مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن0%

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 221

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف:

الصفحات: 221
المشاهدات: 47480
تحميل: 5185

توضيحات:

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47480 / تحميل: 5185
الحجم الحجم الحجم
مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن

مؤلف:
العربية

الكريم للتاريخ وللسنن التاريخية، يُبعِّد القرآن عن التفسير العلمي الموضوعي للتاريخ، ويجعله يتّجه اتجاه التفسير الإلهي للتاريخ، الذي مثَّلتْه مدرسةٌ مِن مدارس الفكر اللاهوتي، على يد عددٍ كبير مِن المفكّرين المسيحيين واللاهوتيين، حيث فسّروا تفسيراً إلهيّا قد يخلط هذا الاتّجاه القرآني بذلك التفسير الإلهي، الذي اتجه إليه (أغسطين) وغيره من المفكرين اللاهوتيين، فيقال:

بأنّ إسباغ هذا الطابع الغيبي على السنّة التاريخية، يحوِّل المسألة إلى مسألةٍ غيبيّةٍ وعقائديّة، ويَخرج التاريخ عن إطاره العلمي الموضوعي. ولكنّ الحقيقة أنّ هناك خَلْطاً أساسيّاً بين: -

الاتجاه القرآني وطريقة القرآن في ربط التاريخ بعالم الغيب، وفي إسباغ الطابع الغيبي على السنّة التاريخية،وبين ما يُسمّى بالتفسير الإلهي للتاريخ الذي تبنّاه اللاهوت.

هناك فرق كثير بين هذين الاتجاهين وهاتين النزعتين، وحاصل هذا الفرق هو: -

* إنّ الاتجاه اللاهوتي - التفسير الإلهي للتاريخ - يتناول الحادِثة نفسَها، ويربط هذه الحادثة بالله سبحانه وتعالى، قاطِعَاً صِلتها وروابطها مع بقيّة الحوادث، فهو يطرح الصِلة مع الله بديلاً عن صِلة الحادثة مع بقيّة الحوادث، بديلاً عن العلاقات والارتباطات التي تزخر بها الساحة

٦١

التاريخية والتي تُمثِّل السنن والقوانين الموضوعيّة لهذه الساحة.

* بينما القرآن الكريم لا يسبغ الطابع الغيبي على الحادثة بالذات.

ولا يَنتزِع الحادثة التاريخية مِن سياقها؛ ليربطها مباشرةً بالسماء.

ولا يطرح صِلة الحادثة بالسماء كبديلٍ عن أوجه الانطباق والعلاقات والأسباب والمسبّبات على هذه الساحة التاريخية.

بل إنّه يربط السنّة التاريخية بالله، يربط أوجه العلاقات والارتباطات بالله، فهو يقرِّر أوّلاً ويؤمِنُ بوجود روابطٍ وعلاقاتٍ بين الحوادث التاريخية، إلاّ أنّ هذه الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية، هي في الحقيقة تعبير عن حكمة الله سبحانه وتعالى، وحسن تقديره وبناءه التكويني للساحة التاريخية.

إذا أردنا أنْ نستعين بمثالٍ لتوضيح الفرق بين هذين الاتجاهَين من الظواهر الطبيعية، نستطيع أنْ نستخدم هذا المثال: -

قد يأتي إنسانٌ فيُفسّر ظاهرة المطر، التي هي ظاهرة طبيعيّة فيقول: بأنّ المطر نزل بإرادةٍ من الله سبحانه وتعالى، ويجعل هذه الإرادة بديلاً عن الأسباب الطبيعيّة التي نَجَمَ عنها نزول المطر، وكأنّ المطر حادثةٌ لا علاقة لها ولا تُنسَب لها، وإنّما هي مفردة تُرتبَط - مباشرةً - بالله سبحانه وتعالى بِمَعْزِلٍ عن تيّار الحوادث.

هذا النوع من الكلام يتعارَض مع التفسير العِلْمي لظاهرة المطر.

٦٢

لكنْ، إذا جاء شخصٌ وقال: بأنّ الظاهرة - ظاهرة المطر - لها أسبابها وعلاقاتها، وإنّها مرتبطة بالدَوْرَة الطبيعية للماء مثلاً، يتبخّر فيتحوّل إلى غاز، والغاز يتصاعد سحاباً، والسحاب يتحوّل بالتدريج إلى سائل؛ نتيجة انخفاض الحرارة، فينزل المطر، إلاّ أنّ هذا التسلسل السببي المُتقَن، هذه العلاقات المتشابِكة بين الظواهر الطبيعية، هي تعبيرٌ عن حكمة الله وتدبيره وحسن رعايته.

