الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 116922
تحميل: 5574


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116922 / تحميل: 5574
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فالمراتب القلبية تدرك الشي‏ء بوجوده العيني وهويته العينية. أمَّا القوة العقلية، فهي تعمل أكثر لاصطياد المدرك بمعناه ومفهومه ويمكن التمثيل للفرق بين الإدراكين بمَن يُدرك الشي‏ء المقابل للمرآة تارة، ويدرك تارة أخرى صورته في المرآة.

والمرآة هي القوى الإدراكية الحصولية العقلية.

6 - إن الإدراكات العقلية يتصوَّر فيها التصور والشك والترديد والجزم. أمَّا في المدركات القلبية، فهي صحيحة دوماً، على صواب أبدا، لا مكان للشك فيها حال المعاينة القلبية؛ والسر في ذلك أنه في الإدراكات العقلية يكون المدرَك هو صورة الشي‏ء، والحاكي عن الشي‏ء، فيرد التساؤل عن مدى مطابقته للواقع أو عدم مطابقته، (وقد ذكرنا في نهاية التنبيه الأول مشكلة الخطأ في الفكر البشري وكيفية معالجته، وأن تحصيل اليقين في الأمور النظرية من الأمور الصعبة) بخلاف ما إذا كان نفس الشي‏ء وعينه حاضرا، فإنه يكون يقينا؛ لا لبس فيه ولا ترديد. ومن هنا نجد أن الكثير من روّاد علم المعارف الإلهية أشار إلى ندرة الحصول على اليقين، بل كلّها ظنون متاخمة لليقين، وتطرق إلى ذلك السيد الصدر في بحثه عن الاستقراء ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) .

ومن هنا نعرف السر في حثِّ كثير من العلماء على تنزيه النفس وتربيتها لنيل تلك العلوم اليقينية، وألّا يُقتصر على تحصيل العلوم التي لا تتجاوز الصور؛ إذ الإدراكات القلبية أشرف من العلوم الحصولية وإن كانت هي البوابة المأمونة لها.

7 - إن مراتب الإدراكات القلبية تتفاوت شدة وضعفا؛ حيث إن الوصول إلى الحقائق يتبع سعة ظرفية الواصل (المدرِك)، فقد يصل الإنسان إلى هذه المراتب بنحو العرض، وقد يصل إلى تلك المراتب وتكون بالنسبة إليه كفصل جوهري؛ حيث يكون قد حصل لذاته تكامل ورقي وجودي أوصله إلى تلك المرحلة فيتصفَّح حيث ما شاء في العالم الغيبي.

١٠١

فالذي يُدرك الغيب لا يعني أنه أدرك كل الغيب، فاللَّه عزَّ وجلَّ لا تحيطه الأبصار والقلوب، بل عرفته القلوب بحقائق الإيمان.

8 - مما ذكرنا يتَّضح السر في أن المسلمين قد صرفوا النظر عن العلوم الحصولية والعلوم المادية، وأوغلوا في بحوث الاعتقادات وفقه الأحكام من أجل تحصيل ذلك اليقين ونيل المراتب القلبية، وذلك مع تهذيب النفس وانشغالها بالعبادة، حتّى تتهيأ النفس لتصفُّح أنوار الملكوت وتقوى الإدراكات القلبية، فمنهم مَن وصل إلى المراد؛ وهو المتَّبع لطريقة أهل البيت‏ عليهم‌السلام ومنهم مَن ضل الطريق وأضل غيره.

9 - إن معرفة الإنسان لنفسه هي بوابة المعرفة الربوبية؛ وذلك لأن كل مخلوق هو آية لخالقه، وكل كامل نازل هو آية للكمال الصاعد، فيقال: إن كل غيب نازل له حكاية تكوينية لغيب صاعد، وهذه الحكاية ليست على نسق حكاية الصور الحصولية، بل هي حكاية الرقيقة عن الحقيقة، كما عبَّر بذلك الفلاسفة، أو حكاية المظهر عن الظاهر كما عبَّر العرفانيُّون، لكن هذه الحكاية وإن كانت غير قابلة للخطأ والصواب، بل هي صواب دائم، إلاَّ أنها ليست حكاية إحاطة؛ لأن الرقيقة لا تمثِّل كل كمالات الحقيقة.

