الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 116946
تحميل: 5575


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116946 / تحميل: 5575
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ففقهاء المذاهب مختلفون في تحديد شرعية سلطة الحاكم.

وقد ظهر متأخراً طرح ثالث للشورى؛ وهو أن الشورى تكون كاشفة ومبيِّنة عمَّن له حق الولاية في علم اللَّه عزَّ وجل، والشورى تكون كاشفاً إثباتياً عن الأجدر والأكثر تأهُّلاً لنيل منصب الولاية، وأن الولاية ثابتة له من اللَّه عزَّ وجل. ويظهر هذا الطرح في كتابات بعض المتأخرين من أتباع المذاهب غير الإمامية.

النظرية الثانية:

أن الولاية تثبت بالنص لشخص الولي، إلاّ أن فعلية ولايته منوطة بالبيعة والشورى، وعند فقد النص يكون الأمر شورى. وبالتعبير الحديث يقال: إن السلطة التنفيذية بيد الأمة، غايتها يكونون مقيَّدين بالمنصوص عليه، وفي حالة عدمه، يختارون مَن تنطبق عليه المواصفات والشرائط. أما السلطة التشريعية، فهي بيد الأمة. فالولاية للمختار بالأصالة، لا بالنيابة عمّن اختار المنصوص عليه.

النظرية الثالثة:

في حالة وجود النص فهو المتَّبع ولا دور للشورى، وفي حالة عدمه أو غيبة المنصوص عليه، فالأمر يعود للأمة لاختبار الحاكم، لكن ذلك مشروط بنظارة أهل الخبرة الشرعية؛ وهم الفقهاء.

وفي عصر الغيبة يكون الأمر للأمة شورى، تمارس السلطة التنفيذية والتشريعية، غايته يكون ذلك تحت نظارة وإشراف الفقيه.

ولهذه النظرية صياغات:

1 - أن دور الفقيه يكون كدور المحكمة الدستورية في التعبير الحديث؛ وهو فصل النزاعات والاختلافات الحاصلة بين السلطات، وإمضاء التشريعات التي

١٢١

تصدرها الهيئة التمثيلية للأمة، وهذا هو ما ذكره الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزية المِلَّة.

2 - أن الفقيه يكون له دور المشاهد والرقيب على سير عمل السلطات الثلاث، فإذا ما انحرفت عن مسارها الصحيح، تدخَّل لتقييم اعوجاجها، وهذا ما يذكره الشهيد الصدر في عهد الغيبة.

3 - أن الفقيه هو المحور في الحكم، غايته قد تعوزه الخبرة العملية في تحصيل الموضوعات فيستعين بأهل الخبرة في كافَّة المجالات التي يحتاجها في تسيير شؤون الدولة؛ من سياسة واقتصاد وقانون وثقافة... وهذا نظير ما طرحه السيد الخوئي في الجهاد من كونه بيد الفقيه غايته يجب أن يستعين بأهل الخبرة من السياسين والعسكريين في إعلان الجهاد.

وهذا التفسير الأخير يباين النظرية المزبورة، وقد يتطابق مع النظرية الخامسة الآتية.

النظرية الرابعة:

أن ولاية الأمر هي بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه المنصوص عليه، ولا يعود الاختيار للأمة. غايتها أن كليهما ملزمان في تسيير أمور الأمة بالشورى، ويكون رأي الشورى ملزِماً لهما ولا يجوز لهما مخالفته.

وطبقاً للتعبير الحديث: السلطة التنفيذية بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه، والسلطة التشريعية - في كلا الفرضين - بيد الأمة.

١٢٢

النظرية الخامسة:

أن ولاية الأمر تكون بالنص ولا مناص منه؛ حيث إن الولاية للَّه عزَّ وجلَّ يجعلها لمَن يشاء من خلقه، فهي تابعة للمنصوص عليه أو مَن ينيبه، غايته يكون ملزَماً في طريقة تسيير شؤون دولته وأمَّته بالاستشارة، لكنَّه غير ملزَم بنتيجة المشورة فيستطيع مخالفتها.

