المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر0%

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 392

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 392
المشاهدات: 83951
تحميل: 7160

توضيحات:

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83951 / تحميل: 7160
الحجم الحجم الحجم
المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والحمد لله ربّ العالمين، وصّلّى الله عَلى سَادة الخلق، ومصَابيح الحقّ، وكلمات الله التامات محمَّدٍ وآله الهداة الميامين.

وبعد فالبحث في المقام يقع في ناحيتين :

الأولى : في تحقيق مقدار تنجيز العلم الإجمالي، ورفعه لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ المنقَّحة كبروياً في مباحث البراءة.

الثانية : في شمول أدلّة الأصول للأطراف بعضاً أو كلاًّ، ثبوتاً أو إثباتاً.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ المبحوث عنه هنا هو أنّ المقدار الذي ثبت من تنجيز العلم الإجمالي وتبديله ل-( لا بيان ) ب-( البيان ) هل يوجب خروج أطرافه أو شيءٍ منها عن دائرة أدلّة الأصول - إمّا للقصور ثبوتاً، أو للقصور في مقتضيات مقام الإثبات - أوْ لا ؟

٢٦١

٢٦٢

الناحية الأولى

ولتوضيح الحقّ فيها لا بدّ من بيان المختار في حقيقة العلم الإجمالي، ثمّ نذكر سائر المسالك المعروفة في تصويره مع دفعها، وبعده نبحث عن مقدار تنجيز العلم الإجمالي وإيصاله للواقع على جميع تلك المباني.

الرأي المختار في حقيقة العلم الإجمالي

مقدّمة :

ولتحقيق الحقّ وتشخيص متعلّق العلم الإجمالي نقدِّم أمرين لهما دخل في حلّ المشكلة :

الأوّل : أنّ الحمل على قسمين : الحمل الأوّلي الذاتي، والحمل الشائع الصناعي، كما هو واضح.والشيء قد يصدق حمل مفهومٍ عليه بالحمل الأولي، ولا يجوز حمله عليه بالحمل الشائع الصناعي، ولذا اشترط بعض المحقّقين(١) في التناقض وحدة الحمل، فمفهوم النوع - مثلاً - نوع بالحمل الأولي، وليس نوعاً

____________________

(١) وهو صدر المتألّهين محمّد بن إبراهيم ملا صدرا الشيرازي في الأسفار ١ : ٢٩٢ - ٢٩٤.

٢٦٣

بالحمل الشائع.وكذلك الجنس.

ومثلهما مفهوم الجزئي فإنّه جزئيّ بالحمل الأوّلي، وكلّي بالحمل الشائع.بل كلّ الصور العقلية - كصورة الإنسان - فإنّها بالحمل الأولي إنسان، وبالحمل الشائع من الكيفيات العَرَضية القائمة في النفس أو بها، على ما حقّق في مباحث الوجود الذهني.

فتحصَّل : أنّ الشيء قد لا يصحّ حمل نفسه عليه بالحمل الشائع ؛ وإن كان هو نفسه بالحمل الأوّلي ضرورة.

الثاني : المعروف أنّ انتزاع الكلّي من الجزئيات إنّما هو بتجريدها عن الخصوصيات التي لا يبقى بعدها إلاّ صرف الطبيعة المسمّاة بالكلّي.

كما أنّ المعروف لأجل هذا - كما صرح به في تقريرات بحث المحقّق العراقي(١) - أنّ نسبة الكلّي إلى فرده نسبة الجزء التحليلي إلى الكلّ، وعلى ذلك بنى أنّ مطابق الصورة العلمية الإجمالية إنّما هو الواقع ؛ ولكن بنحوٍ مجمل، وليس المعلوم الإجمالي أمراً كلّياً، لشهادة الوجدان بأنّ المعلوم إنّما هو سنخ عنوانٍ إجماليٍّ ينطبق على الواقع بتمامه، لا بجزءٍ تحليليٍّ منه، كما في الكلّي.

ووجه الالتزام : بأنّ الكلّي لا ينطبق على الفرد بتمامه، باعتبار أنّه إنّما يكون كلّياً جامعاً بين فردين إذا ألغيت في رتبته خصوصية كلٍّ من الفردين، وإلاّ لم يكن كلّياً، وعليه فلا ينطبق على فرده بما أنّه متخصّص بما يمتاز به على الفرد الآخر.

ولكنّ التحقيق : أنّ الالتزام بذلك بلا ملزم، بل قد يكون الكلّي منطبقاً على فرده بتمامه، كما في موارد التشكيك الخاصّي في الماهيات، بناءً على إمكانه ،

____________________

(١) نهاية الأفكار ١ : ٣٥.

٢٦٤

كما هو التحقيق، بأن تكون الماهية متفاوتةً بنفسها في الأفراد، بحيث إنّ ما به الاشتراك بينهما بعينه جهة الامتياز بينهما، كالأربعة والستّة، فإنّهما مشتركتان في العددية وممتازتان فيها، ومفهوم العدد ينطبق عليهما بتمامهما ؛ لأنّ المفروض أنّه جهة امتياز كلٍّ منهما، فهو كما يصدق على ما به يشترك العددان كذلك بصدق على ما يمتاز به أحدهما عن الآخر.