10 - من الأمور التي تدلِّل على أهمية الإدراكات القلبية هو رجوع جميع الإدراكات العقلية إليها؛ بيان ذلك:

إنه قد ثبت في محلِّه رجوع جميع التصورات والتصديقات النظرية إلى البديهيات التصورية والتصديقية؛ وهي رأس مال الإنسان في تحصيل علومه، وحينما نقوم بتحليل هذه البديهيات نرى أنها في تكونها محتاجة إلى الإدراكات القلبية؛ فعندما نقول: إنه صادق، فيعني عدم احتمال اللاّمطابقة؛ والسر في ذلك أن النفس تدرك ذاتها ووجودها، والصورة نفسها مدرَكة لديها بالعلم الحضوري، فالمحكي والحاكي كلاهما موجود لدى النفس فلا يحتمل اللاّنطباق، وهذا ببركة

١٠٢

العلم الحضوري.

ونفس الشي‏ء يقال في أول البديهيات التصديقية، وهو استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما، فموضوع القضية: اجتماع النقضين، ومحمولها هو: الامتناع، حيث تقيس النفس بين مفهوم الوجود ونفي الوجود، وحيث إن للوجود محكيَّاً، فترى أن هذا المحكي مع نفي هذا المفهوم لا يجتمعان.

من خلال هذا العرض نصل إلى حقيقة في وجود الإنسان هي: إنه في اتصاله بعالم المادة يكون عبر قنطرة الصور الحصولية. أمَّا اتصاله بالغيب، فهو اتصال حضوري مباشر.

الجهة الثانية:

حول ضابطة حُجِّـيَّة المعارف القلبية.

قد يتراءى لغْوية هذا البحث؛ وذلك لِمَا ذكرناه سابقاً من أن المدرَك بالقلب هو عين ومتن الواقع فلا يحتمل الخطأ، وبالتالي فهو حُجَّة كلُّه، بل كل إدراكه صدق، ولكن في الواقع نحن بحاجة إلى هذا البحث؛ وذلك لأن العرفاء أنفسهم يشيرون في بحث المكاشفات إلى أن المكاشفات على أقسام، وأن الإدراكات الحضورية على درجات، وأن بعض الأشياء العينية قد تكون من تسويل وتمثُّلات العيانية من الشياطين أو كون قوى النفس قد اختلقتها، فلا يمكن القول بحجية كل الإدراكات القلبية. فكما ذكرنا في العلوم الحصولية؛ قد تحصل الحجب والأمراض التي تمنع عن إدراك الحقائق، فهنا كذلك تحصل حُجُب النفس التي تحجب الواقع عن إدراكه. وقد تعرَّضنا - وبنحو مفصَّل - في بحث الرؤية القلبية (1) إلى أن تصرُّف الشياطين والجن في

____________________

(1) انظر كتاب: دعوى السفارة في الغيبة الكبرى - مسألة: الرؤية القلبية.

١٠٣

قلب الكائن البشري، هو تصرف تكويني وفعل حضوري، ولكن ليس حضور الحقائق العالية.

ـ وقد ذكر القيصري نفسه في مقدمات شرح الفصوص، والسيد حيدر الآملي في نصِّ النصوص، على أن مِن الكشف ما هو رحماني ومنه الشيطاني ومنه النفساني.... فقالوا: إن الميزان في تمحيص المكاشفة الصحيحة عن الخاطئة هو الكتاب والسنة؛ باعتبار أن الكتاب ارتباط بعالم الغيب، وأن القرآن تنزُّل من الصقع الربوبي.

نلاحظ ممَّا تقدَّم أن العرفاء ركَّزوا على نكتة أن المدرَكات قد لا تكون من الحقائق؛ فلذا يجب الاعتماد على الميزان المعصوم وإدراك معصوم.

ويتبقى جانب آخر نشير إليه؛ وهو تنزُّل المدركات القلبية إلى المدركات العقلية، حيث إن العلوم الحضورية يجب أن تنزَّل إلى القوة العقلية حتّى يستطيع أن يستفيد منها الإنسان وتكون مؤثِّرة في واقعه الحياتي، وهذا التنزّل يجب أن يكون مأموناً؛ والمقصود بالأمن: أن الصور الحصولية التي يلتقطها العقل يجب أن تكون متطابقة مع حقائق الأشياء التي توصَّل إليها بالعلم الحضوري.