وتكون فائدة الاستشارة بالنسبة للمعصوم ما سوف نبيِّنه فيما بعد، أمَّا بالنسبة لغير المعصوم، فهي نوع من الاستعانة الفكرية.

وهذه النظرية هي التي يتبناها فقهاء الإمامية، وهي مؤدَّى نظرية النص، غايته فيها نوع من الاستعانة بالشورى في إدارة شؤون الأمة.

وهناك طرح أخير يُتَدَاول بين علماء الإمامية - ولْيَكن نظرية سادسة - حاصله: أن الولاية هي بالنص دائماً، غايته في عصر الغيبة جَعل المعصومُ نيابةَ عامة ضمن مَن تتوفَّر فيهم شرائط خاصة، ويعود للأمة تعيين ذلك المصداق فيمَن تتوفَّر فيهم الشرائط.

وشرعية سلطة ذلك الولي المختار من قبل الأمة هي بكون الولاية له من المعصوم، لا من الأمة، غاية الأمر أن الاستنابة من المعصوم هي لمَن تتوفَّر فيه شرائط؛ أحدها: رجوع الأمة إليه، المستفاد من: (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) (اجعلوا بينكم ممَّن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا) (فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً).

وهذا الطرح الأخير يكاد يتطابق مع النظرية الخامسة، مع إناطة دور للأمة في الاختيار والرجوع إلى الفقيه.

وقد خالف الإنصاف مَن نسب النظريات الأخرى إلى الإمامية، بل هي رأي عدَّةٍ من المتأخرين، لا المتسالم بينهم المنسوب إلى الضرورة عندهم، ومِن ثَمَّ لم يكن

١٢٣

من الإنصاف أيضاً التعبير والاقتصار على تلك النظريات مع كونها خلاف ظاهر المشهور بين الإمامية، فإن تصريحاتهم تنادي بالخلاف، مع إطباقهم في كل الطبقات على حصر مشروعية الحكم - بكل شعبه، وفي كل الأدوار الزمانية - بالنص. وقد بحث الفقهاء جانباً من هذا الموضوع في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وكتاب القضاء، وكتاب الجهاد، ومسألة التولِّي عن السلطان الجائر في المكاسب المحرَّمة.

ولابدَّ أن نشير إلى أن النظريات الأربع عندما تسند دور الشورى في تشريع القوانين، فإن ذلك يكون في الموارد التي سكت عنها الشارع ولم يكن له فيها حكم خاص، وبتعبير أخر: أن الشورى تكون لسد منطقة الفراغ في التشريع، بخلاف النظريتين الخامسة والسادسة؛ حيث لا يكون لمجلس الشورى - مثلاً - أيُّ دور تشريعي، بل هو أشبه بالمجلس الاستشاري، فتحتاج قوانينه إلى إمضاء الفقيه.

١٢٤

المبحث الثالث:

الأدلَّة النقلية التي أُقيمت على النظريَّات المختلفة.

وتشترك النظريات الأربع في إناطة جانب من الحكم - التنفيذي والتشريعي - أصالة بالأمة؛ ومن هنا سوف نجعل ذلك هو المحور في البحث، فهل يوجد للأمة مثل هذا الدور أم لا؟

والمستدِل بهذه الأدلة تارةً يستدِل على أن الولاية لمجموع الأمة، وتارة للنخبة؛ وهم أهل الحل والعقد، وقد يستدل بها على أن الولاية ثابتة للأمة في عصر الغيبة فقط؛ دون عصر النص.

أولاً:

الأدلة المتضمِّنة للفظ الشورى.

1 - الآيات: وقد ورد لفظ الشورى في موضعين من القرآن الكريم:

أ - قوله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (1) .

ب - ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (2) .

فالآية الأولى وردت بصيغة الأمر، والآية الثانية وردت في سياق بيان صفات

____________________

(1) آل عمران 2: 159 / مدنية.

(2) الشورى 42: 38 / مكِّية.

١٢٥

المؤمنين، وبعض هذه الصفات إلزامي وبعضها ندبي.

وصيغة الأمر في الآية الأولى تجلي الخطاب؛ إذ هو أمر في وجوب المشاورة في كافَّة الشؤون حتى بالنسبة للرسول، ويكون الهدف من ذلك تعليم الأمة وتثقيفها على هذا النوع من الأسلوب؛ وهو المشورة.

