المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر0%

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 392

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 392
المشاهدات: 84871
تحميل: 7296

توضيحات:

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84871 / تحميل: 7296
الحجم الحجم الحجم
المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

السنّي وطوّروا معناها، فتراءى لعلمائنا الأخباريين الذين لم يدركوا التحوّل الجوهري في مدلول المصطلح أنّ علم الأصول عند أصحابنا يتبنّى نفس الاتّجاهات العامة في الفكر العلمي السنّي، ولهذا شجبوا الاجتهاد وعارضوا في جوازه المحقّقين من أصحابنا.

٥ - وكان الدور الذي يلعبه العقل في علم الأصول مثيراً آخر للأخباريين على هذا العلم نتيجة لاتّجاههم المتطرّف ضد العقل، كما رأينا في بحث سابق(١) .

٦ - ولعل أنجح الأساليب التي اتّخذها المحدّث الاسترابادي وأصحابه لإثارة الرأي العام الشيعي ضد علم الأصول هو استغلال حداثة علم الأصول لضربه، فهو علم لم ينشأ في النطاق الإمامي إلاّ بعد الغيبة، وهذا يعني أن أصحاب الأئمّة وفقهاء مدرستهم مضوا بدون علم أصول، ولم يكونوا بحاجة إليه.وما دام فقهاء تلامذة الأئمّة - من قبيل زُرارة بن أعين، ومحمّد بن مسلم، ومحمّد بن أبي عُمير، ويونس بن عبد الرحمن، وغيرهم - كانوا في غنى عن علم الأصول في فقههم، فلا ضرورة للتورّط فيما لم يتورّطوا فيه، ولا معنى للقول بتوقّف الاستنباط والفقه على علم الأصول.

ويمكننا أن نعرف الخطأ في هذه الفكرة على ضوء ما تقدّم سابقاً من أنّ الحاجة إلى علم الأصول حاجة تأريخية، فإنّ عدم إحساس الرواة والفقهاء الذين عاشوا عصر النصوص بالحاجة إلى تأسيس علم الأصول لا يعني عدم احتياج الفكر الفقهي إلى علم الأصول في العصور المتأخّرة التي يصبح الفقيه فيها بعيداً عن جو النصوص ويتّسع الفاصل الزمني بينه وبينها ؛ لأنّ هذا الابتعاد يخلق فجواتٍ

____________________

(١) سبق تحت عنوان : المعركة إلى صفّ العقل.

١٠١

في عملية الاستنباط ويفرض على الفقيه وضع القواعد الأصولية العامة لعلاج تلك الفجوات.

الجذور المزعومة للحركة الأخبارية :

وبالرغم من أنّالمحدّث الاسترابادي كان هو رائد الحركة الأخبارية فقد حاول في فوائده المدنية أن يرجع بتاريخ هذه الحركة إلى عصر الأئمّة، وأن يثبت لها جذوراً عميقة في تاريخ الفقه الإمامي لكي تكتسب طابعاً من الشرعية والاحترام، فهو يقول : إنّ الاتّجاه الأخباري كان هو الاتّجاه السائد بين فقهاء الإمامية إلى عصر الكُليني والصدوق وغيرهما من ممثّلي هذه الاتّجاه في رأي الاسترابادي، ولم يتزعزع هذا الاتّجاه إلاّ في أواخر القرن الرابع وبعده حين بدأ جماعة من علماء الإمامية ينحرفون عن الخط الأخباري ويعتمدون على العقل في استنباطهم ويربطون البحث الفقهي بعلم الأصول ؛ تأثّراً بالطريقة السنّية في الاستنباط، ثمّ أخذ هذا الانحراف بالتوسع والانتشار(١) .

ويذكر المحدّث الاسترابادي(٢) بهذا الصدد كلاماً للعلاّمة الحلّي الذي عاش قبله بثلاث قرون جاء فيه التعبير عن فريق من علماء الإمامية

بالأخباريين، ويستدلّ بهذا النصّ على سبق الاتّجاه الأخباري تأريخياً.

ولكنّ الحقيقة أنّ العلاّمة الحلّي يشير بكلمة الأخباريين(٣) في حديثه إلى مرحلة من مراحل الفكر الفقهي لا إلى حركة ذات اتّجاه محدّد في

____________________

(١) الفوائد المدنية : ٤٣ - ٤٤.

(٢) المصدر السابق : ٤٤.

(٣) نهاية الأصول ( مخطوط ) : ٢٩٦.

١٠٢

الاستنباط، فقد كان في فقهاء الشيعة منذ العصور الأولى علماء أخباريون يمثّلون المرحلة البدائية من التفكير الفقهي، وهؤلاء هم الذين تحدّث عنهم الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط(١) ، وعن ضيق أُفقهم، واقتصارهم في بحوثهم الفقهية على أصول المسائل، وانصرافهم عن التفريع والتوسّع في التطبيق.وفي النقطة المقابلة لهم الفقهاء الأصوليّون الذين يفكّرون بذهنية أصولية ويمارسون التفريع الفقهي في نطاق واسع.فالأخبارية القديمة - إذن - تعبّر عن مستوى من مستويات الفكر الفقهي، لا عن مذهب من مذاهبه.

وهذا ما أكّده المحقّق الجليل الشيخ محمّد تقي - المتوفّى سنة ١٢٤٨ ه- في تعليقته الضخمة على المعالم، إذ كتب بهذا الشأن يقول :

فإن قلت : إنّ علماء الشيعة كانوا من قديم الزمان على صنفين : أخباري وأصولي، كما أشار إليه العلاّمة في النهاية وغيره.