فكما ذكرنا سابقا، توجد أمراض تمنع من تنزّل إدراكات العقل النظري وتمنع من سيطرة العقل العملي على القوة السفلى، فهنا أيضاً توجد أمراض وأخطار تمنع من حصول الإدراكات العقلية الصحيحة. فالعقل هو كالمرآة التي تنطبع عليه مدركات القلب، فقد يكون المنطبِع شبح الحقيقة لا عين الحقيقة، وقد تكون الصورة مشوشة. وبتعبير أخر: إن مرآة العقل قد تشوبها حجب بسبب الأخلاق الرديئة أو الأعمال السيئة، فلا تنطبع فيها صور الحقائق بنحو صاف وسليم. ومن هنا نحتاج إلى ضابط وميزان لتمييز الحجة من اللاّحجة؛ حيث ليس لنا أمان من الزلل والخطأ، لا في نفس المدرَك، ولا في تنزُّله. و من هنا تظهر الميزة

١٠٤

للفرد المعصوم؛ حيث إنه لا يدرك إلاّ ما هو حق، ولا يتنزَّل إلاّ بتنزّل من الحق. ومن هنا نرى أن القران يُوصف بأوصاف متعددة ( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) فهو مدرك حق، ( فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) أي المعصومون من الذنوب والخطأ، ( بالحَقِّ أنْزَلناهُ وَبالحَقِّ نَزَلَ ) فالعصمة في صدوره لا تكفي، بل عصمة في التنزُّل من العوالم العلوية. فالقران الكريم سار مسيرة طولية؛ من العوالم العلوية إلى نفس النبي الأطهر صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن يصل إلى رسم الخط، فيجب أن يحرز أن هذا الرسم والصوت مطابق لقوة الإدراك الحسي، وهي مطابقة لقوة المخيَّلة المطابقة لقوة العاقلة العملية المطابقة للعقل النظري المطابق للقلب ومراتبه القلبية المطابق لِمَا أُوحي له من اللَّه عزَّ وجل؛ لذلك نُفي عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله الجنون ونفي عنه الشعر ونفي عنه الكهانة، فقواه العقلية تسير بالسير الفطري مطابقة المادون للأعلى وعدم تصرُّف الشيطان في قلبه. فكل ذلك الوارد في وصف القرآن والوارد في وصف الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ من أجل بيان أن هذه القناة معصومة مأمونة من الخطأ والزلل. وهذا دليل على أنه ليست كل مدركات القلب حجة، وإلاّ لَمَا احتيج إلى كل ذلك التأكيد ودفع الشبهات.

فالضابطة والميزان في كل ذلك هو الكتاب والسنة؛ حيث يعبِّران عن الوحي المعصوم، وكذلك العقل البديهي والنظري، فيمكن عرض التنزُّل على تلك البديهيات ليعلم الصحيح منها من السقيم.

وهذه النتيجة لا تعني إنكار الغيب أو إنكار للمدركات القلبية، بل هي الضابطة التي تحتاج إليها النفوس البشرية غير المعصومة، ونحن لا ننفيها بنحو مطلق، بل ننفي الحجية المطلقة لها.

١٠٥

خاتمة:

حول العلاقة بين الحجج الأربع.

لقد مضى الكلام في هذا الفصل حول الطرق والحجج الأربع؛ اثنان نقليَّان هما: الكتاب والسنة، واثنان تكوينيَّان هما: العقل والقلب. والغرض من هذه الخاتمة هو الإشارة إلى الارتباط والعلاقة بين هذه الطرق.

وقد ذكر للعلاقة بينها أمور:

ـ إن الفلسفة وهي الباحثة عن مدركات العقل، والعرفان وهو الباحث عن لغة الإدراكات الحضورية، تلميذان يؤهِّلان لفهم نكات الوحي.

ـ إن العقل والقلب يُرجع إليهما في رفع متشابهات النص، وإنه يُرجع إلى محكمات النص لتُرفع متشابهات العقل والقلب، فيُرفع متشابه كلٍّ منهما بمحكم الآخر.

ـ إن العقل والقلب شأنهما الإدراك. أمَّا الوحي، فهو نفس المدرَك.

ـ وقال البعض: إن وظيفة العقل والقلب هي التصور، وأمّا الحكم، فهو من وظيفة الوحي؛ بمعنى أن المخاطَب هو العقل والقلب، أمّا نفس الخطاب، فهو الكتاب والسنة؛ حيث إنهما مواد الوحي. فالمخاطَب ليس هو القوى النازلة، بل المخاطب هو العقل والقلب، واللغة اللسانية وظيفتها إحداث التصوّر، واللغة العقلية وظيفتها إحداث أصل الإدراك، والحكم والتصديق يكون من الشارع، فالمدرِك لهذا الحكم والتصديق والتصوير هو العقل، والمدرِك لهذه الإشعاعات النورية هو القلب. فكما أن الألفاظ موصلة للمعنى و بها يُحتج، فكذلك في لغة العقل بهما يحتجُّ على الإنسان، فالعقل والقلب هما المخاطبان ولغة الخطاب هي الوحي.

