مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن0%

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 221

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 221
المشاهدات: 47517
تحميل: 5187

توضيحات:

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47517 / تحميل: 5187
الحجم الحجم الحجم
مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف:
العربية

الدرس الثاني:

إنّ الاتجاهات الفقهيّة سارتْ في الاتجاه الموضوعي، بينما الأبحاث التفسيريّة سارتْ في الاتجاه التجزيئي، طبعاً لم نكنْ نعني من ذلك أيضاً أنّ البحث الفقهي استنفذ طاقة الاتجاه الموضوعي، فالبحث الفقهي اليوم مدعوّ أيضاً إلى أنْ يستنفِذ طاقة هذا الاتجاه الموضوعي أُفُقيّاً وعموديّاً؛ باعتبار أنّ الاتجاه الموضوعي كما قلنا:

عبارة عن أنّ الإنسان يبدأ من الواقع وينتهي إلى الشريعة.

هكذا كان دَيْدَن العلماء والفقهاء، كانوا يبدأون بالحياة، يبدأون من الواقع، وقائع الحياة كانتْ تنعكس عليهم على شكل جعالة ومضاربة ومزارعة ومساقات، لِيَسْتنبِطوا الحكم من مصادرها، ثم يردّونها إلى الشريعة.

هذا اتجاهٌ موضوعي؛ لأنّه يبدأ بالواقع وينتهي إلى الشريعة، في مقام التعريف على حكم هذا الواقع، لكن هنا لا بدّ أنْ يمتدّ الفقهُ أُفقيّاً على هذه الساحة أكثر؛ لأنّ العلماء الذين ساهموا في تكوين هذا الاتجاه الموضوعي عَبْر قرونٍ متعدّدة كانوا حريصين على أنْ يأخذوا هذه

٢١

الوقائع، ويحيلوها إلى الشريعة؛ ليستنبطوا أحكام الشريعة المرتبطة بتلك الوقائع، لكنّ وقائع الحياة تتكاثر وتتجدّد باستمرار، وتتولّد ميادين جديدة.

فلا بُدَّ لهذه العملية من النموّ باستمرار، فتبدأ من الواقع، لكنْ لا ذاك الواقع الساكن المحدود، والذي كان يعيشه الشيخ الطوسي أو المحقق الحلّي؛ لأنّ ذاك الواقع كان يفي بحاجات عصرهما.

فالإجار والمضاربة والمزارعة والمساقات، كانت تمثّل السوق قبل ألف سنة، أو قبل ثمانمائة سنة، لكنّ أبواب السوق قد اتسعت، ففيها العلاقات الاقتصادية أوسع وأكثر تشابكاً من هذا النطاق.

* فلا بدّ للفقه مِن أنْ يكون كما كان على يد هؤلاء العلماء، الذين كانوا حريصين على أنْ يعكسوا كلّ ما يَستجد مِن وقائع الحياة على الشريعة؛ ليأخذوا حكم الشريعة.

لا بدّ أيضاً مِن أنّ هذه العملية تسير أُفقياً، كما سارتْ أُفقياً في البداية. هذا من الناحية الأُفقيّة.

من الناحية العموديّة أيضاً، لا بدّ مِن أنْ يتوغّل هذا الاتجاه الموضوعي في الفقه، لا بدّ وأنْ يتوغّل، لا بدّ وأنْ يُنفَّذ عموديّاً، لا بدّ وأنْ يصل إلى النظريات الأساسية، لا بدّ وأنْ لا يُكتفي بالبناءات العِلْوِيّة وبالتشريعات التفصيليّة، لا بدّ وأنْ ينفّذ مِن خلال هذا التشريعات التي تمثّل وجهة نظر الإسلام؛ لأنّنا نعلم أنّ

٢٢

كلّ مجموعةٍ مِن التشريعات في كل بابٍ مِن أبواب الحياة ترتبط بنظريات أساسيّة، ترتبِط بتطوّرات رئيسية لأحكام الإسلام، تشريعات الإسلام:

* في المذهب الاقتصادي بالإسلام.

* أحكام الإسلام في مجال النكاح والطلاق والزواج وعلاقات المرأة مع الرجل.

* ترتبط بنظرياته الأساسية عن المرأة والرجل ودور المرأة والرجل.