قلت : إنّه وإن كان المتقدّمون من علمائنا على صنفين وكان فيهم أخبارية إلاّ أنّه لم تكن طريقتهم ما زعمه هؤلاء، بل لم يكن الاختلاف بينهم وبين الأصولية إلاّ في سعة الباع في التفريعات الفقهية، وقوّة النظر إلى القواعد الكلّية والاقتدار على تفريع الفروع عليها، فقد كانت طائفة منهم أرباب النصوص ورواة الأخبار، ولم تكن طريقتهم التعدّي عن مضامين الروايات وموارد النصوص، بل كانوا يفتون غالباً على طبق ما يرون ويحكمون على وفق متون الأخبار، ولم يكن كثير منهم من أهل النظر والتعمّق في المسائل العلمية...، وهؤلاء لا يتعرّضون غالباً للفروع غير المنصوصة، وهم المعروفون بالأخبارية.وطائفة منهم أرباب النظر والبحث عن المسائل، وأصحاب التحقيق والتدقيق في استعلام الأحكام من

____________________

(١) المبسوط ١ : ١ - ٢.

١٠٣

الدلائل، ولهم الاقتدار على تأصيل الأصول والقواعد الكلّية عن الأدلة القائمة عليها في الشريعة، والتسلّط على تفريع الفروع عليها واستخراج أحكامها منها، وهم الأصوليّون منهم،كالعماني، والاسكافي، وشيخنا المفيد، وسيدنا المرتضى، والشيخ ، وغيرهم ممّن يحذو حذوهم.

وأنت إذ تأمّلت لا تجد فرقاً بين الطريقتين إلاّ من جهة كون هؤلاء أرباب التحقيق في المطالب، وأصحاب النظر الدقيق في استنباط المقاصد وتفريع الفروع على القواعد، ولهذا اتسعت دائرتهم في البحث والنظر، وأكثروا من بيان الفروع والمسائل، وتعدوا عن متون الأخبار...، وأولئك المحدّثون ليسوا غالبا بتلك القوّة من الملكة وذلك التمكّن من الفنّ، فلذا اقتصروا على ظواهر الروايات، ولم يتعدّوا - غالباً - عن ظواهر مضامينها، ولم يوسعوا الدائرة في التفريعات على القواعد، وأنّهم لما كانوا في أوائل انتشار الفقه وظهور المذهب كان من شأنهم تنقيح أصول الأحكام التي عمدتها الأخبار المأثورة عن العترة الطاهرة، فلم يتمكّنوا من مزيد إمعان النظر في مضامينها وتكثير الفروع المتفرّعة عليها، ثمّ إنّ ذلك إنّما حصل بتلاحق الأفكار في الأزمنة المتأخّرة)(١) .

وفي كتابالحدائق يعترف الفقيه الجليل الشيخيوسف البحراني - بالرغم من موافقته على بعض أفكار المحدّث الاسترابادي - بأنّ هذه المحدّث هو أوّل من جعل الأخبارية مذهباً، وأوجد الاختلاف في صفوف العلماء على أساس ذلك، فقد كتب يقول : ( ولم يرتفع صيت هذا الخلاف، ولا وقع هذا الاعتساف إلاّ في زمن صاحب الفوائد المدنية سامحه الله تعالى برحمته المرضية ؛ فإنّه قد جرّد لسان التشنيع على الأصحاب، وأسهب في ذلك أي إسهاب، وأكثر من التعصّبات

____________________

(١) هداية المسترشدين : ٤٨٣، السطر ٣١.

١٠٤

التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب )(١) .

اتّجاه التأليف في تلك الفترة :

وإذا درسنا النتاج العلمي في الفترة التي توسّعت فيها الحركة الأخبارية في أواخر القرن الحادي عشر وخلال القرن الثاني عشر وجدنا اتّجاها نشيطاً موفّقا في تلك المدّة إلى جمع الأحاديث وتأليف الموسوعات الضخمة في الروايات والأخبار، ففي تلك المدّة كتبالشيخ محمّد باقر المجلسي قدس‌سره - المتوفّى سنة ١١١٠ ه- كتاب( البحار ) وهو أكبر موسوعة للحديث عند الشيعة، وكتبالشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي قدس‌سره - المتوفّى سنة ١١٠٤ ه- كتاب( الوسائل ) الذي جمع فيه عدداً كبيراً من الروايات المرتبطة بالفقه، وكتبالفيض محسن القاساني - المتوفّى سنة ١٠٩١ ه- كتاب( الوافي ) المشتمل على الأحاديث التي جاءت في الكتب الأربعة، وكتبالسيد هاشم البحراني - المتوفّى سنة ١١٠٧ ه- أو حوالي ذلك - كتاب ( البرهان ) في التفسير جمع فيه المأثور من الروايات في تفسير القرآن.