فمثل هذا الكلام لا يتعارض مع الطابع العلمي للتفسير الموضوعي لظاهرة المطر؛ لأنّنا ربطنا هنا السنّة بالله سبحانه وتعالى للحادِثة، مع عزلها عن بقية الحوادث، وقطع ارتباطها مع مؤثراتها وأسبابها.

إذنْ، القرآن الكريم حينما يسبغ الطابع الربّاني على السنّة التاريخية، لا يريد أنْ يتّجه اتجاه التفسير الإلهي في التاريخ، ولكنّه يريد أنْ يؤكّد أنّ هذه السنن ليست خارجةً من وراء قدرة الله سبحانه وتعالى، وإنّما هي تعبير وتجسيد وتحقيق لقدرة الله، هي كلماته وسننه وإرادته وحكمته في الكون؛ لكي يبقى الإنسان دائماً مشدوداً إلى الله، لكي تبقى الصلة الوثيقة بين العِلم والإيمان، فهو في نفس الوقت الذي ينظر فيه إلى هذه السنن نظرةً علميّة، ينظر أيضاً إليها نظرةً إيمانيّة.

وقد بلغ القرآن الكريم في حرصه على تأكيد الطابع الموضوعي للسنن التاريخية

٦٣

وعدم جعلها مرتبطة بالصُدَف، أنّ نفس العمليّات الغيبيّة أناطها في كثيرٍ من الحالات بالسنّة التاريخية نفسها أيضاً، عملية الإمداد الإلهي بالنصر، الإمداد الإلهي الغيبي، الذي يساهم في كسب النصر، هذا الإمداد جعله القرآن الكريم مشروطاً بالسنّة التاريخية، مرتبِطاً بظروفها، غير مُنْفَكٍ عنها، وهذه الروح أبْعَد ما تكون عن أنْ تكون روحاً تفسِّر التاريخ على أساس الغيب، وإنّما هي روح تفسّر التاريخ على أساس المنطق والعقل والعلم، وحتى ذاك الإمداد الإلهي الذي يساهم بالنصر - ذاك الإمداد أيضا - رُبط بالسنّة التاريخية.

قرأنا في ما سبق صيغةً من صِيَغ السنن التاريخية للنصر، حينما قرأْنَا قوله سبحانه وتعالى: -

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ... ) (١) .

والآن تعالَوا نتحدّث عن الإمداد الغيبي؛ لنلاحظ كيف أنّ هذه الآيات ربطتْ هذا الإمداد الإلهي الغيبي بتلك السنّة نفسها أيضاً: -

( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (٢) .

إذنْ فمن الواضح أنّ الطابع الربّاني الذي يُسبِغه القرآن الكريم ليس بديلاً عن التفسير

____________

(١) سورة البقرة الآية (٢١٤).

(٢) سورة الأنفال الآية (٩-١٠).

٦٤

الموضوع، وإنّما هو ربْط هذا التفسير الموضوعي بالله سبحانه وتعالى؛ من أجل إتمام اتجاه الإسلام نحو التوحيد بين العلم والإيمان في تربية الإنسان المسلم.

الحقيقة الثالثة:

الحقيقة الثالثة التي أكّد عليها القرآن الكريم من خلال النصوص المتقدِّمة هي: -

حقيقة اختيار الإنسان، وإرادة الإنسان.

والتأكيد على هذه الحقيقة في مجال استعراض سنن التاريخ مهم جدّاً، إذ سوف يأتي إنْ شاء الله تعالى بعد محاضرتين، أنّ البحث في سنن التاريخ خَلَقَ وَهْمَاً، وحاصل هذا الوهم الذي خَلَقَه هذا البحث عند كثيرٍ من المفكِّرين: أنّ هناك تعارضاً وتناقضاً بين حريّة الإنسان واختياره، وبين سنن التاريخ. فإمّا أنْ نقول:

* بأنّ للتاريخ سُنَنُه وقوانينه، وبهذا نتنازل عن إرادة الإنسان واختياره وحرِّيّته.

* وإمّا أنْ نُسلّم: بأنّ الإنسان كائنٌ حرٌّ مُريد مُختار، وبهذا يجب أنْ نُلغي سننَ التاريخ وقوانينه، ونقول بأنّ هذه الساحة قد أُعفِيَتْ من القوانين التي لم تُعفى منها بقيّة الساحات الكونية.

