المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر0%

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 392

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 392
المشاهدات: 83948
تحميل: 7160

توضيحات:

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83948 / تحميل: 7160
الحجم الحجم الحجم
المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بجعل إيجاب الاحتياط، فمفاد البراءة الشرعية هو نفي الوضع الظاهري للواقع المشكوك.

وعليه ففي المقام مقتضى البراءة الشرعية عن وجوب الظهر هو عدم وضع هذا الوجوب بإيجاب الاحتياط، ومقتضى البراءة الشرعية عن وجوب الجمعة هو عدم وضع هذا الوجوب بإيجاب الاحتياط.فلو جرت البراءة وثبت الرفع في كلا الطرفين لكان معنى ذلك أنّ كلاًّ من الطرفين لم يوضع في مرتبة الظاهر بإيجاب الاحتياط.ومن المعلوم أن عدم وضع وجوب الجمعة ظاهراً وعدم الإلزام بها ظاهراً بعنوان الاحتياط، وعدم وضع وجوب الظهر كذلك ودم الإلزام بها ظاهراً لا ينافيان لزوم الجامع ووجوبه عقلاً.

وبتعبيرٍ أوضح : أنّ مفاد الرفع إن كان يرجع إلى الترخيص الظاهري في الارتكاب فيكون شأنه شأن قوله :( كلّ شيءٍ حلال ) وسوف نتكلّم عنه.

وإن كان يرجع إلى مجرّد نفي الوضع الظاهري والإلزام الظاهري فمن الواضح أنّ عدم الإلزام الظاهري بالجمعة وعدم الإلزام الظاهري بالظهر لا ينافيان حرمة المخالفة القطعية، ولا يقتضيان نفي الإلزام بالجامع بين الظهر والجمعة واثبات الترخيص في تركه.

وأمّا ما كان بعنوان الترخيص الظاهري من أدلّة البراءة فيمكن أن يقال : إنّ شموله لكلا الطرفين معناه الترخيص في ترك الظهر والترخيص في ترك الجمعة، وهذان الترخيصان إنّما يقتضيان المعذروية، وينفيان العقاب من جهة كلٍّ من التركين، لا من جهة ترك الجامع المتحقّق بالتركين معاً.

وأكبر شاهدٍ على ذلك أنّه لو فرض أنّ الوجوب الشرعي تعلّق واقعاً بالجامع بين الظهر والجمعة فإنّه حينئذٍ يكون ترك الظهر مرخَّصاً فيه بجميع حصصه، أي سواء كان منفرداً أو في حال انضمامه إلى ترك الجمعة، كما أنّ ترك

٣٠١

الجمعة مرخَّص فيه في حال انفراده وفي حال انضمامه إلى ترك الظهر، ولا يكون الترخيص في ترك الظهر والترخيص في ترك الجمعة كذلك منافيين للوجوب الشرعي المفروض تعلّقه بالجامع أصلاً، فكما لا يكون هذان الترخيصان الواقعيان منافيين للوجوب الشرعي المتعلّق بالجامع كذلك لا يكون الترخيصان الظاهريان في المقام منافيين للوجوب العقلي المتعلّق بالجامع.

وبتعبيرٍ أوضح : أنّ الوجوب الشرعي لو تعلّق بالجامع بين الظهر والجمعة حقيقةً فليس مرجعه إلى الإلزام بكلٍّ منهما في ظرف ترك الآخر بحيث يكون عبارةً عن إلزامين مشروطين، بل هو إلزام بالجامع فقط.وأمّا الظهر خاصّةً فليست متعلّقةً للإلزام حتى في ظرف ترك الجمعة، بل هي مباحة لا إلزام بها حتى في هذا الظرف، وإنّما الإلزام واقف على الجامع دائماً.

وعليه فالإباحة ثابتة لصلاة الظهر في جميع الأحوال والإلزام غير متعلّقٍ بها أصلاً، وكذلك صلاة الجمعة ؛ فإنّه لا إلزام بها حتى في ظرف ترك الظهر، وإذن فهي متعلّقة للإباحة في جميع أحوالها أيضاً.وعليه فقد اجتمع وجوب شرعيّ للجامع بين الظهر والجمعة مع الإباحة الواقعية للظهر في جميع أحوالها، وللجمعة في جميع أحوالها، ففي المقام أيضاً لا يكون إباحة كلٍّ من الفعلين بالإباحة المطلقة منافياً لوجوب الجامع بينهما وتنجّزه عقلاً.

وتمام المرام بيان أنّ ثبوت الإباحة المطلقة الظاهرية في كلٍّ من الطرفين اللذَين يعلم بوجوب أحدهما ليس معناه إذن الترخيص في ترك الجامع رأساً، وليس ملازماً لمعذوريته في ترك الجامع حتى ينافي حكم العقل بوجوب الإتيان بالجامع، وإلاّ لو كان ملازماً لذلك ومؤدّياً له لكانت الإباحة الواقعية الثابتة لكلٍّ فرد من أفراد الواجب الشرعي في جميع أحواله مؤدّيةً إلى الإذن في ترك الواجب رأساً.

٣٠٢

ولا يمكن دعوى أنّه لا تثبت هناك الإباحة الواقعية لكلّ فردٍ في جميع أحواله، بل في ظرف وجود الفرد الآخر ؛ لوضوح أنّ نتيجة ذلك أنّ كلّ فردٍ في حال عدم وجود الفرد الآخر ليس مباحاً بل واجباً، وهو يقتضي الالتزام بوجوباتٍ مشروطةٍ بعدد الأفراد، بمعنى أنّ كلّ فردٍ يكون واجباً في ظرف عدم الآخر، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به بداهةً، فلا بدّ من الاعتراف بأنّ كلّ فردٍ من أفراد الواجب متعلّق للإباحة المطلقة حتى في ظرف عدم الآخر، إلاّ أنّ هذه الإباحات المطلقة لا تؤدّي إلى الإذن في ترك الواجب رأساً، فلتكن الإباحات المطلقة الظاهرية في المقام الثابتة للأطراف غير مؤدّيةٍ إلى الإذن في ترك الجامع أيضاً، وإذا لم تكن مؤدّيةً إلى ذلك فلا مانع من ثبوتها ؛ لعدم منافاتها حينئذٍ لِمَا يقتضيه المقدار المعلوم من الحركة.