ولكنّ هذا الاتّجاه العام في تلك الفترة إلى التأليف في الحديث لا يعني أنّ الحركة الأخبارية كانت هي السبب لخلقه، وإن كانت عاملا مساعداً في أكبر الظنّ، بالرغم من أنّ بعض أقطاب ذلك الاتجاه لم يكنوا أخباريين، وإنّما تكوّن هذه الاتجاه العام نتيجة لعدّة أسباب، ومن أهمّها : أنّ كتباً عديدة في الروايات اكتشفت خلال القرون التي أعقبت الشيخ لم تكن مندرجة في كتب الحديث الأربعة عند الشيعة، ولهذا كان لا بدّ لهذه الكتب المتفرّقة من موسوعات جديدة

____________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٠.

١٠٥

تضمّها وتستوعب كلّ ما كشف عنه الفحص والبحث العلمي من روايات وكتب أحاديث.

وعلى هذا الضوء قد يمكن أن نعتبر العمل في وضع تلك الموسوعات الضخمة التي أنجزت في تلك الفترة عاملاً من العوامل التي عارضت نمو البحث الأصولي إلى صف الحركة الأخبارية، ولكنّه عامل مبارك على أيّ حال ؛ لأنّ وضع تلك الموسوعات كان من مصلحة عملية الاستنباط نفسها التي يخدمها علم الأصول.

البحث الأصولي في تلك الفترة :

وبالرغم من الصدمة التي مُنِي بها البحث الأصولي في تلك الفترة لم تنطفئ جذوته، ولم يتوقّف نهائياً، فقد كتب الملاعبد الله التوني - المتوفّى سنة ١٠٧١ ه-( الوافية في الأصول ) ، وجاء بعده المحقّق الجليلالسيد حسين الخونساري - المتوفّى سنة ١٠٩٨ ه- وكان على قدرٍ كبيرٍ من النبوغ والدقّة، فأمدّ الفكر الأصولي بقوّة جديدة كما يبدو من أفكاره الأصولية في كتابه الفقهي( مشارق الشموس في شرح الدروس ) ، ونتيجة لمرانه العظيم في التفكير الفلسفي انعكس اللون الفلسفي على الفكر العلمي والأصولي بصورة لم يسبق لها نظير.

ونقول : انعكس اللون الفلسفي لا الفكر الفلسفي ؛ لأنّ هذا المحقّق كان ثائراً على الفسلفة، وله معارك ضخمة مع رجالاتها، فلم يكن فكره فكراً فلسفياً بصيغته التقليدية وإن كان يحمل اللون الفلسفي، فحينما مارس البحث الأصولي انعكس اللون، وسرى في الأصول الاتّجاه الفلسفي في التفكير بروحية متحرّرة من الصيغ التقليدية التي كانت الفلسفة تتبنّاها في مسائلها وبحوثها، وكان لهذه الروح أثرها الكبير في تأريخ العلم فيما بعد، كما سنرى إن شاء الله تعالى.

١٠٦

وفي عصر الخونساري كان المحقّق محمّد بن الحسن الشيرواني - المتوفّى سنة ١٠٩٨ ه- يكتب حاشيته على المعالم.

ونجد بعد ذلك بحثين أصوليين : أحدهما قام بهجمال الدين بن الخونساري ، إذ كتب تعليقاً على شرحالمختصر للعضدي ، وقد شهد لهالشيخ الأنصاري فيالرسائل (١) بالسبق إلى بعض الأفكار الأصولية.والآخر السيدصدر الدين القمّي الذي تلمّذ علىجمال الدين ، وكتب شرحاًلوافية التوني ، ودرس عنده الأستاذالوحيد البهبهاني ، وتوفّي سنة [ ١١٦٥ ه- ].

والواقع أنّالخونساري الكبير ومعاصرهالشيرواني وابنهجمال الدين وتلميذ ولدهصدر الدين - بالرغم من أنّهم عاشوا فترة زعزعة الحركة الأخبارية للبحث الأصولي وانتشار العمل في الأحاديث - كانوا عوامل رفع للتفكير الأصولي، وقد مهّدوا ببحوثهم لظهور مدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني التي افتتحت عصراً جديدا في تأريخ العلم كما سوف نرى، وبهذا يمكن اعتبار تلك البحوث البذور الأساسية لظهور هذه المدرسة، والحلقة الأخيرة التي أكسبت الفكر العلمي في العصر الثاني الاستعداد للانتقال إلى عصر ثالث.

انتصار علم الأصول وظهور مدرسة جديدة :

وقد قدر للاتجاه الأخباري في القرن الثاني عشر أن يتّخذ من كربلاء نقطة ارتكاز له، وبهذا عاصر ولادة مدرسة جديدة في الفقه والأصول نشأت في كربلاء أيضاً على يد رائدها المجدّد الكبيرمحمّد باقر البهبهاني المتوفّى سنة ( ١٢٠٦ ه- )، وقد نصبت هذه المدرسة الجديدة نفسها لمقاومة الحركة الأخبارية والانتصار لعلم

____________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٠٠.

١٠٧

الأصول، حتى تضاءل الاتّجاه الأخباري ومُنِي بالهزيمة، وقد قامت هذه المدرسة إلى صف ذلك بتنمية الفكر العلمي والارتفاع بعلم الأصول إلى مستوى أعلى، حتى أن بالإمكان القول بأنّ ظهور هذه المدرسة وجهودها المتضافرة التي بذلها البهبهاني وتلامذة مدرسته المحقّقون الكبار قد كان حداً فاصلا بين عصرين من تأريخ الفكر العلمي في الفقه والأصول.

