المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر0%

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 392

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 392
المشاهدات: 84870
تحميل: 7296

توضيحات:

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84870 / تحميل: 7296
الحجم الحجم الحجم
المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الاسترابادي يميل به إلى المذهب الحسّي في نظرية المعرفة القائل : بأنّ الحسّ هو أساس المعرفة، ولأجل ذلك يمكننا أن نعتبر الحركة الأخبارية في الفكر العلمي الإسلامي أحد المسارب التي تسرَّب منها الاتّجاه الحسّي إلى تراثنا الفكري.

وقد سبقت الأخبارية - بما تمثّل من اتّجاهٍ حسّيٍّ - التيار الفلسفي الحسّي الذي نشأ في الفلسفة الأوروبية على يد( جون لوك ) المتوفّى سنة ( ١٧٠٤ م )، و( دافيد هيوم ) المتوفّى سنة ( ١٧٧٦ م )، فقد كانت وفاة الاسترابادي قبل وفاة( جون لوك ) بمئة سنةٍ تقريباً، ونستطيع أن نعتبره معاصراً ل-( فرنسيس بيكون ) المتوفّى سنة ( ١٦٢٦ م )، الذي مهّد للتيار الحسّي في الفلسفة الأوروبية.

وعلى أيِّ حالٍ فهناك التقاء فكري ملحوظ بين الحركة الفكرية الأخبارية والمذاهب الحسّية والتجريبية في الفلسفة الأُوروبية، فقد شنّت جميعاً حملةً كبيرةً ضدّ العقل، وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدّها من الحسّ.

وقد أدّت حركة المحدّث الاسترابادي ضدّ المعرفة العقلية المنفصلة عن الحسّ إلى نفس النتائج التي سجّلتها الفلسفات الحسّية في تأريخ الفكر الأُوروبي، إذ وجدت نفسها في نهاية الشوط مدعوّةً - بحكم اتّجاهها الخاطئ - إلى معارضة كلّ الأدلّة العقلية التي يستدلّ بها المؤمنون على وجود الله سبحانه ؛ لأنّها تندرج في نطاق المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس.

فنحن نجد مثلاً محدّثاً -كالسيّد نعمة الله الجزائري - يطعن في تلك الأدلّة بكلّ صراحةٍ وفقاً لاتّجاهه الأخباري، كما نقل عنه الفقيه الشيخيوسف البحراني في كتابهالدرر النجفية (١) ، ولكنّ ذلك لم يؤدِّ بالتفكير الأخباري إلى الإلحاد كما أدّى بالفلسفات الحسّية الأُوروبية ؛ لاختلافهما في الظروف التي ساعدت على

____________________

(١) الدرر النجفية : ١٤٦.

٦١

نشوء كلٍّ منهما، فإنّ الاتّجاهات الحسّية والتجريبية في نظرية المعرفة قد تكوّنت في فجر العصر العلمي الحديث لخدمة التجربة وإبراز أهمّيتها، فكان لديها الاستعداد لنفي كلّ معرفةٍ عقلية منفصلةٍ عن الحسّ.

وأمّا الحركة الأخبارية فكانت ذات دوافعٍ دينية، وقد اتّهمت العقل لحساب الشرع، لا لحساب التجربة، فلم يكن من الممكن أن تؤدّي مقاومتها للعقل إلى إنكار الشريعة والدين.

ولهذا كانت الحركة الأخبارية تستبطن - في رأي كثيرٍ من ناقديها - تناقضاً ؛ لأنّها شجبت العقل من ناحيةٍ لكي تُخلِي ميدان التشريع والفقه للبيان الشرعي، وظلّت من ناحيةٍ أُخرى متمسّكةً به لإثبات عقائدها الدينية ؛ لأنّ إثبات الصانع والدين لا يمكن أن يكون عن طريق البيان الشرعي، بل يجب أن يكون عن طريق العقل.

٦٢

تأريخ علم الأُصول

مولد علم الأُصول :

نشأ علم الأُصول في أحضان علم الفقه، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث ؛ تبعاً للمراحل التي مرَّ بها علم الشريعة.

ونريد بعلم الشريعة : العلم الذي يحاول التعرّف على الأحكام التي جاء الإسلام بها من عند الله تعالى.فقد بدأ هذا العلم في صدر الإسلام متمثّلاً في الحملة التي قام بها عدد كبير من الرواة لحفظ الأحاديث الواردة في الأحكام وجمعها، ولهذا كان علم الشريعة في مرحلته الأولى قائماً على مستوى علم الحديث، وكان العمل الأساسي فيه يكاد أن يكون مقتصراً على جمع الروايات وحفظ النصوص.وأمّا طريقة فهم الحكم الشرعي من تلك النصوص والروايات فلم تكن ذات شأنٍ في تلك المرحلة ؛ لأنّها لم تكن تعدو الطريقة الساذجة التي يفهم بها الناس بعضهم كلام بعضٍ في المحاورات الاعتيادية.

وتعمّقت بالتدريج طريقة فهم الحكم الشرعي من النصوص، حتّى أصبح استخراج الحكم من مصادره الشرعية عملاً لا يخلو عن دقّة، ويتطلّب شيئاً من العمق والخبرة، فانصبّت الجهود وتوافرت لاكتساب تلك الدقّة التي أصبح فهم

٦٣

الحكم الشرعي من النصّ واستنباطه من مصادره بحاجةٍ إليها، وبذلك نشأت بذور التفكير العلمي الفقهي وولد علم الفقه، وارتفع علم الشريعة من مستوى علم الحديث إلى مستوى الاستنباط والاستدلال العلمي الدقيق.

