الاسلام يتحدى

الاسلام يتحدى0%

الاسلام يتحدى مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 190

الاسلام يتحدى

مؤلف: وحيد الدين خان
تصنيف:

الصفحات: 190
المشاهدات: 55676
تحميل: 5675

توضيحات:

الاسلام يتحدى
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 190 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 55676 / تحميل: 5675
الحجم الحجم الحجم
الاسلام يتحدى

الاسلام يتحدى

مؤلف:
العربية

ذريعا، وكلما بحثوا في هذا الموضوع، رجع اليهم بحثهم برسالة جديدة عن حتمية الموت، وأنه لامناص منه.

«لماذا الموت؟». هناك مايقرب من مائتي اجابة عن هذا السؤال الخطير، الذي كثيرا ما يطرح في المجالس العلمية، منها:

(فقدان الجسم لفاعليته)، (انتهاء عملية الأجزاء التركيبية)، (تجمد الأنسجة العصبية)، (حلول المواد الزلالية القليلة الحركة، محل الكثيرة الحركة منها)، (ضعف الأنسجة الرابطة)، (انتشار سموم «بكتريا» الأمعاء في الجسم). وما إلى ذلك من الاجابات التي تتردد كثيرا حول ظاهرة الموت.

ان القول بفقدان الجسم لفاعليته جذاب للعقل. فان الآلات الحديدية والأحذية والأقمشة كلها تفقد فاعليتها بعد أجل محدود، فأجسامنا ايضا تبلى وتفقد فاعليتها كالجلود التي نلبسها في موسم الشتاء. ولكن العلم الحديث لايؤيدنا، لأن المشاهدة العلمية للجسم الانساني تؤكد: أنه ليس كالجلود الحيوانية، والآلات الحديدية، وليس كالجبال. وأن أقرب شيء يمكن تشبيهه به هو ذلك (النهر) الذي لايزال يجري منذ آلاف السنين على ظهر الأرض فمن ذا الذي يستطيع القول بأن النهر الجاري يبلى ويهن ويعجز؟! بناء على هذا الاساس يعتقد الدكتور «لنس بالنج(١) » أن الانسان أبدى، إلى حد كبير، نظريا؛ فان خلايا جسمه آلات تقوم باصلاح مافيه من الأمراض ومعالجتها تلقائيا! وبرغم ذلك فان الانسان يعجز ويموت؛ ولاتزال علل هذه الظاهرة اسرارا تحير العلماء.

ان جسمنا هذا في تجدد دائم، وان المواد الازلية، التي توجد في خلايا دمائنا، تتلف كذلك ثم تتجدد؛ ومثلها جميع خلايا الجسم، تموت وتحل مكانها خلايا جديدة؛ اللهم الا الخلايا العصبية. وتفيد البحوث العلمية أن دم الانسان يتجدد تجددا كليا خلال ما يقرب من أربع سنين، كما تتغير جميع ذرات الجسم الانساني في بضع سنين. ونخرج من هذا بأن الجسم الانساني ليس كهيكل، وأنما هو كالنهر الجاري؛ أي أنه «عمل مستمر».

ومن ثم تبطل جميع النظريات القائلة بأن علة الموت هي وهن الجسم وفقده لقوته، فان الاشياء التي فسدت أو تسممت من الجسم أيام الطفولة او الشباب قد خرجت من الجسم منذ زمن طويل، ولامعنى لأن نجعلها سبب الموت، فسبب الموت موجود في مكان آخر، وليس في الأمعاء والأنسجة البدنية والقلب.

___________________

(١) وهو حائز على جائزة نوبل للعلوم.

٨١

ويدعي بعض العلماء أن الأنسجة العصبية هي سبب الموت، لانها تبقى في الجسم إلى آخر الحياة ولاتتجدد. ولو صح هذا التفسير القائل بأن النظام العصبي هو نقطة الضعف في الجسم الانساني، فمن الممكن أن نزعم ان أي جسم خال من (النظام العصبي) لابد أن يحيا عمرا أطول من الأجسام ذات النظام العصبي، ولكن المشاهدة العلمية لاتؤيدنا، فان هذا النظام لايوجد مثلا في الأشجار، وبعضها يعيش لأطول مدة، ولكن شجرة القمح التي لايوجد بها هذا النظام العصبي لاتعيش أكثر من سنة، وليس في كائن «الأميبا» جهاز عصبي، وهي مع ذلك لاتبقى على قيد الحياة أكثر من نصف ساعة، ومقتضى هذا التفسير أيضا أن تلك الحيوانات التي تعد من (نسل أعلى)، والتي تتمتع بنظام عصبي أكمل وأجود، لابد أن تعيش مدة أطول من تلك التي هي أحقر نسلا وأضعف نظاما. ولكن الحقائق لاتؤيدنا في هذا أيضا؛ فان السلحفاة والتمساح وسمكة «باتيك» أطول عمرا من أي حيوان آخر، وكلها من النوع الثاني - حقير النسل، وضعيف النظام.

***

لقد أخفقت تماما تلك البحوث التي استهدفت أن تجعل من الموت أمرا غير يقيني، يمكن ألا يقع، فبقي الاحتمال، الذي أكدته الأزمان، وهو أن يموت الانسان في أي عمر، وفي أي زمن، ولم نستطع العثور على أي امكان يمنع الموت، رغم جميع الجهود. لقد بحث الدكتور «الكسيس كيرل» هذه المشكلة في مقال طويل بعنوان «الزمن الداخلي»، فذكر الجهود المخفقة التي بذلت في هذا الصدد، ثم قال: «ان الانسان لن يسأم أبدا من البحث (عن الخلود) والسعي وراءه، مع أنه لن يظفر به إلى الأبد، فتركيبه الجسماني يخضع لقوانين معينة، انه يستطيع أن يوقف الزمن (الفسيولوجي) لأعضاء الجسد، حتى يؤخر الموت لفترة قصيرة، ولكنه لن يتغلب على الموت أبدا(١) ».

(ب) ظواهر وأمثلة طبيعية:

في ضوء هذه الوقائع لم تعد مسالة نهاية العالم غير مفهومة، فنحن على علم بالقيامات الصغرى التي تقع على سطح الأرض، وهي التي ستحدث مرة أخرى على نطاق أوسع، حتى تشمل الأرض المأهولة كلها.

ان الظاهرة الأولى التي تنذرنا بامكان القيامة هي الزلازل. فبطن الأرض يحتوي على مادة شديدة الحرارة، نشاهدها عندما ينفجر البركان، وهذه المادة تؤثر على الارض، بشتى الطرق، فمنها ما تصدر عنه أصوات مروعة رهيبة، ومانحس به من الهزات الأرضية، التي

___________________

(١) Man the Unknown, p. ١٧٥.

٨٢

نسميها «الزلازل» انها لاتزال كلمة رهيبة في حياة الانسان المعاصر، رغم تقدم العلوم والتكنولوجيا، كما كانت رهيبة في حياة الانسان القديم. هذه الزلازل هي حملة الطبيعة ضد الأنسان، الذي لايملك ازاءها شيئا، فالخيار كله في يد الفريق الأول. ان الانسان لايملك شيئا يقاوم به الزلازل، فهي نذير يذكره دائما بأنه يعيش فوق مادة حمراء ملتهبة جهنمية، لايفصله عنها سوى قشرة جبلية رقيقة، لايزيد سمكها عن خمسين كيلو مترا، وهذه القشرة ليست، بالنسبة إلى الكرة الأرضية، الا بمثابة القشرة من ثمرة التفاح.

يقول عالم الجغرافيا (جورج جاموف): «ان هناك جهنم طبيعية تلتهب تحت بحارنا الزرقاء، ومدننا الحضارية المكتظة بالسكان، وبكلمة أخرى: نحن واقفون على ظهر لغم «ديناميت» عظيم، ومن الممكن ان ينفجر في أي وقت، ليدمر النظام الأرضي بأكمله(١) ».