وقد يكون هذا الدور الايجابي الذي قامت به هذه المدرسة فافتتحت بذلك عصراً جديداً في تاريخ العلم متأثّراً بعدّة عوامل :

منها : عامل ردّ الفعل الذي أوجدته الحركة الأخبارية، وبخاصة حين جمعها مكان واحد ككربلاء بالحوزة الأصولية، الأمر الذي يؤدّي بطبيعته إلى شدّة الاحتكاك وتضاعف ردّ الفعل.

ومنها : أنّ الحاجة إلى وضع موسوعات جديدة في الحديث كانت قد أشبعت، ولم يبقَ بعد وضع الوسائل والوافي والبحار إلاّ أن يواصل العلم نشاطه الفكري مستفيداً من تلك الموسوعات في عمليات الاستنباط.

ومنها : أنّ الاتّجاه الفلسفي في التفكير الذي كان الخونساري قد وضع إحدى بذوره الأساسية زوَّد الفكر العلمي بطاقة جديدة للنموّ وفتح مجالاً جديدا للإبداع، وكانت مدرسة البهبهاني هي الوارثة لهذا الاتّجاه.

ومنها : عامل المكان، فإنّ مدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني نشأت على مقربة من المركز الرئيسي للحوزة - وهو النجف - فكان قربها المكاني هذا من المركز سببا لاستمرارها ومواصلة وجودها عبر طبقات متعاقبة من الأساتذة والتلامذة، الأمر الذي جعل بإمكانها أن تضاعف خبرتها باستمرار وتضيف خبرة طبقة من رجالاتها إلى خبرة الطبقة التي سبقتها، حتى استطاعت أن تقفز بالعلم قفزة كبيرة وتعطيه ملامح عصر جديد.وبهذا كانت مدرسة البهبهاني تمتاز عن

١٠٨

المدارس العديدة التي كانت تقوم هنا وهناك بعيداً عن المركز وتتلاشى بموت رائدها.

نصّ يصوِّر الصراع مع الحركة الأخبارية :

وللمحقّق البهبهاني رائد هذه المدرسة كتاب في الأصول باسم( الفوائد الحائرية ) نلمح فيه ضراوة المعركة التي كان يخوضها ضدّ الحركة الأخبارية.

ونقتبس من الكتاب نصّاً يشير فيه إلى بعض شبهات الأخباريين وحججهم ضدّ علم الأصول، ويلمّح لدى تفنيدها إلى ما شرحناه سابقاً من أنّ الحاجة إلى علم الأصول حاجة تأريخية.

قال البهبهاني : ( لمّا بَعُد العهد عن زمان الأئمّةعليهم‌السلام وخفت أمارات الفقه والأدلة - على ما كان المقرّر عند الفقهاء والمعهود بينهم بلا خفاء بانقراضهم وخلوّ الديار عنهم إلى أن انطمس أكثر آثارهم، كما كانت طريقة الأُمم السابقة والعادة الجارية في الشرائع الماضية : أنّه كلما يبعد العهد عن صاحب الشريعة تخفى أمارات قديمة، وتحدث خيالات جديدة إلى أن تضمحلّ تلك الشريعة - توهّم متوهّم أنّ شيخنا المفيد ومن بعده من فقهائنا إلى الآن كانوا مجتمعين على الضلالة، مبدِعين بدعاً كثيرةً...، متابعين للعامة، مخالفين لطريقة الأئمّة، ومغيِّرين لطريقة الخاصّة، مع غاية قربهم(١) لعهد الأئمّة، ونهاية جلالتهم وعدالتهم ومعارفهم في الفقه والحديث و تبحّرهم وزهدهم وورعهم )(٢) .

____________________

(١) أي : إنّ هذه التهمة توجّه إليهم بالرغم من أنّهم في غاية القرب لعهد الأئمّةعليهم‌السلام .( المؤلّف قدس‌سره ).

(٢) الفوائد الحائرية : ٨٥ - ٨٦.

١٠٩

ويستمرّ في استعراض مدى جرأة خصومه على أولئك الكبار ويحاسبهم على تلك الجرأة، ثمّ يقول : ( وشبهتهم الأخرى هي : أنّ رواة هذه الأحاديث ما كانوا عالِمين بقواعد المجتهدين(١) ، مع أنّ الحديث كان حجّة لهم، فنحن أيضاً مثلهم لا نحتاج إلى شرط من شرائط الاجتهاد، وحالنا بعينه حالهم، ولا ينقطعون بأنّ الراوي كان يعلم أنّ ما سمعه كلام إمامه، وكان يفهم من حيث إنّه من أهل اصطلاح زمان المعصومعليه‌السلام ، ولم يكن مبتلىً بشيءٍ من الاختلالات التي ستعرفها، ولا محتاجاً إلى علاجها )(٢) .

استخلاص :

ولا يمكننا على مستوى هذه الحلقة أن نتوسّع في درس الدور المهمّ الذي قامت به هذه المدرسة أستاذاً وتلامذة وما حقّقته للعلم من تطوير وتعميق.

وإنّما الشيء الذي يمكننا تقريره الآن مع تلخيص كلّ ما تقدم عن تأريخ العلم هو : أنّ الفكر العلمي مرَّ بعصورٍ ثلاثة :

الأوّل : العصر التمهيدي، وهو عصر وضع البذور الأساسية لعلم الأصول، ويبدأ هذا العصر بابن أبي عقيل وابن الجنيد، وينتهي بظهور الشيخ.