ومن خلال نموِّ علم الفقه والتفكير وإقبال علماء الشريعة على ممارسة عملية الاستنباط، وفهم الحكم الشرعي من النصوص بالدرجة التي أصبح الموقف يتطلّبها من الدقّة والعمق، أقول : من خلال ذلك أخذت الخيوط المشتركة( العناصر المشتركة ) في عملية الاستنباط تبدو وتتكشّف، وأخذ الممارسون للعمل الفقهي يلاحظون اشتراك عمليات الاستنباط في عناصر عامةٍ لا يمكن استخراج الحكم الشرعي بدونها، وكان ذلك إيذاناً بمولد التفكير الأُصولي وعلم الأصول، واتّجاه الذهنية الفقهية اتّجاهاً أُصولياً.

وهكذا ولد علم الأُصول في أحضان علم الفقه، فبينما كان الممارسون للعمل الفقهي قبل ذلك يستخدمون العناصر المشتركة في عملية الاستنباط دون وعيٍ كاملٍ بطبيعتها وحدودها وأهمّية دورها في العملية أصبحوا بعد تغلغل الاتّجاه الأُصولي في التفكير الفقهي يَعُونَ تلك العناصر المشتركة ويدرسون حدودها.

ولا نشكّ في أنّ بذرة التفكير الأُصولي وجدت لدى الفقهاء أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام منذ أيام الصادقَينعليهما‌السلام على مستوى تفكيرهم الفقهي، ومن الشواهد التأريخية على ذلك ما ترويه كتب الحديث من أسئلةٍ ترتبط بجملةٍ من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط وجَّهها عدد من الرواة إلى الإمام الصادقعليه‌السلام وغيره من الأئمّةعليهم‌السلام وتلقَّوا جوابها منهم(١) .فإنّ تلك الأسئلة

____________________

(١) فمن ذلك الروايات الواردة في علاج النصوص المتعارضة، وفي حجّية خبر الثقة، وفي =

٦٤

تكشف عن وجود بذرة التفكير الأُصولي عندهم، واتّجاههم إلى وضع القواعد العامة وتحديد العناصر المشتركة.ويعزّز ذلك : أنّ بعض أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام ألّفوا رسائل في بعض المسائل الأُصولية، كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام الذي ألّف رسالةً في الألفاظ(١) .

وبالرغم من ذلك فإنّ فكرة العناصر المشتركة وأهمّية دورها في عمليات الاستنباط لم تكن بالوضوح والعمق الكافيَين في أوّل الأمر، وإنّما اتّضحت معالمها وتعمّقت بالتدريج خلال توسّع العمل الفقهي ونموّ عمليات الاستنباط، ولم تنفصل دراسة العناصر المشتركة بوصفها دراسةً عمليةً مستقلّةً عن البحوث الفقهية وتصبح قائمةً بنفسها إلاّ بعد مضيِّ زمنٍ منذ ولادة البذور الأولى للتفكير الأُصولي، فقد عاش البحث الأُصولي ردحاً من الزمن ممتزجاً بالبحث الفقهي غير مستقلٍّ عنه في التصنيف والتدريس، وكان الفكر الأُصولي خلال ذلك يثري ويزداد دوره وضوحاً وتحديداً، حتّى بلغ في ثرائه ووضوحه إلى الدرجة التي أتاحت له الانفصال عن علم الفقه.

ويبدو أنّ بحوث الأُصول حتّى حين وصلت إلى مستوىً يؤهِّلها للاستقلال بقيت تتذبذب بين علم الفقه وعلم أُصول الدين، حتّى أنّها كانت أحياناً تُخلَط

____________________

= أصالة البراءة، وفي جواز إعمال الرأي والاجتهاد...، وما إلى ذلك من قضايا.( المؤلّف قدس‌سره ).

وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٥، و ١١٨، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٢٩، و ١٧٣ - ١٧٤، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٦٧، و ١٤٨، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٣٦.

(١) راجع : رجال النجاشي : ٤٣٣، الرقم ١١٦٤.

٦٥

ببحوثٍ في أُصول الدين والكلام، كما يشير إلى ذلكالسيّد المرتضى في كتابه الأُصولي( الذريعة ) ، إذ يقول : ( قد وجدت بعض من أفرد لأُصول الفقه كتاباً - وإن كان قد أصاب في سرد معانيه وأوضاعه ومبانيه - ولكنّه قد شرد عن أصول الفقه وأسلوبها وتعدّاها كثيراً وتخطّاها، فتكلّم على حدّ العلم والنظر، وكيف يولِّد النظر العلم ؟ ووجوب المسبّب عن السبب إلى غير ذلك من الكلام الذي هو محض صرف خالص الكلام في أُصول الدين دون أُصول الفقه ) (١) .

وهكذا نجد أنّ استقلال علم أُصول الفقه بوصفه علماً للعناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي وانفصاله عن سائر العلوم الدينية من فقهٍ وكلامٍ لم ينجزْ إلاّ بعد أن اتّضحت أكثر فأكثر فكرة العناصر المشتركة لعملية الاستنباط وضرورة وضع نظامٍ عامٍّ لها، الأمر الذي ساعد على التمييز بين طبيعة البحث الأُصولي وبطبيعة البحوث الفقيهة والكلامية، وأدّى بالتالي إلى قيام علمٍ مستقلٍّ باسم ( علم أُصول الفقه ).