وهذه الزلازل تجتاح جميع نواحي الأرض، ولاتخلو الجرائد أي صباح من أخبارها، ولكن يكثر وقوعها في الأماكن التي توجد بها البراكين لاعتبارات جغرافية. واقدم زلزال رهيب سجله التاريخ هو زلزال اقليم (شنسي) الصيني، الذي وقع عام ١٥٥٦م. ولقي اكثر من ٠٠٠٠٠٠،٨ نسمة مصرعهم في هذه الكارثة. وقد وقع زلزال في «لشبونة» عاصمة البرتغال عام ١٧٥٥م، فدمر المدينة كلها، واباد ثلاثين ألفا من الناس في ست دقائق. وقد قيل: ان هذا الزلزال هز ربع أوروبا. ومن هذا النوع من الزلازل ماوقع في ولاية (آسام) الهندية عام ١٨٩٧م، وهو يعد من الزلازل الخمسة الكبرى في التاريخ، فقد احدث دمارا وخرابا عظيمين في منطقة كبيرة من شمالي الهند، كما غير اتجاه النهر العملاق (برهام بوترا)، وطفرت هضبة (ايفرست) بجبال الهملايا، فارتفعت مائة قدم!.

ان هذه الزلازل (قيامة) على نطاق واسع. فعندما تنفجر الارض بصوتها المخيف، ودويها الرهيب، وعندما تتساقط الجدران، وسقف الأبنية المسلحة الفخمة، حتى كأنها أوراق «الكوتشينة»، وعندما يصبح أعلى الأرض أسفلها، وأسفلها أعلاها، وعندما تحل الخرائب الموحشة محل المدن العامرة الكبرى في ثوان معدودة، وعندما تسير طوابين النعوش، وتتراكم على ساحات المدن وطرقها تراكم الأسماك على ساحل البحر - فتلكم هي قيامة الزلزال.

وفي تلك اللحظة يشعر الانسان بعجزه أمام قوى الطبيعة، فان الزلازل لاتقرع أبواب المدن الا بغتة، دون سابق آذن أو انذار، والبلية كل البلية في أن الانسان لايستطيع أن يتنبأ بمكان الزلازل، ولابموعد وقوعها، وهي في نفسها تنبئ عن قيامة كبرى، سوف تفجؤنا غداة يوم على غرة منا، ان هذه الزلازل دليل ناطق بأن خالق الأرض قادر على تدميرها، كما يشاء.

___________________

(١) Biography of the Earth, p. ٦٢.

٨٣

وهذه هي حال الفضاء الخارجي؛ فالكون لاحدود له، تدور فيه نيران هائلة لاحصر لها، هي (السيارات والنجوم)، ومثالها كملايين الخذاريف(١) التي تدور على سطح معين بأقصى سرعة يمكن تخيلها. وهذا الدوران يمكن أن يتحول في أي يوم إلى صدام عظيم لايمكن تصوره. وفي تلك اللحظة الرهيبة يكون ما في الكون أشبه بآلاف من القاذفات النفاثة المليئة بالقنابل النووية، وهي تواصل رحلتها في الجو، ثم تصطدم كلها مرة واحدة!! ان اصطدام الأجرام السماوية ليس بغريب مطلقا، بل الغريب حقا هو عدم وقوع هذا الاصطدام؛ فدراسة علم الفلك تؤكد امكان اصطدام الأجرام السماوية، والحديث عن وجود النظام الشمسي يدور حول وقوع صدام كبير بين بعض الأجرام السماوية قديما؛ فاذا استطعنا أن نتصور هذا التصادم على نطاق أوسع لاستطعنا أن نفهم جيدا ذلك (الامكان) الذي نحن بصدده. فهذا الواقع هو بعينه ما نسميه.«القيامة».

ان فكرة (الآخرة) التي تقرر أن نظام الكون الموجود حاليا سوف يدمر يوما، لاتعني سوى أن واقع الكون، الذي نشاهده في صورة صغيرة أولية، سوف يتجلى يوما في صورة نهائية كبرى. فالقيامة حقيقة معلومة في أعماقنا، ونحن اليوم نعرفها في حد (الامكان)، ولسوف نلقاها غدا في صورة الواقع.

***

(ج) الحياة بعد الموت:

المسألة الثانية في هذا البحث هي مسألة الحياة بعد الموت.

«هل هناك حياة بعد الموت؟؟» هذا سؤال يتردد دائما في العقل الحديث، ثم يستطرد قائلا:«لا. لاحياة بعد الموت، لأن الحياة التي أعرفها لاتوجد الا في ظروف معينة من تركيب العناصر المادية. وهذا التركيب الكيماوي لايوجد بعد الموت، اذن: فلاحياة بعد الموت».

ويعتقد «ت ر.مايلز» بأن: «البعث بعد الموت حقيقة تمثيلية، وليس بحقيقة لفظية».

ثم يضيف قائلا:

«انها قضية قوية عندي أن الانسان يبقى حيا بعد الموت، وهذه القضية من الممكن - لفظيا - أن تكون حقيقة، وهي قابلة لاختبار صحتها أو بطلانها بالتجربة، ولكن المسالة الرئيسية في طريقنا هي أننا لانملك وسيلة لمعرفة الاجابة القطعية عن هذا السؤال الا بعد الموت، ولذلك يمكننا أن نقيس».

___________________

(١) جمع خذروف، وهي لعبة من الخشب، مخروطية الشكل، يسميها الاطفال (النحلة) (المراجع).

٨٤

وحيث ان قياسه لايصدق هذه القضية، فهي ليست بحقيقة لفظية. وقياسه كمايلي:

«بناء على علم الاعصاب ( Neurology ) لايمكن معرفة العالم الخارجي، والاتصال به، الا عندما يعمل الذهن الانساني في حالته العادية، وأما بعد الموت، فهذا الادراك مستحيل، نظرا إلى بعثرة تركيب النظام الذهني(١) ».

ولكن هناك قياسات أخرى أقوى من هذا القياس؛ وهي تؤكد أن بعثرة الذرات المادية في الجسم الانساني لاتقتضي على الحياة؛ فان «الحياة» شيء آخر، وهي مستقلة بذاتها، باقية بعد فناء الذرات المادية وتغيرها.

ومن المعلوم أن الجسم الانساني يتألف من أجزاء (ذرات)، تسمى «الخلايا»، ومفردها: خلية ( cell ). وهي ذرات صغيرةجدا ومعقدة، يزيد عددها في الجسم الانساني العادي ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠،٢٦٠ خلية. ويبدو أن هذه الخلايا مثل الطوب الصغير، ينبني منه هيكل أجسامنا. ولكن الفرق بين طوب أجسامنا والطوب الطيني شاسع جدا. فطوب الطين الذي يستخدم في العمارات يبقى كما هو - نفس الطوب الذي صنع في المصنع، واستخدم في البناء للمرة الأولى. بينما يتغير طوب هياكلنا في كل دقيقة، بل في كل ثانية، ان خلايا أجسامنا تنقص بسرعة، كالآلات التي تتآكل باحتكاكها واستهلاكها، ولكن هذا النقص يعوضه الغذاء، فهو يهيء للجسم قوالب الطوب التي يحتاج اليها بعد نقص خلاياه واستهلاكها(٢) . فالجسم الانساني يغير نفسه بنفسه بصفة مستمرة، وهو كالنهر الجاري المملوء دائما بالمياه، لايمكن أن نجد به نفس الماء الذي كان يجري فيه منذ برهة، لأنه لايستقر، فالنهر يغير نفسه بنفسه دائما، ومع ذلك فهو نفس النهر الذي وجد منذ زمن طويل، ولكن الماء لايبقى، بل يتغير.