وكذلك مفهوم الجزئي والمتشخّص فإنّه كلّي لقابليته للصدق على كثيرين، ولا يعقل فيه دعوى أنّه لا ينطبق على فرده بتمامه، إذ أنّه إذا ألغي من فرده خصوصيته الموجبة لجزئيته يخرج عن كونه مطابقاً له.

وإن شئت قلت : إنّ أيّ متخصّصٍ يفرض ينطبق عليه مفهوم الجزئي، فإن كان منطبقاً عليه بتمامه فهو المطلوب، وإن انطبق عليه مع قطع النظر عن خصوصيته التي بها يمتاز على جزئيٍّ آخر، نقلنا الكلام إلى هذه الخصوصية، فإنّها أيضاً مصداق لمفهوم الجزئي، فإن كان منطبقاً عليها بتمامها فهو، وإلاّ ننقل الكلام إلى خصوصياتها، وهكذا، حتى ينتهي الأمر إلى انطباق الكلّي على فرده بتمامه ؛ لبطلان التسلسل في الخصوصيات.

فقد ثبت بهذا البرهان مع براهين التشكيك الخاصّي إمكان انطباق الكلّي على فرده بتمامه، فافهم واغتنم.

حدود المعلوم بالإجمال :

إذا تقرّر هذان الأمران نقول : إنّ المعلوم الإجمالي هو الجامع بين الأطراف، ولكن بتقريبٍ لا يرد عليه المحاذير التي سوف نشير إلى توجّهها على القول بتعلّقه بالجامع.

وتحقيقه : أنّ العلم الإجمالي عبارة عن التصديق بجزئيٍّ متخصّصٍ

٢٦٥

بخصوصيةٍ واقعيةٍ بنحوٍ يكون خارجاً عن حدِّ الجامعية إلى مرتبة الفردية، ويكون في عين الحال قابلاً للصدق على أكثر من واحدٍ بحسب الخارج ؛ لأنّه جزئيّ بالحمل الأوّلي، فإنّ العالم بالإجمال يتصوّر مفهوم الإنسان الجزئي المتعيّن بنحوٍ لا ينطبق على غيره ويصدّق بوجوده، فما تعلّق به التصديق العلمي هو هذا المفهوم الجامع بين الأطراف مع كونه جزئياً بالحمل الأوّلي.ونحن إذا حلّلنا ما في نفس العالم بالإجمال نرى أموراً :

أحدها : العلم التصوّري، أي حضور صورةٍ جزئيةٍ بالحمل الأوّلي، بمعنى تصوّر مفهوم الإنسان الجزئي.

ثانيها : التصديق بأنّ ذاك المعلوم التصوّري له وجود، فالمصدّق به ليس وجود هذا الإنسان أو ذاك بعينه، بل وجود جزئي متعيّن من الإنسان.

ثالثها : احتمال أن يكون مطابق الصورة المذكورة زيداً أو عَمرواً.

وعلى هذا لا ترد سائر الإشكالات الموردة على الالتزام بأنّ المعلوم الإجمالي هو الجامع أو الواقع على سبيل الإجمال، إذ لم نلتزم بأنّ المعلوم جامع ملغي عنه الخصوصيّات، وكذلك لم ندّع أنّه نفس الواقع والخصوصيّة بالحمل الشايع أي واقع ما يأبى الصدق على كثيرين على سبيل الإجمال.وسوف نذكر الإشكالات على المسلَكَين مفصّلاً، إلاّ أنّنا نشير إليها هنا لبيان عدم ورودها على التقريب المذكور.

أمّا الإشكالات على كون الجامع هو المعلوم الإجمالي فهي :

أوّلاً : ما يظهر من نهاية الأفكار(١) ، من أنّ الصورة الإجمالية ليست نسبتها إلى الخصوصية الواقعية نسبة الجزء إلى الكلّ، بل تنطبق عليها بتمامها، فلا يمكن

____________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٧.

٢٦٦

الالتزام بأنّ العلم الإجمالي عبارة عن العلم التفصيلي بالجامع، إذ يكون المعلوم منطبقاً على الواقع حينئذٍ بجزئه، بل هو عبارة عن صورةٍ إجماليةٍ حاكيةٍ عن الواقع.

وثانياً : أنّ الجامع يعلم باستحالة وجوده بلا خصوصية، فلابدّ أن ينتهي العلم الإجمالي إلى العلم بالخصوصية الواقعية على سبيل الإجمال، كما سيأتي بيانه مفصّلاً إن شاء الله، فراجع.

وهذان الإشكالان لا يردانِ على تقريب القول بالجامع بتعلّق العلم الإجمالي بمفهومٍ جزئيٍّ بالحمل الأولي، وكلّيٍّ بالحمل الشائع.