وبالرغم من تمكّن علم الأصول من الحصول على الاستقلال الكامل عن علم الكلام ( علم أُصول الدين ) فقد بقيت فيه رواسب فكرية يرجع تأريخها إلى عهد الخلط بينه وبين علم الكلام، وظلّت تلك الرواسب مصدراً للتشويش، فمن تلك الرواسب - على سبيل المثال - الفكرة القائلة بأنّ أخبار الآحاد ( وهي الروايات الظنّية التي لا يعلم صدقها ) لا يمكن الاستدلال بها في الأصول ؛ لأنّ الدليل في الأُصول يجب أن يكون قطعياً.

فإنّ مصدر هذه الفكرة هو علم الكلام، ففي هذا العلم قرّر العلماء أنّ أُصول الدين تحتاج إلى دليلٍ قطعي، فلا يمكن أن نثبت صفات الله والمعاد

____________________

(١) الذريعة إلى أُصول الشريعة ١ : ٢.

٦٦

- مثلاً - بأخبار الآحاد، وقد أدّى الخلط بين علم أُصول الدين وعلم أُصول الفقه واشتراكهما في كلمة ( الأُصول ) إلى تعميم تلك الفكرة إلى أُصول الفقه، ولهذا نرى الكتب الأُصولية ظلّت إلى زمان المحقّق في القرن السابع تعترض على إثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط بخبر الواحد انطلاقاً من تلك الفكرة.

ونحن نجد في كتاب الذريعة لدى مناقشة الخلط بين أُصول الفقه وأُصول الدين تصوّراتٍ دقيقةً نسبياً ومحدّدةً عن العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، فقد كتب يقول : ( اعلم : أنّ الكلام في أُصول الفقه إنّما هو على الحقيقة كلام في أدلّة الفقه ...، ولا يلزم على ما ذكرناه أن تكون الأدلّة والطرق إلى أحكام وفروع الفقه الموجودة في كتب الفقهاء أُصولاً ؛ لأنّ الكلام في أُصول الفقه إنّما هو كلام في كيفية دلالة ما يدلّ من هذه الأُصول على الأحكام على طريق الجملة دون التفصيل، وأدلّة الفقهاء إنّما هي على نفس المسائل، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل)(١) .

وهذا النصّ في مصدرٍ من أقدم المصادر الأُصولية في التراث الشيعي يحمل بوضوحٍ فكرة العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، ويسمّيها أدلّة الفقه على الإجمال، ويميِّز بين البحث الأُصولي والفقهي على أساس التمييز بين الأدلّة الإجمالية والأدلّة التفصيلية، أي بين العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة في تعبيرنا، وهذا يعني أنّ فكرة العناصر المشتركة كانت مختمرةً وقتئذٍ إلى درجةٍ كبيرة، والفكرة ذاتها نجدها بعد ذلك عند الشيخ الطوسي وابن زهرة(٢)

____________________

(١) الذريعة إلى أُصول الشريعة ١ : ٧.

(٢) الغنية ( ضمن الجوامع الفقهية ) : ٤٦١.

٦٧

والمحقّق الحلّي(١) وغيرهم، فإنّهم جميعاً عرّفوا علم الأُصول بأنّه( علم أدلّة الفقه على وجه الإجمال) وحاولوا التعبير بذلك عن فكرة العناصر المشتركة.

ففي كتاب العدّة قال الشيخ الطوسي : ( أُصول الفقه هي أدلّة الفقه، فإذا تكلّمنا في هذه الأدلّة فقد نتكلّم فيما يقتضيه من إيجابٍ وندبٍ وإباحة، وغير ذلك من الأقسام على طريق الجملة، ولا يلزمنا عليها أن تكون الأدلّة الموصلة إلى فروع الفقه ؛ لأنّ هذه الأدلّة أدلّة على تعيين المسائل، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل )(٢) .

ومصطلح الإجمالية والتفصيلية يعبّر هنا عن العناصر المشتركة والعناصر الخاصّة.

ونستخلص ممّا تقدّم : أنّ ظهور علم الأُصول والانتباه العلمي إلى العناصر المشتركة في عملية الاستنباط كان يتوقّف على وصول عملية الاستنباط إلى درجةٍ من الدقّة والاتّساع وتفتّح الفكر الفقهي وتعمّقه، ولهذا لم يكن من المصادفة أن يتأخّر ظهور علم الأُصول تأريخياً عن ظهور علم الفقه والحديث، وأن ينشأ في أحضان هذا العلم بعد أن نَما التفكير الفقهي وترعرع بالدرجة التي سمحت بملاحظة العناصر المشتركة ودرسها بأساليب البحث العلمي، ولأجل ذلك كان من الطبيعي أيضاً أن تختمر فكرة العناصر المشتركة تدريجاً وتدقّ على مرّ الزمن ؛ حتّى تكتسب صيغتها الصارمة وحدودها الصحيحة ؛ وتتميّز عن بحوث الفقه وبحوث أصول الدين.

___________________

(١) معارج الأُصول : ٤٧.

(٢) عدّة الأُصول ١ : ٧.