و جسمنا مثل النهر الجاري، يخضع لعملية مستمرة، حتى انه يأتي وقت لاتبقى فيه آية خلية قديمة في الجسم، لأن الخلايا الجديدة أخذت مكانها. وهذه العملية تتكرر في هذه الطفولة والشباب بسرعة ثم تستمر بهدوء ملحوظ في الكهولة ولو حسبنا معدل التجدد في هذه العملية فسوف نخرج بأنها تحدث مرة كل عشرة سنين. ان عملية فناء الجسم المادي الظاهري تستمر، ولكن الانسان في الداخل لايتغير، بل يبقى كما كان: علمه، وعاداته، وحافظته، وأمانيه، وأفكاره، تبقى كلها كما كانت. انه يشعر في جميع مراحل حياته بأنه هو «الانسان

___________________

(١) Religion and Scientific Outlook, p. ٢٠٦.

(٢) لم نشبه الخلية بالطوب الا لشبه ظاهري، والحقيقة أن «الخلية» عملية معقدة للغاية، وهي في ذاتها جسم كامل، ويبحث عنها في علم الخلايا Cytoiogy

٨٥

السابق»، الذي وجد منذ عشرات السنين، ولكنه لايحس بأن شيئا من أعضائه قد تغير، ابتداء من أظافر رجليه حتى شعر رأسه. ولو كان الانسان يفنى بفناء الجسم، لكان لازما أن يتاثر على الأقل بفناء الخلايا وتغيرها الكامل، ولكننا نعرف جيدا أن هذا لايحدث؛ وهذا الواقع يؤكد أن «الانسان» أو «الحياة الانسانية» شيء آخر غير الجسم، وهي باقية رغم تغير الجسم وفنائه، وهو كنهر مستمر فيه سفر الخلايا بصفة دائمة! وهذا هو الأمر الذي دعا عالما أن يصف الانسان: بشيء مستقل بذاته، وباق غير متغير، رغم التغيرات المتسلسلة. فهو يعتقد: «أن الشخصية هي عدم التغير في عالم التغيرات» - « Personality is Changelessness in Change »

ولو كان الموت فناء «للانسان»، فمن الممكن ان نقول - بعد كل مرحلة من مراحل حدوث هذا التغير الكيماوي الذي يجري في الجسم - ان الانسان قد مات، وانه يعيش حياة أخرى جديدة بعد موته! ومعناه أن الرجل الذي أراه في الخمسين من عمره، وهو يمشي في الشارع على رجليه، قد مات خمس مرات في هذه الحياة القصيرة؛ فاذا لم يمت هذا الانسان بعد فناء أجزاء جسمه المادية خمس مرات، فكيف أستطيع أن أعتقد بأنه مات في المرة السادسة على وجه اليقين؟ ولاسبيل له الآن إلى الحياة؟.ان بعض الناس لن يسلموا بهذا الاستدلال، وسيقولون: ان العقل، أو الوجود الداخلي الذي نسميه «انسانا»، ليس بشيء آخر، ولم يوجد الا نتيجة علاقة الجسم بالعالم الخارجي، وان الافكار والأماني لاتوجد خلال العمل المادي الا كالحرارة التي توجد نتيجة احتكاك قطعتين من حديد!.

ان الفلسفة الحديثة تنكر (الروح) بشدة، ويعتقد السير جيمز: ان «الشعور» لايوجد كوحدة Entity ، وانما هو وظيفة Function ، وتفاعل وتنسيق Process وقد أصر الكثيرون من فلاسفتنا المحدثين على أن (الشعور) في ذاته ليس الا التفاعل والرد العصبي لمايحدث من حركة ونشاط في العالم الخارجي. وبناء على هذه النظرية لامجال للتساؤل عن امكان الحياة بعد الموت، نظرا لتحلل النظام الجسماني، ولأن المركز العصبي في الجسم لم يعد له وجود، وهو الذي كان يتفاعل وينسق مع العالم الخارجي؛ وهم يعتقدون بناءا على هذا أن نظرية الحياة بعد الموت أصبحت غير ذات أساس عقلي أو واقعي.

سوف أقول: انه لو كانت هذه هي حقيقة الانسان، فلنجرب أن نخلق انسانا حيا ذا شعور، ونحن - اليوم - نعرف بكل وضوح جميع العناصر التي يتألف منها جسم الانسان، وهذه العناصر توجد في الأرض وفي الفضاء الخارجي، بحيث يمكننا الحصول عليها، وقد علمنا دقائق بناء النظام الجسماني، وعرفنا هيكله وأنسجته، ولدينا فنانون

٨٦

مهرة يستطيعون ان يصنعوا أجساما كجسم الأنسان، بكل مواصفاتها، فلنجرب - لو كان معارضوا الروح يصرون على حقيقة مبدئهم - ولنصنع مئات من أمثال هذه الأجسام، ولنضعها في شتى الميادين، في بقعة الأرض الفسيحة، ثم لننتظر ذلك الوقت الذي تمشى فيه هذه الأجسام وتتكلم وتأكل «بناء على تأثيرات العالم الخارجي»!؟.

***

فهذا عن اماكن بقاء الحياة بعد الموت.

ثانيا: ضرورة الآخرة

لنفكر الآن في الأسباب التي أقام الدين عليها دعوته إلى الايمان بهذه النظرية: ان الحياة، كما نتصور، ليست «غدوا ورواحا»، كما يراها الفيلسوف الألماني (نيتشه)، والتي تمتلىء وتخلو كالساعة، ولاهدف لها أكثر من ذلك. ان الحياة «الآخرة» ذات هدف عظيم، هو المجازاة على أعمال الدنيا، خيرا كانت أو شرا. وهذا الجزء من نظرية الآخرة يكاد يتضح جليا حين نعلم أن اعمال كل انسان تحفظ وتسجل بصفة دائمة، وبغير توقف. وللانسان ثلاثة أبعاد، يعرف من خلالها، هي: نيته، وقوله، وعمله. وهذه الأبعاد الثلاثة تسجل بأكملها. فكل حرف يخرج عن لساننا، وكل عمل يصدر عن عضو من أعضائنا - يسجل في الأثير (الفضاء)؛ ويمكن عرضه في أي وقت من الأوقات بكل تفاصيله، لنعرف - اذا شئنا - كل ما قاله، أو فعله أي انسان في هذه الحياة الدنيا، من خير أو شر.

ان الأفكار تخطر على بالنا، وسرعان ما ننساها، ويبدو لنا أنها انتهت، فلم يعد لها وجود، ولكنا، بعد فترة طويلة، نراها رؤى خلال النوم، أو نذهب نتكلم عنها في حالات الهستريا أو الجنون، دون أن ندري شيئا مما نقول. وهذه الوقائع تثبت قطعيا أن العقل أو الحافظة ليست تلك التي نشعر ونحس بها فحسب، وانما هناك أطراف أخرى من هذه الحافظة لانشعر بها، وهي ذات وجود مستقل، وذات كيان قائم بنفسه.

ولقد أثبتت التجارب العلمية أن جميع أفكارنا تحفظ في شكلها الكامل، ولسنا قادرين على محوها أبدا، وأثبتت هذه التجارب أيضا أن الشخصية الانسانية لاتنحصر فيما نسميه «الشعور»، بل هناك أجزاء أخرى من الشخصية الانسانية تبقى وراء الشعور، يسميها فرويد: «ماتحت الشعور»، أو «اللاشعور». وهذه الاجزاء تشكل جانبا كبيرا من شخصيتنا بل هي الجانب الأكبر منها فمثلها لمثل جبل من الجليد في اعالي البحار أجزاؤه الثمانية مستكنة تحت الماء، على حين لايطفو منه الا الجزء التاسع. وتلك هي مانسميه: (تحت الشعور)، الذي يسجل ويحفظ كل مانفكر فيه، أو ننتويه.