فإن قلت : على هذا يثبت أنّ الترخيص الظاهري في ترك الجمعة والترخيص الظاهري في ترك الظهر إنّما يؤمِّنان من ناحية ذاتَي التَّرْكَين، لا من ناحية الجمع بين تركيهما الذي هو معنى ترك الجامع بينهما، وعليه فلو كانت عندنا شبهتان وجوبيّتان بدويّتان وثبت في كلٍّ منهما الإباحة المطلقة لم يكن ذلك كافياً لجواز ترك الجامع بين الفعلين رأساً.

قلت : نعم، لا يكفي الأصلان الجاريان في الشبهتين لذلك، بل لابدّ من إعمال الأصل لنفي وجوب نفس الجامع وإثبات حلّية تركه إن كان محتمل الوجوب.

وبما ذكرناه ظهر أنّه لو بني على كون العلم الإجمالي مستتبعاً لوجوب الموافقة القطعية عقلاً ولكن بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّية - بمعنى مشروطية حكم العقل بذلك بعدم الترخيص الشرعي - لم يكن ذلك مجدياً أيضاً في إلزام المكلّف بالموافقة القطعية ؛ لِمَا عرفت من جريان الأُصول الشرعية المؤمّنة في الأطراف

٣٠٣

الرافعة لموضوع حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية.

والمتحصّل : أنّ الوجوب الواقعي الموجود في البين لا يوجب إلاّ الإتيان بأحد الطرفين، ولا يصحِّح العقاب إلاّ على ترك الجامع رأساً باعتبار وصوله وصولاً إجمالياً.وأمّا الإباحة الظاهرية في كلّ من الطرفين بالخصوص - اللذَين أحدهما هو الواجب الواقعي - فهي لا تقتضي إلاّ عدم العقاب على ترك كلّ من الفعلين بالخصوص، ولا توجب المعذورية في ترك الجامع رأساً، فهي لا تزيد في أثرها على البراءة العقلية.

جريان الاستصحاب في جميع الأطراف :

وأمّا الثالث - وهو الاستصحاب - : فقد ظهر الكلام فيه ممّا مضى، فإنّ العلم الإجمالي، بالإلزام بعد أن كان لا يوجب إلاّ لزوم الإتيان بأحد الفعلين عقلاً واستحقاق العقاب على ترك الجامع بينهما رأساً فلا يكون منافياً لجريان استصحاب عدم الوجوب في كلٍّ من الطرفين ؛ لأنّ التعبّد الاستصحابي بعدم الوجوب في كلٍّ منهما إنّما يقتضي جواز تركه، لا جواز ترك الجامع رأساً، وجواز الجمع في الترك، وإلاّ لكانت الإباحات الواقعية المطلقة المتعلقة بأفراد الواجب الشرعي مقتضيةً للترخيص في ترك الواجب، كما عرفت مفصّلاً.

وبالجملة : الثابت بالعلم الإجمالي أنّ ترك الجامع بين الفعلين سبب وعلّة لاستحقاق العقاب عقلاً، والمؤمِّن الشرعي في جانب صلاة الجمعة - مثلاً، سواء كان براءةً أو استصحاباً - إنّما يوجب التأمين بمعنى عدم كون ترك صلاة الجمعة موجباً لاستحقاق العقاب : إمّا لحلّيتها كما هو مقتضى أصالة البراءة، أو للتعبّد بإحراز عدم وجوبها كما هو مقتضى الاستصحاب، فالذي يثبت بالمؤمِّن

٣٠٤

بأيِّ لسانٍ كان إنّما هو عدم سببية ترك الجمعة لاستحقاق العقاب مطلقاً، حتى فيما لو وقع ترك الجمعة في ظرف ترك الظهر، فإنّ ترك الجمعة الواقع في هذا الظرف ليس منشأً للعقاب أيضاً ببركة الحكم بإباحتها، أو التعبّد الاستصحابي بعدم وجوبها، كما أنّ الحال في الظُهر ذلك أيضاً، بمعنى أنّ تركها ولو في ظرف ترك الجمعة لا يكون منشأً للعقاب ببركة الحكم بإباحتها أو التعبّد الاستصحابي بعدم وجوبها.

وإذن فلو اجتمع التركان فلا يكون ترك الجمعة مصحِّحاً للعقاب ؛ لأنّه ترك لفعلٍ مباحٍ ظاهراً، أو متعبّد بعدم وجوبه استصحاباً.كما أنّ ترك الظهر لا يكون مصحِّحاً للعقاب لعين الوجه، إلاّ أنّ ذلك لا ينافي أن يكون ترك الجامع بين الفعلين المتحقّق بالتركين معاً منشأ للعقاب ومصحِّحاً له بحكم العقل.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ المجعول في باب الاستصحاب إمّا أن يكون هو الحكم المماثل للمؤدّى، أو الطريقية والكاشفية.

فعلى الأوّل : يكون استصحاب عدم وجوب الظهر، متكفّلاً للحكم بعدم الإلزام به المساوق للترخيص والإباحة، كما أنّ مرجع استصحاب عدم وجوب الجمعة إلى الترخيص والإباحة أيضاً، فتكون الجمعة مباحةً ظاهراً بقولٍ مطلقٍ إباحةً استصحابيةً ظاهرية، وكذلك الظهر، وقد عرفت سابقاً أنّ ثبوت الإباحة المطلقة لكلٍّ من الفردين لا ينافي لزوم الجامع، ولا يؤدّي إلى الإذن في تركه رأساً.