الثاني : عصر العلم، وهو العصر الذي اختمرت فيه تلك البذور، وأثمرت وتحدّدت معالم الفكر الأصولي، وانعكست على مجالات البحث الفقهي في نطاق واسع، ورائد هذا العصر هو الشيخ الطوسي، ومن رجالاته الكبار : ابن إدريس، والمحقّق الحلّي، والعلاّمة، والشهيد الأوّل، وغيرهم من النوابغ.

____________________

(١) يقصد بقواعد المجتهدين : علم الأصول.( المؤلّف قدس‌سره ).

(٢) الفوائد الحائرية : ٨٨ - ٨٩.

١١٠

الثالث : عصر الكمال العلمي، وهو العصر الذي افتتحته في تأريخ العلم المدرسة الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن الثاني عشر على يد الأستاذ الوحيد البهبهاني، وبدأت تبني للعلم عصره الثالث بما قدّمته من جهود متضافرة في الميدانين الأصولي والفقهي.

وقد تمثّلت تلك الجهود في أفكار وبحوث رائد المدرسة الأستاذ الوحيد وأقطاب مدرسته الذين واصلوا عمل الرائد حوالي نصف قرن، حتى استكمل العصر الثالث خصائصه العامة ووصل إلى القِمّة.

ففي هذه المدّة تعاقبت أجيال ثلاثة من نوابغ هذه المدرسة :

ويتمثّل الجيل الأوّل في المحقّقين الكبار من تلامذة الأستاذ الوحيد، كالسيّد مهدي بحر العلوم المتوفّى سنة ( ١٢١٢ ه- )، والشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفّى سنة ( ١٢٢٧ ه- )، والميرزا أبي القاسم القمّي المتوفّى سنة [ ١٢٣١ ه- ]، والسيد علي الطباطبائي المتوفّى سنة [ ١٢٣١ ه- )، والشيخ أسد الله التُستري المتوفّى سنة ( ١٢٣٤ ه- ).

ويتمثّل الجيل الثاني في النوابغ الذين تخرّجوا على بعض هؤلاء، كالشيخ محمّد تقي عبد الرحيم المتوفّى سنة ( ١٢٤٨ ه- )، وشريف العلماء محمّد شريف ابن حسن بن عليّ المتوفّى سنة ( ١٢٤٥ ه- )، والسيد محسن الأعرجي المتوفّى سنة ( ١٢٢٧ ه- )، والمولى أحمد النراقي المتوفّى سنة ( ١٢٤٥ ه- )، والشيخ محمّد حسن النجفي المتوفّى سنة ( ١٢٦٦ ه- )، وغيرهم.

وأمّا الجيل الثالث فعلى رأسه تلميذ شريف العلماء المحقّق الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري، الذي ولد بُعَيد ظهور المدرسة الجديدة عام ( ١٢١٤ ه-)، وعاصرها في مرحلته الدراسية وهي في أوج نموّها ونشاطها، وقدِّر له أن يرتفع بالعلم في عصره الثالث إلى القمّة التي كانت المدرسة الجديدة في طريقها إليها.

١١١

ولا يزال علم الأصول والفكر العلمي السائد في الحوزات العلمية الإمامية يعيش العصر الثالث الذي افتتحته مدرسة الأستاذ الوحيد.

ولا يمنع تقسيمنا هذا لتأريخ العلم إلى عصور ثلاثة إمكانية تقسيم العصر الواحد من هذه العصور إلى مراحل من النموّ، ولكلّ مرحلة رائدها وموجِّهها.وعلى هذا الأساس نعتبر الشيخ الأنصاريقدس‌سره - المتوفّى سنة ١٢٨١ ه- رائدا لأرقى مرحلة من مراحل العصر الثالث، وهي المرحلة التي يتمثّل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مئة سنة حتّى اليوم.

١١٢

مصادر الإلهام للفكر الأصولي

لا نستطيع - ونحن لا نزال في الحلقة الأُولى - أن نتوسّع في دراسة مصادر الإلهام للفكر الأصولي، ونكشف عن العوامل التي كانت تلهم الفكر الأصولي وتمدّه بالجديد تلو الجديد من النظريات ؛ لأنّ ذلك يتوقف على الإحاطة المسبقة بتلك النظريات، ولهذا سوف نلخِّص في ما يلي مصادر الإلهام بصورة موجزة :

١ - بحوث التطبيق في الفقه : فإنّ الفقيه تنكشّف لديه من خلال بحثه الفقهي التطبيقي المشاكل العامة في عملية الاستنباط، ويقوم علم الأصول عندئذ بوضع الحلول المناسبة لها، وتصبح هذه الحلول والنظريات عناصر مشتركة في عملية الاستنباط.ولدى محاولة تطبيقها على مجالاتها المختلفة كثيرا ما ينتبه الفقيه إلى أشياء جديدة يكون لها أثر في تعديل تلك النظريات أو تعميقها.

ومثال ذلك : أنّ علم الأصول يقرّر أنّ الشيء إذا وجب وجبت مقدّمته، فالوضوء يجب - مثلاً - إذا وجبت الصلاة ؛ لأنّ الوضوء من مقدّمات الصلاة، كما يقرّر علم الأصول أيضاً أنّ مقدّمة الشيء إنّما تجب في الظرف الذي يجب فيه ذلك الشيء ولا يمكن أن تسبقه في الوجوب، فالوضوء إنّما يجب حين تجب

١١٣

الصلاة، ولا يجب قبل الزوال، إذ لا تجب الصلاة قبل الزوال، فلا يمكن أن يصبح الوضوء واجباً قبل أن يحلّ وقت الصلاة وتجب.