أمّا الأوّل فلما عرفت في المقدّمة الثانية من أنّ عنوان الجزئي الذي هو المعلوم الإجمالي وإن كان جامعاً وكلّياً إلاّ أنّه منطبق على فرده بتمامه، وليس كسائر الكلّيات التي لا تنطبق على المشخّصات.فالجامع المزبور يحكي عن الواقع الجزئي بما أنّه جزئي، بخلاف سائر الكلّيات التي تحكي عن ذات المتشخّص لا بما أنّه متشخّص، فانطباق المعلوم على الواقع بتمامه وحكايته عنه لا يتوقّف على الالتزام بكون العلم الإجمالي مبايناً للعلم التفصيلي ومتقوّماً بصورةٍ إجماليةٍ حاكيةٍ عن الواقع، بل يتمّ مع الالتزام برجوعه إلى العلم التفصيلي، وكونه صورةً تفصيليةً للجامع، ولكن للجامع المحتوي على نكتةٍ توجب انطباقه على فرده بتمامه، كما بيّناه.

وأمّا الثاني فلأنّ المعلوم الإجمالي سنخ كلّي لا يعقل أن يكون متشخّصاً بأمرٍ زائدٍ على ما ينطبق عليه حتى يُدَّعى تعلّق العلم بذلك الأمر الزائد أيضاً، فإنّ مفهوم الإنسان يحتاج في تشخّصه إلى أكثر من الحصّة التي ينطبق عليها ؛ لأنّه لا ينطبق على المشخّصات.وأما مفهوم الإنسان الجزئي فهو لا يحتاج في تشخّصه إلى أكثر ممّا ينطبق عليه ؛ لأنّه ينطبق على نفس المتشخّص بما أنّه كذلك ،

٢٦٧

فلا علم لنا بأكثر من هذا الكلّي، وليس ذلك إلاّ لأنّه جامع بين الجزئية بالحمل الأولي والكلّية بالحمل الشائع.

وأمّا الإشكالات على كون العلم الإجمالي متعلّقاً بالخصوصية الواقعية على نحوٍ مجمل فهي :

أوّلاً : أنّه خلاف الوجدان القاضي بأنّ كلّ خصوصيةٍ من خصوصيات الأطراف مشكوكة وليست بمعلومة، وإلاّ لزم اجتماع الشكّ والعلم، وهو محال.

وثانياً : أنّه لو فرض وجود كِلاَ الإنسانين فأيّهما يكون هو المعلوم مع استواء نسبة العلم إلى كلٍّ منهما ؟

وثالثاً : ما سنحقّقه من استحالة الإجمال في الصورة العلمية، بل هي : إمّا تفصيلية شخصية، أو كلّية.

وكلّ هذا لا يرد على ما عرفت، من كون المعلوم الإجمالي هو خصوصية واقعية بالحمل الأوّلي، لا بالحمل الشائع.

أمّا الأول فلأنّه إنّما يرد إذا قلنا : إنّ واقع الخصوصية والأمر الخارجي معلوم بالصورة الإجمالية، وأمّا إذا كان المعلوم عنوان الإنسان الخاصّ لا واقعه فلم يجتمع اليقين والشكّ على متعلّقٍ واحد ؛ لأنّ الشكّ متعلّق بوجود الإنسان الجزئي بالحمل الشائع، والعلم متعلّق بوجود الإنسان المتخصّص بالحمل الأولي.

وأمّا الثاني فلأنّنا لم نلتزم بتعلّق العلم الإجمالي بالواقع الحقيقي حتى يُسأل عمّا هو متعلّقه في الفرض المذكور، بل بالجامع.

وأمّا الثالث فلأنّ الصورة تفصيلية ولا إجمال فيها، بمعنى أنّها صورة لجامعٍ معيّنٍ لا لفردٍ مجملٍ حتى تكون مجملة، وإذن فالمعلوم الإجمالي كلّيّ بالحمل الأولي ولا يرد عليه إشكالات تعلّق العلم الإجمالي بالكلّي، وجزئي بالحمل الآخر ولا يرد عليه إشكالات تعلّقه بالجزئي.

٢٦٨

المباني المطروحة في حقيقة العلم الإجمالي

وبعد هذا لا بأس بالإشارة إلى المباني التي قيلت في العلم الإجمالي، وهي ثلاثة :

تعلّق العلم بالفرد الواقعي :

الأوّل : ما ذهب إليه المحقّق العراقي(١) من مغايرة الصور العلمية الإجمالية مع الصور العلمية التفصيلية سنخاً، فليس العلم الإجمالي بالإضافة إلى معلومه صورة تفصيلية - كما يدّعيه من يلتزم بأنّ معلومه هو الجامع -، بل هو بالإضافة إليه كالمجمل إلى المفصَّل، بمعنى أنّه عبارة عن صورةٍ إجماليةٍ حاكيةٍ عن الواقع، على نحوٍ لو كُشِفَ الغطاء لكان المعلوم بالإجمال عين المعلوم بالتفصيل ومنطبقاً عليه بتمامه، لا بجزءٍ منه، فالفرق بين العلم الإجمالي والعلم التفصيلي في إجمالية الصورة العلمية وتفصيليّتها، لا أنّ العلم الإجمالي صورة تفصيلية للجامع والعلم التفصيلي صورة تفصيلية للفرد، بل الأوّل صورة إجمالية للفرد، والثاني صورة تفصيلية له.