بتعبير آخر: إن العقل أيضاً يحكم ويصدِّق ويُدرك التصورات، ولكن يتبع حكم الوحي والشارع، فليس فيه إلغاء لدورهما.

١٠٦

ـ إن هناك سنناً تكوينية جعلها اللَّه عزَّ وجلَّ في طريقة التفكير البشري، فالعلم وإن كان نوراً يقذفه اللَّه في قلب الإنسان، إلاّ أن طريقة القذف تعتمد على أحد نحوين:

الأوَّل: هي الوصول إلى الاستنتاج عن طريق تهيئة المقدِّمات والمواد، وعبر مراعاة موازين ما يسمَّى بالمنطق، وذكرنا أنها مُعِدَّات تعدُّ الإنسان لكي يفاض عليه النتائج.

والآخر: هو التصفية والتخلية عن الرذائل، والتحلية بالفضائل والإيمان والمعارف، فيصلُ الإنسان إلى العلوم الحضورية، وهذا مسلك الإشراق والعرفاء....

فهاتان سنتان تكوينيتان في نيل الفكر والمعرفة الإنسانية، ويضاف إلى هاتين السنتين سنة وطريقة ثالثة وهي الوحي(الكتاب والسنة).

وهذه الطُرق ليست متقابلة، بل يجب الاستعانة بكل منها مع الأخر. فإذا استمد الإنسان بالسنُّتين التكوينيَّتين دون الوحي، فإن ذلك يعني خسران المعارف الهائلة، وكذلك لا يستفيد تمام وكمال الفائدة من الرافد الأخير إلاّ بالرافدين الأوَّليين لأنهما قناتيْ وطريقي المعارف.

ـ ووجه آخر لبيان العلاقة وهو أن الرياضة العقلية في العلوم العقلية، والرياضة القلبية في العلوم القلبية العرفانية بالغتا الأهمية من حيث كونهما مُعدَّتان للتأهُّل وخوض الوحي لفهم أسراره.

والعمدة التي تدور حولها جميع هذه الأجوبة لبيان العلاقة هو بيان التلازم بين هذه الطُرق المختلفة، بوضع كلٍّ في دوره الموظَّف له؛ بحيث لا يُلغى أحدهما الأخر، بل الوصول إلى الحالة الوسطية. وهذه الوجوه هي لبيان تلك الحالة الوسطية؛ ومنها جعل العقل والقلب الحجة الباطنة، وجعل الوحي الحجة الظاهرة.

١٠٧

وفي حديث طويل عن الصادق عليه‌السلام : (أن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا تنفع شي‏ء إلا به، العقل الذي جعله اللَّه زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون.... وعرفوا به الحسن من القبيح، وأن الظلمة في الجهل وأن النور في العلم، فهذا ما دلهم عليه العقل. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله اللَّه قوامه وزينته وهدايته، عَلِم أن اللَّه هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة، وأن له كراهية، وأن له طاعة،وأن له معصية، فلم يجد عقله يدله على ذلك، وعلم أنه لا يوصل إليه إلاّ بالعلم وطلبه، وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب ذلك بعلمه...)الحديث (1) .

لقد بيَّن الإمام عليه‌السلام أن مصدر الأمور وأسسها هو العقل،ثُمَّ سأل سائل: هل يكتفي بالعقل؟ فقال: إنه علّم العقل بأنه لا يصل إلى الحقائق من رضى اللَّه وغيرهما.... بل يصل إليها بعلم الوحي، فلابدَّ منهما كليهما.

ولا يتوَّهم أن الشريعة والمعارف تجريد وغيب محض، بل هو غيب وشهادة؛ وذلك أنَّنا إذا حافظنا على موازين تلقِّي معارف الغيب، حينئذٍ يكون التنزُّل سليماً حتّى إلى عالم الحس والشهادة، فبيوت الغيب يجب أن تُؤتى من أبوابها، فلابدَّ من التدرُّج عبر بوَّابة العقل،ثُمَّ بوَّابة القلب، فكما أن سنة اللَّه مع عالم المخلوقات جرت بالتدرُّج، فكذلك تنزُّل هذه المعارف.

فالنتيجة أن التمسُّك بالوحي ورفض العقل والقلب، هو رفض للوحي أيضا؛ وذلك لأن المخاطَب بالكتاب والسنّة هو العقل، وجعل المخاطب غير العقل وإلغاء شرط العقل هو في الواقع إلغاء للكتاب والسنّة.

وكذلك مَن تمسّك بالعقل من دون الكتاب والسنّة، فقد ضيَّع العقل أيضا؛

____________________

(1) أصول الكافي، ج 1، ص29.