هذه النظريّات الأساسية التي تشكّل القواعد النظرية لهذه الأبنية العلويّة، لا بدّ أيضاً من التوغّل إليها، لا ينبغي أنْ يُنْظر إلى ذلك بوصفه عملاً منفصِلاً عن الفقه، بوصفه ترفاً، أدباً، بل بوصفه ضرورة وينبغي اكتشافها بقدر الطاقة البشرية.

الآن نعود إلى التفسير بما ذكرناه، مِن أوجه الخلاف بين التفسير الموضوعي، والتفسير التجزيئي، تبيّنتْ عِدّة أفضليّات تدعو إلى تفضيل المنهج الموضوعي في التفسير على المنهج التجزيئي في التفسير، فإنّ:

* المنهج الموضوعي في التفسير - على ضوء ما ذكرناه - يكون أوسع أُفقاً، وأرحب وأكثر عطاءً؛ باعتبار أنْ يتقدّم خطوةً عن التفسير التجزيئي.

* كما أنّه قادر على التجدّد باستمرار، على التطوّر والإبداع باستمرار؛ باعتبار أنّ التجربة البشريّة تُغني هذا التفسير بما تُقَدّمه مِن مواد.

ثم هذه

٢٣

المواد تُطرح بين يدي القرآن الكريم.

وهذا هو الطريق الوحيد للحصول على النظريات الأساسية للإسلام وللقرآن، إزاء موضوعات الحياة المختلفة.

وقد يُقال: بأنّه ما الضرورة إلى تحصيل هذه النظريات الأساسية؟

ما الضرورة إلى أنْ نفهم نظرية الإسلام في النبوّة مثلاً بشكلٍ عامٍّ؟

أو نفهم نظريّة الإسلام في سنن التاريخ، أو في التغيّر الاجتماعي بشكلٍ عامٍّ؟

أو أنْ نفهم سنن الإسلام والأرض؟

ما الضرورة إلى أنْ ندرس ونحدِّد هذه النظريّات؟

فإنّنا نجد بأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يُعطِ هذه النظريات على شكل نظريات محدودة وصِيَغ عامّة، وإنّما أعطى القرآن بهذا الترتيب للمسلمين.

ما الضرورة إلى أنْ نُتْعِب أنفسنا في سبيل هذه النظريات وتحديدها؟

بعد أنْ لاحظنا أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) اكتفى بإعطاء هذا المجموع، هذا الشكل المتراكِم بهذا الشكل.

ما الضرورة أنْ نستحصِل هذه النظريات الحقيقيّة؟

بأنّه هناك اليوم ضرورة أساسية لتحديد هذه النظريات، ولتحصيل هذه النظريات، ولا يمكن أنْ يُفترض الاستغناء عنها.

النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يعطي هذه النظريات، ولكنْ مِن خلال التطبيق، مِن خلال المناخ القرآني العام، الذي كان بيّنه في الحياة

٢٤

الإسلامية، وكان كلّ فردٍ مسلمٍ في إطار هذا المناخ، كان يَحمل نظريةً، ولو فهماً إجماليّاً ارتكازيّاً؛ لأنّ المناخ والإطار الروحي والاجتماعي والفكري والتربوي، الذي وصفه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان قادراً على أنْ يُعطي النظرة السليمة والقدرة السليمة، على تقييم المواقع والمواقف والأحداث. إذا أردنا أنْ نقرّب هذه الفكرة نقول: -

قايسوا بين حالتَين، حالة الإنسان الذي يعيش داخل عُرْفِ لُغَةٍ مِن اللغات، وإنسان يريد أنْ يعرف أبناء هذه اللغة، أبناء هذا العرف. كيف تتمثّل أذهانهم هذه المعاني إلى الألفاظ؟

كيف يحدّدون المعاني مِن الألفاظ؟

هنا توجد حالتين:

* إحداهما أنْ تأتي بهذا الإنسان وتجعله يعيش في أعماق هذا العُرْف وفي أعماق هذه اللغة، وإذا صار كذلك واستمرّتْ به الحياة في إطار هذا العرف وهذه اللغة، فترةً طويلةً مِن الزمن، سوف يتكوّن لديه الإطار اللغوي والعرفي، الذي يستطيع من خلاله أنْ يتحرّك ذهنُه وِفْقاً لِمَا يريده العُرف واللغة منه؛ لأنّ مدلولاته تكون موجودة وجوداً إجماليّاً ارتكازيّاً في ذهنه.