٦٨

الحاجةُ إلى علم الأصول تأريخيةٌ :

ولم يكن تأخّر علم الأصول تأريخياً عن ظهور علم الفقه والحديث ناتجاً عن ارتباط العقلية الأُصولية بمستوىً متقدّمٍ نسبياً من التفكير الفقهي فحسب، بل هناك سبب آخر له أهمّية كبيرة في هذا المجال، وهو : أنّ علم الأصول لم يوجد بوصفه لوناً من ألوان الترف الفكري، وإنّما وجد تعبيراً عن حاجةٍ ملحَّةٍ شديدةٍ لعملية الاستنباط التي تتطلّب من علم الأُصول تموينها بالعناصر المشتركة التي لا غنى لها عنها، ومعنى هذا : أنّ الحاجة إلى علم الأُصول تنبع من حاجة عملية الاستنباط إلى العناصر المشتركة التي تدرس في هذا العلم وتحدّد، وحاجة عملية الاستنباط إلى هذه العناصر الأُصولية هي في الواقع حاجة تأريخية، وليست حاجة مطلقة، أي أنّها حاجة توجد وتشتدّ بعد أن يبتعد الفقه عن عنصر النصوص، ولا توجد بتلك الدرجة في الفقه المعاصر لعصر النصوص.

ولكي تتّضح الفكرة لديك : اُفرض نفسك تعيش عصر النبوّة على مقربةٍ من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسمع منه الأحكام مباشرةً، وتفهم النصوص الصادرة منه بحكم وضوحها اللغوي ومعاصرتك لكلّ ظروفها وملابساتها، أَفكنت بحاجةٍ - لكي تفهم الحكم الشرعي - أن ترجع إلى عنصرٍ مشتركٍ أصوليٍّ كعنصر حجّية الخبر وأنت تسمع النصّ مباشرةً من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو ينقله لك أُناس تعرفهم مباشرةً ولا تشكّ في صدقهم ؟! أَوَ كنت في حاجةٍ إلى أن ترجع إلى عنصرٍ مشتركٍ أصولي كعنصر حجّية الظهور العرفي وأنت تدرك بسماعك للنصّ الصادر من النبيّ معناه الذي يريده إدراكاً واضحاً لا يشوبه شكّ في كثيرٍ من الأحيان بحكم اطّلاعك على جميع ملابسات النصّ وظروفه ؟! أَوَ كنت بحاجةٍ إلى التفكير في وضع قواعد لتفسير الكلام المجمل إذا صدر من النبيّ وأنت قادر على سؤاله والاستيضاح منه

٦٩

بدلاً عن التكفير في تلك القواعد ؟!

وهذا يعني : أنّ الإنسان كلّما كان أقرب إلى عصر التشريع وأكثر امتزاجاً بالنصوص كان أقلّ حاجة إلى التفكير في القواعد العامة والعناصر المشتركة ؛ لأنّ استنباط الحكم الشرعي يتمّ عندئذٍ بطريقةٍ ميسّرةٍ دون أن يواجه الفقيه ثغراتٍ عديدةً ليفكِّر في ملئها عن طريق العناصر الأُصولية.وأمّا إذا ابتعد الفقيه عن عصر النصّ واضطرّ إلى الاعتماد على التأريخ والمؤرّخين والرواة والمحدّثين في نقل النصوص فسوف يواجه ثغراتٍ كبيرةً وفجواتٍ تضطرّه إلى التفكير في وضع القواعد لملئها، فهل صدر النصّ المرويّ من المعصوم حقيقةً أو كَذِبَ الراوي أو أخطأ في نقله ؟ وماذا يريد المعصوم بهذا النصّ ؟ هل يريد المعنى الذي أفهمه فعلاً من النصّ حين أقرأه أو معنى آخر كان له ما يوضّحه من الظروف والملابسات التي عاشها النصّ ولم نعِشْها معه ؟ وماذا يصنع الفقيه حيث يعجز عن الحصول على نصٍّ في المسألة ؟

وهكذا يصبح الإنسان بحاجةٍ إلى عنصرٍ كحجّية الخبر، أو حجّية الظهور العرفي، أو غيرهما من القواعد الأُصولية.

وهذا هو ما نقصده من القول بأنّ الحاجة إلى علم الأصول حاجة تأريخية ترتبط بمدى ابتعاد عملية الاستنباط عن عصر التشريع وانفصالها عن ظروف النصوص الشرعية وملابساتها ؛ لأنّ الفاصل الزمني عن ذلك الظرف هو الذي يخلق الثغرات والفجوات في عملية الاستنباط.وهذه الثغرات هي التي توجِد الحاجةَ الملحَّةَ إلى علم الأُصول والقواعد الأُصولية.

وارتباط الحاجة إلى علم الأُصول بتلك الثغرات ممّا أدركه الرُوّاد الأوائل لهذا العلم، فقد كتب السيد الجليلحمزة بن عليّ بن زهرة الحسيني الحلبي - المتوفّى سنة ٥٨٥ ه-في القسم الأول منكتابه الغنية يقول : ( لمّا كان الكلام في

٧٠

فروع الفقه يبنى على أُصولٍ له وجب الابتداء بأُصوله ثمّ إتباعها بالفروع، وكان الكلام في الفروع من دون إحكام أصله لا يثمر، وقد كان بعض المخالفين سأل فقال : إذا كنتم لا تعملون في الشرعيات إلاّ بقول المعصوم فأيّ فقرٍ بكم إلى أُصول الفقه ؟ وكلامكم فيها كأنّه عبث لا فائدة فيه )(١) .