وأمّا على الثاني - أي لو كان المجعول هو الطريقية - فالأمر أوضح.

بيان ذلك : أنّ الطريقية الاعتبارية الشرعية عند من يلتزم بمجعوليتها يترتّب عليها ما يترتّب على الطريقية التكوينية من التنجيز والتعذير، فالانكشاف التعبّدي للإلزام يوجب خروجه عن موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وصحة

٣٠٥

العقاب ؛ لأنّه عقاب مع وجود البيان على التكليف.كما أنّ الانكشاف التعبّدي لعدم الإلزام يوجب قبح العقاب بملاك قبح العقاب على مخالفة تكليفٍ مع قيام البيان على عدمه.

إذا اتّضح هذا نقول : إنّ معنى إجراء الاستصحابين في كلا الطرفين معاً هو انكشاف عدم وجوب الظهر تعبّداً، وانكشاف عدم وجوب الجمعة تعبّداً أيضاً، ومن الواضح أنّ هذين الانكشافين لا يسريان من موضوعيهما التفصيليّين إلى الجامع، بمعنى أنّ المنكشف عدمه بهما هو هذا الطرف بعينه، وذاك الطرف [ كذلك ]، لا الجامع المنكشف بالصورة العلمية الإجمالية، وإذن فلا يسري العلم الإجمالي إلى الواقع، ولا الإحراز التعبّدي الاستصحابي في كلٍّ من الطرفين يسري إلى المقدار المنكشف بالصورة الإجمالية.

وحينئذٍ فإذا جرى الاستصحاب في كلّ من الطرفين وأحرزنا تعبّداً ببركة الاستصحاب عدم وجوب الجمعة كما أحرزنا عدم وجوب الظهر فالمقدار المنكشف بالاستصحابين تعبّداً هو عدم وجود هذا الوجوب، وعدم وجود ذاك الوجوب، لا عدم الجامع، فلنا أمران قد انكشف عدمهما تعبّداً، وهما : وجوب الظهر، ووجوب الجمعة، وأمر قد انكشف وجوده بالصورة العلمية الإجمالية وجداناً وهو أصل الإلزام، وهذا المقدار المنكشف وجداناً من الإلزام إنّما يوجب تنجّز الجامع بين الفعلين ووجوب الإتيان به عقلاً، بمعنى إدراك العقل واستقلاله بأنّ ترك الجامع مصحِّح للعقاب وسبب له، فلا بدّ حينئذٍ أن نرى أنّ ذينك الانكشافين الاستصحابيّين التعبّديّين لعدم وجوب الظهر وعم وجوب الجمعة هل ينافيان هذا المقدار من التنجّز حتى يمتنع جريانهما، أوْ لا ؟

ومن الواضح ممّا بيّناه هو عدم المنافاة ؛ وذلك لأنّ الانكشاف التعبّدي

٣٠٦

الاستصحابي لعدم وجوب الجمعة يؤثّر عقلاً في جعل العقاب على ترك الجمعة قبيحاً ؛ لأنّه عقاب على ترك أمرٍ مع قيام البيان على عدم التكليف به، فما يوجبه هو أنّ ترك الجمعة ليس سبباً للعقاب أصلاً.

كما أنّ الانكشاف الاستصحابي لعدم وجوب الظهر يؤثّر عقلاً في جعل العقاب على ترك الظهر قبيحاً بعين الوجه، فما يوجبه هو أنّ ترك الظهر ليس سبباً للمؤاخذة.

وإذن فنتيجة الاستصحابين عقلاً هي : أنّ ترك الجمعة ليس سبباً للعقاب، وأنّ ترك الظهر ليس سبباً له، ومن المعلوم أنّ هذه النتيجة لا تنافي ما يستوجبه العلم الإجمالي من تنجّز الجامع وكون تركه سبباً للعقاب، فإنّ عدم سببية كلٍّ من التركين لا يقتضي نفي كون ترك الجامع سبباً.

وإذن فعندنا تروك ثلاثة :

أحدها : ترك الجامع، وهو يصحّ العقاب عليه ؛ لأنّه عقاب على ترك شيءٍ كان هناك مقتضٍ للحركة على طبقه، إذ المفروض أنّ المقدار الواصل من الإلزام إجمالاً يقتضي الإتيان بالجامع، فتركه ترك لِمَا لَه مقتضٍ فيصير سبباً للعقاب.

وثانيها : ترك الظهر، وهو ليس سبباً للعقاب، ولا يصحّ العقاب عليه ؛ لأنّه ترك لفعلٍ لم يكن له مقتضٍ، بل قد قام البيان على عدم وجوبه.

كما أنّ ترك الجمعة يكون تركاً لفعلٍ قد قام البيان الاستصحابي على عدم وجوبه.

وعليه فترك الجامع يندرج في قاعدة صحّة العقاب مع البيان وتمامية المقتضي، وترك الظهر وترك الجمعة يندرجان في قاعدة قبح العقاب مع بيان العدم ولو بياناً تعبّدياً.

فاتّضح : أنّ توهّم المعارضة بين الاستصحابين مبنيّ إمّا على تخيّل أنّ

٣٠٧

مرجع الانكشافين التعبّديّين إلى الانكشاف التعبّدي لعدم أصل الإلزام رأساً الموجب لعدم لزوم الإتيان بالجامع أصلاً، وهو غير معقول ؛ لاستقلال العقل بلزوم الإتيان به.أو تخيّل أنّ الانكشافين المزبورين وإن لم يكن مرجعهما إلى انكشاف عدم جامع الإلزام إلاّ أنّهما يقتضيان عدم صحة العقاب [ لا ] على ترك الظهر ولو في ظرف اجتماعه مع ترك الجمعة، ولا على ترك الجمعة ولو في ظرف اجتماعه مع ترك الظهر، وهذا يؤدّي إلى عدم صحة العقاب في مورد اجتماع التركين معاً.