١٠٨

وذلك لأن التمسُّك بالعقل والقلب هو إبقاء الإنسان في الحدود النازلة وعدم ارتقائه إلى المعاني العالية، وهو حرمان للعقل من المعارف الإلهية، وكذلك مَن ادعى أنه يفهم الكتاب والسنة من دون الالتفات إلى النكات العقلية، فقد أنزل المعارف من مستواها العالي؛ فلابد من الوسطية والتوازن.

وقد حاول العلاّمة الطباطبائي أن يذكر في كل مسألة الفحص في هذه الطرق الأربعة، ولا يقتصر على جانب دون آخر. وممَّن حاول أيضاً الجمع بين هذه الطرق، الملاّ صدرا في الحكمة المتعالية، وبغض النظر عن مدى موفقية كلٍّ منهما في النتائج التي توصَّلا إليها، إلاّ أنها محاولة جريئة وجديدة في بابه، فلم يقصر فكره على طريقة واحدة ومنهجية واحدة؛ حيث إنه استفاد من نكات مذكورة في السنّة في إيجاد براهين عقلية لأمور عجز العقل في السابق عن إثباتها كالمعاد الجسماني.

ـ أمَّا الشيخ الأنصاري، فيذكر في الرسائل:

أن التنافي بين الأدلة النقلية والأدلة العقلية، لو قُدِّر وجوده، لا يخرج عن صور ثلاث:

إمَّا صورة التعارض لدليلين قطعيَّين.

وإمّا صورة تعارض نقلي قطعي وعقلي نظري.

وإمّا صورة تعارض نقلي ظنِّي وعقلي قطعي (نظري وبديهي).

أمَّا الصورة الأولى، فلا وجود لها ولم يشر أحد من الباحثين إليها قط.

أمَّا الصورة الثانية، فهي وإن كانت بدواً تعارض، إلاّ أن الإنسان إذا دقَّق ولاحظ في مواد الدليل العقلي، لوجد أنها ظنية وليست قطعية، والمشكلة تكمن أنَّنا - للوهلة الأولى - لا نلتفت إلى ذلك، بل بعد فترة من الزمن، حيث نتصوّر استحكام التعارض؛ والسرُّ في عدم التعارض هو: أن الوحي برهان وقطعي حيث ثبتت واقعيَّـته، وأنه من واجب الوجود، فلا يمكن أن يتصادم مع العقل القطعي. وقد نبَّه الملاّ صدرا إلى أن

١٠٩

قول المعصوم يمكن أن يستخدم كوسط في البرهان لعصمته عن الخطأ.

أمَّا الصورة الثالثة، فإنه لو أعيد النظر في العقل القطعي وتأكَّدتَ مِن قطعيَّـته، فإنه يكون قرينة على التصرُّف في الظاهر الظني والتأويل.

وتوجد صورة رابعة في التعارض بين الظني النقلي والظني العقلي، وفي هذه الصورة نلاحظ أن العقل الظني ليس بحجة. أمّا النقلي الظني، فقد ذكرنا في بداية بحثنا إمكان اعتباره ووقوعه كما يظهر من عبارة الشيخ في بحث الانسداد، ومال إلى ذلك كثير من علمائنا كالبهائي والشيخ الطوسي والميرزا القمي وغيرهم.

ويشير الشيخ إلى توصية هامة وهي:

أنه في بحوث المقام يجب التتبُّع وبذل الجهد للحصول على المعارف النقلية، القطعية منها والظنية المعتبرة، بناءً على اعتباره في التفاصيل النظرية في شعب المعرفة، فكما نجهد أنفسنا في البحوث العقلية البحتة أو القلبية، فإنه يجب بذل الجهد بعناية فائقة في تحصيل القطعيَّات النقلية. وممَّا يؤسف له قلَّة الجهود المبذولة في هذا المضمار بالقياس إلى حجم النقل الواصل بأيدينا وبالقياس إلى ما يُبذل من جهود في المجال الآخر، فإنه لو أثريت البحوث العقلية الاستدلالية في المعارف النقلية، لتوفّر تبويب كثير من الطوائف للأدلة النقلية، ولأمكن العثور على جمٍّ كبيرٍ من القرائن والاستفاضات المعنوية في كثير من المسائل.