ففي هذا النصّ يربط ابن زهرة بين الحاجة إلى علم الأُصول والثغرات في عملية الاستنباط، إذ يجعل التزام الإمامية بالعمل بقول الإمامعليه‌السلام فحسب سبباً لاعتراض القائل بأنّهم ما داموا كذلك لا حاجة لهم بعلم الأُصول ؛ لأنّ استخراج الحكم إذا كان قائماً على أساس قول المعصوم مباشرةً فهو عمل ميسَّر لا يشتمل على الثغرات التي تتطلّب التفكير في وضع القواعد والعناصر الأُصولية لملئها.

ونجد في نصٍّللمحقّق السيّد محسن الأعرجي - المتوفّى سنة ( ١٢٢٧ ه- ) في كتابه الفقهي( وسائل الشيعة ) وعياً كاملاً لفكرة الحاجة التأريخية لعلم الأُصول، فقد تحدّث عن اختلاف القريب من عصر النصّ عن البعيد منه في الظروف والملابسات، وقال في جملة كلامه : ( أين مَن حَظِيَ بالقرب ممّن ابتلي بالبعد حتى يدّعى تساويهما في الغنى والفقر ؟! كلاّ إنّ بينهما ما بين السماء والأرض، فقد حدث بطول الغيبة وشدّة المحنة وعموم البليّة ما لولا الله وبركة آل الله لردّها جاهلية، فسدت اللغات، وتغيّرت الاصطلاحات، وذهبت قرائن الأحوال، وكثرت الأكاذيب، وعظمت التقية، واشتدّ التعارض بين الأدلّة، حتّى لا تكاد تعثر على حكمٍ يسلم منه، مع ما اشتملت عليه من دواعي الاختلاف، وليس هنا أحد يرجع إليه بسؤال.وكفاك مائزاً بين الفريقين قرائن الأحوال، وما يشاهد في المشافهة من الانبساط والانقباض ...، وهذا بخلاف من لم يصب

___________________

(١) الغنية ( ضمن الجوامع الفقهية ) : ٤٦١.

٧١

إلاّ أخباراً مختلفةً وأحاديث متعارضةً يحتاج فيها إلى العرض على الكتاب والسنّة المعلومة...، فإنّه لا بدّ من الإعداد والاستعداد والتدرّب في ذلك كي لا يزلّ، فإنّه إنّما يتناول من بين مشتبك القنا)(١) .

وفي هذا الضوء نعرف أنّ تأخّر علم الأُصول تأريخياً لم ينتج فقط عن ارتباطه بتطوّر الفكر الفقهي ونموّ الاستنباط، بل هو ناتج أيضاً عن طبيعة الحاجة إلى علم الأُصول فإنّها حاجة تأريخية توجد وتشتدّ تبعاً لمدى الابتعاد عن عصر النصوص.

التصنيف في علم الأُصول :

وعلى الضوء المتقدِّم الذي يقرّر أنّ الحاجة إلى علم الأُصول حاجة تأريخية نستطيع أن نفسِّر الفارق الزمني بين ازدهار علم الأُصول في نطاق التفكير الفقهي السنّي وازدهاره في نطاق تفكيرنا الفقهي الإمامي، فإنّ التأريخ يشير إلى أنّ علم الأُصول ترعرع وازدهر نسبياً في نطاق الفقه السنّي قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهي الإمامي، حتّى أنّه يقال : إنّ علم الأُصول على الصعيد السنّي دخل في دور التصنيف في أواخر القرن الثاني، إذ ألّف في الأُصول كلّ من الشافعي(٢) - المتوفّى سنة ١٨٢(٣) ه- ومحمد بن الحسن الشيباني(٤) - المتوفّى

____________________

(١) وسائل الشيعة للأعرجي : ٤ من المقدّمة.

(٢) كالرسالة، وإبطال الاستحسان.

(٣) المذكور في ترجمته أنّه توفّي سنة ( ٢٠٤ ه- )، انظر تهذيب التهذيب ٩ : ٢٩، وفيات الأعيان ٤ : ١٦٥، تأريخ بغداد ٢ : ٧٠.

(٤) ككتاب الأصل.

٧٢

سنة ١٨٩ ه - بينما قد لا نجد التصنيف الواسع في علم الأُصول على الصعيد الشيعي إلاّ في أعقاب الغيبة الصغرى - أي في مطلع القرن الرابع - بالرغم من وجود رسائل سابقةٍ لبعض أصحاب الأئمةعليهم‌السلام في مواضيع أصوليةٍ متفرّقة(١) .

وما دمنا قد عرفنا أنّ نموّ التفكير الأُصولي ينتج عن الحاجة إلى الأُصول في عالم الاستنباط، وأنّ هذه الحاجة تأريخية تتّسع وتشتدّ بقدر الابتعاد عن عصر النصوص فمن الطبيعي أن يوجد ذلك الفارق الزمني وأن يسبق التفكير الأُصولي السنّي إلى النموّ والاتّساع ؛ لأنّ المذهب السنّي كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحين اجتاز التفكير الفقهي السنّي القرن الثاني كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافةٍ زمنيةٍ كبيرةٍ تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات في عملية الاستنباط ؛ الأمر الذي يوحي بالحاجة الشديدة إلى وضع القواعد العامة الأُصولية لملئها.

وأمّا الإمامية فقد كانوا وقتئذٍ يعيشون عصر النصّ الشرعي ؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام امتداد لوجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الإمامية في الاستنباط أقلَّ بكثيرٍ إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للإحساس بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الأُصول.