٨٧

يقول (فرويد) في محاضرته الحادية والثلاثين:

«ان قوانين المنطق، بل أصول الأضداد أيضا، لاتحول دون عمل (اللاشعور) ID وان الأماني المتناقضة موجودة فيه جنبا الىجنب، دون أن تقضى واحدة منها على الأخرى، ولاشيء في اللاشعور يشبه أن يكون «رفضا» لشيء من هذه المتناقضات. اننا نتحير لما نشاهده من ان أللاشعور يبطل راي فلاسفتنا القائلين بأن جميع أفعالنا العقلية الشعورية تتم في زمن محدد، ولكن لاشيء في اللاشعور يطابق الفكر الزمني، ولايوجد فيه أي رمز لمضي الوقت وسريانه، وهي حقيقة محيرة. ولم يحاول الفلاسفة أن يتأملوا حقيقة، هي أن مضى الزمن لايحدث أي تغيير في العمل الذهني؛ ان الدوافع الحبيسة ( Conative impulses ) التي لم تخرج قط عن اللاشعور، وحتى التأملات الخيالية التي دفنت في اللاشعور - تكون أزلية في الحقيقة والواقع، وتبقى محفوظة لعشرات السنين، وكأنها لم تحدث الا بالأمس(١) ».

وقد سلم علماء النفس بهذه النظرية بصفة عامة اليوم، ومعناها أن كل ما يخطر على بال الانسان من الخير والشر، ينقش في صفحة اللاشعور، فلايزول إلى الأبد، ولايؤثر فيه تغير الزمان، وتقلب الحدثان، ويحدث هذا على رغم الارادة الانسانية - طوعا أو كرها.

ولم يستطع (فرويد) ان يدرك مايكمن خلف هذه العملية من أسباب وعلل، وأية خدمة تؤديها في مصنع الكون؟ ولهذا نراه يدعو الفلاسفة إلى التفكير والتأمل. ولكنا لو قارنا هذا الواقع مقرونا إلى نظرية الآخرة لاستطعنا أن نصل إلى حقيقتها بسرعة، ان هذا الواقع يؤكد بكل صراحة امكان وجود سجل كامل لأعمال الانسان في حيازته، عندما يبدأ حياته الأخرى، فان وجود نفسه سوف يشهد على الأعمال والنيات التي عاشها:

«ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب اليه من حبل الوريد(٢) ».

(١) مسألة القول:

ولنتناول هنا مسألة «القول»: ان نظرية الآخرة تقول بأن الانسان مسئول عن (أقواله)، فجميع ما نلفظه من كلام، حسنا كان أو قبيحا، حمدا أو سخطا؛ وسواء استعملنا اللسان في ابلاغ رسالة الحق، أو استعملناه في ابلاغ رسالة الشيطان، كل ذلك يحفظ في سجل كامل: «مايلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد(٣) ». وهذا السجل سوف يعرض أمام محكمة الآخرة ليتم حساب الانسان.

___________________

(١) New Introductory Lectures on Psycho - Analysis, London ١٩٤٩ , p. ٩٩.

(٢) ق: ١٦.

(٣) ق : ١٨.

٨٨

وامكان وقوع هذا لاينافي العلم الحديث، فنحن نعرف قطعا أن أحدا عندما يحرك لسانه ليتكلم، يحرك بالتالي موجات في الهواء، كالتي توجد في الماء الساكن عندما نرمي فيه بقطعة من الحجر. انك لو وضعت جرسا كهربائيا في زجاج محكم الاغلاق من كل جانب، ثم تضغط عليه، فلن تسمع صوته، برغم أن الجرس على مرأى منك. لأنه لايرسل الموجات إلى الخارج، فهو مكتوم داخل الزجاج، وهذه الموجات في الظروف العادية تصطدم بطبلة الأذن، التي تقوم آليا بارسال هذه الموجات إلى العقل، فما نفهمه من المعنى، يسمى «سماعا!».

ولقد ثبت قطعيا أن هذه الموجات تبقى كما هي في «الأثير»، إلى الأبد، بعد حدوثها للمرة الأولى، ومن الممكن سماعها مرة أخرى. ولكن علمنا الحديث عاجز حتى الآن عن اعادة هذه الأصوات، أو بعبارة أصح: عن أن يضبط هذه الموجات مرة أخرى، مع أنها لاتزال تتحرك في الفضاء من زمن بعيد. ولم يبدي العلماء اهتماما خاصا بهذا المجال حتى الآن، بعد أن سلموا - نظريا - بامكان ايجاد آلة لالتقاط أصوات الزمن الغابر كما يلتقط المذياع الأصوات التي تذيعها محطات الارسال. على أن المسألة الكبرى التي نواجهها في هذا الصدد، ليست هي التقاط الأصوات القديمة، وانما التمييز بين الأصوات الكثيرة - الهائلة الكثرة - حتى نتمكن من سماع كل صوت على حدة. وهذه هي مسالة الاذاعة التي وصلنا فيها الى حل؛ فان آلاف المحطات الاذاعية في العالم تذيع برامج كثيرة ليل نهار، وتمر موجات هذه البرامج في الفضاء، بسرعة ٠٠٠،١٨٦ ميلا في الثانية. وكان من المعقول جدا عندما نفتح المذياع أن نسمع خليطا هائلا من الأصوات لانفهم منه شيئا، ولكن هذا لايحدث، لأن جميع محطات الاذاعة ترسل برامجها على موجات يختلف طولها، فمنها مايرسل برامجه على موجات طويلة؛ ومنها مايرسل على موجات قصيرة، ومتوسطة. وهكذا تمر هذه البرامج في الفضاء بموجات مختلفة طولا، فتستطيع أن تسمع آية موجة من المذياع، بمجرد أن تدير عقربه إلى المكان المطلوب.

ان علماءنا لم ينجحوا في اختراع آلة تفرق بين أصوات الزمن القديم، ولولا ذلك لكنا قد سمعنا تاريخ كل عصر وزمان بأصواته. وبناء على هذا يثبت امكان سماع الأصوات القديمة في المستقبل، فيما لو نجحنا في اختراع الآلة المطلوبة؛ ومن ثم لاتبقى نظرية الآخرة بعيدة عن القياس، وهي القائلة بأن كل ما ينطق به الانسان يسجل، وهو محاسب عليه يوم الحساب.

وربما كان قياسا مع الفارق الكبير أن نذكر هنا ماحدث عندما كان الدكتور مصدق رئيس وزراء ايران الأسبق مسجونا اثناء محاكمته عام ١٩٥٣، فقد ركبت في غرفته

٨٩

آلة للتسجيل تتحرك آليا، وسجلت هذه الآلة كل ما نطق به الدكتور مصدق في غرفته، وقد عرضوا أشرطة التسجيل أمام المحكمة، شهادة عليه. وهو نموذج لما يمكن أن يحدث في الآخرة.

ان مناقشتنا لجوانب المسألة لاتنفي وجود ملائكة الله - أو بلفظ آخر - وجود «مسجلين» غير مرئيين، ينقشون على صفحة الفضاء كل ما ننطق به من كلام، وهو مايصدق قول الله سبحانه: (مايلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد).

***

( ب) مسألة العمل:

ولننظر الآن في مسألة (العمل): ومعلوماتنا في هذا الصدد تصدق بصورة مدهشة امكان حدوث الآخرة.

فالعلم الحديث يؤكد ايمانه بأن جميع أعمالنا - سواء أباشرناها في الضوء، أم في الظلام، فرادى، أم مع الناس - كل هذه الأعمال موجودة في الفضاء في حالة الصور، ومن الممكن في أية لحظة تجميع هذه الصور، حتى نعرف كل ماجاء به انسان مامن أعمال الخير والشر طيلة حياته؛ فقد أثبتت البحوث العلمية أن كل شيء - حدث في الظلام او في النور، جامدا كان أو متحركا - تصدر عنه «حرارة» بصفة دائمة، في كل مكان، وفي كل حال، وهذه الحرارة تعكس الأشكال وأبعادها تماما، كالأصوات التي تكون عكسا كاملا للموجات التي يحركها اللسان. وقد تم اختراع آلات دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تخرج عن أي كائن، وبالتالي تعطي هذه الآلة صورة فوتوغرافية كاملة للكائن حينما خرجت منه الموجات الحرارية ( Heat Waves ). ومثاله أنني أكتب الآن في مكتبتي، وسوف أغادرها بعد ساعة، ولكن الموجات الحرارية التي خرجت من جسدي أثناء وجودي ههنا، ستبقى دائما، ويمكن الحصول على تسجيل كامل لجلستي في المكتبة في أي وقت بوساطة تلك الآلة، غير ان الآلات التي تم اختراعها إلى الآن، لاتستطيع تصوير الموجات الحرارية الا خلال ساعات قليلة من وقوع الحادث. أما الموجات القديمة، فلا تستطيع هذه الآلة تصويرها، لضعفها.