١١٠

الفصل الثاني:

نظريَّة الحُكم على ضوء الإمامة الإلهيَّة

١١١

١١٢

نظريَّة الحُكم على ضوء الإمامة الإلهيَّة

المبحث الأوَّل:

لمحة تاريخية

إن الناظر للتاريخ الإسلامي وللمذاهب التي نشأت في هذا الدين وما ذكرته لنا في مسألة الخلافة والحاكمية، يرى كم هو البون الشاسع بين المبدأ والمنتهى، وبين التنظير والتطبيق لدى أكثر المذاهب الإسلامية، فكثير ممَّن رفعوا راية الشورى لم يثبتوا على مبدأ واحد وقول متَّحد منذ بداية الخلافة الإسلامية وحتّى يومنا هذا؛ لا يوجد تطابق بين ما ادعوه من شوروية الحكم وما طُبِّق. كما أن بعض القائلين بالنص في عصرنا لم يثبتوا على مقولتهم، بل نرى ذلك البعض يحاول أن يخفِّف من وطأتها ويدمجها مع الشورى، ويحاول أن يجعلها شورى عند التطبيق... وهكذا.

بعض الباحثين في شؤون المِلل والنحل ذكروا لنا اتجاهاً ثالثاً بين الشورى والنص؛ وهو التلفيق بين هاتين النظريتين، ولم يعدُّوها من القول بالنص، بل يجعلونها من القول بالشورى، وأوضح مثال على ذلك هو: ما سارت عليه الزيدية والإسماعيلية؛ حيث حسبوا أن هناك تصادماً بين القول بالنص وبين لزوم إقامة الحكم الإسلامي، وهذا التصادم هو الذي ألجأهم إلى التلفيق. وهذا المنزلق استطاعت الإمامية أن تخرج منه، وحافطت على وتيرة القول بالنص من دون تلفيق مع الشورى. وقد يكون من الأمور التي دفعت إلى التلفيق هو إحجام مَن نُص عليه

١١٣

عن إقامة الحكم السياسي، مع عدم الالتفات إلى أن الأئمَّة عليهم‌السلام كانت لهم حكومة حقيقية مبسوطة على كل مَن شاء الرجوع إليهم. وإن المتتبِّع للروايات المتناثرة هنا وهناك، يرى أن الأئمَّة كانوا يمارسون كل أنواع السلطة وكافَّة شؤونها، وأنهم لم يحجموا في واقع الأمر، وإنما قد أدبر الناس عنهم.

وأكثر مؤلفي الشيعة ممّن تعرَّضوا للمِلل والنحل ردُّوا شبه الزيدية؛ فراجع: إكمال الدين والغيبة للطوسي، وأصول الكافي للكليني، والكشِّي في رجاله.

فنرى الشهرستاني في المِلل والنحل يقول: (والاختلاف في الإمامة على وجهين؛ أحدهما: القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار. والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين. فمن قال: إن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار، قال بإمامة كل مَن اتفقت عليه الأمة أو جماعة معتبرة من الأمّة؛ إمّا مطلقاً، وإمّا بشرط أن يكون قرَشيَّاً على مذهب قوم، وبشرط أن يكون هاشمياً على مذهب قوم) (1) .

وقال: (الخلاف الخامس: في الإمامة. وأعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة؛ إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلَّ على الإمامة في كلِّ زمان...) ثُمَّ نقل كلام عمر حين حضر مع أبي بكر سقيفة بني ساعدة: (فقبْل أن يشتغل الأنصار بالكلام مَدَدت يدي إليه، فبايعته وبايعه الناس، وسكنت الفتنة، إلاّ أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى اللَّه المسلمين شرَّها، فمَن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيّما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فإنها تَغِرَّة يجب أن يقتلا.... وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة) (2) .

وقال: (الخلاف الثامن: في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة.

____________________

(1) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص33.

(2) المصدر، ص 30 ـ31.

١١٤

فمن الناس مَن قال: قد ولَّيت علينا فظَّاً غليظاً. وارتفع الخلاف....) (1) .

وقال في الباب السادس: (الشيعة: هم الذين شايعوا عليَّاً(رضي الله عنه‏)على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصَّاً ووصيَّةً؛ إمَّا جليَّاً وإمَّا خفيَّاً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده. وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل‏ عليهم‌السلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامّة وإرساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولِّي والتبرِّي قولاً وفعلاً، وعقداً، إلاّ في حال التقيَّة، ويخالفهم بعض الزيدية في ‏ذلك) (2) .