هذا الوَهْم، وهمُ التعارض والتناقُض بين فكرة السنّة التاريخية أو القانون التاريخي، وبين فكرة اختيار الإنسان وحرِّيته، هذا

٦٥

الوهم كان من الضروري للقرآن الكريم أنْ يُزيحه، وهو يعالِج هذه النقطة بالذات، ومن هنا أكّد سبحانه وتعالى على أنّ المحور في تسلسل الأعداد والقضايا إنّما هو إرادة الإنسان.

وسوف أتناول - إنْ شاء الله تعالى بعد محاضرتين - الطريقةَ الفنّية في كيفيّة التوجيه بين سنن التاريخ وإرادة الإنسان، وكيف استطاع القرآن الكريم أنْ يجمع بين هذين الأمرين، من خلال فحْص للصِيَغ التي يُمكن في إطارها صياغة السنّة التاريخية. سوف أتكلّم عن ذلك بعد محاضرتين، لكن يكفي الآن أنْ نستمِع إلى قوله تعالى: -

( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) (١) .

( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً ) (٢) .

( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً ) (٣) .

انظروا كيف أنّ السنن التاريخية لا تجري من فوق يد الإنسان بل تجري من تحت يده، فإنّ الله لا يُغيّر ما بقومٍ حتّى يغيِّروا ما بأنفسهم، وأَلّوِ استقاموا على الطرِيقَة لأَسقَيناهم ماءً غدقاً

إذنْ، هناك مواقف ايجابية للإنسان تمثِّل حرِّيته واختياره وتصميمه، وهذه المواقف تستتبع ضمن

____________

(١) سورة الرعد: الآية (١١).

(٢) سورة الجن: الآية (١٦).

(٣) سورة الكهف: الآية (٥٩).

٦٦

علاقات السنن التاريخية، تستتبع جزاءاتها المناسبة، تستتبع معلولاتها المناسبة. إذنْ، فاختيار الإنسان، له موضعه الرئيسي في التصوّر القرآني لسنن التاريخ، وسوف أعود إلى هذه النقطة مرةً أخرى بإذن الله تعالى.

إذن، نستخلص مِمّا سبق أنّ السنن التاريخية، أنّ السنن القرآنية في التاريخ: -

* ذات طابع علمي؛ لأنّها تتميّز بالاطِّراد الذي يميّز القانوني العلمي.

* وذات طابع ربّاني؛ لأنّها تمثِّل حكمة الله، وحسن تدبيره على الساحة التاريخية.

* وذات طابع إنساني؛ لأنّها لا تفصل الإنسان عن دوره الايجابي، ولا تعطّل فيه إرادته وحرِّيته واختياره، وإنّما تؤكِّد أكثر فأكثر مسؤوليَّته على الساحة التاريخية.

الآن بعد أنْ استعرضنا الخصائص الثلاث، التي تتميّز بها السنن التاريخية في القرآن الكريم، نواجه هذا السؤال: -

* ما هو ميدان هذه السنن التاريخية؟

كنّا حتى الآن نعبِّر ونقول: بأنّ هذه السنن تجري على الساحة التاريخية، لكن

* هل أنّ الساحة التاريخية بامتدادها هي ميدان للسنن التاريخية؟

* أو أنّ ميدان السنن التاريخية يُمثّل جزءً من الساحة التاريخية؟ بمعنى أنّ الميدان الذي يخضع للسنن التاريخية - بوصفها قوانين ذات طابع نوعي - مختلف عن القوانين الأخرى الفيزيائيّة

٦٧

والفسلجيّة والبيولوجيّة والفلكيّة، هذا الميدان الذي يخضع لقوانين ذات طابع نوعي مختلف، هذا الميدان،

* هل تَتَّسِع له الساحة التاريخية؟

* هل يستوعِب كلّ الساحة التاريخية، أو يعبر عن جزء من الساحة التاريخية؟

لكن قبل هذا، يجب أنْ نعرف ماذا نقصد بالساحة التاريخية؟

الساحة التاريخية عبارة عن: -

الساحة التي تَحوي تلك الحوادث والقضايا التي يهتمُّ بها المؤرِّخون، المؤرِّخون أصحاب التواريخ بمجموعةٍ من الحوادث والقضايا يسجِّلونها في كُتُبهم، والساحة التي تزخر بتلك الحوادث التي يهتمّ بها المؤرِّخون ويسجِّلونها هي الساحة التاريخية، فالسؤال هنا إذنْ هكذا:

* هل أنّ كلّ هذه الحوادث والقضايا التي يربطها المؤرِّخون، وتدخل في نطاق مُهِمّتهم التاريخية والتسجيلية، هل كلُّها محكومة بالسنن التاريخية، بسنن التاريخ ذات الطابع النوعي المتميِّز عن سنن بقية حدود الكون والطبيعة؟

* أو أنّ جزءً معيّناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ؟

الصحيح إنّ جزءً معيّناً من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ، هناك حوادثٌ لا تنطبق عليها سنن التاريخ بل تنطبق عليها القوانين الفيزيائية أو الفسلجيّة أو قوانين الحياة أو أي قوانين أخرى لمختلف الساحات الكونية الأخرى، مثلاً: -

موت أبي طالبٍ، موت خديجة، في سَنَةٍ معيّنةٍ، حادِثَةٌ تاريخيةٌ مهمّةٌ

٦٨

تدخل في نطاق ضبط المؤرِّخين.

وأكثر من هذا، هي حادثةٌ ذاتُ بُعْدٍ في التاريخ، ترتَّبتْ عليها آثارٌ كثيرة، ولكنّها لا يَحكُمها سُنّة تاريخية، بل تحكمها قوانين فسلجيّة، تحكمها قوانين الحياة التي فرضت أنْ يموت أبو طالبٍ (صلوات الله عليه) وأنْ تموت خديجة (عليها السلام) في ذلك الوقت المحدد.

هذه الحادثة تدخل في نطاق صلاحيّات المؤرِّخين، ولكنّ الذي يتحّكم في هذه الحادِثة هي قوانينُ فَسْلَجِةِ جِسم أبي طالبٍ وجسم خديجةٍ، قوانين الحياة التي تفرض المَرض والشيخوخة ضمن شروط معيّنة وظروف معيّنة.

حياة عثمان بن عفان الخليفة الثالث، طولُ عمره، حادِثَة تاريخية، فقد ناهز الثمانين، طبعاً هذه الحادثة التاريخية كانَ لها أثرٌ عظيم في تاريخ الإسلام، لو قُدِّر لهذا الخليفة أنْ يموت موتاً طبيعياً وِفقاً لقوانينه الفَسْلَجِيّة قبل يوم الثورة، كان من الممكن أنْ تتغيّر كثيرٌ من معالم التاريخ، كان من المحتمل أنْ يأتي الإمام أمير المؤمنين إلى الخلافة بدون تناقضات وبدون ضجيج وبدون خلاف، لكنّ قوانين فَسْلَجَة جسم عثمان بن عفان اقتضتْ إن يمتدّ به العمر إلى أنْ يُقْتَل من قِبَلِ الثائرين عليه، من المسلمين.

هذه حادثة تاريخية - بمعنى أنّها تدخل في اهتمامات المؤرِّخين، ولها بُعْدٌ تاريخي أيضاً - لعبت

٦٩

دوراً سلباً أو إيجاباً في تكييف الأحداث التاريخية الأخرى، ولكنّها لا تتحكّم فيها سنن التاريخ. إنّ الذي يتحكّم في ذلك قوانينُ بُنْيَةِ جِسْمِ عثمان، قوانين الحياة وقوانين جسم الإنسان، التي أعطتْ لعثمان بن عفان عمراً ناهَزَ الثمانين.

مواقف عثمان بن عفان وتصرّفاته الاجتماعية تدخل في نطاق سنن التاريخ، لكن طول عُمْر عثمان بن عفان مسألة أخرى، مسألة حياتيّة أو مسألة فَسْلَجِيَّة أو مسألة فيزيائيّة، وليستْ مسألة تتحكّم فيها سنن التاريخ.

إذنْ، سنن التاريخ لا تتحكّم على كل الساحة التاريخية، لا تتحكّم على كلّ القضايا التي يُدْرِجها الطبري في تاريخه، بل على ميدان معيّن من هذه الساحات، يأتي ذكره إنْ شاء الله.

٧٠

الدرس السادس:

قلنا إنّ الساحة التاريخية ساحةُ اهتمامات المؤرِّخين، لا يستوعِبُها كلُّ التاريخ؛ لأنّ هذه الساحة تشتمِل على ظواهر كونية وطبيعية، فيزيائيّة وحياتيّة وفَسْلجية أيضاً. هذه الظواهر تحكُمها قوانينُها النوعيّة، على الرغم مِن أنّ بعض هذه الظواهر ذاتُ أهميّةٍ بالمنظار التاريخي.