ولا يظهر منه البرهنة على هذا المبنى ؛ وإن أمكن استفادته من بعض كلمات التقريرات - نهاية الأفكار(٢) - إذ يظهر منها التزامه بأنّ الصورة العلمية الإجمالية منطبقة على الواقع بتمامه، وهو لا يتمّ إلاّ على المبنى المزبور.

____________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٩.

(٢) نهاية الأفكار ٣ : ٣٠٩.

٢٦٩

كما يمكن الاستدلال له أيضاً : بأنّ لدى العالِم علماً بأكثر من الجامع ؛ لأنّ الجامع لا يوجد إلاّ متخصِّصاً، فالانتهاء إلى خصوصيةٍ تكون متعلَّقاً للعلم الإجمالي لا بدّ منه.

وقد عرفت في ما سبق أنّ هذين الوجهين إنّما يبطلان القول بتعلّق العلم الإجمالي بالجامع المُلغى عنه خصوصيات الأطراف، والممتنع انطباقه عليها بخصوصياتها، ولا يعيِّنان كون الصورة العلمية إجماليةً وحاكيةً عن الواقع ؛ لإمكان الالتزام بتفصيلية الصورة، وكون المعلوم بها هو الجامع، ولكن بالنحو الذي أوضحناه، فلا يرد شيء من الإشكالين.

وإذن، فلا برهان على ما أفيد، بل البرهان على خلافه.

وتحقيق ذلك : أنّ الوجود الذهني كالوجود الخارجي في أنّه ملازم للتشخّص والتعيّن، بل عينهما بوجه، فالتشخّص والتعيّن مساوق لتحقيقة الوجود السارية في عالم الذهن والخارج، فكما يمتنع أن يكون الموجود الخارجي مردّداً أو غير متعيّن الهوية كذلك الوجود الذهني، والصور الذهنية يستحيل فيها عدم التعيّن من سائر الجهات.

والعلم : عبارة عن حضور الشيء لدى النفس، وقيام الصورة بها على نحوٍ يقترن بالتصديق.

وعلى هذا فالصورة الذهنية القائمة في نفس العالم بالإجمال والتي هي محطّ التصديق باعتبار فنائها في معنونها وجود الذهني، حاله حال سائر الوجودات في أنّه لا بدّ من كونه وجوداً لأمرٍ متعيَّنٍ بخصوصياته ؛ لاستحالة وجود الأمر المردّد، وحينئذٍ نقول : إنّها إمّا أن تكون وجوداً لطبيعيّ الوجوب الملغى عنه خصوصيات الأطراف، وإمّا أن تكون وجوداً للوجوب المتخصّص بخصوصية طرفٍ بعينه، كخصوصيّة التعلّق بالظهر، وإمّا أن تكون وجوداً للوجوب

٢٧٠

المتخصّص بخصوصيّةٍ مردّدة.

ومردّ الأوّل إلى كون المعلوم هو الطبيعيّ الجامع القائم في النفس بتوسّط الصورة، فمُعَنوَنُ الصورة هو الجامع بين الوجوبين الخارجيّين، لا أحدهما المعيّن إذا المعنون مطابق لعنوانه.

فإذا كانت الصورة الحاكية المأخوذة بنحو المرآتية وجوداً للطبيعي خالياً عنه الخصوصيات فلا يعقل أن تحكي إلاّ عن وجود الطبيعي في الخارج خالياً عن خصوصيات الأطراف.

ومرجع الثاني إلى العلم التفصيلي بالخصوصية، إذ فرضه فرض كون خصوصية وجوب الظهر قد اقترن وجودها الذهني بالتصديق من قِبَل النفس بما أنّه آلة للخارج، ولا نعني بالعلم التفصيلي غير هذا فهو خُلْفُ دعوى إجمال الصورة.

والثالث أمر غير معقول، إذ كما يمتنع أن يوجد الوجوب في الخارج متخصّصاً بالخصوصية المردّدة بين الظهر والجمعة كذلك يمتنع أن تكون صورته الذهنية وجوداً لِمَا لا تعيّن له.

ودعوى : أنّ كلاًّ من طرفي العلم الإجمالي يُنتزع منه عنوانِ ( أحدهما )، فكلّ منهما هو أحد الطرفين، والمعلوم إحدى الإحْدَيَتَين مدفوعة : بأنّ المعلوم إن كان الأحد المعيَّن من الأحَدَيْن بخصوصيته فالصورة تفصيلية، وإن كان جامع الأحَدَيْن الملغى عنه خصوصية كلٍّ منهما فالمعلوم الإجمالي هو الجامع، وإن كان هو الأحد المردّد بحسب الخصوصية فهو ممتنع الوجود ذهناً وخارجاً، فلا نتعقّل الصورة الإجمالية أصلاً.

ثمّ إنّه قد أورد على المسلك المزبور وجهان :

الأوّل : استلزامه لاجتماع اليقين والشكّ، إذ يكون الواقع منكشفاً بالصورة

٢٧١

العلمية بحسب الفرض، ومشكوكاً بالضرورة.