النظرةُ السليمةُ، والتفهّم السليم للكلمة الصحيحة، وتمييزها عن الكلمة غير الصحيحة، تكون موجودة عنده؛ باعتبار أنّه عاش عُرْف اللغة ووجدانها في ممارساته.

* بينما إذا كان الإنسان خارجَ جناح تلك اللغة وعُرْفها، وأردْتَ أنْ تُنْشِئ

٢٥

في ذهنه القدرة على التمييز اللغوي الصحيح، فلا تستطيع التمييز اللغوي حينئذ إلاّ عن طريق الرجوع إلى قواعد تلك اللغة، والى العُرف الذي تربّى فيه الإنسان؛ لكي تستنتج منه القواعد العامّة والنظريات الشاملة، ومثاله: -

ما وقع بالنسبة إلى علوم العربية، كيف إنّ ابنَ اللغة لم يكنْ بحاجةٍ إلى أنْ يعلم علوم العربية في البداية؛ لأنّه كان يعيش في أعماق عُرْف اللغة.

لكن بعد أنْ ابتعد عن تلك الأعماق واختلفتْ الأجواء وضعفتْ اللغة، وتراكمتْ لغات أُخرى انْدَسّتْ إلى داخل حياة هؤلاء، بدأ هؤلاء بحاجةٍ إلى علمٍ للغة، إلى نظريات للغة؛ لأنّ الواقع لا يُسعفهم بنظرةٍ سليمةٍ، فلا بدّ حينئذٍ مِن علمٍ، لا بدّ مِن نظرياتٍ؛ لكي يفكّروا ولكي يناقشوا ولكي يتصرّفوا لغويّاً، وِفْقاً لتلك القواعد والنظريات. هذا المثال مثالٌ تقريبي لأجل توضيح الفكرة.

إذنْ، الصحابة الذين عاشوا في كَنَفِ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا كانوا لم يتلقّوا النظريات بِصِيَغٍ عامّة، فقد تلقَّوها تَلَقِّياً إجماليّاً ارتكازيّاً، انتَقَشَتْ في أذهانهم، وسرتْ في أفكارهم.

كان المناخُ العام الإطارَ الاجتماعي والروحي والفكري، الذي يعيشونه كلّه، كان إطاراً مساعِدَاً على تفهّم هذه النظريّات، ولو تفهّماً إجمالياً، وعلى توليد المقياس الصحيح في مقام التقييم.

٢٦

أمّا، حيث لا يوجد ذلك المناخ، ذلك الإطار، إذا تكون الحاجة إلى دراسةٍ لنظرياتِ القرآن الكريم في الإسلام، تكون حاجةً حقيقيّةً ملحّةً، خصوصاً مع بروز نظريات عديدة مِن خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي، بكلّ ما يملك مِن رصيدٍ عظيمٍ ومِن ثقافةٍ متنوِّعةٍ في مختلف مجالات المعرفة البشرية.

حينما وقع هذا التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي، وجد الإنسان المسلم نفسه أمام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة، فكان عليه لكي يحدّد موقف الإسلام من هذه النظريّات، كان لا بدّ وإنْ يَستنطِق نصوص الإسلام، ويتوغّل في أعماق هذه النصوص؛ ليصل إلى مواقف الإسلام سلباً وإيجاباً، لكي يكتشف نظريات الإسلام التي تُعَالِج نفسَ هذه المواضيع، التي عاشَ بَحْثُهَا التجاربَ البشريّةَ الذكيّةَ في مختلف مجالات الحياة.

إذنْ، فالتفسير الموضوعي في المقام هو أفضل الاتجاهَين في التفسير، إلاّ أنّ هذا لا ينبغي أنْ يكون المقصود منه الاستغناء عن التفسير التجزيئي

هذه الأفضليّة لا تعني استبدال اتجاهٍ باتجاهٍ، أو طرح التفسير التجزيئي رأساً والأخذ بالتفسير الموضوعي، وإنّما إضافة اتجاهٍ إلى اتجاهٍ؛ لأنّ التفسير الموضوعي

٢٧

ليس إلاّ خطوة إلى الأمام بالنسبة إلى التفسير التجزيئي، ولا معنى للاستغناء عن التفسير التجزيئي باتجاه الموضوعي، وإنّما هي مسألة ضَمِّ الاتجاه الموضوعي في التفسير إلى الاتجاه التجزيئي في التفسير.