أمَّا الآية الثانية، فورد فيه لفظان:

الأول: (أمرهم)، والمراد به الشأن أو الشي‏ء المهم، وعند إضافته إلى المسلمين يكون المجموع دالَّاً على أن الأمر والشي‏ء المهم هو الذي يرتبط بالمجموع، وهل يوجد ما هو أهم من تعيين الولي الذي يقوم بإدارة شؤون المجتمع؟!

الثاني: (الشورى)، فتعني تداول الآراء بين المجموع. وكلمة (بينهم) تؤكِّد دخالة المجموع في إبداء الرأي، واستقلالية هذا الرأي عن العناصر الخارجة عنهم.

والآية الكريمة تعدِّد مجموعة من صفات المؤمنين؛ أكثرها إلزامي كإقامة الصلاة والإنفاق الواجب والاجتناب عن الكبائر، وهذا الوصف طبيعي من حيث تعلُّقه بالوظائف العامة، والأمور التي تعني المجتمع لا تقبل الندبية؛ حيث أن بعض الأمور إنْ شُرِّعت، وجبت، ولا يمكن أن تكون مشروعة وغير واجبة، وبهذا يُستدل على إلزامية الشورى الواردة في هذه الآية.

ويلاحظ أن هذه الآية مكِّية؛ وقد نزلت في وقت لم يكن للمسلمين دولة وكيان بالمعنى المتعارف.

2- الاستدلال بسيرة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث التزم بالشورى في عدِّة مواضع:

1 - واقعة بدر: حينما نزل الرسول في موقع، قال له الحباب بن المنذر بن الجموح: يارسول اللَّه، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة). فقال: يارسول اللَّه، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتّى نأتي أوَّل

١٢٦

ماء من القوم، فننزله، ثُمَّ نغور ما وراءه من القُلُب، ثُمَّ نبني عليه حوضاً، فنملؤه ماءً، ثُمَّ نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال له الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لقد أشرت بالرأي) (1).

2 - غزوة أحد: حيث تشير كثير من كتب السير على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان رأيه البقاء في المدينة، ورأي عامة المسلمين هو الخروج، وقد اختار ما رآه عامة المسلمين في الخروج من المدينة، حيث دخل صلى‌الله‌عليه‌وآله بيته وخرج لابساً لامته وصلَّى بهم الجمعة، ثُم خرج، فندم الناس وقالوا: يارسول اللَّه، استكرهنا ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد صلى اللَّه عليك، فقال‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل) (2) .

3 - غزوة الأحزاب/ الخندق:

فقد أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق، وقصته معروفة مشهورة.

وموقف آخر حينما أراد الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عقد الصلح مع غطفان، فأرسل إلى عيينة بن حصين والحارث بن عوف؛ وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمَن معهما عنه وعن أصحابه، فلمَّا أراد أن يوقِّع معهما الشهادة والصلح، بعث إلى سعد بن مُعاذ وسعد بن عُبادة، فذكر لهما ذلك واستشارهما، فقالا: يارسول اللَّه، أمراً تحبُّه فنصنعه، أم شيئاً أمرك به اللَّه لابدَّ لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: (بل شي‏ء أصنعه لكم، واللَّه ما أصنعُ ذلك إلاّ لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوسٍ واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما)، فقال له سعد بن معاذ: يارسول اللَّه، قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللَّه وعبادة الأوثان، لا نعبد اللَّه ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلاّ قِرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا اللَّه بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك

____________________

(1) ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، ص620.

(2) المصدر، ج3، ص 63.

١٢٧

وبه، نعطيهم أموالنا، واللَّه مالنا بهذا من حاجة، واللَّه لا نعطيهم إلاَّ السيف حتّى يحكم اللَّه بيننا وبينهم، قال رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فأنت وذلك)، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثُم قال: يجهزوا علينا (1) .