الثاني : أنّ المعلوم الإجمالي قد لا يكون له واقع أصلاً، كما إذا علم بنجاسة أحد الإناءين وكان كلاهما نجساً، فأيّهما المعلوم مع استواء نسبة العلم إلى كلٍّ منهما ؟

ويرد على الاعتراض الأوّل : أنّ المحال هو تقوّم العلم والشكّ بموضوعٍ واحدٍ وصورةٍ واحدةٍ في أفقهما، فإنّ المتضادَّين يمتنع اجتماعهما على شيءٍ واحدٍ في موطن وجودهما وتضادّهما.

والحاصل : أنّ العلم والشكّ متقوّمان بالصورة، لا بالواقع، فالممتنع اجتماعهما على صورةٍ واحدة، ففي موارد العلم التفصيلي بزيدٍ - مثلاً - يمتنع الشكّ فيه ؛ لأنّ أيّ صورةٍ تفصيليةٍ لزيدٍ تُفرض يقوم الشكّ بها فهي متعلّق للتصديق العلمي من قبل النفس أيضاً، فيلزم اجتماعهما، وأمّا في المقام فالشكّ متقوّم بالصورة التفصيلية والعلم بالصورة الإجمالية، فموضوعهما الحقيقي متعدّد وإن كان المضاف إليه خارجاً متّحداً.

وإن شئت قلت : إنّ الانكشاف لشيءٍ على هذا المبنى عبارة عن حضور صورته الإجمالية أو التفصيلية لدى النفس مقروناً بالتصديق.وفي المقام عند العلم بنجاسة الإناء الأبيض إجمالاً لدينا شيئان : أحدهما نجاسة الإناء الأبيض الذي هو أحد طرفي العلم الإجمالي، والآخر كونها هي المطابقة للصورة العلمية الإجمالية.

والأوّل معلوم لحضوره للنفس.والثاني هو المشكوك، فإنّ المطابقة أمر غير نفس المطابق، ويمكن انكشاف أحدهما دون الآخر.

وأمّا الاعتراض الثاني : فهو وإن كان لا يرد عليه النقض بدعوى وروده على القول بتعلّق العلم الإجمالي بالجامع أيضاً، إذ المراد بذلك تعلّقه بالوجود الواقعي

٢٧٢

بما أنّه مضاف إلى الجامع لا إلى الفرد، فيُسأل حينئذٍ في الفرض المزبور أنّه متعلّق بأيٍّ من الوجودَين بما أنّه مضاف إلى الجامع ؟

ووجه عدم الورود : أنّ المعلوم الإجمالي عند القائل بالتعلّق بالجامع هو الجامع بين الوجود الخارجي وغيره، لا الوجود الخارجي ولو مضافاً إلى الطبيعي ؛ الذي هو عبارة أخرى عن الحصّة من الطبيعيّ الموجودة في ضمنه، إذ الصورة العلمية قد ألغي عنها جميع خصوصيات الأطراف، فلا يمكن الالتزام بأنّ المعلوم بها هو وجود أحد الطرفين المعيّن بما أنّه وجود للطبيعي، إذ بعد تجريد الصورة لا وَجْه لتعيّن واحدٍ معيّنٍ من الطرفين لأن يكون وجوده هو المنكشف ولو بما أنّه وجود للطبيعي.

ولكن يرد على الاعتراض المزبور : أنّه لا يكون إشكالاً على المبنى المزبور، ولا على ما فرَّعه عليه صاحبه من القول بالعلّية، على ما سيأتي بيانه.

وذلك لأنّ المهمّ في هذا المسلك إثبات كون الصورة العلمية الإجمالية مباينةً سنخاً للصورة العلمية التفصيلية، وأنّ نسبتها إلى معلومها ليس كنسبة تلك إلى معلومها، فالصورة القائمة في موارد العلم الإجمالي صورةٍ إجمالية لوجوبٍ شخصي، لا صورةً تفصيليةً للجامع بين وجوبين.

وما أُفيد من الإشكال لا يكون هادماً لدعوى إجمالية الصورة العلمية في المقام، ولا مثبتاً لرجوعها إلى الصورة العلمية التفصيلية، بل يثبت أنّ هذه الصورة الإجمالية قد لا يكون لها مطابق في الخارج لاستواء نسبة الطرفين اليها.وهذا لا يضرّ بالمسلك المزبور أصلاً، إذ المدّعى فيه ليس هو وجود المعلوم بالعرض للعلم الإجمالي دائماً، كيف وقد يكون جهلاً مركّباً ؟ بل المدّعى فيه إجمالية الصورة وحكائيّتها عن شيءٍ جزئي لا عن الجامع، وهذا المحكيّ عنه قد لا يكون أصلاً لكون العلم جهلاً مركّباً، وقد لا يتعيّن أحد الطرفين لكونه محكيّاً عنه ؛ لاستواء نسبتهما.

٢٧٣

والحاصل : المقصود إثبات أنّ القائم بالنفس المقرون للتصديق فرد مجمل من الإنسان - مثلاً - نسبته إلى كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجمالي نسبة المجمل إلى المفصَّل، لا الكلّي إلى فرده، لا أنّ للعلم الإجمالي ولهذا الفرد المجمل مطابقاً في الخارج دائماً، أو أنّ العلم الإجمالي متقوّم بالواقع الخارجي ليُشكَل بأنّه في هذا الفرض متقوّم بأيٍّ من الطرفين الخارجيَّين.