وتستعمل في هذه الآلة (اشعة انفرارد) التي تصور في الظلام والضوء، على حد سواء. ولقد بدأ العلماء في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية استغلال هذه الآلة في تحقيقاتهم، وذات ليلة حلقت طائرة مجهولة في سماء نيويورك، فصوروا الموجات الحراية لفضاء نيويورك بهذه الآلة، وأدى ذلك إلى معرفة طراز الطائرة ونوعها(١) . ولقد أطلق على هذه

___________________

(١) Reader’s Digest, November, ١٩٦٠.

٩٠

الآلة اسم: (آلة تصوير الحرارة) Evaporagraph ونشرت جريدة هندوستان تايمس الهندية تعليقا بمناسبة هذا الاختراع، تقول: «اننا بفضل هذه الآلة سوف نستطيع أن نشاهد تاريخنا على شاشة السينما في المستقبل، ومن الممكن أن تنتهي هذه العملية إلى كشوف عجيبة، تغير أفكارنا عن التاريخ من جذورها.».

وانني أعتبر هذا الأختراع عجيبا كل العجب، فمعناه أن حياة كل منا تصور على مستوى عالمي، كما تسجل آلات التصوير الأوتوماتيكية السريعة جميع تحركات الممثلين السينمائيين. انك لو صفعت فقيرا، أو حملت عبئا عن أحد الغرباء، أو شغل بالك أمر من الخير أو الشر. فان جميع تحركاتك تسجل على شاشة الكون، حيث لايسعك منعها أو الهرب منها، سواء أكنت في الظلام أم في النور. فحياتك كالقصة التي تصور في الاستديو، ثم تشاهدها على شاشة السينما بعد حقب طويلة من الزمن، على بعد كبير من مكان التسجيل، ولكنك تشعر كأنك موجود في مكان الأحداث، وهكذا شأن كل ما يقترفه الانسان، وشأن الاحداث التي يعيشها، فان فيلما كاملا لتلك الأحداث سوف يوضع بين يدي كل فرد يوم القيامة، حتى يصرخ الناس قائلين:

( يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهٰذَا الْکِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَ لاَ کَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ) (١) ؟!.

***

والتفاصيل العلمية التي أوردنا بعضها في الصفحات الماضية يتضح منها جليا أن أجهزة الكون تقوم بتسجيل كامل لكل أعمال الانسان؛ فكل مايدور في أذهاننا يحفظ إلى الأبد، وكل ماننطق به من الكلمات يسجل بدقة فائقة، فنحن نعيش أمام كاميرات تشتغل دائما، ولاتفرق بين الليل والنهار. وجميع أعمالنا، القلبية منها واللسانية والعضوية، كلها تسجل بدقة تامة. ولايسعنا - ونحن نشرح هذه الظاهرة العلمية الخطيرة - الا أن نسلم بأن قضية كل منا سوف تقدم أمام محكمة الهية. وبأن هذه المحكمة هي التي قامت باعداد هذا النظام العظيم لتحضير الشهادات التي لايمكن تزويرها.

ولايستطيع أي عالم أن يدلي بتفسير أدق عن هذه الظاهرة سوى ما قلناه. فلو لم تستطع هذه الوقائع الصريحة الساخنة أن تجعل البشر يحسون بمسؤوليتهم ازاء المحكمة الجبارة التي ستقام يوم الحساب؛ فلا أدري ما الواقع الذي قد يجعل هؤلاء يفتحون أعينهم؟!.

___________________

(١) الكهف: ٤٩.

٩١

ثالثا: الحاجة إلى الآخرة

لقد بحثنا في الصفحات الماضية فيما اذا كان حدوث شيء من مثل الآخرة، التي يدعيها الدين، «ممكنا»؟ ولقد ثبت ماعلمنا أن الآخرة ممكنة الحدوث. والمسألة التي نقف أمامها الآن هي: البحث فيما اذا كن هذا العالم في حاجة - فعلا - إلى شيء من قبيل الآخرة؟ وهل يقتضي الكون - في هيكله الحالي - وقوعها؟؟.

(١) الجانب النفسي:

لنتناول أولا (الجانب النفسي) من المسألة.

يقول البروفيسور (كنجهام) في كتابه: Plato's Apalogy : «ان عقيدة الحياة بعد الموت «لا أدرية مفرحة Cheerful Agnosticism »، ومن الممكن اعتبار هذا القول خلاصة أفكار فلاسفتنا الملحدين المعاصرين؛ فهم يرون أن عقيدة الآخرة اخترعتها عقلية الانسان الباحثة عن عالم حر، مستقل عن حدود هذا العالم، ومشكلاته، مليء بالأفراح. وانما يدفعه إلى الايمان بهذه العقيدة أمله في الحصول على حياته المفضلة، التي لاجهد فيها ولاكدح. وأن هذه العقيدة تنتهي بالانسان إلى عالم مثالي وخيالي، حيث يحلم بأنه سوف يظفر به بعد الموت. ولكن الحقيقة - كما يراها الفلاسفة - أن لاوجود لشيء كهذا العالم الثاني في الأمر الاقع!.

وفي رأيي: أن هذا المطلب الانساني - في حد ذاته - «دليل نفسي» قوي على وجود عالم آخر، كالظمأ، فهو يدل على الماء، وعلى علاقة خاصة باطنة بين الماء وبين الانسان. وهكذا فان تطلع الانسان - نفسيا - إلى عالم آخر دليل في ذاته على أن شيئا مثل ذلك موجود في الحقيقة، أو أنه - على الاقل - خليق أن يوجد. وهذا المطلب النفسي يؤكد علاقة مصيرنا بهذه الحقيقة، ويدلنا التاريخ على وجود هذه الغريزة الانسانية منذ أقدم العصور علىمستوى انساني، وهو أمر لاأستطيع فهمه: كيف يمكن أن يؤثر أمر باطل على البشر في هذا الشكل الأبدي، وعلى مستوى انساني؟ وهذا الواقع نفسه يدلنا على قرينة قوية بامكان وجود العالم الآخر. وانكار هذه الحاجة النفسية، بدون أدلة، يعتبر جهلا وتعصبا.

ان الذين ينكرون حاجة نفسية عظيمة مثل هذه زاعمين أنها باطلة، هم من أعجز الناس حقا عن تفهم أي «واقع» على سطح الأرض بعد هذا. ولو كانوا يزعمون الفهم في الواقع فلاأدري بأي دليل؟. وعن أي برهان؟.

ولو كانت هذه الأفكار نتاج المجتمع، كما يزعمون، فكيف لاتزال تطابق التفكير الانساني، بهذه الصورة المدهشة، من اقدم العصور؟ هل تجدون مثالا لأية أفكار انسانية

٩٢

أخرى ظلت باقية إلى العصر الحاضر، وبهذا التسلسل الرائع منذ ألوف السنين؟ هل يستطيع أذكى اذكيائهم أن يخترع فكرا واهيا، ثم يدخله إلى النفس الانسانية، وكأنه موجود بها منذ الأزل؟.

ان لكل انسان أماني كثيرة لاتكلل بالنجاح في حياته، انه يتمنى حياة أبدية، ولكن الحياة التي أعطيت له تخضع لقانون الموت. والعجيب أن الانسان عندما يكون على أبواب حياة ناجحة عظيمة، بعدما كسب من العلم والمعرفة، والخبرة والتجارب الثمنية، حينئذ تداهمه دعوة الموت. ولقد أكدت احصائية عن تجار لندن الناجحين أن أمرهم يستقر فيما بين ٤٥ - ٦٥ سنة من أعمارهم، ثم يبدأون يربحون مابين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف جنيه في السنة، وفي ذلك الوقت الثمين - فجأة - تتوقف حركات قلوبهم ذات مساء، أو ذات صباح، فيرحلون الىعالم مجهول، تاركين تجارتهم الممتدة إلى ماوراء البحار.