ولهذا نجد أنّ الإمامية بمجرّد أن انتهى عصر النصوص بالنسبة إليهم ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة الصغرى بوجهٍ خاصٍّ تفتّحت ذهنيتهم الأُصولية وأقبلوا على

____________________

(١) ككتاب ( اختلاف الحديث ومسائله ) ليونس بن عبد الرحمن، وكتاب ( الخصوص والعموم ) و( إبطال القياس ) و (نقض اجتهاد الرأي ) لأبي سهل إسماعيل بن علي النوبختي، راجع : تأسيس الشيعة : ٣١١.

٧٣

درس العناصر المشتركة، وحقّقوا تقدّماً في هذا المجال على يد الروّاد النوابغ من فقهائنا، من قبيل الحسن بن عليّ بن أبي عقيل(١) ، ومحمّد بن أحمد ابن الجنيد الإسكافي(٢) في القرن الرابع.

ودخل علم الأُصول بسرعةٍ دور التصنيف والتأليف، فألّف الشيخمحمد بن النعمان الملقّببالمفيد - المتوفّى سنة ٤١٣ ه- كتاباً في الأُصول (٣) ، واصل فيه الخطّ الفكري الذي سار عليهابن أبي عقيل وابن الجنيد قبله، ونَقَدهما في جملةٍ من آرائهما.

وجاء بعده تلميذهالسيّد المرتضى (٤) - المتوفّى سنة ٤٣٦ ه- فواصل تنمية الخطّ الأُصولي، وأفرد لعلم الأُصول كتاباً موسّعاً نسبياً سمّاه( الذريعة ) ، وذكر في مقدّمته(٥) : أنّ هذا الكتاب منقطع النظير في إحاطته بالاتّجاهات الأُصولية التي تميِّز الإمامية باستيعابٍ وشمول.

ولم يكن السيّد المرتضى هو الوحيد من تلامذة المفيد الذين واصلوا تنمية هذا العلم الجديد والتصنيف فيه، بل صنَّف فيه أيضاً عدد آخر من تلامذة المفيد، منهمسلاّر بن عبد العزيز الديلمي - المتوفّى سنة ٤٣٦ ه- إذ كتب كتاباً باسم( التقريب في أصول الفقه ) (٦) .

____________________

(١) راجع أعيان الشيعة ٥ : ١٥٧ - ١٥٩.

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ٣١٢.

(٣) نقل ذلك الخونساري في روضات الجنات ٦ : ١٥٤.

(٤) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ٣١٢ - ٣١٣.

(٥) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٥ مع اختلافٍ في اللفظ.

(٦) راجع أعيان الشيعة ٧ : ١٧٠.

٧٤

ومنهم الشيخ الفقيه المجدِّدمحمد بن الحسن الطوسي - المتوفّى سنة ٤٦٠ ه- الذي انتهت إليه الزعامة الفقهية بعد أستاذيه الشيخالمفيد والسيّدالمرتضى ، فقد كتب كتاباً في الأُصول باسم( العدّة في الأُصول ) ، وانتقل علم الأُصول على يده إلى دورٍ جديدٍ من النضج الفكري، كما انتقل الفقه أيضاً إلى مستوىً أرفع من التفريع والتوسّع.

وكان يقوم في هذا العصر إلى صفّ البحث الأُصولي عمل واسع النطاق في جمع الأحاديث المنقولة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ودمج المجاميع الصغيرة في موسوعاتٍ كبيرة، فما انتهى ذلك العصر حتّى حصل الفكر العلمي الإمامي على مصادر أربعةٍ موسّعةٍ للحديث، وهي :الكافي لثقة الإسلاممحمد بن يعقوب الكُليني - المتوفّى سنة ٣٢٩ ه-ومن لا يحضره الفقيه للصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين - المتوفّى سنة ٣٨١ ه-والتهذيب للشيخ الطوسي ألّفه في حياة الشيخ المفيد،والاستبصار له أيضاً.وتسمّى هذه الكتب في العرف الإمامي بالكتب الأربعة.

تطوّر علم النظرية وعلم التطبيق على يد الشيخ الطوسي :

لم تكن مساهمة الشيخ الطوسي في الأُصول مجرّد استمرار للخطّ وإنّما كانت تعبِّر عن تطورٍ جديدٍ كجزءٍ من تطورٍ شاملٍ في التفكير الفقهي والعلمي كلّه أُتيح لهذا الفقيه الرائد أن يحقّقه، فكان كتاب( العدّة ) تعبيراً عن الجانب الأُصولي من التطوّر، بينما كان كتاب( المبسوط ) في الفقه تعبيراً عن التطوّر العظيم في البحث الفقهي على صعيد التطبيق بالشكل الذي يوازي التطوّر الأُصولي على صعيد النظريات.

والفارق الكيفي بين اتّجاهات العلم التي انطلقت من هذا التطوّر الجديد

٧٥

واتّجاهاته قبل ذلك، يسمح لنا باعتبار الشيخ الطوسي : حدّاً فاصلاً بين عصرين من عصور العلم ؛ بين العصر العلمي التمهيدي والعصر العلمي الكامل.فقد وضع هذا الشيخ الرائد حدّاً للعصر التمهيدي، وبدأ به عصر العلم الذي أصبح الفقه والأُصول فيه علماً له دقّته وصناعته وذهنيته العلمية الخاصّة.

ولعلّ أفضل طريقةٍ ممكنةٍ في حدود إمكانات هذه الحلقة لتوضيح التطوّر العظيم الذي أحرزه العلم على يد الشيخ الطوسي، أن نلاحظ نصَّين، كتب الشيخ أحدهما في مقدّمة كتاب(العدّة) ، وكتب الآخر في مقدّمة كتاب( المبسوط ) .