وأمّا تفريع العلّية على هذا المسلك فلا يضرّ به الإشكال المزبور أيضاً، وإن كان قد يُقرَّب إضراره ببيان : أنّ دعوى العلّية مبتنية على أن يكون هناك واقع معيّن منكشف بالعلم الإجمالي، ويكون العلم الإجمالي علّةً تامةً لتنجيزه حتى يكون احتمال التكليف في كلّ طرفٍ احتمالاً للتكليف المُنجَّز بالحكم التنجيزي من العقل.وأمّا إذا فرض أنّه ليس هناك طرف معيّن لأن يكون هو المنكشف لأجل نجاسة كِلاَ الإناءين - مثلاً - واستواء نسبتهما إلى العلم - كما هو مقتضى النقض المزبور - فلا يتنجّز شيء من الطرفين بخصوصه ؛ لأنه بلا مرجّح.ولا يتنجّز كلاهما بنفس العلم ابتداءً، إذ ليس هو علماً بهما معاً، فلا محالة إنّما يتنجّز الجامع فقط وينهدم أساس العلّية ؛ لأنّه كان مبنياً على التنجّز الواقع بنفس العلم ابتداءً.

ولكن يندفع هذا التقريب : بأنّ مَن يعلم إجمالاً بنجاسة أحد إناءين ويحتمل نجاسة الآخر وإن كان يحتمل أن لا يكون هناك طرف منهما متعيّن للمنكشفية بعلمه ؛ لاحتماله نجاستهما معاً، واستواء نسبتهما إلى علمه الموجب لعدم تعيّن أحد الطرفين للمعلومية، ولأن يتلقّى التنجيز من العلم الإجمالي ابتداءً إلاّ أنّه مع ذلك يحتمل وجود مطابقٍ معيّنٍ لعلمه، إذ يحتمل وحدة النجس في البين المساوقة لوجود معلومٍ إجماليٍّ معيّنٍ له في الخارج يكون متنجّزاً بالعلم، وإذن فهو يحتمل التكليف المعلوم الخارج عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ في

٢٧٤

كلّ طرف ؛ لأنّه يحتمل أن يكون لعلمه معلوم معيّن في الخارج منجّز به.

والحاصل : أنّ العالم بالإجمال يقول : إنّه على فرض نجاسة الواحد منهما فقط يكون لي معلوم إجمالي معيّن في الخارج، أحتَمِل انطباقه على كلّ طرف، وهذا كافٍ للتنجيز.

لا يقال : إنّه على هذا يحتمل وجود معلومٍ إجماليٍّ معيّنٍ له في الخارج، كما يحتمل أن لا يكون له معلوم كذلك، وأن يكون الطرفان متساويَي النسبة إلى علمه، ومن المعلوم أنّ مجرّد احتمال المعلومية لا ينجّز، بل المنجّز العلم بتمامية البيان والوصول.

لأنّه يقال : إنّ هذا الإشكال يهدم القول بالعلّية - كما سنوضّحه - ولا ربط له بالنقض المزبور الذي أفيدَ في مقام الاعتراض على هذا المسلك، إذ في غير مورد النقض لا تكون معلومية النجس الواقعي محرزة.وانتظر لذلك مزيد إيضاح.

فتحقّق أنّ الاعتراض بالنقض المزبور لا يضرّ بما أفاده المحقّق العراقي، لا مبنىً ولا بناءً.

كما اتّضح أنّ توجيه هذا المسلك غير تام، لا بتقريب أنّ المعلوم الإجمالي ينطبق على الواقع بتمامه بشهادة الوجدان، وهو يتوقّف على أن يكون العلم الإجمالي صورةً إجماليةّ حاكيةً عن الواقع، كما قد يظهر منالنهاية (١) .ولا بتقريب أنّ الجامع لا يوجد بلا خصوصية، فلنا علم بأكثر من الجامع ؛ لأنّ الجامع الذي حقّقنا كونه هو المعلوم الإجمالي سنخُ جامعٍ ينطبق على الواقع بتمامه، ولا يحتاج في تشخّصه إلى أكثر ممّا ينطبق عليه، فإنّ مفهوم الإنسان الجزئي المتخصّص الذي هو المعلوم عند العلم الإجمالي بوجود أحد إنسانين

____________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٩.

٢٧٥

لا يتخصّص في وجوده بخصوصيةٍ زائدةٍ ليدّعى العلم بتلك الخصوصية، كما تحصَّل أنّ الإجمال في الصورة العلمية غير معقول.

تعلّق العلم بالجامع :

الثاني من المسالك في العلم الإجمالي : أنّه متعلّق بالجامع، كما ذهب إليه المحقّق النائيني(١) والمحقّق الأصفهاني(٢) (قدس‌سرهما).

وملخّص برهانه على ما أفاده الأخير : أنّ العلم الإجمالي : إمّا أن لا يكون له طرف، أو يكون متعلّقه الفرد المردّد، أو الواقع، أو الجامع.

والأوّل باطل ؛ لأنّ العلم من الأمور ذات الإضافة.

وكذا الثاني ؛ لأنّ الفرد المردّد لا ثبوت له.

وكذا الثالث ؛ لأنّ مقتضاه كون ذاك الواقع معلوماً، وهو خلف.