فهذه المواقف هي نبذ يسيرة من سيرة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تعامله مع قومه، وأنه كان ينزل عند رأي مَن يستشيرهم، ولو لم يكن ينزل عند رأيهم؛ لكان الأمر بالمشورة لغواً وعبثاً.

وعليه نعود إلى الآيتين الكريمتين، فإن الأمر الوارد الاستشارة فيه، إمَّا أن نعمِّمه إلى رأس الهرم السياسي، وهو الخليفة والزعيم، أو لا أقل يستفاد منها الإلزام في الوظائف التي تهمُّ المجتمع كالقوة التنفيذية والتشريعية.

3 - الاستدلال بالعديد من الروايات الدالَّة على وجوب الشورى.

ونحن نقسِّمها إلى أصناف:

الصنف الأوَّل: روايات الشورى.

ـ قول علي‏ عليه‌السلام في ‏النهج / قسم الكتب / الكتاب 6: (إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ؛ وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً، كان ذلك للَّه رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة، ردُّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى، قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين، وولّاه اللَّه ما تولَّى، وإن طلحة والزبير بايعاني، ثُم نقضا بيعتي، وكان نقضهما كردِّهما، فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحق وظهر أمر اللَّه وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون).

وقد ذكر صدرها ابن

____________________

(1) ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص223.

١٢٨

مزاحم في وقعة صِفِّين: (أمَّا بعد، فإن بيعتي لزمتك وأنت بالشام؛ لأنه بايعني....).

ـ النبوي: (إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهْر الأرض خير لكم من بطنها) (1) .

ـ النبوي: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة). البخاري/ كتاب المغازي/ باب: كتابه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كسرى.

ـ قوله عليه‌السلام عندما أُريد البيعة له: (دعوني والتمسوا غيري.... واعلموا إن أجبتكم، ركبتُ بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني، فأنا كأحدكم، ولعلِّي أسمعكم وأطوعكم لمَن ولّيتموه أمركم، وأنا لكن وزير خير لكم من أمير) (2) .

ـ تاريخ اليعقوبي( ج2/ ص9) في أحداث غزوة مؤتة، قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أمير الجيوش زيد بن حارثة، فإن قُتل، فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل، فعبد اللَّه بن رواحة، فإن قُتل، فليرتضي المسلمون من أحبوا).

ـ وفي الطبري(ج6 / ص3066) عن ابن الحنفية قال: كنت مع أبي حين قُتل عثمان، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل، ولا بدَّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقَّ بهذا الأمر منك؛ لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: (لا تفعلوا؛ فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميرا) فقالوا: لا واللَّه، ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك. قال: (ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفية، ولا تكون إلاّ عن رضى المسلمين).

ـ وفي الكامل ( ج3 / ص193): (أيُّها الناس، عن ملأ وأذن إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلاّ مَن أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، وكنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم،

____________________

(1) تحف العقول، ص36، وسنن الترمذي، ج3، 361، باب الفتن/ 64.

(2) النهج، خ 92، و الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج6، ص3076، وابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص193.

١٢٩

ألا وإنه ليس لي دونكم إلاّ مفاتيح ما لكم، وليس لي أن أخذ درهماً دونكم).

ـ كشف المحَجة لابن طاووس (ص180) قوله عليه‌السلام : (وقد كان رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عهد إليَّ عهداً؛ فقال: ياابن أبي‏ طالب، لك ولاء أمتي، فإن ولُّوك في عافية واجمعوا عليك بالرضا، فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك، فدعهم وما هم فيه).

ـ النبوي في شرح ابن أبي الحديد(ج11 / ص11): (إنْ تولُّوها عليَّاً، تجدوه هادياً مهديا).

ـ كتاب سليم بن قيس (ص118) عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (ما ولَّت أمة - قط - أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه إلاَّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا).

ـ كتاب سليم بن قيس (ص182) عنه ‏ عليه‌السلام : (والواجب في حكم اللَّه وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل.... أن لا يعملوا عملاً، ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدِّموا يداً ولا رجلاً، ولا يبدؤوا بشي‏ء، بل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً عارفاً بالقضاء والسنة يجمع أمرهم).