وقال في الزيدية: (أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(رضي الله عنهم) ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة(رضي اللَّه عنها)، ولم يجوِّزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلاّ أنهم جوَّزوا أن يكون كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخي خرج بالإمامة، أن يكون إماماً واجب الطاعة.... وجوَّزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة).ثُم َّذكر السليمانية من فِرق

الزيدية: (أصحاب سليمان بن جرير وكان يقول: إن الإمامة شورى بين الخلق ويصحُّ أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها تصحُّ في المفضول مع وجود الأفضل، وأثبت إمامة أبي بكر وعمر حقَّاً باختيار الأمة حقَّاً اجتهادياً. وربَّما كان يقول: إن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي(‏رضي الله عنه‏) خطأً لا يبلغ درجة الفسق... قالوا: الإمامة من مصالح الدين، ليس يحتاج إليها لمعرفة اللَّه تعالى وتوحيده، فإن ذلك حاصل بالعقل، لكنَّها يحتاج إليها لإقامة الحدود

____________________

(1) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص31.

(2) المصدر، ص131.

١١٥

والقضاء....) (1) .

وقال عن الصالحية والبترية من الزيدية:

(وقولهم في الإمامة كقول السليمانية... وأكثرهم - في زماننا - مقلِّدون؛ لا يرجعون إلى رأي واجتهاد. أمَّا في الأصول، فيرون رأي المعتزلة حذو القُذَّة بالقُذَّة، ويعظِّمون الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمَّة أهل البيت. وأمَّا في الفروع، فهم على مذهب أبي ‏حنيفة....) (2) .

ويقول سعد بن عبداللَّه الأشعري القمي - وهو من الفقهاء، أخذ أصل كتابه في الفِرق عن النوبختي والأخير من المتكلِّمين له كتاب: الفِرق والمقالات، إلاّ أن سعداً أضاف على ما أخذه -: (واختلف أهل الإهمال في إمامة الفاضل والمفضول؛ فقال أكثرهم: هي جائزة في الفاضل والمفضول إذا كانت في الفاضل علّة تمنع عن إمامته، ووافق سائرهم أصحاب النص على أن الإمامة لا تكون إلاّ للفاضل المتقدِّم. واختلف الكل في ‏الوصية؛ فقال أكثر أهل الإهمال: توفِّي رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يوصِ إلى أحد من الخلق... ) ثُمَّ عدّ البترية والسليمانية من فِرق الزيدية من أهل الإهمال (3) .

وقال عن الجارودية من الزيدية: (.... فقالوا بتفضيل علي، ولم يروا مقامه لأحد سواه، وزعموا أن مَن رفع عليَّاً عن هذا المقام، فهو كافر، وأن الأمة كفرت وضلَّت في تركها بيعته، ثُمَّ جعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي، ثُمَّ في الحسين بن علي، ثُمَّ هي شورى بين أولادهما؛ فمَن خرج منهم وشهر سيفه ودعا إلى نفسه، فهو مستحقٌّ للإمامة) (4) (... وزعموا أن الإمامة صارت بالنص من رسول اللَّه لعلي بن أبي طالب، ثُمَّ الحسن بن علي، وبعد أن مضى الحسين بن علي لا تثبت إلاّ

____________________

(1) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص137 - 142.

(2) المصدر، ص142 - 143.

(3) الأشعري، سعد بن عبد الله، المقالات والفِرق، ص72.

(4) المصدر، ص18.

١١٦

باِختيار ولد الحسن والحسين وإجماعهم) (1) .

وفي المقالات لأبي الحسن الأشعري المتوفَّى 324 هـ (ص 467 - 451) قال: (وأجمعت الروافض على إبطال الخروج وإنكار السيف ولو قتلت، حتّى يظهر لها الإمام، وحتّى يأمرها بذلك....).

فهو يشير إلى نفس النكتة التي ألمح إليها الشهرستاني من حصر الحاكمية لدى الإمامية في النص، وفي قبالهم المعتزلة والزيدية والخوارج والمرجئة؛ حيث يرون خلاف ذلك.

ومن خلال هذه اللمحة التاريخية يتَّضح لنا أمران:

1 - إن الصياغات المختلفة للشورى، والتلفيق بينها وبين النص، معدودة عند أصحاب التراجم والمؤرِّخين في منهج يقابل النص.

2 - إن بعض الفِرق الشيعية - في الأصل - انتقلت من النصِّ إلى الشورى أو إلى التلفيق بسبب ما رأوه من تصادم بين النص وبين مسلَّمة لزوم إقامة الحكومة الإسلامية؛ حيث عجزت أفكارهم عن إيجاد حلٍّ ضمن إطار النص، بخلاف فقهاء الإمامية الاثنى عشرية الذين استطاعوا - مع بقائهم وتمسُّكهم بالنص - إيجاد صيغ بديلة عن الشورى أو التلفيق.