يعني افتراض خطوتين، خطوة هي التفسير التجزيئي وخطوة أخرى هي التفسير الموضوعي.

٢٨

الدرس الثالث:

استعرضْنا فيما سبق المبرِّرات الموضوعيّة والفكريّة لإيثار التفسير الموضوعي التوحيدي على التفسير التجزيئي التقليدي، باعتبار أنّ التفسير الموضوعي أغنى عطاءً وأكثر قدرةً على التحرّك والإبداع، وعلى تحديد المواقف النظريّة الشاملة للقرآن الكريم..

الآن أودُّ أنْ أذْكر مبرّراً عمليّاً وهو: -

إنّ شوط التفسير التقليدي شوطٌ طويلٌ جدّاً؛ لأنّه يبدأ من سورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس، وهذا الشوط الطويل بحاجةٍ - مِن أجل إكماله - إلى فترةٍ زمنيّةٍ طويلةٍ أيضاً، ولهذا لم يحضَ مِن علماء الإسلام الأعلام إلاّ عددٌ محدودٌ بهذا الشرف العظيم، شرف مرافقة الكتاب الكريم مِن بدايته إلى نهايته، ونحن نشعر بأنّ هذه الأيّام المحدودة المتبقّية لا تفي بهذا الشوط الطويل؛ ولهذا كان مِن الأفضل اختيار أشواط أقصر، لكي نستطيع أنْ نُكمل بضعة أشواط مِن هذا الجَوَلاَن في رحاب القرآن الكريم.

من هنا سوف نختار موضوعاتٍ متعدِّدة مِن القرآن الكريم، ونستعرِض

٢٩

ما يتعلّق بذلك الموضوع، وما يُمكن أنْ يُلقي عليه القرآنُ مِن أضواءٍ.

وسوف نحاول أنْ يكون البحث مربوطاً بقدر الإمكان؛ لكي نستطيع أنْ نصل إلى عددٍ من المواضيع المهمّة، فنقتصر على الأفكار الأساسية والمبادئ الرئيسيّة بالنسبة إلى كل موضوع.

وسوف أَحرِص على أنْ لا يستوعِب كلُّ موضوعٍ إلاّ عدداً محدوداً من المحاضرات. أرجو أنْ يكون بين خمس محاضرات إلى عشر محاضرات؛ لكي نستطيع أنْ نستوعب مواضيع متنوِّعة مِن القرآن الكريم.

الآن نواجه هذا السؤال: -

ما هو الموضوع الأوّل الذي سوف نبدأ به الآن إنْ شاء الله تعالى؟

الموضوع الأوّل الذي سوف نختاره للبحث هو( سنن التاريخ في القرآن الكريم ) .

* هل للتاريخ البشري سنن في مفهوم القرآن الكريم؟

* هل له قوانين تتحكّم في مسيرته وفي حركته وتطوّره؟

* ما هي هذه السنن التي تتحكّم في التاريخ البشري؟

* كيف بدأ التاريخ البشري، كيف نما، كيف تطوّر؟

* ما هي العوامل الأساسيّة في نظريّة التاريخ؟

* ما هو دور الإنسان في عمليّة التاريخ؟

* ما هو موقع السماء أو النبوّة على الساحة الاجتماعيّة؟

هذا كلُّه ما سوف ندرسه تحت هذا العنوان، عنوان

٣٠

(سنن التاريخ في القرآن الكريم) وهذا الجانب مِن القرآن الكريم قد بحث الجزء الأعظم من موادّه ومفرادته القرآنيّة، لكنْ من زوايا مختلِفة، فمثلاً:

قصص الأنبياء (عليهم السلام) التي تمثّل الجزء الأعظم من هذه المادّة القرآنية، بُحِثَتْ قصص الأنبياء مِن زاويةٍ تاريخيةٍ، تناولها المؤرخون واستعرضوا الحوادث والوقائع التي تكلّم عنها القرآن الكريم.