ـ مقاتل الطالبيين (ص36) عن الحسن المجتبى عليه‌السلام في خطاب لمعاوية: (إن علياً لمَّا مضى لسبيله.... ولَّآني المسلمون الأمر بعده، فدع التمادي بالباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي؛ فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك).

ـ بحار الأنوار (ج65 / ص44/ ب 19) كيفية المصالحة من تاريخ الإمام الحسن‏ عليه‌السلام : صالحه على أن يسلِّم له ولاية أمر المسلمين، على أن يعمل فيهم بكتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة الخلفاء الصالحين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين).

ـ إرشاد المفيد (ص185) و الكامل في التأريخ لإبن الأثير(ج4 / ص20) كتاب وجهاء الكوفة لسيد الشهداء عليه‌السلام : (أمَّا بعد، فالحمد للَّه الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة، فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمّر عليها بغير رضى منها)

١٣٠

فأجابهم عليه‌السلام : (إني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملائكم وذوى الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فإني أقدم إليكم وشيكاً).

ـ الدعائم (ج2 / ص572/ كتاب آداب القضاء) عن الصادق‏ عليه‌السلام : (ولاية أهل العدل الذين أمر اللَّه بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم، فرض من اللَّه).

ـ قوله‏ عليه‌السلام لطلحة والزبير: (ولو وقع حكم ليس في كتاب اللَّه بيانه، ولا في السنة برهانه، لشاورتكما) (1) .

ـ سنن أبي داود (ج 2 / كتاب الجهاد/ باب القوم يسافرون يؤمِّرون أحدهم) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمَّر أحدهم). وفي مسند أحمد بن حنبل(ج2/ص177): (لا يحلُّ لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة، إلا أمَّروا عليهم أحدهم).

ـ في كتاب الوثائق السياسية (ص 120 / الوثيقة 33) معاهدته مع أهل ومضمون المعاهدة هو أنه: (ليس عليكم أمير إلاّ من أنفسكم أو عن أهل رسول اللَّه، والسلام).

ـ في خطبة الإمام علي‏ عليه‌السلام (رقم 73): (ولعمري لأن كانت الإمامة لا تنعقد حتّى تحضرها عامة الناس، فما إلى ذلك بسبيل، ولكن أهلها يحكمون على مَن غاب عنها، ثُم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار).

وفي الخطبة(127): (والزموا السواد الأعظم؛ فإنّ يد اللَّه مع الجماعة، وإيَّاكم والفِرقة).

ـ وفي وقعة صِفِّين عندما كان القرّاء يتوسطون بين الإمام ومعاوية، قال معاوية: إن كان الأمر كما يزعمون، فما له ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا ولا ممَّن هاهنا معنا؟ فقال علي‏ عليه‌السلام : (إنما الناس تتَّبع المهاجرين والأنصار، وهم شهود المسلمين

____________________

(1) ابن أبي الحديد، شرح النهج، ج7، ص 41.

١٣١

على ولايتهم وأمر دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولستُ استحلُّ أن أدع حزب معاوية يحكم على الأمة ويركبهم ويشقَّ عصاهم).

فرجعوا إلى معاوية، فأخبروه بذلك، فقال: ليس كما يقول، فما بال مَن هاهنا من المهاجرين والأنصار، لم يدخلوا في الأمر فيؤامِّروه؟! فانصرفوا إلى علي‏ عليه‌السلام ، فقالوا له ذلك واخبروه، فقال عليه‌السلام : (ويحكم هذا للبدريِّين دون الصحابة، وليس في الأرض بدري إلاّ وقد بايعني، وهو معي، أو قد أقام ورضي، فلا يغرنّكم معاوية من أنفسكم ودينكم) (1) .

فهذا الجواب للإمام يدلِّل على مدى قيمة رأي النخبة في المجتمع أو أهل الحلِّ والعقد.

وأمر الإمام معروف عندما أقبل عليه الثائرون من الأمصار بعد مقتل عثمان وأرادوا مبايعته، فقال: (إنما ذلك لأهل الشورى وأهل بدر).