ومن أمثلة هذه الفِرق: الزيدية؛ الذين ذهبوا - نتيجة هذا التصادم - إلى ما ذهبوا إليه. وقد عقد الشيخ الصدوق في كتابه: إكمال الدين وإتمام النعمة (ص 77) فصلاً في الجواب عنه.

____________________

(1) الأشعري، سعد بن عبد الله، المقالات والفِرق، ص19.

١١٧

١١٨

المبحث الثاني:

النظريَّات المختلفة في إدارة شؤون الحكم ودور الشورى فيها (1)

النظرية الأولى المشهورة:

من أن للأمة صلاحية البتِّ في ولاية الحكم والقيادة من رأس الهرم إلى كافَّة

____________________

(1) مجموع هذه النظريات وأدلَّتها ووجوهها الآتية مستخلصة من الكتب التالية:

1 - تفسير المنار، محمد رشيد رضا.

2 - روح البيان، الآلوسي.

3 - فقه الدولة الإسلامية، الشيخ المنتظري، ج1.

4 - مفاهيم القرآن، دراسة موسَّعة عن صيغة الحكومة الإسلامية، الشيخ السبحاني.

5 - بيام قرآن، ج10 (قرآن مجيد وحكومت اسلامى)، الشيخ مكارم الشيرازي.

6 - طرح حكومت اسلامى، الشيخ مكارم الشيرازي.

7 - تفسير الميزان، ج4، ص124، العلامة الطباطبائي.

8 - الحكومة الإسلامية في أحاديث الشيعة، للشيخ السلطاني، والمظاهري، والمصلحي، والخرازي، والأستادي.

9 - الاجتماع السياسي الإسلامي، الشيخ شمس الدين.

10 - مجلَّة: حكومت إسلامي، ع 1 و 2، مقالات الشيخ مهدي الحائري.

11 - تنبيه الأمَّة وتنزيه الملَّة، الميرزا النائيني.

12 - حكومت در إسلام، السيد الروحاني.

13 - الإسلام يقود الحياة، ص172، الشهيد السيد الصدر.

14 - الفقه - الاجتهاد والتقليد، ج1، السيد الشيرازي.

وغيرها من الكتب التي صدرت أخيراً عن الحكومة الإسلامية وخصَّت الشورى بباب أو فصلٍ مستقل.

١١٩

الأجنحة، وهذه النظرية مع شهرتها إلاّ أنها لا تجد أساساً تطبيقياً في التاريخ الإسلامي من انتخاب الخلفاء الثلاثة إلى دولة بني أميّة وبني العبّاس؛ لذا نجد أن معالمها قد تكاملت مع العصور المتأخرة ويمكن التعبير عنها بالمصطلح الحديث: إن السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الأمة.

ولكن بقي في هذه النظرية نقاط لم تحسم:

منها: أن المدار في الانتخاب هل هو على الأكثرية الكمية أو على الكيفية؛ ممَّا قد يَصطلح عليه أهلُ الحلِّ والعقد؟ وعلى الفرضية الأولى: هل هي مطلق الكثرة النسبية؛ ولا يلتفت إلى الطرف المقابل ولو كان بنسبة 40% فما فوق، حتّى وإن كان الطرف الأقل أكثر وعياً وأبصر بالأمر؟

ثُم هل المدار على ما يهوى المنتخِبون من دون ملاحظة شرائط ومواصفات في المنتخَب أو أنهم مقيَّدون في ‏انتخابهم بشرائط خاصة؟ وهل عليهم مراعاة توفُّرها بالنحو الأكمل في المنتخَب أم بأيِّ درجة كانت؟

ومنها: أن الأساس القانوني أو - بتعبير آخر - شرعية الحاكم في تولِّي السلطة لم يتم تشخيصه وتحديده؛ فهل الحاكم المختار هو وكيل عن الجماعة في إدارة شؤونها العامة؟ وهذا يعني وجود عقد وكالة بينهم، مع ما يستلزمه هذا من القول بأنه وكالة من نوع خاص؛ إذ لا تسري عليه كل أحكام الوكالة.

أو أن سلطة الحاكم المختار هي ولاية على الأمة؟ وهذه يُتصوَّر على نحوين:

أحدهما: أن تنقل الأمة الولاية التي لديها على نفسها إلى هذا الحاكم.

والأخر: أن يكون له الولاية من قبل أهل الحلِّ والعقد الذين يجعلون الحاكم المنتخَب له الولاية، فتكون ولايته طولية كما في ولاية حاكم المدينة المعيّن من قبل الإمام المعصوم.

١٢٠