وكلا التخيّلين مدفوع - كما عرفت - بما لا مزيد عليه.

أمّا الأوّل فلأنّ الانكشافين التعبّديّين لا يسريان إلى المقدار المنكشف بالصورة العلمية الإجمالية، نعم، لو كان انكشافين حقيقيّين لكانا ملازمين للعلم بعدم أصل الإلزام.

والحاصل : أنّ المعلوم الوجداني هو الجامع بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة، بمعنى أنّ طبيعيّ الوجوب الجامع بين الوجوبين هو المعلوم، والانكشاف التعبّدي لعدم هذا الوجوب بخصوصه والانكشاف التعبّدي لعدم ذاك الوجوب بخصوصه ليسا انكشافاً لعدم الجامع بين الوجوبين، وإلاّ لكان استصحاب عدم الفرد الطويل حاكماً على استصحاب الكلّي في القسم الثاني، مع أنّهم لا يقولون بالحكومة، وليس ذلك إلاّ لأنّ استصحاب عدم الفرد الطويل لا يثبت به عدم الكلّي حتى يكون مُلغياً للشكّ في الكلّي وحاكماً على استصحابه، فإنّه لو كان يثبت عدم الكلّي باستصحاب عدم الفرد الطويل لتمّت الحكومة، وكان استصحاب عدم الفرد رافعاً لموضوع استصحاب الكلّي ومقتضياً لإحراز عدمه وارتفاع الشكّ في بقائه.

فاتّضح بهذا : أنّ محطّ الانشكاف التعبّدي الثابت بدليله إذا كان هو عدم

٣٠٨

الفرد فلا يسري إلى عدم طبيعيّ الوجوب الجامع بين الوجوبين، كما لا يسري الانكشاف التعبّدي لعدم ( الفيل ) إلى الانكشاف التعبّدي لعدم( طبيعيّ الحيوان ) في موارد القسم الثاني من استصحاب الكلّي.

وتتمّة الكلام في هذه الجهة وتحقيقها إثباتاً ونفياً في مباحث الاستصحاب، وإنّما نتكلّم هنا على المباني المفروغ عنها.

وأمّا الثاني : فلأنّ عدم صحة العقاب على كلٍّ من التركين، ولو في فرض اجتماعه مع الترك الآخر، لا ينافي صحة العقاب على ترك الجامع في هذا الفرض ؛ لأنّه ترك لأمرٍ كان له مقتضٍ دون كلٍّ من التركين بخصوصه، فافهم واغتنم.

وإذا شئت قلت : أنّ الانكشاف التعبّدي لا يزيد على الانكشاف الوجداني التفصيلي من حيث أثره، وقد عرفت سابقاً أنّ كلّ فردٍ من أفراد الواجب يعلم تفصيلاً بعدم وجوبه في جميع أحواله، ولا تؤدّي هذه العلوم التفصيلية هناك إلى تجويز ترك الواجب رأساً ومخالفة ما يستقلّ به من لزوم الإتيان، فكذلك في المقام لا تزيد الانكشافات التعبّدية على تلك الانكشافات، فلا تؤدّي إلى ترك الجامع رأساً وعدم المعاقبة عليه، وليست أيضاً مستلزمةً لانكشاف عدم الجامع رأساً ؛ لأنّ الانكشافات الوجدانية لأعدام الأفراد تستلزم الانكشاف الوجداني لعدم جامعها، دون الانكشافات التعبّدية لدورانها مدار مقدار التعبّد بها.

هذا كلّه ما وصل إليه الذهن القاصر لتحقيق مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات - بمعنى أنّ دليل الأصل هل له إطلاق يقتضي الشمول لجميع الأطراف، أوْ لا ؟ - فنتكلّم في اقتضاء دليل كلّ أصلٍ في البحث المخصَّص له.

٣٠٩

جريان الأصول النافية في بعض الأطراف

أمّا المقام الثاني - وهو جريان الأصل في بعض الأطراف - فلا موضوع له، بعدما عرفت من جريان الأصول في تمام الأطراف فضلاً عن بعضها، فلا بدّ أن نفرض في المقام الالتزام بما التزم به الكلّ من عدم إمكان جريانها في جميع الأطراف بنحو التعيين، فهل تجري في البعض، أوْ لا ؟

والكلام في المقام لا بدّ أن يكون بعد الفراغ عن أنّ المحذور في جريانها في تمام الأطراف هو لزوم المخالفة القطعية، وأنّ العلم الإجمالي ليس علّةً لوجوب الموافقة القطعية، وإلاّ فلا إشكال في امتناع جريان الأصل ولو في بعض الأطراف.

وعليه فنقول : إنّ جريانها في البعض المعيَّن من الأطراف وإن كان معقولاً على غير مبنى العلّية من المباني إلاّ أنّه بلا موجبٍ بحسب مقام الإثبات أصلاً، إذ بعد فرض عدم إمكان شمول دليل الأصل لكلٍّ من الطرفين واستواء نسبتهما إليه يكون تعيّن أحدهما للشمول والآخر للسقوط ترجيحاً بلا مرجّح، وإذن فيتمحّض الكلام في أنّه هل يمكن جريانها في جميع الأطراف ولكن بنحو التخيير لا بنحو التعيين المفروض استلزامه للمخالفة القطعية، أو أنّه لا يمكن الالتزام بالتخيير في المقام ؟

نظريّة القول بالتخيير في أطراف العلم الإجمالي :

وقد وُجِّه التخيير بوجوه :

أوَّلها وأهمّها : تقييد الأصل في كلٍّ من الطرفين بترك الآخر، ففيما إذا علم

٣١٠

إجمالاً بحرمة أحد فعلين يكون كلّ منهما مجرىً للإباحة المشروطة بالاجتناب عن الآخر، ويندفع بذلك المحذور لعدم أداء الإباحتين المشروطتين كذلك إلى المخالفة القطعية.