مِن منظار المؤرِّخين تعتبر هذه حوادث ذات أهميّة، لها بُعْدٌ زمني في امتدادِ وتيّارِ الحوادث التاريخيّة، ولكنّها - مع هذا - لا تَحكمها سنن التاريخ، بل تَحكمها سننُها الخاصّة.

سنن التاريخ تَحكم ميداناً معيّناً من الساحة التاريخية. هذا الميدان يشتمل على ظواهر متميِّزة تَميُّزاً نوعيّاً عن سائر الظواهر الكونية والطبيعية، وباعتبار هذا التميُّز النوعي استحقّتْ سنناً متميِّزة أيضاً تميُّزاً نوعيّاً عن سنن بقية الساحات الكونية.

المميِّز العام للظواهر التي تدخل في نطاق سنن التاريخ هو أنّ هذه الظواهر تحمِل علامةً جديدة لم تكنْ موجودة في سائر الظواهر الأخرى الكونيّة

٧١

والطبيعية والبشرية. الظواهر الكونيّة والطبيعيّة كلّها تحمِل علاقةً ظاهرة، بسببِ مُسَبَّبٍ، بسبب نتيجة بمقدِّمات، هذه العلاقة موجودة في كلّ الظواهر الكونية والطبيعية.

الغليان ظاهرة طبيعية مرتبِطة بظروف معيّنة، بدرجة حرارة معيّنة، بدرجةٍ معيّنةٍ مِمَّنْ قرَّبَ هذا الماء من النار. هذا الارتباط ارتباط المُسبب بالسبب، العلاقة هنا علاقة السببية، علاقة الحاضر بالماضي بالظروف المُسبَقة المُنجَزة.

لكنْ هناك ظواهر على الساحة التاريخية تَحمل علاقةً مِن نَمَطٍ آخر، وهي علاقةٌ ظاهرةٌ بهدفٍ، علاقةُ نشاطٍ بِغَايَةٍ، أو ما يُسمّيه الفلاسفة بالعلّة الغائية، تميّزاً عن العلّة الفاعليّة.

هذه العلاقة علاقة جديدة متميّزة، غليان الماء بالحرارة، يَحمل مع سببه مع ماضيه، لكنْ لا يحمل علاقةً مع غايةٍ ومع هدف ما لم يتحوّل إلى فعلٍ إنساني، والى جُهد بشري، بينما العمل الإنساني الهادف يحتوي على علاقةٍ لا فقط مع السبب، لا فقط مع الماضي، بل مع الغاية التي هي غير موجودة حين إنْجاز هذا العمل، وإنّما يترقّب وجودها.

أي العلاقة هنا علاقة مع المستقبل لا مع الماضي، الغاية دائماً تمثِّل المستقبل بالنسبة إلى العمل، بينما السبب يمثّل الماضي بالنسبة إلى هذا العمل.

فالعلاقة التي يتميّز بها العمل التاريخي، العمل الذي

٧٢

تَحكمه سنن التاريخ هو أنّه عمل هادف، عملٌ يرتبِط بعلّة غائيّة سواء كانت هذه الغاية صالحة أو طالحة، نظيفة أو غير نظيفة، على أي حالٍ يعتبر هذا عملاً هادفاً، يعتبر نشاطاً تاريخيّاً، يَدخل في نطاق سنن التاريخ، على هذا الأساس وهذه الغايات التي يرتبط بها هذا العمل الهادِف المسؤول، هذه الغايات حيث إنهاّ مستقبليّة بالنسبة إلى العمل، فهي تؤثّر من خلال وجودها الذهني في العامل لا محالة؛ لأنّها بوجودها الخارجي، بوجودها الواقعي، طموح وتطلّع إلى المستقبل، ليست موجودة وجوداً حقيقيّاً، وإنّما تؤثّر من خلال وجودها الذهني في الفاعل.