والفقيه حين يكون على علمٍ بهذه المقرّرات ويمارس عمله في الفقه فسوف يلحظ في بعض المسائل الفقهية شذوذاً جديرا بالدرس، ففي الصوم يجد - مثلاً - أنّ من المقرّر فقهياً أن وقت الصوم يبدأ من طلوع الفجر ولا يجب الصوم قبل ذلك، وكذلك من الثابت في الفقه أنّ المكلّف إذا أجنب في ليلة الصيام فيجب عليه أن يغتسل قبل الفجر لكي يصحّ صومه ؛ لأنّ الغسل من الجنابة مقدّمة للصوم فلا صوم بدونه، كما أنّ الوضوء مقدّمة للصلاة ولا صلاة بدون وضوء.

ويحاول الفقيه بطبيعة الحال أن يدرس هذه الأحكام الفقهية على ضوء تلك المقرّرات الأصولية، فيجد نفسه في تناقض ؛ لأنّ الغسل وجب على المكلّف فقهياً قبل مجيء وقت الصوم، بينما يقرّر علم الأصول أنّ مقدّمة كلّ شيء إنّما تجب في ظرف وجوب ذلك الشيء ولا تجب قبل وقته.وهكذا يُرغِم الموقف الفقهي الفقيه أن يراجع من جديدٍ النظرية الأصولية، ويتأمّل في طريقة للتوفيق بينهما وبين الواقع الفقهي، وينتج عن ذلك تولّد أفكار أصولية جديدة بالنسبة إلى النظرية تحدّدها أو تعمّقها وتشرحها بطريقة جديدة تتّفق مع الواقع الفقهي.

وهذا المثال مستمد من الواقع، فإنّ مشكلة تفسير وجوب الغُسل قبل وقت الصوم تكشَّفت من خلال البحث الفقهي، وكان أوّل بحث فقهيٍّ استطاع أن يكشف عنها هو بحث ابن إدريس في السرائر(١) وإن لم يوفّق لعلاجها.

وأدّى اكتشاف هذه المشكلة إلى بحوث أصولية دقيقةٍ في طريق التوفيق

____________________

(١) السرائر ١ : ١٣٠.

١١٤

بين المقرّرات الأصولية السابقة والواقع الفقهي، وهي البحوث التي يطلق عليها اليوم اسم بحوث المقدّمات المفوِّتة.

٢ - علم الكلام : فقد لعب دوراً مهمّا في تموين الفكر الأصولي وإمداده، وبخاصة في العصر الأول والثاني ؛ لأنّ الدراسات الكلامية كانت منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين حين بدأ علم الأصول يشقّ طريقه إلى الظهور، فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه.

ومثال ذلك : نظرية الحسن والقبح العقليّين، وهي النظرية الكلامية القائلة : بأنّ العقل الإنساني يدرك بصورةٍ مستقلّة عن النصّ الشرعي قبح بعض الأفعال، كالظلم والخيانة، وحسن بعضها، كالعدل والوفاء والأمانة، فإنّ هذه النظرية استخدمت أُصولياً في العصر الثاني لحجّية الإجماع، أي إنّ العلماء إذا اتّفقوا على رأي واحدٍ فهو الصواب، بدليل أنّه لو كان خطأً لكان من القبيح عقلا سكوت الإمام المعصوم عنه وعدم إظهاره للحقيقة، فقبح سكوت الإمام عن الخطأ هو الذي يضمن صواب الرأي المجمع عليه.

٣ - الفلسفة : وهي لم تصبح مصدرا لإلهام الفكر الأصولي في نطاق واسع إلاّ في العصر الثالث تقريباً، نتيجة لرواج البحث الفلسفي على الصعيد الشيعي بدلاً عن علم الكلام، وانتشار فلسفات كبيرة ومجدّدة، كفلسفة صدر الدين الشيرازي المتوفّى سنة ( ١٠٥٠ ه- )، فإنّ ذلك أدّى إلى إقبال الفكر الأصولي في العصر الثالث على الاستمداد من الفلسفة واستلهامها أكثر من استلهام علم الكلام، وبخاصة التيار الفلسفي الذي أوجده صدر الدين الشيرازي.ومن أمثلة ذلك: ما لعبته مسألة أصالة الوجود وأصالة الماهية في مسائل أصولية متعدّدة، كمسألة اجتماع الأمر والنهي، ومسألة تعلّق الأوامر بالطبائع والأفراد، الأمر الذي لا يمكننا فعلاً توضيحه.

١١٥

٤ - الظرف الموضوعي الذي يعيشه المفكر الأصولي : فإنّ الأصولي قد يعيش في ظرف معيّن فيستمدّ من طبيعة ظرفه بعض أفكاره، ومثاله : أولئك العلماء الذين كانوا يعيشون في العصر الأوّل ويجدون الدليل الشرعي الواضح ميسراً لهم في جلِّ ما يواجهونه من حاجات وقضايا، نتيجة لقرب عهدهم بالأئمّةعليهم‌السلام ، وقلّة ما يحتاجون إليه من مسائل نسبياً، فقد ساعد ظرفهم ذلك وسهولة استحصال الدليل فيه على أن يتصوّروا أنّ هذه الحالة حالة مطلقة ثابتة في جميع العصور.وعلى هذا الأساس ادّعوا أنّ من اللطف الواجب على الله أن يجعل على كلِّ حكمٍ شرعيٍّ دليلاً واضحاً ما دام الإنسان مكلّفا والشريعة باقية.