يقول الأستاذ وينوود ريد ( Winwood Reade ):

«انه لأمر هام يدعونا إلى التفكير فيما اذا كانت لنا علاقة شخصية مع الاله؟ هل هناك عالم غير عالمنا هذا؟ وهل سوف نلقى جزاء أعمالنا في ذلك العالم؟ ان هذا السؤال ليس بعقدة فلسفية عظيمة فحسب، وانما هو في نفس الوقت أعظم أسئلتنا العملية ايضا. انه سؤال تتعلق به مصالحنا الكثيرة؛ فحياتنا الراهنة قصيرة جدا، أفراحها عادية موقوتة، أذ اننا عندما نظفر بما نحلم به، يفاجئنا الموت، ولو استطعنا الاهتداء إلى طريق خاصة تجعل أفراحنا دائمة وأبدية، فلن يرفض العمل به أحد غير البله والمجانين منا(١) ».

ولكن الكاتب نفسه يستطرد فينكر ذلك المطلب النفسي الكبير من أجل أمور لاوزن لها ولاقيمة؛ فهو يقول: «ان هذه العقيدة كانت معقولة جدا حين كنا لانبحث جوانبها بعمق وجد. ولكن بعد هذا البحث اتضح لنا أنها أمر سخيف، ويمكن اثبات سخافته بسهولة، فالفلاح المحروم العقل الجاهل لايتحمل مسؤولية خطاياه، وسيدخل الجنة، ولكن العباقرة مثل (جوته)، و(روسو)، سوف يحترقون في نار الجحيم؛ فلأن يخلق الانسان محروم العقل خير له من أن يكون من أمثال جوته وروسو!! ان هذا الكلام تافه وسخيف(٢) ».

وما أشبه هذا الموقفف بالذي اتخذه (اللورد كلوين) تجاه التحقيق العلمي الذي قام به (ماكسويول)؛ فقد زعم اللورد أنه لايستطيع أن يفهم نظرية ماالا بعد وضع نموذجها الميكانيكي، وبناء على هذا الفرض أنكر نظرية ماكسويل عن البرق والمغناطيس، لأنها

___________________

(١) Martyrdom of Man, p. ٤١٤.

(٢) Ibid, p. ٤١٥.

٩٣

لم تحل في احد نماذج اللورد المادية! ان مثل هذه المواقف والادعاءات الخرافية أصحبت غريبة في عالم الطبيعة الحديثة.ويتساءل العالم الكبير (سوليفان):

«كيف يروق لاحد أن يدعي أن الطبيعة لابد أن تكون كما يضعها مهندس القرن التاسع عشر في معمله(١) ؟».

وسوف أوجه هذا الكلام إلى الأستاذ (وينوود):

«كيف يجوز لفيلسوف القرن العشرين أن يرى: أن يكون الكون الخارجي، في حقيقة الأمر مطابقا لما يزعمه هو؟».

ان كاتبنا لم يستطع أن يفهم أمرا في غاية البساطة: هو أن الحقيقة لاتحتاج إلى الواقع الخارجي، وانما الواقع الخارجي هو الذي يكون في حاجة إلى «الحقيقة». فالحقيقة أن لهذا الكون الها، وسوف نمثل أمامه يوم الحساب. فلابد لكل منا - سواء أكان روسو أم كان مواطنا عاديا - أن يكون وفيا ومطيعا لالهه؛ فنجاتنا لن يحققها جحودنا، بل هي تكمن في ايماننا وطاعتنا. والغريب أن كاتبنا لم يرق له أن يطالب (جوته) و(روسو) أن يسلكا مسلك الحق، وانما طالب الحق بالتغير! ولما لم يطع الحق راح ينكره!! وهذا اشبه بمن ينكر قانون حفظ الأسرار العكسرية، الذي يكرم أحيانا جنديا بسيطا، ويعدم عالما ممتازا، مثل «روزنبيرج وعقيلته الحسناء» بالكرسي الكهربائي!!.

***

انه لايوجد علىسطح الأرض من يفكر في (الغد) غير الانسان. فهو يتميز عن سائر الحيوانات بدوام تفكيره في المستقبل، وجهاده المتواصل، وسعيه الدائب في سبيل تحسين احواله. ولاشك اننا قد نجد بعض الحيوانات تعمل لمستقبلها؛ كالنمل الذي يدخر غذاءه للشتاء القادم؛ والطيور التي تصنع أعشاشا يسكنها أولادها بعد فقسهم، ولكن هذا العمل لدى الحيوانات يعتبر «غرزيا»، فهو صادر عن غير شعور بالمسؤولية؛ انها لاتقوم بهذه الأعمال لقلقها من مشكلات الغد، وانما تأتي بها طبيعيا، ومن ثم تنتفع بها في المستقبل فالتفكير في المستقبل يتطلب فكرا مدركا واعيا، وهو من ميزات الانسان فحسب، ولايتمتع به شيء من الحيوانات غيره.

هذا الفرق الكبير بين الانسان والحيوان يؤكد أنه لابد أن تكون للانسان مواقع أكثر بالنسبة إلى أي نوع آخر للانتفاع بها، فحياة الحيوانات هي ما تسمى «حياة اليوم»، ففكرة الغد لاتوجد عندها، ولكن مطالعة حياة الانسان تقتضي «غدا»، ولو أنكرنا هذه الحاجة لخالفنا الطبيعة.

___________________

(١) JWN Sulivan The Limitations of Science, p. ٩.

٩٤

ويعتقد بعض العلماء والفلاسفة أن خيبة آمال الانسان في حياته الراهنة هي التي تجعله يفكر في حياة أفضل، وهم يرون أن هذا الفكر سوف يتلاشى لو أتيح للانسان مجتمع رفاهي كامل. فقد اعتنق عدد كبير من اسرى الروم المسيحية لأنها وعدتهم بأفراح السماء. ولذا تتوقع هذه الطائفة من العلماء والفلاسفة أن سعادة الانسان ورفاهية المجتمع سوف تزداد أكثر فأكثر، إلى أن تقضي نهائيا على نظرية «العالم الآخر».

ولكن تاريخ الأربعمائة سنة الأخيرة - التي ازدهرت فيها العلوم والتكنولوجيا - يكذب هذا التوقع؛ فان أول ما هيأ التقدم التكنولوجي للانسان أنه أتاح له وسائل عديدة، احتكرتها أيد محدودة، قامت بدورها باستغلالها، وقضت على صغار العمال والحرفيين، وحولت تيار الثروات إلى كنوزها، وخزائنها، وجعلت من الشعب عمالا فقراء معوزين، ويمكن مطالعة هذه المناظر القبيحة التي جاءت نتيجة للتقدم التكنولوجي، في كتاب كارل ماركس «رأس المال»، الذي يعتبر ضجيجا للطبقة العمالية التي عاشت القرنين الثامن والتاسع بعد الألف، ثم بدأت ردود فعل هذا الضجيج، وتبعه كفاح طويل، قامت به المنظمات العمالية، حتى تحسنت الأحوال إلى حد ما. ولكنني أرى أن التغيير الذي طرأ على أحوال العمال ليس الا ظاهريا؛ فعامل اليوم يتقاضى أكثر مما كان يتقاضاه بالأمس، أما السعادة الحقة، فانه أكثر افتقادا لها من سلفه. ذلك ان النظام التكنولوجي لم يعط الانسان أكثر من مظاهر مادية، فهو لايملك القيم الروحية، حتى يمنح لأتباعه السعادة والطمأنينة القلبية، وما أصدق ماقاله الشاعر ( Blak ) عن انسان الحضارة الحديثة:

A mark in every face I meet

Marks of weakness, marks of woe

لكل وجه ترى عليه سمات

فيه ضعف، وفيه ذل وحقد

لقد اعترف «برتراند راسل» قائلا: «ان حيوانات عالمنا يغمرها السرور والفرح، على حين كان الناس أجدر من الحيوان بهذه السعادة، ولكنهم محرومون من نعمتها في عالمنا الحديث(١) ». واليوم، كما يقول راسل، أصبح من المستحيل الحصول على هذه النعمة: السعادة(٢) !!.