إذنْ المستقبل أو الهدف الذي يشكِّل الغاية للنشاط التاريخي يؤثِّر في تحريك هذا النشاط وفي بَلْوَرَتِهِ من خلال الوجود الذهني، أي من خلال الفكر الذي يَمْثُلُ فيه الوجود الذهني للغاية، ضمن شروط ومواصفات، حينئذٍ يؤثّر في إيجاد هذا النشاط، إذ حصلْنا الآن على مميّز نوعي للعمل التاريخي لظاهرة على الساحة التاريخية، هذا المميِّز غير موجود بالنسبة إلى سائر الظواهر الأخرى على ساحات الطبيعة المختلفة، هذا المميِّز ظهورُ علاقةِ فِعْلٍ بغايةٍ، نشاط بهدفٍ، في التفسير الفلسفي: ظهور دور العلّة الغائيّة، كون هذا الفعل متطلِّعا إلى المستقبل، كون المستقبل

٧٣

محرِّكاً لهذا الفعل من خلال الوجود الذهني الذي يرسم للفاعل غايتَه، أي من خلال الفكر.

إذنْ هذا هو في الحقيقة دائرة السنن النوعيّة للتاريخ. السنن النوعيّة للتاريخ موضوعها ذلك الجزء من الساحة التاريخية الذي يُمثِّل عملاً له غايةٌ، عملاً يَحمل علاقةً إضافيةً إلى العلاقات الموجودة في الظاهرة الطبيعيّة، وهي العلاقة بالغاية والهدف، بالعلة الغائية.

لكنْ ينبغي هنا أيضاً أنّه ليس كلُّ عملٍ له غايةٌ هو عمل تاريخي، هو عمل تجري عليه سنن التاريخ، بل يوجد بُعْدٌ ثالث لا بدّ أنْ يتوفّر لهذا العمل؛ لكي يكون عملاً تاريخيّاً، أي عملاً تَحكمه سنن التاريخ. البعد الأوّل كان هو(السبب) و البعد الثاني كان هو الغاية(الهدف) .

لا بد إذنْ من بُعْدٍ ثالث؛ لكي يكون هذا العمل داخِلاً في نطاق سنن التاريخ، هذا البُعْد الثالث هو: -

* أنْ يكون لهذا العمل أرضيّة تتجاوز ذات العامل، أنْ تكون أرضيّة العمل هي: عبارة عن المجتمع، العمل الذي يخلق موجاً، هذا الموج يتعدّى الفاعل نفسَه، ويكون أرضيّته الجماعة التي يكون هذا الفرد جزءً منها.

طبعاً الأمواج على اختلاف درجاتها، هناك موج محدود، هناك موج كبير، لكنّ العمل لا يكون عملاً تاريخيّاً إلاّ إذا كان له موج يتعدّى حدودَ العَامِل الفردي، قد يأكل الفرد إذا جاع،

٧٤

ويشرب إذا عطش، وينام إذا أَحَسَّ بحاجته إلى النوم، لكن هذه الأعمال، على الرغم مِن أنّها أعمال هادِفة أيضاً، تريد أنْ تُحقِّق غايات، ولكنّها أعمال لا يمتَدّ موجُها أكثر من العامِل، خلافاً لعملٍ يقوم به الإنسان من خلال نشاطٍ اجتماعي وعلاقات متبادَلة مع أفراد جماعته، فمثلاً: -

التاجر حينما يعمل عملاً تجاريّاً، أو القائد حينما يعمل عملاً حربيّاً، أو السياسي حينما يمارِس عملاً سياسيّاً، المفكر حينما يتبنّى وِجْهة نظرٍ في الكون والحياة، هذه الأعمال موجٌ يتعدّى شخص العامِل، يتّخذ من المجتمع أرضيّة له، ويمكننا أيضاً أنْ نستعين بمصطلحات الفلاسفة فنقول: -

المجتمع يُشكِّل علّةً مادِّيةً لهذا العمل، يتبدّل من مصطلحات الفلاسفة التمييز الأرسطي بين العِلَّة الفاعليّة والعلّة الغائيّة والعلة المادِّية، هنا نستعين بهذه المصطلحات لتوضيح الفكرة، فنقول: -

المجتمع يشكِّل علّة مادِّية لهذا العمل، أي أرضيّة العمل لحالةٍ من هذا القبيل، يُعتبر هذا العمل عملاً تاريخيّاً، ويُعتبر عملاً للأمّة وللمجتمع، وإنْ كان الفاعل المباشِر - في جُمْلةٍ من الأحيان - هو فردٌ واحد، أو عدد من الأفراد، ولكنْ باعتبار الموج يُعتبر المجتمع.

إذنْ العمل التاريخي الذي تَحْكمه سنن التاريخ، هو العمل الذي يكون حاملاً لعلاقةٍ مع هدفٍ وغايةٍ، ويكون في نفس الوقت ذا أرضيّةٍ أوسع

٧٥

من حدود الفرد، ذا موجٍ يَتَّخِذُ من المجتمع علَّة مادِّية له، وبهذا يُكَوِّنُ عملَ المجتمع.