وحينما لاحظوا الفراغات التي تركها هذا الكتاب العزيز، حاولوا أنْ يملأوا هذه الفراغات بالروايات والأحاديث، أو بما هو المأثور عن أديانٍ سابقةٍ، أو بالأساطير والخرافات، فتكوّنتْ سِجِلاّتٌ ذات طابع تاريخي؛ لتنظيم هذه المادة القرآنية.

كذلك أيضاً بُحثتْ هذه المادّة القرآنية من زاويةٍ أخرى، من زاويةِ منهجِ القصّة في القرآن، مدى ما يتمتّع به هذا المنهج من أصالةٍ وقوّةٍ وإبداع، ما تَزْخَرُ به القصّة القرآنيّة من حَيَويّة، من حركةٍ، من أحداثٍ، هذه أيضاً زاوية أخرى للبحث في هذه المادّة يضاف إلى زوايا عديدة.

نحن الآن نريد أنْ نتناول هذه المادّة القرآنيّة من زاويةٍ أُخرى، من زاوية مقدار ما تُلْقِي هذه المادّة من أضواء على سُنَن التاريخ، على تلك الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكّم في عمليّة التاريخ، إذا كان يوجد في مفهوم القرآن شيءٌ من هذه النواميس والضوابط والقوانين.

٣١

الساحة التاريخيّة - كأيّ ساحةٍ أُخرى - زاخرةٌ بمجموعةٍ من الظواهر، كما أنّ الساحة الفلكيّة، الساحة الفيزيائيّة، الساحة النباتيّة، زاخرةٌ بمجموعةٍ من الظواهر.

كذلك الساحة التاريخية - بالمعنى الذي سوف نُفصّل من التاريخ إنْ شاء الله بعد ذلك - زاخرةٌ بمجموعةٍ من الظواهر، كما أنّ الظواهر في كلّ ساحةٍ أخرى من الساحات، لها سننٌ ولها نواميسٌ، فمِنْ حقِّنا أنْ نتساءل: -

* هل إنّ هذه الظواهر التي تَزخر بها الساحة التاريخية، هل هذه الظواهر أيضاً ذات سنن وذات نواميس؟

* وما هو موقف القرآن الكريم من هذه السنن والنواميس؟

* وما هو عطاؤه في مقام تأكيد هذا المفهوم إيجاباً أو سلباً، إجمالاً أو تفصيلاً؟

وقد يُخَيَّل إلى بعض الأشخاص، أنّنا لا ينبغي أنْ نترقّب من القرآن الكريم أنْ يتحدّث عن سنن التاريخ؛ لأنّ البحث في سنن التاريخ بحثٌ علمي كالبحث في سنن الطبيعة والفلك والذرّة والنبات، والقرآن الكريم لم ينزل كتاب اكتشافٍ بل كتاب هدايةٍ، القرآن الكريم لم يكن كتاباً مدرسيّاً، لم ينزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بوصفه معلِّماً - بالمعنى التقليدي مِنَ المُعَلِّم - لكي يُدرِّس مجموعة من المتخصّصين والمثقّفين، وإنّما نزل هذا الكتاب عليه؛ ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجاهلية إلى نور

٣٢

الهداية والإسلام. إذنْ فهو كتاب هدايةٍ وتغيير، وليس كتابَ اكتشافٍ.

ومن هنا لا نترقّب من القرآن الكريم أنْ يكشف لنا الحقائق والمبادئ العامّة للعلوم الأُخرى، ولا نترقّب من القرآن الكريم أنْ يتحدّث لنا عن مبادئ الفيزياء أو الكيمياء أو النبات أو الحيوان. صحيح أنّ في القرآن الكريم إشاراتٍ إلى كلّ ذلك، ولكنّها إشارتْ بالحدود التي تؤكِّد على البُعد الإلهي للقرآن، وبقدر ما يُمكن أنْ يثبِت العُمْق الربّاني لهذا الكتاب - الذي أحاط بالماضي والحاضر والمستقبل، والذي استطاع أنْ يسبق التجربة البشريّة مئات السنين، في مقام الكشف عن حقائق متفرِّقة في الميادين العلميّة المتفرِّقة - لكن هذه الإشارات القرآنيّة إنّما هي لأجل غَرَض عَمَلي مِن هذا القبيل، لا مِن أجل تعليم الفيزياء والكيمياء.

