من طبيعة هذا التناقض أنْ يتحالف مع العامل، مع مَن يستغلّه لكي يشكّل هو والعامِل قُطْباً في هذا التناقض.

لم يعد التناقض تناقضاً بين الغني الأوروبي والعامِل الأوروبي، بل إنّ هذين الوجودَين الطبقيين تحالفا معاً وكوّنا قُطْبَاً في تناقض أكبر، بدأ تاريخياً منذ بدأ ذلك التناقض الذي تحدّث عنه ماركس.

* لكن ما هو القطب الآخر في هذا التناقض؟

القطب الآخر في هذا التناقض هو:

أنا وأنت، هم الشعوب الفقيرة في العالم، هم شعوب ما يسمّى بـ ( العالم الثالث ) هم شعوب ( آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ) هذه الشعوب هي التي تمثّل القطب الثاني في هذا التناقض.

إنّ الإنسان الأوروبي بكلا وجودَيه الطبقِيَّين تحالفٌ وتمحْوُر من أجل أنْ يُمارس صراعه واستغلاله لهذه الشعوب الفقيرة، وقد انعكس هذا التناقض الأكبر، انعكس اجتماعيّاً من خلال صِيَغ الاستعمار المختلفة، التي زخرتْ بها الساحة التاريخية منذ خرج الإنسان الأوروبي والأمريكي من دياره ليفتش عن كنوز الأرض في مختلف أرجاء العالم، ولينهب الأموال بلا حساب من مختلف البلاد والشعوب الفقيرة.

هذا التناقض غطّى على التناقض الطبقي، بل جمّد

١٨٠