وفي القرآن الكريم نجد تمييزاً بين عمل الفرد وعمل المجتمع، ونلاحظ في القرآن الكريم أنّه من خلال استعراضه للكتب الغيبيّة الإحصائية، تحدّث القرآن عن كتابٍ للفرد وتحدّث عن كتابٍ للأمّة، عن كتابٍ يحصي على الفرد عملَه، وعن كتاب يحصي على الأُمّة عملها.

وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي الذي ينسب إلى الفرد وبين عمل الأمّة، بين العمل الذي له ثلاثة أبعاد، والعمل الذي له بُعْدان، العمل الذي له بُعدان لا يدخل إلاّ في كتابِ الفرد، وأمّا العمل الذي له ثلاثة أبعاد فهو يَدخل في الكِتَابَيْن، يدخل في كتاب الأمّة، ويُعرض على الأمّة، وتُحاسب الأمّة على أساسه.

لاحظوا قولَه تعالى:

( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) .

هنا القرآن الكريم يتحدّث عن كتابٍ للأمّة، أُمّةٌ جاثِيَةٌ بين يدي ربِّها ويُقدَّم لها كتابها، يُقدَّم لها سِجِلّ نشاطها وحياتها التي مارستْها كأُمّة. هذا العمل الهادف

____________

(١) سورة الجاثية: الآية (٢٨ - ٢٩).

٧٦

ذو الأبعاد الثلاثة، يحتوي هذا الكتاب وهذا الكتاب - انتبهوا إلى العبارة - يقول:

( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

هذا الكتاب ليس تاريخ الطبري لا يُسَجِّل الوقائع الطبيعية، الفسلجيّة، الفيزيائيّة، إنّما يحدّد، ويَستنسِخ ما كانوا يعملون كأُمّة، ما كانت الأمّة تَعْمَله كأُمّة، يعني العمل الهادف ذو الموج بحيث يكون العمل منسوباً للأمّة، وتكون الأمّة مدعوّة إلى كتابِها. هذا العمل هو الذي يحويه هذا الكتاب، بينما في آية أُخرى نلاحظ قولَه سبحانه وتعالى:

( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (١) .

هنا الموقف يختلف، هنا كلّ إنسان مرهونٌ بكتابه، لكلّ إنسان كتابٌ لا يُغادِر صغيرةً ولا كبيرةً من أعماله، من حسناته وسيئاته، وهفواته وسَقَطَاتِهِ، من صعوده ونزوله إلاّ وهو مُحْصَى في ذلك الكتاب، والكتاب الذي كُتِبَ بِعِلْمِ مَنْ لا يعزبُ عن علمه مثقال ذرّةٍ في الأرض.

كلّ إنسان قد يفكِّر أنّ بإمكانه أنْ يُخفي نقطةَ ضعفٍ، أنْ يُخفي ذنباً، سيِّئةً عن جيرانه وقَومه وأُمّته وأولاده، وحتى عن نفسه، يخدع نفسَه، يرى أنّه لم يرتكب سيِّئةً، ولكنّ هذا الكتاب الحق

____________

(١) سورة الإسراء: الآية: ( ١٣ - ١٤ )

٧٧

لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، في ذلك اليوم يُقال: أنت حاسِبْ نفسك؛ لأنّ هذه الأعمال التي مارسْتَها سوف تواجهها في هذا الكتاب. أنْ تحكم على نفسك بموازين الحق في يوم القيامة، في ذلك اليوم لا يمكن لأيّ إنسان أنْ يُخفي شيئاً عن الموقف، عن الله سبحانه وتعالى، وعن نفسه.

هذا كتابُ الفرد، وذاك كتابُ الأمّة. هناك كتاب لأمّةٍٍ جاثيةٍ بين يدي ربِّها، وهنا لكلّ فردٍ كتابٌ. هذا التمييز النوعي القرآني بين كتاب الأمّة وكتاب الفرد، تعبيرٌ آخر عمّا قلناه:

* مِنْ أنّ العمل التاريخي هو ذاك العمل الذي يتمثّل في كتاب الأمّة، العمل الذي له أبعاد ثلاثة. بل إنّ الذي يُستظهَر ويلاحَظ مِن عددٍ آخر من الآيات القرآنية الكريمة أنّه ليس فقط يوجد كتاب للفرد ويوجد كتاب للأمّة، بل يوجد إحضار للفرد ويوجد إحضار للأمّة، هنا إحضاران بين يدي الله سبحانه وتعالى:

الإحضار الفردي:

يأتي بكلّ إنسان فرداً فرداً، لا يملك ناصراً ولا مُعيناً، لا يملك شيئاً يستعين به في ذلك الموقف، إلاّ العمل الصالح والقلب السليم والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذا هو الإحضار الفردي. قال الله تعالى:

( إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ

٧٨

يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ) (١) .