٥ - عامل الزمن : وأعني بذلك أنّ الفاصل الزمني بين الفكر الفقهي وعصر النصوص كلما اتّسع وازداد تجدّدت مشاكل وكلف علم الأصول بدراستها، فعلم الأصول يُمنى نتيجةً لعامل الزمن وازدياد البعد عن عصر النصوص بألوانٍ من المشاكل، فينمو بدراستها والتفكير في وضع الحلول المناسبة لها.

ومثال ذلك : أنّ الفكر العلمي ما دخل العصر الثاني حتى وجد نفسه قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافة تجعل أكثر الأخبار والروايات التي لديه غير قطعية الصدور، ولا يتيسّر الاطلاع المباشر على صحتها كما كان ميسوراً في كثير من الأحيان لفقهاء العصر الأوّل، فبرزت أهمّية الخبر الظنّي ومشاكل حجّيته، وفرضت هذه الأهمية واتّساع الحاجة إلى الأخبار الظنّية على الفكر العلمي أن يتوسّع في بحث تلك المشاكل ويعوِّض عن قطعية الروايات بالفحص عن دليل شرعيٍّ يدلّ على حجّيتها وإن كانت ظنّية، وكان الشيخ الطوسي رائد العصر الثاني هو أوّل من توسّع في بحث حجّية الخبر الظنّي وإثباتها.

ولمّا دخل العلم في العصر الثالث أدّى اتّساع الفاصل الزمني إلى الشكّ حتّى في مدارك حجّية الخبر ودليلها الذي استند إليه الشيخ في مستهلّ العصر

١١٦

الثاني، فإنّ الشيخ استدلّ على حجية الخبر الظّني بعمل أصحاب الأئمّة به، ومن الواضح أنّا كلّما ابتعدنا عن عصر أصحاب الأئمّة ومدارسهم يصبح الموقف أكثر غموضاً، والاطّلاع على أحوالهم أكثر صعوبة.

وهكذا بدأ الأصوليّون في مستهلّ العصر الثالث يتساءلون : هل يمكننا أن نظفر بدليل شرعيٍّ على حجّية الخبر الظنّي، أوْ لا ؟

وعلى هذا الأساس وجد في مستهلِّ العصر الثالث اتجاه جديد يدّعي انسداد باب العلم ؛ لأنّ الأخبار ليست قطعية، وانسداد باب الحجّة ؛ لأنّه لا دليل شرعيّ على حجّية الأخبار الظنّية، ويدعو إلى إقامة علم الأصول على أساس الاعتراف بهذا الانسداد، كما يدعو إلى جعل الظنّ بالحكم الشرعي - أيّ ظنٍّ - أساسا للعمل، دون فرق بين الظن الحاصل من الخبر وغيره ما دمنا لا نملك دليلاً شرعياً خاصّاً على حجّية الخبر يميِّزه عن سائر الظنون.

وقد أخذ بهذا الاتّجاه عدد كبير من روّاد العصر الثالث ورجالات المدرسة التي افتتحت هذه العصر، كالأستاذ البهبهاني، وتلميذه المحقّق القمّي، وتلميذه صاحب الرياض، وغيرهما، وبقي هذا الاتّجاه قيد الدرس والبحث العلمي حتى يومنا هذا.

وبالرغم من أنّ لهذا الاتجاه الانسدادي بوادره في أواخر العصر الثاني فقد صرّح المحقّق الشيخ محمّد باقر(١) بن صاحب الحاشية على المعالم : بأنّ الالتزام بهذا الاتّجاه لم يعرف عن أحدٍ قبل الأستاذ الوحيد البهبهاني وتلامذته، كما أكّد أبوه المحقّق الشيخ محمّد تقي في حاشيته(٢) على المعالم : أنّ الأسئلة التي يطرحها

____________________

(١) لم نعثر على التصريح.

(٢) هداية المسترشدين : ٣٨٥.

١١٧

هذه الاتّجاه حديثة ولم تدخل في الفكر العلمي قبل عصره.

وهكذا نتبيّن كيف تظهر بين فترة وفترة اتجاهات جديدة، وتتضخّم أهّميتها العلمية بحكم المشاكل التي يفرضها عامل الزمن.

٦ - عنصر الإبداع الذاتي : فإنّ كلّ علم حين ينمو ويشتدّ يمتلك بالتدريج قدرة على الخلق والتوليد الذاتي نتيجة لمواهب النوابغ في ذلك العلم والتفاعل بين أفكاره.ومثال ذلك في علم الأصول : بحوث الأصول العملية، وبحوث الملازمات والعلاقات بين الأحكام الشرعية، فإنّ أكثر هذه البحوث نتائج أصولي خالص.

ونقصد ببحوث الأصول العملية : تلك البحوث التي تدرس نوعية القواعد الأصولية والعناصر المشتركة التي يجب على الفقيه الرجوع إليها لتحديد موقفه العملي إذا لم يجد دليلاً على الحكم وظلّ الحكم الشرعي مجهولاً لديه.