وملخّص الوجه فيه : أنّ الأمر دائر بين إخراج الطرفين بالكلّية عن عموم الأصل، أو تقييد إطلاقه لسائر أحوال كلٍّ من الطرفين بالكلّية عن عموم الأصل، أو تقييد إطلاقه لسائر أحوال كلٍّ من الطرفين بخصوص حال ترك الآخر، وحيث يندفع به المحذور فلا موجب للالتزام بأكثر من ذلك.

أجوبة الأصحاب عن نظريّة التخيير :

وقد أجيب عنه بوجوه :

الأوّل : ما أفاده المحقّق النائينيقدس‌سره (١) من أنّ جعل الترخيص لكلٍّ منهما مقيَّداً بترك الآخر غير معقول ؛ لاستحالة الإطلاق الموجبة لاستحالة التقييد ؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل الدم والملكة.

ويرد عليه - على تقدير تسليم أنّ التقابل كذلك وأنّه يشترط فيه القابلية الشخصية - : أنّ جعل الترخيص في كلٍّ من الطرفين في نفسه بنحوٍ مطلقٍ أمر معقول، فيكون التقييد معقولاً أيضاً، وإنّما الممتنع جعل الترخيص المطلق في طرفٍ في ظرف الترخيص المطلق في الطرف الآخر ؛ لأدائه إلى المخالفة القطعية.

فإن قلت : إذا كان الإطلاق في كلٍّ من الترخيصين المقارن للتقييد في الترخيص الآخر محالاً، فيكون التقييد في كلٍّ من الترخيصين المقارن للتقييد في الترخيص الآخر محالاً أيضاً ؛ لأنّه مقابله.

قلت : إنّ المقابل للإطلاق حال الإطلاق هو التقييد حال الإطلاق ،

____________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٤٤ - ٢٤٥.

٣١١

لا التقييد حال التقييد، إذ لا بدّ من حفظ الموضوع الواحد في كلٍّ منهما، فإذا استحال الإطلاق في طرفٍ حال إطلاق الترخيص في طرفٍ آخر امتنع التقييد حال الإطلاق في الطرف الآخر، لا التقييد حال التقييد.

فإن قلت : إنّ التقييد حال الإطلاق إذا صار مستحيلاً فالإطلاق حال التقييد مستحيل أيضاً ؛ لأنّ المقيَّد بالمحال محالٌ، وحينئذٍ يكون مقابله محالاً أيضاً، وهو التقييد حال التقييد.

قلت : إنّ استحالة التقييد حال الإطلاق لا توجب استحالة الإطلاق المقارن للتقييد، وكون المقيَّد بالمحال محالاً مسامحةً مرجعها إلى محاليّة اللازم وما أخذ قيداً دون نفس المقيّد.

فاتّضح : أنّ طبيعيّ الإطلاق في الترخيص في كلّ طرفٍ في نفسه ليس محالاً ليكون مقابله محالاً أيضاً، بل المحال حصّة خاصّة منه، وهي الإطلاق حال إطلاق الترخيص في الطرف الآخر أيضاً.

الثاني : ما ذكره سيدنا الأستاذ(١) من : أنّ المحذور حاصل، وهو الجمع في الترخيص وإن لم يلزم الترخيص في الجمع، فإنّ مقتضى الترخيصات المشروطة المدّعاة الترخيص القطعي في مخالفة الواقع الواصل، وهذا ممّا يأباه العقل، وإن لم يؤدِّ إلى وقوع المخالفة القطعية خارجاً مرخّصاً فيها، فالعلم الإجمالي علّة لاستحالة الترخيص القطعي في مخالفة الواقع، لا استحالة الترخيص في المخالفة القطعية.

وما يختلج في النظر القاصر في المقام أنّه : إمّا أن يكون المحذور في الترخيصات المشروطة المزبورة هو صيرورتها فعليةً عند تحقّق شرطها الموجب

____________________

(١) مصباح الأصول ٢ : ٣٥٥.

٣١٢

للترخيص الفعلي القطعي في مخالفة الواقع، فإنّ المكلف عند تركه لكلا الطرفين معاً يكون كلا الترخيصين فعلياً [ له ]، وأحدهما ترخيص في مخالفة الواقع قطعاً، وهو معنى الترخيص القطعي في ذلك.

وإمّا أن يكون المحذور في مجرّد ثبوتها ولو مشروطةً، بحيث لو فرض امتناع اجتماعهما في الفعلية لكانَ ذات محذورٍ أيضاً، بدعوى أنّ الترخيص القطعي في مخالفة الواقع ولو مشروطاً ممتنع عند العقل، وإن لم يكن منافياً لحرمة المخالفة القطعية وما ينجّزه العلم الإجمالي من الحركة.

فعلى الأوّل - أي إذا قلنا : إنّ المحذور ليس في ثبوت الترخيص في كلٍّ من الطرفين مشروطاً، بل لا مانع من الجمع بين الترخيصات المشروطة، وإنّما المحذور في أنّ هذين الترخيصين المفروضين يمكن تحقّق الشرط لكلٍّ منهما فيكونان فعليّين، وحينئذٍ يتحقّق المحذور وهو الترخيص الفعلي القطعي في الحرام - فنقول : إنّه يمكن جعل الترخيصات المشروطة بنحوٍ من الاشتراط والتقيّد، بحيث يستحيل اجتماعهما في الفعلية وتحقّق الشرط لكلٍّ منها، وذلك فيما إذا فرضنا العلم الإجمالي ذا أطرافٍ ثلاثة، كما إذا علم بحرمة أحد أفعالٍ ثلاثةٍ فإنّه يمكن أن نلتزم في هذا الفرض بثبوت الترخيص في كلّ واحدٍ منها، ولكن مشروطاً بارتكاب أحد الأمرين الآخرين وترك الآخر، ومن المعلوم أنّه لا يعقل تحقّق الشرط للترخيصات الثلاثة جميعاً لتكون فعلية، كما يظهر بأدنى تأمل، فالترخيصات المشروطة بالنحو المزبور - أي المقيّدة بفعل واحدٍ وترك الآخر - لا يعقل فعلية أكثر من اثنين منها، فلم يلزم الترخيص الفعلي القطعي في مخالفة الواقع.