ولا يُتَصوَّر أنَّ أجوبة الإمام هي في مقام المحاجَّة؛ فقد ورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام عن إبائه عليهم‌السلام ‏عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن جاءكم برأيه يفرّق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولَّى من غير مشورة، فاقتلوه) (2) ، فهي ليست في مقام المحاجة، بل ذكرها ابتداءً وتأسيساً لقانون وجوب اتباع رأي الأمة، وهو الشورى وعدم جواز الخروج عن رأيهم.

الصنف الثاني: روايات الاستشارة.

وهي روايات كثيرة متظافرة من جهة المعنى، تؤكِّد على ضرورة المشاورة والاستشارة في الأمور كافّة؛ نحو قوله ‏عليه السلام: ( لن يهلك امرؤ عن

____________________

(1) وقعة صِفِّين، ص 189 - 190.

(2) عيون أخبار الرضا، ح2، ب31، ص62.

١٣٢

مشورة)، (خاطر بنفسه مَن استغنى برأيه)، وذكرت الروايات فضيلة المشاورة والشروط الواجب توفرها في المستشار؛ من الإيمان والعقل، وهي مفصَّلة يمكن ملاحظتها في:

  - وسائل الشيعة/ كتاب الحج، وأبواب أحكام العِشرة/ ب 26 - 21.

  - بحار الأنوار/ ج72 / ب 48 - 43.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة:

أ - إن التأكيد الوارد في هذه الروايات يدلِّل على محبوبية الاستشارة ولزوم اتباع نتيجتها، ولو كانت نتيجتها غير واجبة الاِتباع؛ لكان الأمر بها والحثُّ عليها بهذا النحو لغواً وعبثاً.

ب - إنه قد ورد في بعض الروايات على نحو القضية الشرطية: (مَن لم يستشر، هلك). فقد يقول قائل: إن الوقوع في الهلكة في بعض الحالات قد يكون له وجه، لكن إذا عمَّمنا الأمر بالاستشارة للوظائف العامة التي تهمُّ صالح المجتمع، فإن الوقوع في التهلكة لا يكون جائزاً بأيِّ نحوٍ كان؛ فهي تدلّ على وجوب الاستشارة ولزوم نتيجتها.

ج - بعض الروايات توجب اتباع أراء المستشارين، وفي بعضها التحذير: (إيَّاك والخلاف، فإن مخالفة الوَرِع العاقل مفسدة في الدين والدنيا) (1)؛ فهذه تدل على لزوم الأخذ بالاستشارة.

د - ورد في روايةٍ أنه قيل: يارسول اللَّه ما الحزم؟ قال: (مشاورة ذوي الرأي واَتباعهم) (2) .

فالاستشارة لها ارتباط بالحزم؛ وهو استجماع العزم والإرادة، فالإرادة في مثل هذه الأمور التي تهم المجتمع، والتي يجب أن يؤخذ بها بالحزم، يجب أن تكون صادرة

____________________

(1) وسائل الشيعة، أبواب العشرة، ب22، ح5.

(2) المصدر، ب21، ح1.

١٣٣

ومنبعثة عن الاستشارة.

هـ - إن العقل العملي يحكم بلزوم الاستشارة؛ وذلك لأن عقل الإنسان وحده غير محيط بجهات الحسن والقبح في الأفعال، فإذا أراد أن يقْدم على أمرٍ ما، يجب عليه مشاورة الآخرين والأخذ بأرآئهم حتّى يظهر له وجوه الحسن والقبح. وتزداد أهمية الاستشارة كلَّما ازدادت أهمية المورد الذي يريد الإنسان أخذ قرار فيه، فكيف إذا كان شأناً من الشؤون والمصالح العامة للمجتمع. والحِكَم والعِلل المذكورة في الروايات إنما هي إرشاد لهذا الحكم العقلي.