القرآن لم يطرح نفسه بديلاً عن قدرة الإنسان الخلاّقة، عن مواهبه وقابِلِيّاته في مقام الكدح، الكدح في كلِّ ميادين الحياة، بما في ذلك ميدان المعرفة والتجربة، القرآن لم يطرح نفسه بديلاً عن هذه الميادين، وإنّما طرح نفسه طاقةً روحيّةً موجّهةً للإنسان، مفجِّرةً طاقاته، محرِّكَةً له في المسار الصحيح.

فإذا كان القرآن الكريم كتابَ هدايةٍ وتوجيهٍ، وليس كتابَ اكتشافٍ وعلمٍ، فليس من الطبيعي أنْ

٣٣

نترقّب منه استعراض مبادئ عامّة لأيّ واحدٍ من هذه العلوم، التي يقوم الفَهم البشري بمهمّة التوغّل في اكتشاف نواميسها وقوانينها وضوابطها.

لماذا ننتظر من القرآن الكريم أنْ يُعطينا عموميّات، أنْ يعطينا مواقف، أنْ يُبَلْوِر له مفهوماً عِلْميّاً، في سنن التاريخ على هذه الساحة من ساحات الكون، بينما ليس للقرآن مثل ذلك على الساحات الأُخرى، ولا حرجَ على القرآن في أنْ لا يكون له ذلك على الساحات الأُخرى؟

لأنّ القرآن لو صار لِمَقام استعراض هذه القوانين، وكشف هذه الحقائق، لكان بذلك يَتحوّل إلى كتابٍ آخر نوعيّاً، يتحوّل من كتابٍ للبشريّة جمعاء إلى كتابٍ للمتخصِّصين يُدَرَّس في الحلقات الخاصّة.

قد يلاحَظ بهذا الشكل على اختيار هذا الموضوع، إلاّ أنّ هذه الملاحظة رغم أنّ الروح العامّة فيها صحيحةٌ - بمعنى أنّ القرآن الكريم ليس كتابَ اكتشافٍ، ولم يطرح نفسَه ليجمِّد في الإنسان طاقات النمو والإبداع والبحث، وإنّما هو كتاب هدايةٍ - ولكنْ مع هذا يوجد فَرْق جوهري بين الساحة التاريخية وبقيّة ساحات الكون.

هذا الفرق الجوهري يجعل من هذه الساحة ومن سُنَن هذه الساحة أمراً مُرتبِطاً أشد الارتباط بوظيفة القرآن ككتاب هدايةٍ، خلافاً لبقيّة الساحات الكونيّة والميادين الأُخرى

٣٤

للمعرفة البشرية؛ وذلك: -

إنّ القرآن الكريم كتابُ هدايةٍ وعمليّة تغيير، هذه العملية التي عبّر عنها في القرآن الكريم بأنّها إخراج للناس من الظلمات إلى النور، وعملية التغيير هذه فيها جانبان:

الجانب الأوّل:

جانب المحتوى المضمون إليه هذه العمليّة التغييريّة من أحكام، من مناهج، ما تتبنّاه من تشريعات، هذا الجانب من عمليّة التغيير جانبٌ ربّانيٌّ، جانب إلهي سماوي.

هذا الجانب يمثّل شريعة الله سبحانه وتعالى التي نزلتْ على النبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وتحدّتْ بنفس نزولها عليه كلَّ سنن التاريخ المادِّية؛ لأنّ هذه الشريعة كانت أكبر من الجوِّ الذي نزلتْ عليه، ومن البيئة التي حلّتْ فيها، ومن الفرد الذي كُلِّفَ بأنْ يقوم بأعباء تبليغها.

هذا الجانب من عمليّة التغيير، جانبُ المحتوى والمضمون، جانب التشريعات والأحكام والمناهج التي تدعو إليها هذه العملية، هذا الجانب جانبٌ ربّاني إلهي.