لا يقال : إنّه إذا كان قد أخذ في موضوع كلٍّ من الترخيصات ارتكاب أحد الأطراف فلا بدّ من فرض مجوّزٍ ومؤمِّنٍ للمكلف يعتمد عليه في اقتحامه لأحد

٣١٣

الأطراف مع قطع النظر عن الترخيصات المزبورة، ليتحقّق بعد ذلك موضوع الترخيص بالإضافة إلى طرفٍ آخر.

لأنّه يقال : إنّه لا يلزم استناد المكلّف إلى مؤمِّنٍ خارجي، ضرورة أنّ المكلف يعلم بأنّه إذا أتى بفعلين وترك الثالث فلا شيء عليه ببركة تلك الترخيصات المشروطة، إذ يكون كلّ من الارتكابين محقِّقاً لشرط الترخيص في الارتكاب الآخر، فلا محالة مع علمه هذا تنقدح في نفسه الإرادة إلى ارتكاب فعلين، من دون حاجةٍ إلى مؤمِّنٍ آخر غير نفس الترخيصات المفروضة.

على أنّه لو سلِّم أنّها لا تؤمِّن من ناحية أحد الارتكابين نفرض أنّ المكلّف ارتكب أحد الأطراف أوّلاً بلا استنادٍ إلى مؤمِّن، فمقتضى الترخيصات المزبورة جواز الإتيان بأحد الطرفين الآخرين، بحيث لو كان الواقع منطبقاً عليه لَما عوقِب على عصيانه لاستناده إلى المؤمّن.

هذا كلّه لو فرض أنّ المحذور في الترخيص الفعلي القطعي في مخالفة الواقع.

وأمّا إذا قيل بأنّ المحذور إنّما هو في الترخيص القطعي في الحرام ولو مشروطاً فالنقض المزبور لا يرد، كما هو واضح، إذ الترخيص المشروط في مخالفة الواقع ثابت جزماً فيه أيضاً، إلاّ أنّ مقتضى ذلك أنّه لو علم إجمالاً بنجاسة مائعٍ أو ماءٍ، وكان الماء مجرىً للاستصحاب في نفسه، والمائع مجرىً لأصالة الطهارة فقط، أن يجري استصحاب الطهارة في الماء بلا معارض، مع أنّه لا يلتزم به أحد، إذ الأساطين بين من يقول بسقوط الاستصحاب والقاعدة معاً في طرف الماء بالمعارضة(١) ، وبين من يقول بسقوط الاستصحاب بالمعارضة وجريان

____________________

(١) منهم المحقّق النائيني في فوائد الأصول ٤ : ٤٨.

٣١٤

الأصل الطولي وهو أصالة الطهارة في الماء(١) ، وأمّا جريان الاستصحاب في الماء بلا معارض، فهو ممّا لم يلتزم به.

وتوضيح لزوم هذا المعنى يأتي قريباً في التنبيه الأوّل من تنبيهات المسألة، فانتظر.

وأيضاً يلزم على هذا - أي على الالتزام بأنّ المحذور في الترخيص في الحرام ولو مشروطاً، بحيث [ إنّ ] مجرّد الجمع بين الترخيصات المشروطة يكون محالاً - أنّ العلم الإجمالي إذا اضطرّ إلى أحد طرفيه لا بعينه يسقط عن التنجيز رأساً ؛ حتى بالإضافة إلى حرمة المخالفة القطعية.

وسيأتي بيان لزوم ذلك في التنبيه المعدِّ للبحث عن الاضطرار إلى أحد الأطراف مفصّلاً، إلاّ أنّه حيث إنّ هذا التنبيه ليس في هذا الجزء فنشير هنا إجمالاً إلى لزوم هذا المعنى.

فنقول : إنّه لا إشكال عند الاضطرار إلى أحد الطرفين - لا بعينه - في ترخيص الشارع في تطبيق ما اضطرّ إليه، وهو الجامع بين الطرفين على أيٍّ منهما.

وإن شئت قلت : إنّ المضطرَّ إليه هو الوجود الأوّل منهما، لا الوجود الثاني ؛ لاندفاع الاضطرار بالأوّل، فالشارع لا محالة يرخِّص في الوجود الأوّل القابل الانطباق على كلٍّ من الطرفين بنحو التبادل، وهو يستدعي الترخيص في تطبيق هذا الوجود الأوّل على أيٍّ من الطرفين، ومعنى هذا ثبوت الترخيص في كلّ طرفٍ مشروطاً بأن يوجد أوّلاً.

فتحصّل عندنا ترخيصات شرعية بعدد الأطراف، إلاّ أنّها مشروطة بعنوان الأوّلية، وهذه الترخيصات يستحيل فعليتها جميعاً في عرضٍ واحد ؛ لأنّ عنوان

____________________

(١) منهم المحقّق العراقي في نهاية الأفكار ٣ : ٣٢٠ - ٣٢١.