أمّا في كتاب( العدّة ) فقد كتب في مقدِّمته يقول : ( سألتم - أيدكم الله - إملاء مختصرٍ في أُصول الفقه يحيط بجميع أبوابه على سبيل الإيجاز والاختصار على ما تقتضيه مذاهبنا وتوجبه أُصولنا، فإنّ من صنَّف في هذا الباب سلك كلّ قومٍ منهم المسلك الذي اقتضاه أُصولهم، ولم يعهد من أصحابنا لأحدٍ في هذا المعنى إلاّ ما ذكره شيخنا أبو عبد اللهرحمه‌الله في( المختصر ) الذي له في أُصول الفقه ولم يستقصِه، وشذّ منه أشياء يحتاج إلى استدراكها وتحريرات غير ما حرّرها، وإنّ سيّدنا الأَجَلّ المرتضى - أدام الله علوّه - وإن أكثر في أماليه وما يقرأ عليه شرح ذلك فلم يصنِّف في هذا المعنى شيئاً يرجع إليه ويجعل ظهراً يستند إليه، وقلتم : إنّ هذا فنّ من العلم لا بدّ من شدّة الاهتمام به ؛ لأنّ الشريعة كلّها مبنيّة عليه، ولا يتمّ العلم بشيءٍ منها دون إحكام أُصولها، ومن لم يُحكِم أُصولَها فإنّما يكون حاكياً ومعتاداً، ولا يكون عالماً )(١) .

وهذا النصّ من الشيخ الطوسي يعكس مدى أهمّية العمل الأُصولي الذي

____________________

(١) عدّة الأُصول ١ : ٣ - ٤.

٧٦

أنجزهقدس‌سره في كتاب( العدّة ) وطابعه التأسيسي في هذا المجال، وما حقّقه من وضع النظريات الأُصولية ضمن الإطار المذهبي العام للإمامية.

ويعزّز هذا النصّ من الناحية التأريخية أوّلية الشيخ المفيد في التصنيف الأُصولي على الصعيد الشيعي، كما أنّه يدلّ على أنّ الشيخ الطوسي كتب كتاب( العدّة ) أو بدأ به في حياة السيّد المرتضى، إذ دعا له بالبقاء.ولعلّه لأجل ذلك لم يكن يعرف وقتئذٍ شيئاً عن كتاب الذريعة للمرتضى، إذ نفى وجود كتابٍ له في علم الأُصول.وهذا يعني أنّ الطوسي بدأ بكتابه قبل أن يكتب المرتضى الذريعة، أو أنّ الذريعة كانت مؤلّفةً فعلاً ولكنّها لم يعلن عنها ولم يطّلع عليها الشيخ الرائد حين بدأ تصنيفه للكتاب.

وكتب الشيخ الطوسي في كتابه الفقهي العظيم( المبسوط ) يقول : ( إنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقِّهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستخفّون بفقه أصحابنا الإمامية، وينسبونهم إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل، ويقولون : إنّهم أهل حَشوٍ ومناقصة، وإنّ من ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا التفريع على الأُصول ؛ لأنّ جُلّ ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين، وهذا جهل منهم بمذاهبنا وقلّة تأمّلٍ لأصولنا، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أنّ جُلَّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه عن أئمّتنا الذين قولهم في الحجّة يجري مجرى قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمّا خصوصاً، أو عموماً، أو تصريحاً، أو تلويحاً.

وأمّا ما كثَّروا به كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك إلاّ وله مدخل في أُصولنا ومخرج على مذاهبنا، لا على وجه القياس، بل على طريقةٍ توجب علماً يجب العمل عليها، ويسوغ المصير إليها من البناء على الأصل، وبراءة الذمّة، وغير ذلك.مع أنّ أكثر الفروع لها مدخل في ما نصّ عليه أصحابنا، وإنّما كثر

٧٧

عددها عند الفقهاء ؛ لتركيبهم المسائل بعضها على بعضٍ، وتعليقها والتدقيق فيها، حتى أنّ كثيراً من المسائل الواضحة دقّ لضربٍ من الصناعة وإن كانت المسألة معلومةً واضحة.

وكنتُ على قديم الوقت وحديثه متشوِّق النفس إلى عمل كتابٍ يشتمل على ذلك تتوق نفسي إليه، فيقطعني عن ذلك القواطع، وتشغلني الشواغل، وتضعِّف نيّتي أيضاً فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه، وترك عنايتهم به ؛ لأنّهم ألّفوا الأخبار وما رَوَوه من صريح الألفاظ، حتّى أنّ مسألةً لو غيِّر لفظها وعبِّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لَعجبوا منها وقصر فهمهم عنها.