انك عندما تزور نيويورك، تشاهد أبنيتها الضخمة مثل عمارة «امباير ستيت»، التي تتكون من ١٠٢ طابقا، وهي عالية جدا، حتى ان درجة الحرارة في أدوارها العليا تكون منخفضة جدا بالنسبة إلى أدوارها السفلى، وعندما تخرج منها وتراها من الشارع.

___________________

(١) Conquest of Happiness, p. ١١.

(٢) Ibid, p. ٩٣.

٩٥

فلن تصدق أنك كنت فوق هذا العملاق الذي يرتفع ١٢٥٠ قدما فوق سطح الأرض، ولايستغرق المصعد الكهربائي للصعود من أسفلها إلى أعلاها أكثر من ثلاث دقائق!! وبعد مشاهدة هذه العمارات والمظاهر تذهب إلى النوادي وتشاهد الرجال والنساء يرقصون ملتصقين. وتفكر «ما أسعد هؤلاء الناس!»، ثم تأوي إلى مقاعد تشاهد الرقص المثير، ولن تقضي وقتا طويلا حتى تأتيك حسناء من هؤلاء القوم، وتجلس على المقعد المواجه لمقعدك، انها تبدو كئيبة، فتسألك دون مقدمات:

- أيها السائح، هل أنا قبيحة المنظر؟.

- انني لا أرى ذلك.

- ولكنني أفهم أنني فقدت «روعة الجمال»، أليس كذلك؟.

-. لا في رأيي أنك تملكين الكثير من الفتنة وروعة الجمال.

-شكرا أيها السائح الكريم! ولكن الشبان لايبالون بي، ولايواعدونني. لقد أصبحت الحياة بالنسبة إلى مملة موحشة.

ان ما رأيته في نيويورك لم يكن الا منظرا مقتضبا من مسرحية الانسان في العصر الحديث.

لقد أقامت العلوم والتكنولوجيا أبنية شامخة، ولكنها نزعت السعادة من قلوب ساكنيها، انها أقامت مصانع تتحرك بالآت هائلة، ولكنها حرمت عمالها الراحة التي يطمحون اليها، وهذه هي نتيجة التاريخ العلمي والتكنولوجي. فكيف بنا آذن نطمح ونتوقع عالما يسوده السلام والسعادة، من «صنع التكنولوجيا»؟!».

***

(ب) الضرورة الأخلاقية:

وعندما ندرس المسألة من الوجهة الأخلاقية نرى أنه لابد من «الآخرة»، فان التاريخ الانساني لن يكون له أي معنى بدونها.

ان فطرة الانسان تميز بين الخير والشر، والصالح والطالح، والظلم والعدل، وهذه الفطرة هي التي تميز الانسان عما سواه، ولكن ها هو ذا الانسان الذي كرمه ربه، يهدر فطرة الله أكثر ممن لايتمتعون بها؛ انه يظلم بني جنسه؛ يقتلهم ويشردهم، ويوجه اليهم كل شر مستطاع.

ان الحيوانات لاتظلم فصائلها، فالأسد ليس في الأسود أسدا، والنمر ليس في العرين نمرا. ولكن الانسان أصبح يفترس اخوانه، حتى الأقربين منهم، مما لايوجد له مثيل في قانون الغابة.

٩٦

ولامرية أننا وجدنا أضواء الحق والعدالة في التاريخ الانساني، وأننا نقدرها حق قدرها، ولكن الجزء الأكبر من التاريخ يفيض بقصص الظلم والفساد والعدوان. ان المؤرخ ليصاب بيأس بالغ عندما يرى أن أحداث التاريخ تتعارض تماما مع الضمير الانساني.

ولنقتبس هنا بعض الأقوال:

«فولتير: «ان التاريخ الانساني ليس الا صورة للجرائم والمصائب(١) ». هربرت سبنسر: «ان التاريخ تهريج، وكلام فارغ لاجدوى منه». نابليون: «ان التاريخ بأكلمه عنوان لقصة لاتعني شيئا».

ادوارد جين: «ان تاريخ الانسان لايعدو أن يكون سجلا للجرائم، والحماقة، وخيبة الأمل».

هيكل:« ان الدرس الوحيد الذي تعلمته الحكومة والشعب من مطالعة التاريخ هو أنهم لم يتعلموا من التاريخ شيئا(٢) ».

هل قامت مسرحية العالم كلها لتنتهي إلى كارثة أليمة؟ ان فطرتنا تقول: لا. فدواعي العدالة والانصاف في الضمير الانساني تقتضي عدم حدوث هذا الامكان، لابد من يوم يميز بين الحق والباطل، ولابد للظالم والمظلوم أن يجنيا ثمارهما، وهذا مطلب لايمكن اقصاؤه من مقومات التاريخ، كمالايمكن ابعاده عن فطرة الانسان.

ان هذا الفراغ الشاسع الذي يفصل مابين الواقع والفطرة يقتضي ما يشغله، فان المسافة الهائلة بين (مايحدث) و(ماينبغي أن يحدث) تدل على أن مسرحا آخر قد أعد للحياة، وأنه لابد من ظهوره. فهذا الفراغ العظيم يدعو إلى تكميل الحياة. واني لأتخير عندما يؤمن الناس بفلسفة الروائي الانجليزي «هاردي» القائلة: بأن العالم مكان للظلم والوحشية، ولكنني أصاب بحيرة أكبر عندما أرى أن هذه الحالة البالغة السوء لاتقودهم إلى الايمان بأن: ماليس بموجود اليوم ويقتضيه العقل، لابد من حدوثه غدا.

«اذا لم تكن هنالك قيامة فمن ذا الذي سوف يكسر رؤوس الطواغيت الطغاة؟» - كلمة كثيرا ما تخرج من شفتي مصحوبة بأنين مرير، عندما أطالع الجرائد، فجرائدنا صورة مصغرة لمايحدث كل يوم على الأرض، والصورة التي تحملها الجرائد الينا رهيبة. انها تتكلم عن الاغتيالات، والخطف، والنهب، والاتهامات الكاذبة، والتجارة السياسية، والدعايات الباطلة التي تتلعب بالألفاظ. ان هذه الجرائد تخبرنا كيف نكل الحاكم الفلاني بمعارضيه الضعفاء، باسم مصالح الأمة، ودواعي الامن القومي؟! وكيف سيطر ذلك الشعب

___________________

(١) Story of Philosophy, Will Durant, p. ٢٢٠.

(٢) Western Civilisation, E. Menall Burns, p. ٨٧١.

٩٧

على أرض لم يملكها طيلة التاريخ بقوة السلاح!! وليست هذه الجرائد الا حكايات لمأساة الضعيف والقوى، والسلطان والرعاع!!.