فيتعيّن الرابع.

والتحقيق هو هذا أيضاً، ولكن لا بمعنى كون المعلوم الإجمالي هو الجامع الملغى عنه التعيّنات والتخصيصات بكلا الحملين، بل المعلوم سنخ جامعٍ يكون متخصّصاً بالحمل الأولي، بمعنى أنّ المعلوم وجود نجسٍ متخصّص في البين، لا جامع النجس بلا خصوصية، ولا واقع المتخصّص.

والذي أوجب عدول المحقّق العراقيقدس‌سره عن الالتزام بتفصيلية الصورة العلمية الإجمالية وكون المعلوم بها هو الجامع، إلى إجماليّتها وكون المعلوم بها الواقع، وضوح بطلان كون المعلوم هو الجامع الملغى عنه الخصوصيات بكلّ

____________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٩.

(٢) نهاية الدراية ٤ : ٢٣٦ - ٢٣٧.

٢٧٦

وجهٍ، على حدِّ ما يؤخذ متعلَّقاً للتكليف، فالتزم لأجل ذلك بالمغايرة السنخية بين الصورة العلمية الإجمالية، والصورة العلمية التفصيلية، وصرّح في المقالات(١) : بأنّ العلم الإجمالي بالإضافة إلى معلومه ليس علماً تفصيلياً.

إلاّ أنّك عرفت مرجعيته إلى العلم التفصيلي بالجامع، ولكن الجامع الذي يكون معلوم الوجوب في مورد العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة ليس على حدّ الجامع الذي يكون متعلَّقاً للتكليف عند من يرى أنّ الوجوب الشرعي تعلّق بالجامع بين الظهر والجمعة على نحو التخيير، فإنّ هذا الجامع المأخوذ في متعلّق التكليف ليس متخصّصاً أصلاً، وليس متعيّناً بالحمل الأوّلي، بخلاف الجامع المدّعى في المقام فإنّ العالم بالإجمال يعلم بتخصّصه، وإن كان واقع خصوصيته غير منكشفٍ لديه، فمعلومه هو الإلزام بالجامع المتخصّص، إلاّ أنّ هذا لا يخرجه عن كونه جامعاً.

فحينئذٍ : إن أريد بالعدول عن مبنى تعلّق العلم الإجمالي بالجامع أنّه ليس متعلّقاً بما هو من سنخ الجامع المأخوذ في متعلّق التكليف، فيرد عليه : أنّه وإن كان صحيحاً إلاّ أنّه ليس معنى ذلك إنكار كون العلم الإجمالي بالإضافة إلى معلومه علماً تفصيلياً، كما صرّح به في المقالات، ولا كون الصورة العلمية بالإضافة إلى الواقع كالمجمل إلى المفصَّل، لا الكلّي إلى الفرد، كما صرّح به بعض الأجلّة من مقرِّري بحثه(٢) ، بل الصورة العلمية صورة تفصيلية لجامعٍ وهو مفهوم الإنسان المتخصّص مثلاً، ويكون الواقع فرداً لهذا الجامع.

وإن أريد بالعدول المزبور أنّ العلم الإجمالي ليس علماً تفصيلياً بالجامع

____________________

(١) مقالات الأصول ٢ : ٢٣٠.

(٢) هو الشيخ البروجردي في نهاية الأفكار ٣ : ٢٩٩.

٢٧٧

حتّى الجامع الذي ذكرناه، فهو الذي عرفت أنّه بلا دليل، بل البرهان على خلافه ؛ لاستحالة الإجمال في الصورة العلمية.

ملاحظات على مبنى الجامع :

وما أورد أو يمكن أن يورد على القول بتعلّق العلم الإجمالي بالجامع وجوه :

الأوّل من تلك الوجوه : أنّ البرهان القائم على مساوقة التشخّص والتخصّص للوجود، يوجب القطع بأنّه قد وجدت في الخارج خصوصية مشخِّصة لهذا الجامع.

وهذه الخصوصية إن كانت كليةً أيضاً فهي أيضاً يُعلم بوجود مخصِّصٍ لها، فننقل الكلام إلى هذه الخصوصية الثانية، وهكذا حتى يلتزم بتعلّق العلم بخصوصيةٍ شخصيةٍ مجملةٍ لا تكون كليّة، فثبت أنّ المعلوم يزيد على الجامع.

الثاني : ما أُورد من أنّه في موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن الالتزام بأنّ المعلوم الإجمالي هو الجامع، أي الإلزام بالجامع بين الفعل والترك ؛ لأنّ الإلزام بالجامع بين النقيضين غير معقول فكيف يكون معلوماً ؟ فلا بدّ من الالتزام بمعلومية شيءٍ أزيد من الجامع.