هذا الإحضار هو إحضار فردي بين يدي الله تعالى، وهناك إحضار آخر:

إحضار للفرد في وسط الجماعة:

إحضار للأمّة بين يدي الله سبحانه وتعالى، كما يوجد هناك سِجِّلان كذلك يوجد إحضاران (كما تقدم)، ترى كلّ أُمّة جاثيةً تُدعى إلى كتابها، ذاك إحضار للجماعة، والمستأنَس به مِن سياق الآيات الكريمة أنّه هذا الإحضار الثاني يكون من أجل إعادة العلاقات إلى نصابها الحق.

العلاقات داخل الأمّة قد تكون غير قائمة على أساس الحق، فقد يكون الإنسان المستضعَف فيها جديراً بأنْ يكون في أعلى الأمّة، هذه الأمّة تُعاد فيها العلاقات إلى نصابها الحق. هذا اليوم هو اليوم الذي سمّاه القرآن الكريم بيوم التغابن.

* كيف يحصل التغابن؟

يحصل التغابن عن طريق اجتماع المجموعة، ثمّ كل إنسان كان مغبوناً في موقعه في الأمّة، في وجوده في الأمّة، بقدر ما كان مَغْبوناً في موقعه في الأمّة يأخذ حقّه، يأخذ حقّه يوم لا كلمة إلاّ للحق. لاحظوا قوله تعالى:

( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ) (٢) .

إذنْ، فهناك سِجِّلان: هناك سِجِلٌ لعمل الفرد، وهناك سجل لعمل الأمّة. وعمل الأمّة هو عبارة عمّا قُلناه في العمل الذي يكون له ثلاثة أبعاد:

* بُعْدٌ مِنْ

____________

(١) سورة مريم: الآية (٩٣-٩٤-٩٥).

(١) سورة التغابن: الآية (٩).

٧٩

ناحية العامل، ما يسمِّيه أرسطو بـ ( العلّة الفاعليّة ).

* وبُعْدٌ من ناحية الهدف، ما يُسمّيه أرسطو بـ ( العلّة الغائيّة ).

* وبُعْدٌ من ناحية الأرضيّة وامتداد الموج، ما يسمُّونه بـ ( العلّة المادِّيّة ).

هذا العمل ذو الأبعاد الثلاثة هو موضوع سنن التاريخ، هذا هو عمل المجتمع.

لكنْ لا ينبغي أنْ يُوهِم ذلك ما تَوَهَّمَهُ عددٌ من المفكّرين والفلاسفة الأوربيين مِن: أنّ المجتمع كائن عملاق له وجود وَحْدَوي عضوي، متميِّز عن سائر الأفراد، وكلّ فردٍ ليس إلاّ بمثابة الخليّة في هذا العملاق الكبير، (هكذا تصوّر هيجل مثلاً) وجملة من الفلاسفة الأوروبيين، تصوّروا عمل المجتمع بهذا النحو، أرادوا أنْ يُميّزوا بين عمل المجتمع وعمل الفرد فقال:

بأنّه يوجد عندنا كائن عضوي واحد عملاق، هذا الكائن الواحد هو في الحقيقة يَلفُّ في أحشاءه، وتندمِج في كيانه كلُّ الأفراد. لكل فرد يشكِّل خليّة في هذا العملاق الواحد، وهو يتّخذ من كل فرد نافذةً على الواقع، على العالم، بقدر ما يمكن أنْ يجسّد في هذا الفرد من قابليّاته هو، ومن إبداعه هو. إذنْ، كل قابليّة وكلّ إبداع، وكلّ فِكْرٍ هو تعبير عن نافذةٍ من النوافذ التي يُعبّر عنها ذلك العملاق الهيجلي.

هذا التصوُّر اعتقد به جملةٌ من الفلاسفة الأوربيين، تمييزاً لعمل المجتمع عن عمل الفرد،

٨٠