ونقصد ببحوث الملازمات والعلاقات بين الأحكام : ما يقوم به علم الأصول من دراسة الروابط المختلفة بين الأحكام، من قبيل مسألة أنّ النهي عن المعاملة هل يقتضي فسادها، أوْ لا ؟ إذ تدرس في هذه المسألة العلاقة بين حرمة البيع وفساده، وهل يفقد أثره في نقل الملكية من البائع إلى المشتري إذا أصبح حراماً، أو يظلّ صحيحاً ومؤثّراً في نقل الملكية بالرغم من حرمته ؟ أي أنّ العلاقة بين الحرمة والصحّة هل هي علاقة تضادٍّ أوْ لا ؟

عطاء الفكر الأصولي وإبداعه :

وبودِّي أن أُشير بهذا الصدد إلى حقيقة يجب أن يعلمها الطالب ولو بصورة مجملة، حيث لا يمكن توضيحها والتوسع فيها على مستوى هذه الحلقة.

وهذه الحقيقة هي : أنّ علم الأصول لم يقتصر إبداعه الذاتي على مجاله

١١٨

الأصيل، أي مجال تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، بل كان له إبداع كبير في عدد من أهمّ مشاكل الفكر البشري ؛ وذلك أنّ علم الأُصول بلغ في العصر العلمي الثالث وفي المرحلة الأخيرة من هذا العصر بصورة خاصّة قمّة الدقّة والعمق، ووعى بفهم وذكاء مشاكل الفلسفة وطرائقها في التفكير والاستدلال، وبحثها متحرّرا من التقاليد الفلسفية التي تقيّد بها البحث الفلسفي منذ ثلاثة قرون، إذ كان يسير في خطٍّ مرسوم، ولا يجسر على التفكير في الخروج عن القواعد العامّة للتفكير الفلسفي، ويستشعر الهيبة للفلاسفة الكبار، وللمسلّمات الأساسية في الفلسفة بالدرجة التي تجعل هدفه الأقصى استيعاب أفكارهم والقدرة على الدفاع عنها.

وبينما كان البحث الفلسفي على هذه الصورة كان البحث الأصولي يخوض بذكاء وعمق في درس المشاكل الفلسفية متحّرّراً من سلطان الفلاسفة التقليديّين وهيبتهم.وعلى هذا الأساس تناول علم الأصول جملة من قضايا الفلسفة والمنطق التي تتّصل بأهدافه، وأبدع فيها إبداعاً أصيلا لا نجده في البحث الفلسفي التقليدي، ولهذا يمكننا القول بأنّ الفكر الذي أعطاه علم الأصول في المجالات التي درسها من الفلسفة والمنطق أكثر جدةً من الفكر الذي قدّمته فلسفة الفلاسفة المسلمين نفسهم في تلك المجالات.

وفي ما يلي نذكر بعض الحقول التي أبدع فيها الفكر الأُصولي(١) :

١ - في مجال نظرية المعرفة : وهي النظرية التي تدرس قيمة المعرفة

____________________

(١) هذه النماذج لا يطلب تدريسها بالتفصيل، وإنّما يكتفي المدرِّس - إذا رأى مجالاً - بالإشارة إلى بعضها، وسوف نستعرضها بصورةٍ أوضح في الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى.( المؤلّف قدس‌سره ).

١١٩

البشرية ومدى إمكان الاعتماد عليها، وتبحث عن المصادر الرئيسية لها.

فقد امتدّ البحث الأصولي إلى مجال هذه النظرية، وانعكس ذلك في الصراع الفكري الشديد بين الأخباريّين والمجتهدين، الذي كان ولا يزال يتمخّض عن أفكار جديدة في هذا الحقل، وقد عرفنا سابقاً كيف أنّ التيّار الحسّي تسرّب عن طريق هذا الصراع إلى الفكر العلمي عند فقهائنا، بينما لم يكن قد وجد في الفلسفة الأوروبية إلى ذلك الوقت.

٢ - في مجال فلسفة اللغة : فقد سبق الفكر الأُصولي أحدث اتّجاه عالميّ في المنطق الصوري اليوم، وهو اتّجاه المناطقة الرياضيّين الذين يردّون الرياضيات إلى المنطق، والمنطق إلى اللغة، ويرون أنّ الواجب الرئيسي على الفيلسوف أن يحلِّل اللغة ويفلسفها بدلا عن أن يحلِّل الوجود الخارجي ويفلسفه.فإنّ المفكّرين الأُصوليّين قد سبقوا في عملية التحليل اللغوي، وليست بحوث المعنى الحرفي والهيئات في الأصول إلاّ دليلاً على هذا السبق.

ومن الطريف أن يكتب اليوم( برتراند رسل ) - رائد ذلك الاتّجاه الحديث في العالم المعاصر، محاولا التفرقة بين جملتين لغويّتين في دراسته التحليلية للّغة، وهما :( مات قيصر ) و( موت قيصر ) أو( صدق موت قيصر ) ، فلا ينتهي إلى نتيجة، وإنما يعلّق على مشكلة التمييز المنطقي بين الجملتين - فيقول : ( لست أدري كيف أعالج هذه المشكلة علاجا مقبولاً ؟ ) (١) .

أقول : من الطريف أن يعجز باحث في قمّة ذلك الاتّجاه الحديث عن تحليل الفرق بين تلك الجملتين، بينما يكون علم الأُصول قد سبق إلى دراسة هذا الفرق

____________________

(١) أصول الرياضيات ١ : ٩٦ ترجمة الدكتور محمّد موسى أحمد والدكتور أحمد فؤاد الأهواني.

١٢٠