وقد يقال: إن الآيات والروايات الواردة في الشورى لا تدل على المطلوب؛ وذلك لأنها اكتفت بذكر العنوان فقط مع الإغفال عن ذكر تفصيلات الاستشارة وكيف تكون؟ وما هو دور أهل الحلِّ والعقد؟ وماذا يحصل عند الخلاف؟ هذا مع عظم أهمية الشورى حسب مدعى القائل، ودخالتها في تلك الأمور الهامة، فلماذا سكت الشارع عن تحديد كل هذه التفصيلات؟

والجواب: أنه ممّا لاشك فيه أن هذه القاعدة تدخل في تنظيم شؤون المجتمع، فهي تتأثر بظروف المجتمع الخاصة، فلو كان الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أتخذ عدداً معيناً للمشورة، فهو عدد يتلائم مع تعداد المسلمين في ذلك الزمان، ومع ذلك؛ فإنه سوف يتمسَّك بهذا العدد حتّى مع بلوغ عدد أفراد المجتمع الآف الأضعاف؛ فلذلك لم يشأ الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل هناك ضوابط جزئية لهذه المسألة الهامة حتّى يكون لكل مجتمع - في كل زمان - ما يرتأيه؛ طبقاً لظروفه الخاصة، وحتّى يكون الإسلام متلائماً مع التطوُّرات الحاصلة في كل مجتمع.

هذا تمام ما يمكن الاستدلال به من الطائفة الأولى؛ وهي أهم الطوائف، يبقى تقييم أدلة الشورى:

كيفية الاستفادة من الشورى في اتخاذ الآراء والقرارات؛ هل يُتَّبع الكم أم الكيف؟

فمن جهة يقال: إنه من أجل حفظ النظام واستقامة الأمر لا يمكن طرح رأي

١٣٤

الأكثرية، فيجب أن يؤخذ به على حساب الأقلِّية.

والمشكلة تنشأ من أن الأقلِّية لو كانت متضمِّنة لرأي نخبة المجتمع من المفكرين والعلماء، فكيف يمكن غمض النظر عن هذا الأمر وترجيح رأي الأكثرية؟

فذهب كثير إلى محاولة التلفيق بين هذين الرأيين:

ـ فقال البعض: إن الأمة يجب أن تقوم بانتخاب النخبة، وهؤلاء ينتخبون الولي.

ـ أن توضع حدود لانتخاب واختيار الأمة؛ أي لا تكون الأمور مطلقة على عنانها بالنسبة للأمة، بل يجب أن يتقيَّدوا بقوانين وأحكام إسلامية.

التقييم:

أوَّلاً: رأي آخر في فهم الأدلَّة.

في مقام تقييم هذه الأدلة من آيات وروايات، وقبل أن نبدأ بالإجابة على كل نقطة من النقاط السابقة، فإنا نذكر أن نفس الآيتين اللتين اِستُدِل بهما على الشورى يوجد لهما تفسير آخر؛ وهو مشهور وشائع بين المفسِّرين والمفكرين، وحاصل‏ ذلك:

أن المستفاد من الآيات والروايات هو حثُّ المكلف - الذي هو في موضع المسؤولية عن الأمة وإدارة شؤونها، بل حتّى في أموره الخاصة - على الاستشارة وتوسعة أفق التفكير ومنابعه، وعدم التعنُّت برأيه والتوحُّد به، بل يُلزم الإنسان بفحص أراء الآخرين مع تمسُّكه بأن يكون الرأي النهائي له، وألاّ يكون متحرِّكاً تبعاً لإرادة المجموع.

١٣٥

بيان ذلك:

ذكرنا سابقاً في الفصل الأول عن وجود قوتين مفكِّرتين في النفس البشرية؛ أحدهما: النظرية، والأخرى: العملية،

فالأولى تقوم بدور البحث بين المعلومات المتوفِّرة؛ لأجل تهيئة مقدِّمات استكشاف المجهول وإدراك النتيجة.

والأخرى عملية تقوم بدور الإذعان والتسليم والجزم بتلك النتيجة، وتسيير القوى السفلى وممارسة دور الأمير والتوجيه لها.

وبتعبير آخر: أن الإنسان في منهجية تفكيره يتَّبع ما هو متداول في العصر الحديث من سلطات الشورى والتشريع؛ حيث دور البحث والتنقيب، ثُم دور القضاء القانوني الذي يقوم بالإذعان والجزم بهذه النتيجة وعدمها، ثُم دور التنفيذ وتوجيه القوى العمالة.