ان الأحداث التي وقعت في بلادي أخيرا، وبخاصة تلك الاغتيالات الجماعية، وعمليات النهب والحرق المخططة التي جرت في مناطق جبل بور، وجمشيد بور، وراؤركيلا، وكلكتا - يبدو بعدها أن المرء لاينبغي أن يستبعد وقوع أية جريمة على هذه الأرض، سواء أمكنه تصورها أم لا!! فان قوما يرفعون شعارات (العلمانية) و(الجمهورية) و(اللاعنف) يستطيعون - في نفس الوقت - أن يرتكبوا أبشع أنواع الطائفية، وأشنع ألوان الدكتاتورية، وأسوأ صور العنف، كما لم يشاهده التاريخ. وكل هذه الجرائم البشعة - التي تأسي لحدوثها السباع المفترسة، والذئاب الكاسرة، والخنازير الوحشية - قد جرت في عهد زعيم اطلق عليه لقب: «معالم الانسانية ورسول الاسلام(١) »!! وليت المأساة توقفت عند هذا الحد، فلقد ارتكبت في هذا العصر الذي ازدهر فيه النشر والاذاعة، جرائم شنيعة، وأحداث مروعة، من نهب، وقتل، واحراق أقوام بأسرهم؛ ودامت المأساة أشهرا طويلا، بل سنين عديدة، في بلاد شاسعة جدا من الهند، والصحافة العالمية لاتنشر عنها شيئا ما، وقد امحيت تماما هذه الجرائم من صفحات التاريخ، كأن لم تكن ماساة الأمس القريب!!. هل خلق هذا العالم ليكون مسرحا للمآسي، والشيطنة، والهمجية والقرصنة، ثم لايلقى الظالم والمظلوم جزاءهما؟! ان عالما - من هذا القبيل - اعلان في حد ذاته عن أنه ناقص، وهذا النقص في ذاته يقتضي مايكمله.

(ج) مشكلة السلوك:

ولندرس هذا من ناحية أخرى. لقد شغلت مسألة هامة الذهن الانساني من أقدم العصور، وهي كيفية اجبار الناس على سلوك طريق الحق، فاذا افترضنا أن بعض أفراد المجتمع قد منحوا سلطة سياسية من أجل تحقيق هذا الهدف، فمن الممكن أن يمتنع الرعايا خوفا من العذاب. ولكن ما الذي يدفع أولئك الذين يتمتعون بالسلطة السياسية إلى تحقيق العدل والانصاف؟ ولو أننا استنجدنا القانون، واستصرخنا المحكمة، فكيف آذن يمكن أن نبلغ بهما تلك الأماكن والجوانب التي لاتخضع للشرطة والقانون؟ ولو أننا خضنا معارك الدعاية، وناشدنا أهل الشر أن يكفوا عن الجرائم، فمن ذا الذي ينصت الينا؟ ويتخلى عن فائدة يجنيها دون كلفة؟ ان رهبة عقاب الدنيا لن تنجح في قمع انحرافات الانسان؛ فنحن جميعا

___________________

(١) الاشارة إلى جوهر لال نهرو، وقد جرت الأحداث البشعة التي أشار اليها المؤلف خلال الأعوام ١٩٦١، ٦٢، ٦٤، ولم ينشر عنها شيء بفعل التآمر العالمي (المراجع).

٩٨

نعرف أن الكذب، والرشوة، والمحسوبية، واستغلال النفوذ، وما إلى ذلك من الوسائل المعروفة، سوف تحول دون أي امكان للعقاب.

انه لن يفلح شيء في قمع الجرائم غير الدافع المنبعث من داخل قلب الانسان - الضمير، الضمير الذي لو دخل ارادة الانسان فلن يسقطه عامل خارجي أيا كان، وهذه الميزة غير متاحة الا في عقيدة الآخرة. فان دافعا قويا يكمن في هذه العقيدة، ويجعل من اتقاء الجرائم مصلحة ذاتية لكل انسان. انها مصلحة يهتم بها الجميع، فالكل رئيسا كان أم مرءوسا، في الظلام كان أو في الضوء - ينطلق يفكر في أنه لابد من يوم للقاء الله، والكل يشعر بأن الله يراه، وسوف يحاسبه حسابا عسيرا. وهذه الأهمية الكبرى في عقيدة الآخرة هي التي جعلت القاضي ماتيوهالوس ( Matherwhalos )، وهو من كبار قضاة القرن السابع عشر يقول:

«ان القول بان الدين خدعة، هو بمثابة ابطال لجميع المسؤليات التي تقع على عاتقنا لاستقرار النظام الاجتماعي(١) ».

الا ما أهم هذا الجانب من نظرية الآخرة!!.

وانا لنستطيع أن ندرك أبعاد هذه النظرية لوتأملنا أن كثيرا من علمائنا الملحدين، الذين لايعتقدون أن الآخرة أمر واقع، وقد اضطروا - بناء على تجارب التاريخ - إلى القول بأنه لايوجد شيء غير «الآخرة» لمراقبة الانسان، واخضاعه لسلوك طريق الحق والعدل في جميع الظروف.

لقد أنكر الفيلسوف الألماني «كانت» فكرة (الاله)، قائلا: (انه لايجد أدلة شافية على وجوده). فهو ينكر «الصواب النظري» في الدين، ولكنه، في نفس الوقت، يضطر إلى أن يسلم «بالصواب العملي» في الدين، من الناحية الأخلاقية(٢) .

و«فولتير» أيضا لايؤمن بحقائق ماوراء الطبيعة، ولكنه يرى:

«أن أهمية الاله والحياة الآخرة عظيمة جدا، حيث انهما أساسان لاقامة «المبادىء الاخلاقية». وهو (فولتير) يرى أن هذه العقيدة وحدها كفيلة بايجاد اطار أخلاقي افضل للمجتمع. ولو أن هذه العقيدة زالت فلن نجد دافعا للعمل الطيب، وسيترتب على ذلك انهيار النظام الاجتماعي(٣) ».

___________________

(١) Religion without Revelation, p. ١١٥.

(٢) Story of Philosophy, N. Y., ١٩٥٤ , p. ٢٧٩.

(٣) Windelbamd, History of Philosophy , p. ٤٩٦.

٩٩

ان الذين يرون أن «الآخرة» فكرة خيالية ينبغي أن يفكروا: كيف أصبحت فكرة خياليةذات أهمية قصوى بالنسبة إلى واقع حياتنا؟.

لماذا لانستطيع بدونها اقامة نظام اجتماعي سليم؟.

هل يمكن أن تحتل فكرة خيالية هذه الأهمية الكبرى في الحياة؟.

هل وجدتم مثالا مافي الكون لفكرة خيالية غير كائنة، أصبحت تتمتع بهذه الأهمية الحقيقية في الحياة، رغم انها لاعلاقة لها بواقعنا؟!.

ان حاجتنا الملحة إلى الآخرة لتنظيم الحياة، واقامتها على أسس عادلة حقيقية، هي - في حد ذاتها - تاكيد بأن الآخرة من كبريات حقائق الكون، ولست أبالغ اذا قلت: ان هذا الجانب المنطقي من الاستدلال يثبت حقية هذه النظرية، على مستوى التحقيق المعملي العملي.

***

(د) الضرورة الكونية:

ولننظر إلى هذه القضية من جهة ثالثة، تلك التي أسميها: «الضرورة الكونية». لقد تكلمت في الصحفات الماضية عن وجود الاله في الكون؛ وقد ثبت جليا أن الدراسة العلمية والفكرية هي التي تدعونا إلى القول بوجود اله لهذا الكون. وبقى أن نسأل: لو كانت هناك علاقة بين الاله والانسان لما كان بد من ظهورها، فمتى ستظهر هذه العلاقة جليا؟.

أما بالنسبة إلى عالم اليوم، فمن الممكن الجزم بأن هذه العلاقة لم تظهربعد؛ فالرجل الذي لايؤمن بالله، يصيح قائلا: «انني لاأخاف من الله»، ثم هو لايصاب بأذى، بل قد يحصل على الزعامة، ويتسلم مقاليد الحكم!!.

أما الذين يبلغون رسالات الله، فان السلطات توقف نشاطهم بحجة أنه «غير شرعي». وهنالك أيضا مكاتب ومؤسسات تشغلها - ليل نهار - الدعاية لأولئك الذين يقولون: «لقد ذهب صاروخنا إلى القمر ولم يتشرف بلقاء الهكم!»، وجميع أجهزة الدعاية الرسمية تدعم هذه المؤسسات، فاذا مانهض أصحاب الدعوات برسالتهم ردهم علماء العصر قائلين: انكم رجعيون تتخبطون في الظلمات!.

يولد الأطفال، ثم يشبون، ويموتون.

تصل الشعوب إلى أوج مجدها، ثم تنقرض.

تقع الثورات، ثم تزول.

١٠٠