٣١٥

الأوّلية إنّما يثبت لأحدها، ولا يعقل ثبوتها للجميع، إلاّ أنّ المحذور - بحسب الفرض - لا يختصّ بالترخيص الفعلي في الحرام، بل يشمل الترخيص القطعي فيه ولو مشروطاً، فقهراً تكون الترخيصات المشروطة المفروضة في مورد الاضطرار إلى أحد الأطراف - لا بعينه - منافيةً للواقع الواصل، حيث إنّ مقتضاها الترخيص القطعي في الحرام ولو مشروطاً بعنوان الأوّلية، فلا بدّ من الالتزام بسقوط التكليف الواقعي رأساً ؛ لئلاً يكون منافياً للترخيصات المشروطة الثابتة سبب الاضطرار قطعاً، ومع سقوطه ينحلّ العلم الإجمالي ويسقط عن التأثير بالمرَّة.

فاتّضح : أنّ جعل المحذور الترخيص القطعي الفعلي في الحرام الواقعي لا يدفع شبهة التخيير في بعض الموارد، وجعل المحذور الترخيص القطعي في الحرام ولو مشروطاً وإن اندفعت به شبهة التخيير في سائر الموارد إلاّ أنّه يترتّب على ذلك أمور لا نلتزم بها.

الثالث من الأجوبة لبعض مشايخنا المحقّقين(١) من : أنّ التقييدات التي يندفع بها المحذور لا تنحصر في تقييد كلٍّ من الترخيصين بترك الآخر، بل يمكن تقييد الترخيص في كلٍّ من الطرفين بأن يكون سابقاً أو مسبوقاً بالآخر، فإنّ الترخيص في كلٍّ من الطرفين - سواء كان سابقاً أو مسبوقاً - وإن كان محالاً إلاّ أنّ ثبوته مقيَّداً بأحد الأمرين من السابقيّة والمسبوقية لا محذور فيه، ولا مرجّح للتقييد المدّعى عليه.

وأجاب عنه : بأنّ العلم الإجمالي بخروج كلٍّ من الوجود الأوّل لكلٍّ منهما، أو الوجود الثاني لكلٍّ منهما موجب لعدم شمول العامّ للوجود الأوّل أو الثاني لكلٍّ منهما، وأمّا الوجود الوحداني لكلٍّ منهما فلا علم إجمالاً بخروجه، وليس طرفاً

____________________

(١) لم نعثر عليه.

٣١٦

لعلمٍ إجماليٍّ بالخروج أصلاً.

الرابع : ما ذكره بعض مشايخنا المحقّقين(١) أيضاً من : أنّ تقريب الشبهة مبنيّ على أن يكون لدليل الأصل عموم للأفراد، وإطلاق باعتبار حالاتها، وحينئذٍ يقال : إنّ التحفّظ على أصالة العموم لازم لعدم العلم بالتخصيص بعد اندفاع المحذور بالتقييد، إلاّ أنّ دليل الأصل ليس كذلك، فإنّ حِصص شرب كلٍّ من الطرفين ثابتة بنفس عموم قوله : ( كلّ شيءٍ حلال ) ؛ لأنّ كلّ حصةٍ منها فعل مشكوك الحرمة، فالتخصيص في عمومه معلوم على كلّ حال، وكما يندفع المحذور بما ذكر في شبهة التخيير كذلك يندفع بتخصيص العموم بأحد الشربين رأساً.

ودَفعه بما سبق أيضاً، من : أنّه لو فرض ثبوت الحصص بالعموم نقول : إنّ كلّ حصّةٍ من تلك الحصص طرف للعلم الإجمالي بالخروج والتخصيص، إلاّ الشرب المقارن لترك الآخر فإنّه ليس معلوم الخروج لا تفصيلاً ولا إجمالاً، فيؤخذ بالعام بالإضافة إليه.

الردّ المختار على نظريّة التخيير :

الخامس : ما هو التحقيق في النظر القاصر في مقام الجواب، وهو متوقّف على مقدِّمةٍ نشير إليها هنا إجمالاً، وتفصيلها في محلّه، وهي : أنّ القضية الحينية غير معقولة، فإنّ الحكم يمتنع أن يكون ثابتاً لذات حصّةٍ خاصّةٍ مع خروج كلٍّ من القيد والتقيّد عن موضوعه، بل فرض خروجها كذلك وإلغاء الموضوع عنها هو فرض إطلاقه وعدم اختصاصه بالحصّة الخاصّة.وقد فصّلنا هذا في مباحث القطع

____________________

(١) لم نعثر عليه.

٣١٧

من هذا الكتاب، وبيّنّا الوجه في بطلان القضية الحينية تبعاً لسيّدنا الأُستاذ(١) ، فإنّه ذهب إلى ذلك، وإلى أنّه لا واسطة بين الإطلاق والتقييد، بل الشيء إمّا مطلق، أو مقيّد، ولأجل امتناعها ذهب المحقّق الدواني(٢) إلى رجوع لوازم الماهية كلّها إلى لوازم الوجود على ما نسب إليه، ولم يتصوّر كون اللازم لازماً للماهية حين الوجود بحيث لا يكون الوجود مأخوذاً في الملزوم بوجهٍ أصلاً.

والحاصل : أنّنا نتكلّم على هذا المبنى، فنقول : إنّه تارةً يتكلّم فيما إذا علم إجمالاً بحرمة أحد الفعلين، وأخرى فيما إذا علم بوجوب أحدهما، وملاك الجواب وإن كان واحداً إلاّ أنّ التعبير عنه مختلف.

أمّا في الأوّل - كما إذا علم بحرمة شرب أحد المائعين - فمقتضى شبهة التخيير إجراء أصالة الحلّية في كلٍّ من الشُربَين بنحوٍ مخصوص.

وحينئذٍ نسأل : أنّ هذه الحلّية الظاهرية الثابتة لكلٍّ من الشربين بنحوٍ مخصوصٍ : إمّا أن يكون موضوعها هو الشرب بجميع حصصه، أي طبيعيّ شرب المائع المزبور الجامع بين شربه الواقع في عرض شرب الآخر، أو شربه الواقع في حال اجتناب الآخر.وإمّا أن يكون موضوع الحلّية الشرب المقيّد بترك الآخر بحيث تكون هذه الحصّة الخاصّة محكومةً بالحلّية الظاهرية.