لكنْ هناك جانباً آخر:

عملية التغيير التي مارسها النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه الأطهار، هذه العملية حينما تُلْحَظ بوصفها عملية متجسّدة في جماعةٍ من الناس، وهم النبيُّ والصحابة، بوصفها عملية اجتماعية متجسِّدة في هذه الصفوة، وبوصفها عملية قد واجهتْ تيّارات اجتماعية مختلِفة من حولها، واشتبكتْ

٣٥

معها في ألوان من الصراع والنزاع العقائدي والاجتماعي والسياسي والعسكري، حينما تُؤْخَذ هذه العملية التغييريّة بوصفها تجسيداً بشريّاً على الساحة التاريخية، مترابِطاً مع الجماعات والتيّارات الأُخرى، التي تَكْتَنِف هذا التجسيد، والتي تؤيِّد أو تقاوِم هذا التجسيد.

حينما تُؤْخَذ العمليّة من هذه الزاوية تكون عملية بشرية، يكون هؤلاء أُناساً كسائر الناس، تتحكّم فيهم إلى درجةٍ كبيرةٍ سننُ التاريخ التي تتحكّم في بقيّة الجماعات وفي بقيّة الفِئات على مرّ الزمن.

إذنْ عملية التغيير التي مارسها القرآن ومارسها النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لها جانبان من حيث صِلتها بالشريعة وبالوحي ومصادر الوحي، هي ربّانية، هي فوق التاريخ.

ولكنْ، من حيث كونها هي عملاً قائماً على الساحة التاريخية، من حيث كونها جُهداً بشريّاً يقاوِم جهوداً بشريّة أُخرى، من هذه الناحية يُعتبر هذا عملاً تاريخياً، تَحْكُمُه سننُ التاريخ وتتحكّم فيه الضوابطُ التي وضعها الله سبحانه وتعالى؛ لتنظيم ظواهر الكون في هذه الساحة، المسمّاة بالساحة التاريخية؛ ولهذا نرى أنّ القرآن الكريم حينما يتحدّث عن الزاوية الثانية، عن الجانب الثاني من عمليّة التغيير، يتحدّث عن أُناسٍ، يتحدّث عن بشر، لا يتحدّث عن رسالة

٣٦

السماء، بل يتحدّث عنهم بوصفهم بشراً من البشر، تتحكّمُ فيهم القوانين التي تتحكّمُ في الآخرين.

حينما أراد أنْ يتحدّث عن انتصار المسلمين في غزوة أُحُد بعد أنْ أحرزوا ذلك الانتصار الحاسم في غزوة بدر، بعد ذلك انكسروا وخسروا المعركة في غزوة أُحُد، تحدّث القرآنُ الكريم عن هذه الخسارة، ماذا قال؟ هل قال بأنّ رسالة السماء خسرتْ المعركة، بعد أنْ كانت ربحتْ المعركة؟

لا؛ لأنّ رسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى المادّي، رسالة السماء لا تُهْزَم، ولنْ تُهزم أبداً، ولكنّ الذي يُهزم هو الإنسان، الإنسان، حتى ولو كان هذا الإنسان مجسِّداً لرسالة السماء؛ لأنّ هذا الإنسان تتحكّم فيه سننُ التاريخ.

ماذا قال القرآن؟ قال:(وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (١) . هنا أخذ يتكلّم عنهم بوصفهم أُناساً، قال: بأنّ هذه القضية هي في الحقيقة ترتبط بسنن التاريخ، المسلمون انتصروا في بَدْرٍ حينما كانتْ الشروط الموضوعية للنصر - بحسب منطق سنن التاريخ - تَفْرُضُ أنْ ينتصروا، وخسروا المعركة في أُحد، حينما كانت الشروط الموضوعية في معركة أُُحد تفرض عليهم أنْ يخسروا المعركة.

( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ

____________

(١) سورة آل عمران: الآية (١٤٠).

٣٧

مَسَّ القًوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (١) . لا تتخيلوا أنّ النصر حقٌّ إلهي لكم، وإنّما النصر حقّ طبيعي لكم، بقدر ما يمكن أنْ تُوَفِّروا الشروط الموضوعية لهذا النصر، بحسب منطق سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه وتعالى كونيّاً لا تشريعيّاً، وحيث إنّكم في غزوة أُحد لم تتوفّر لديكم هذه الشروط؛ ولهذا خسرتم المعركة.