وكنتُ عملت على قديم الوقت كتاب( النهاية ) ، وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم وأَصَّلُوها من المسائل وفرّقوه في كتبهم، ورتّبته ترتيب الفقه، وجمعت بين النظائر، ورتّبت فيه الكتب على ما رتّبت للعلّة التي بيّنتها هناك، ولم أتعرّض للتفريع على المسائل، ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع بين نظائرها، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة ؛ حتّى لا يستوحشوا من ذلك، وعملت بآخره مختصر( جمل العقود ) في العبادات، سلكت فيه طريق الإيجاز والاختصار وعقود الأبواب في ما يتعلّق بالعبادات، ووعدت فيه أن أعمل كتاباً في الفروع خاصّةً يضاف إلى كتاب النهاية ويجتمع معه يكون كاملاً كافياً في جميع ما يحتاج إليه، ثمّ رأيت أنّ ذلك يكون مبتوراً يصعب فهمه على الناظر فيه ؛ لأنّ الفرع إنّما يفهمه إذا ضبط الأصل معه، فعدلت إلى عمل كتابٍ يشتمل على عددٍ بجميع كتب الفقه التي فصّلها الفقهاء، وهي نحو من ثلاثين كتاباً، أذكر كلّ كتابٍ منه على غاية ما يمكن تلخيصه من الألفاظ، واقتصرت على مجرّد الفقه دون الأدعية والآداب، وأعقد فيه الأبواب، وأقسِّم فيه المسائل، وأجمع بين النظائر وأستوفيه غاية الاستيفاء ،

٧٨

وأذكر أكثر الفروع التي ذكرها المخالفون، وأقول ما عندي على ما تقتضيه مذاهبنا وتوجبه أصولنا بعد أن أذكر أصول جميع المسائل...، وهذا الكتاب إذا سهّل الله تعالى إتمامه يكون كتاباً لا نظير له، لا في كتب أصحابنا، ولا في كتب المخالفين، لأنّي إلى الآن ما عرفت لأحدٍ من الفقهاء كتاباً واحداً يشتمل على الأُصول والفروع مستوفياً مذهبَنا، بل كتبهم وإن كانت كثيرةً فليس يشتمل عليهما كتاب واحد.وأمّا أصحابنا فليس لهم في هذا المعنى ما يشار إليه، بل لهم مختصرات )(١) .

وهذا النصّ يعتبر من الوثائق التأريخية التي تتحدّث عن المراحل البدائية من تكوّن الفكر الفقهي التي مرّ بها علم الشريعة لدى الإمامية ونما من خلالها حتى أنتج أمثال الشيخ الطوسي من النوابغ الذين نقلوه إلى مستوى أوسع وأعمق.

ويبدو من هذا النصّ أنّ البحث الفقهي الذي سبق الشيخ الطوسي وأدركه هذا الفقيه العظيم وضاق به كان يقتصر في الغالب على استعراض المعطيات المباشرة للأحاديث والنصوص، وهي ما سمّاها الشيخ الطوسي بأُصول المسائل، ويتقيّد في استعراض تلك المعطيات بنفس الصيغ التي جاءت في مصادرها من تلك الأحاديث.ومن الطبيعي أنّ البحث الفقهي حين يقتصر على أُصول المسائل المعطاة بصورةٍ مباشرةٍ في النصوص ويتقيّد بصيغتها المأثورة، يكون بحثاً منكمشاً لا مجال فيه للإبداع والتعمّق الواسع النطاق.

وكتاب المبسوط كان محاولةً ناجحةً وعظيمةً في مقاييس التطوّر العلمي لنقل البحث الفقهي من نطاقه الضيِّق المحدود في أُصول المسائل إلى نطاقٍ واسعٍ

____________________

(١) المبسوط ١ : ١ - ٣.

٧٩

يمارس الفقيه فيه التفريع والتفصيل والمقارنة بين الأحكام، وتطبيق القواعد العامة، ويتتبّع أحكام مختلف الحوادث والفروض على ضوء المعطيات المباشرة للنصوص.

وبدرس نصوص الفقيه الرائد - رضوان الله عليه - في العدّة والمبسوط يمكننا أن نستخلص الحقيقتين التاليتين :

إحداهما : أنّ علم الأُصول في الدور العلمي الذي سبقالشيخ الطوسي كان يتناسب مع مستوى البحث الفقهي الذي كان يقتصر وقتئذٍ على أُصول المسائل والمعطيات المباشرة للنصوص، ولم يكن بإمكان علم الأُصول في تلك الفترة أن ينمو نموّاً كبيراً ؛ لأنّ الحاجات المحدودة للبحث الفقهي الذي حصر نفسه في حدود المعطيات المباشرة للنصوص لم تكن تساعد على ذلك، فكان من الطبيعي أن ينتظر علم الأُصول نموّ التفكير الفقهي واجتيازه تلك المراحل التي كان الشيخ الطوسي يَضيق بها ويشكو منها.

والحقيقة الأُخرى هي : أنّ تطوّر علم الأُصول الذي يمثّلهالشيخ الطوسي في كتاب(العدّة) كان يسير في خطٍّ موازٍ للتطوّر العظيم الذي أُنجز في تلك الفترة على الصعيد الفقهي.وهذه الموازاة التأريخية بين التطوّرين تعزِّز الفكرة التي قلناها سابقاً عن التفاعل بين الفكر الفقهي والفكر الأُصولي، أي بين بحوث النظرية وبحوث التطبيق الفقهي، فإنّ الفقيه الذي يشتغل في حدود التعبير عن مدلول النصّ ومُعطاهُ المباشر بنفس عبارته أو بعبارةٍ مرادفةٍ ويعيش قريباً من عصر صدوره من المعصوم لا يحسّ بحاجةٍ شديدةٍ إلى قواعد، ولكنّه حين يدخل في مرحلة التفريع على النصّ ودرس تفصيلات وافتراض فروضٍ جديدةٍ لاستخراج حكمها بطريقةٍ مّا من النصّ يجد نفسه بحاجةٍ كبيرةٍ

٨٠