والثاني غير معقول ؛ لأنّ الشرب الخاصّ المقيّد بترك الآخر ليس مشكوك الحرمة حتى تشمله الحلّية المجعولة في دليلها على عنوان المشكوك ؛ لأنّ المحتمل إنّما هو حرمة كلّيّ الشرب، لاحصصه وأفراده بما أنّها أفراد وحصص خاصّة، إذ الإطلاق إنّما هو رفض القيود، لا الجمع بينها، فمعنى ثبوت الحرمة

____________________

(١) محاضرات ٥ : ٣٦٤.

(٢) نهاية الحكمة : ١٢.

٣١٨

لجميع الحصص المتصوّرة لشرب المائع هو ثبوتها لطبيعيّ الشرب الملغى عنه خصوصيات الحصص من كونها واقعةً في ظرف الاجتناب عن الطرف الآخر، أو في ظرف ارتكابه، وغير ذلك من خصوصيات الأفراد.

وحينئذٍ فالمكلّف إذا علم بخمرية أحد المائعين فهو إنّما يحتمل حرمة أصل شرب كلٍّ من المائعين، ولا يحتمل أن يكون الشرب المقيّد بترك الآخر بما أنّه شرب مقيّد حرام حتى يحكم بالحلّية الظاهرية.وإذن فلا يمكن الالتزام بثبوت الحلّية الظاهرية للشرب ؛ المقيّد في كلٍّ من الطرفين، بل لا بدّ من الالتزام بثبوتها لطبيعي الشرب لأنّه هو المحتمل حرمته.

وحينئذ نسأل : أنّ هذه الحلّية الظاهرية الثابتة لطبيعيّ الشرب في كلٍّ من الطرفين هل هي حلّية مطلقة، أو مقيّدة بظرف الاجتناب عن الطرف الآخر ؟

والأوّل - أي أن تكون حلّيةً مطلقةً في كلٍّ من الطرفين - : غير معقول ؛ لأنّه خلف دعوى التخيير، ويؤدّي إلى المخالفة القطعية.

والثاني - أي أن تكون حلّيةً مقيّدةً بترك الآخر - : غير معقولٍ أيضاً ؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ موضوعها هو طبيعيّ الشرب الجامع بين الشرب الواقع حال ترك الآخر والواقع حال اقتحامه، ومع سعة الموضوع وإطلاقه يمتنع أن تكون الحلّية الظاهرية مقيّدةً بظرف ترك الآخر ؛ لوضوح أنّها لو كانت مقيّدةً بظرف ترك الآخر لاستحال تعلقّها بطبيعيّ الشرب الشامل للشرب حال فعل الآخر، إذ يستحيل أن تكون مؤمِّنةً للمكلف من ناحية الشرب الواقع في غير ظرفها.

والحاصل : أنّ الحلّية الظاهرية إنّما جعلت بداعي التأمين، ومن المعلوم أنّها إنّما تؤمِّن في ظرف ثبوتها، فإذا فرضنا أنّ ثبوتها مختصّ بصورة ترك الآخر خاصّةً ومع عدم كونها مؤمِّنةً عنه يستحيل شمولها له ولو بالإطلاق.

وإن شئت قلت : إنّ موضوع الحلّية الظاهرية إنّما يعقل إطلاقه لكلِّ حصّةٍ

٣١٩

يمكن أن تكون الحلّية المزبورة مؤمِّنةً من ناحيتها في ظرف وقوعها، وأمّا الحصّة التي لا تكون كذلك فلا يعقل إطلاق موضوع الحلّية الظاهرية لها ؛ لِلَغويته، فإذا فرض أنّ الحلّية مقيّدة بظرف ترك الآخر فلا تؤمِّن من ناحية الشرب الواقع في حال ارتكاب الآخر، فيكون إطلاق موضوعها لهذه الحصّة من الشرب مستحيلاً.وإذن فالصور كلّها مستحيلة.

وبالجملة : لدينا صور ثلاث :

أحدها : تعلّق الحلّية الظاهرية المطلقة بمطلق الشرب الجامع بين الحصص.

ثانيها : تعلّق الحلّية الظاهرية المختصّة بظرف ترك الآخر، بمطلق الشرب الشامل للشرب حال ارتكاب الآخر.

ثالثها : تعلّق الحلّية بالشرب المقيّد بحال ترك الآخر.

وكلّها ممتنع.

أمّاالأوّل فلأدائه إلى المخالفة القطعية، ومخالفته لفرض التخيير.

وأمّاالثاني فلأنّ الحلّية المقيّدة بظرفٍ لا يمكن أن تتعلّق بطبيعيّ الشرب غير المقيّد بذلك الظرف بحيث يشمل الشرب الواقع في غير ظرف الحلّية ؛ لأنّها لا تؤمِّن إلاّ من ناحية ما يقع في ظرفها.

وأمّاالثالث فهو وإن كان معقولاً في نفسه إلاّ أنّه لا يمكن أن يثبت بدليل أصالة الحلّية الذي أخذ في موضوعه الشكّ في الحرمة ؛ لوضوح أنّ الشرب المقيّد بترك الآخر بما أنّه كذلك غير محتمل الحرمة.

وعلى هذا فإن شئت قلت : إنّ التقييد إنّما يُلتزم به في الموارد التي يكون الإطلاق فيها ذا محذورٍ إذا لم يكن هذا التقييد موجباً لخروج المورد عن المصداقية والفردية لموضوع العام، وإلاّ فاستحالة الإطلاق حينئذٍ ملازمة لعدم شمول العام له رأساً، كما في المقام، إذ أنّ تقييد الفعل بترك الآخر يخرجه عن كونه

٣٢٠