فالكلام هنا كلام مع بشرٍ، مع عمليّةٍ بشريّةٍ، لا مع رسالة ربانيّة، بل يذهب القرآن إلى أكثر من ذلك، يهدِّد هذه الجماعة البشريّة، التي كانت أنظفَ وأطهرَ جماعةٍ على مسرح التاريخ، يهدِّدهم بأنّهم إذا لم يقوموا بدَورهم التاريخي، وإذا لم يكونوا على مستوى مسؤوليّةِ رسالةِ السماء، فإنّ هذا لا يعني أنْ تتعطّل رسالة السماء، ولا يعني أنْ تَسْكتْ سننُ التاريخ عنهم، بل إنّهم سوف يُستبدَلون، سننُ التاريخ سوف تَعْزِلُهم، وسوف تأتي بأُمَمٍ أُخرى قد تهيّأتْ لها الظروف الموضوعيّة الأفضل؛ لكي تلعب هذا الدور، لكي تكون شهيدة على الناس إذا لم تتهيّأ لهذه الأُمّة الظروف الموضوعيّة لهذه الشهادة(إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

____________

(١) نفس الآية السابقة.

٣٨

قَدِيرٌ) (١) ،(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ..) (٢) .

إذنْ فالقرآن الكريم إنّما يتحدّث مع الجانب الثاني من عملية التغيير، يتحدّث مع البشر في ضَعفه وقوّته، في استقامته وانحرافه، في توفُّر الشروط الموضوعيّة له وعدم توفّرها.

من هنا يظهر بأنّ البحث في سنن التاريخ مرتبطٌ ارتباطاً عضوياً شديداً بكتاب الله، بوصفه كتاب هدى، بوصفه إخراج للناس من الظلمات إلى النور؛ لأنّ الجانب العملي من هذه العملية، الجانب البشري، يخضع لسنن التاريخ، فلا بدّ إذنْ أنْ نستلهم، ولا بدّ إذنْ أنْ يكون للقرآن الكريم تصوّرات وعطاءات في هذا المجال؛ لتكوين إطار عام للنظرة القرآنيّة والإسلامية عن سنن التاريخ.

إذنْ هذا لا يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك والحيوان والنبات، تلك السنن ليستْ داخلة في نطاق التأثير المباشِر على عمليّة التاريخ، ولكنّ هذه السنن داخلةٌ في

____________

(١) سورة التوبة: الآية ( ٣٩ ).

(٢) سورة المائدة: الآية ( ٥٤ ).

٣٩

نطاق التأثير المباشِر على عمليّة التغيير، باعتبار الجانب الثاني.

إذنْ لا بدّ من شرح ذلك، ولا بدّ أنْ نترقّب من القرآن إعطاءَ عموميّات في ذلك.

نعم لا ينبغي أنْ نترقّب من القرآن أنْ يتحوّل أيضاً إلى كتاب مَدْرسي في علم التاريخ وسنن التاريخ، بحيث يَستوعب كلّ التفاصيل وكلّ الجزئيات، حتى ما لا يكون له دخل في منطق عملية التغيير التي مارسها النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وإنّما القرآن الكريم يَحتفظ دائماً بوصفه الأساسي والرئيسي، يَحتفظ بوصفه كتاب هدايةٍ، كتاب إخراج للناس من الظلمات إلى النور.

وفي حدود هذه المهمة الكبيرة العظيمة التي مارسها، يعطي مقولاته على الساحة التاريخية، ويشرح سنن التاريخ بالقدر الذي يُلقي ضوءاً على عمليّة التغيير التي مارسها النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بقدر ما يكون مُوجِّهاً وهادياً وخالِقَاً لتبصُّر موضوعي للأحداث والظروف والشروط.

ونحن في القرآن الكريم نلاحظ أنّ الساحة التاريخيّة عامِرَة بسننٍ كما عمرت كل الساحات الكونيّة الأُخرى بسنن.

هذه الحقيقة نراها واضحةً في القرآن الكريم، فقد بيّنتْ هذه الحقيقة بأشكال مختلِفَة وبأساليب متعدِّدة في عددٍ كثيرٍ من الآيات بيّنت على مستوى إعطاء نفس هذا المفهوم بالنحو الكلي: إنّ للتاريخ سنن وإنّ للتاريخ قوانين.

وبيّنت هذه الحقيقة في آياتٍ أُخرى

٤٠