الثالث : أنّه في موارد العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين أو طهارته، أو حجّية إحدى الأمارتين لا يمكن الالتزام بأنّ المعلوم هو نجاسة الجامع، أو طهارته، أو حجِّيته ؛ لأنّ الأحكام المزبورة يستحيل تعلّقها بالجامع المأخوذ بنحو صرف الوجود، إذ يستحيل حينئذٍ سريانها من الجامع إلى طرفٍ معيَّنٍ بالخصوص ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجِّح بعد استواء نسبة الفردين إلى الجامع، ولا إلى الفردين معاً ؛ لأنّ الجامع مأخوذ بنحو صرف الوجود، لا مطلق الوجود حتّى

٢٧٨

يسري إلى كلا فردَيه.وإذن فحجّية الجامع بين الخبرَين غير معقولةٍ فكيف تكون هي المعلوم الإجمالي ؟

وهذه الإشكالات إنّما ترد إذا كان الجامع في المقام على حدّ الجامع الذي يتعلّق به التكليف، وإلاّ على ما بيّناه من أنّه سنخُ جامعٍ متخصّصٍ مفهوماً وعنواناً فلا ترد.

أمّا الأوّل : فلوضوح أنّ الجامع المعلوم هو نحو جامع لا يحتاج إلى أكثر ممّا ينطبق عليه حتّى يُدّعى العلم بالزائد، كما فصّلناه سابقاً فراجع.

وأمّا الثالث : فسوف نبيّن في مبحث التعادل إمكان جعل الحجّية للجامع، إلاّ أنّنا نقول الآن - مع غض النظر عن ذلك - إنّ هذا الإشكال والإشكال الثاني واضحا الاندفاع ؛ وذلك لأنّ المعلوم وجوبه أجمالاً في موارد دوران الأمر بين المحذورين - مثلاً - ليس هو الجامع بين النقيضين على جامعيته، بل الجامع المتخصّص وإن كان واقع تخصّصه مجهولاً.

فإن قلت : إنّ الجامع المتخصّص لا يخرج عن كونه جامعاً بين النقيضين، فإذا كان المعلوم هو الإلزام بالجامع المتخصّص لا بواقع المتخصص لزم المحذور من تعلّق الإلزام بالجامع بين النقيضين ؛ لأنّ عنوان الجامع المتخصّص جامع بين الفعل والترك.

قلت: إنّ الجامع المتخصّص وإن كان كلّياً بحسب الحقيقة - ولذا نقول بكون المعلوم الإجمالي هو الجامع - إلاّ أنّه إنّما يكون محطّاً للتصديق العلمي بالوجوب والإلزام بما أنّه فانٍ في أحد أفراده ومرآة لبعض مصاديقه، لا بما هو حتى يلزم تعلّق التصديق العلمي بأمرٍ محال، وهو الإلزام بالجامع بين النقيضين، بل التصديق العلمي بالوجوب ينصبّ على الجامع، وهو عنوان المتخصّص بما أنّه فانٍ في غير نفسه، فلا يعقل أن يكون الإلزام المصدّق به هو الإلزام بنفس هذا العنوان الكلّي ،

٢٧٩

فهو نظير حكمنا على النسبة بأنّها معنىً حرفي، وعلى المعدوم المطلق بأنّه لا يُخبَر عنه، فإنّ النسبة ليست نسبةً ولا معنىً حرفياً، بل هي معنىً اسميّ وُضِعَت له لفظة ( النسبة )، فعند حكمنا عليه بالحرفية لا يكون هذا الحكم كاذباً، بتوهّم أنّه مسلّط على مفهوم النسبة لا على واقعها ؛ لأنّ الحاضر في الذهن مفهومها، وهو ليس حرفياً، بل هو حكم صادق ؛ لأنّه مسلّط على هذا المفهوم باعتبار فنائه في واقعه وأفراده، فكما أنّ التصديق بحرفيّة مفهوم النسبة الفاني لا يقتضي التصديق بحرفيّة نفس هذا المفهوم كذلك التصديق بالإلزام لا يكون تعلّقه بعنوان المتخصّص الملحوظ فانياً في صرف وجوده ؛ موجباً للتصديق بكون الإلزام ثابتاً لنفس عنوان المتخصّص الجامع بين النقيضين.

فاتّضح بما ذكرناه أنّ الصورة العلمية الإجمالية صورة تفصيلية للجامع، ونسبتها إلى الواقع نسبة الكلّي إلى الجزئي، وأنّها محطّ للتصديق العلمي باعتبار فنائها في أحد أفرادها.فالمقدار المعلوم من متعلّق الإلزام في موارد العلم الإجمالي هو الجامع بين الطرفين، أي عنوان الفعل المتخصّص بما أنّه فانٍ وحاكٍ عن صرف وجوده، أي بما أنّه متخصّص، لا بما أنّه كلّي.

تعلّق العلم بالفرد المردّد :

الثالث من المباني : تعلّق العلم الإجمالي بالفرد المردّد، لا بمعنى أنّ الثابت واقعاً فرد مردّد حتى يقال : إنّه لا مَهيّة له ولا هوية، بل بمعنى أنّ المقدار المنكشف هو هذا، فإنّ الانكشاف لم يتعلّق بأكثر من خصوصيةٍ مردّدةٍ يمكن أن نعبِّر عنها بأنّها إمّا هذا وإمّا ذاك، فمفاد قولنا : ( إمّا هذا وإمّا ذاك ) هو المعلوم الإجمالي.

ويرد عليه : أنّ المحذور في دعوى انكشاف الفرد المردّد ليس هو أنّ

٢٨٠