فالإنسان في تفكيره ينطوي على تلك السلطات التي تدير شؤون المجتمع المدني؛ لذلك عُبِّر عن المجتمع بـ: الإنسان المجموعي. وكلَّما دقَّقنا النظر وتأملنا في سير عملية التفكير في الإنسان الصغير، سوف يتَّضح لنا حلاً لملابسات كثيرة في الإنسان المجموعي.

فالمدَّعى هو: أن الشور والتشاور فعل ومادة وعنوان لفعل القوى الفكرية النظرية، وليس عنواناً لفعل القوى العملية وسلطتها العمَّالة على القوى النازلة، وهي الإرادة، ثُم ترد مرحلة الجزم والتسليم والإذعان، وهي مرحلة قضائية؛ إذ تكون فيصلاً بين التسليم بتلك النتيجة وعدمها، وهو فعل مزدوج بين القوة الفكرية والعملية، فالقضاء يقوم بتحديد الكبرى، وهو عمل فكري وليس بعملي، ثُم تطبيق الكبرى على النزاعات والموارد الموجودة والمعروضة أمامه.

وعلى كل حال.... فالمشورة والتساؤل يقابله الفعل الأول من أفعال العقل، وهو البحث والتنقيب، والفعل الثاني هو إدراك النتيجة، فهو أمر غير مسألة البحث، وإن

١٣٦

اختص بها العقل النظري أيضاً، إلاّ أنه ليس عين الفعل الأول، ويبقى الفعل الثالث: وهو الجزم والتسليم والإذعان، وهو ما أطلقنا عليه بالقضائية.

إذن؛ فالمشورة والتشاور ماهية لفعل إدراك المعلومات، لا ماهية لفعل عملي، فكيف يناسب عنوان السلطة والولاية والقدرة التي هي عناوين لأفعال القوى العملية؟ فهناك جمع للآراء تارة، وتارة أخرى جمع للإرادات، والشورى عنوان للأول لا الثاني، بل ليست هي - أيضاًـ في حقيقتهاً جمع للآراء، كما ليس للجمع والاجتماع مدخلية فيها، بل هي - كما سيأتي في معناه المقرَّر في اللغة - تقليب الآراء لاستخراج الصواب، سواء كان هو رأي الواحد أم الأقل أم الأكثر، فصبغة الرأي المنتخب هو لصوابيته لا لكثرته، فهي لا تعني حسم الأمر في اتخاذ قرار في مسألة ما، بل هي مقدمة لفعل آخر يقوم به المستشير.

وإذا عدنا إلى مفسَّري العامة في القرون الأربعة الأولى، لا نلاحظ وجود نظرية معينة حول الشورى أو تفسير كلا الآيتين بمعنى ولاية الشورى، بل على العكس، تراهم يذهبون في تفسيرها إلى معنى المشورة اللغوية. ويشكك الطبري: أنه كيف يؤمَر النبيّ باتباع الشورى مع أنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله غني عن المسلمين بالوحي؟ (1) ، ويذكر فوائد الشورى؛ من اقتداء الأمة به، وتأليف قلوبهم، وينقل ذلك عن قتادة وابن إسحاق والربيع والضحَّاك والحسن البصري. والسيوطي في (الدر المنثور) يورد روايات كثيرة في ذيل الآية الكريمة على حسن الاستشارة واستحبابها، وأن المشاورة من الأمور الموصِلة للحق؛ ومنها ما عن الإمام علي‏ عليه‌السلام : (يارسول اللَّه، إذا نزل بنا الأمر من بعدك، وليس فيه قران؛ وليس فيه من قولك ومن سنتك، فماذا نصنع؟ قال: اجتمعوا وليكن فيكم العابد، فتُرْشَدون إلى أصوب الآراء).

____________________

(1) الطبري، جامع البيان، ذيل سورة آل عمران، ج4، ص101.

١٣٧

فقد يستفاد منها؛ أنه في مورد منطقة الفراغ يكون التشريع بيد الشورى، إلاّ أن الأمر ليس كذلك، بل المشاورة من أجل معالجة الأمر من كافة جوانبه، وتبادل الرأي للوصول إلى ما هو الصواب في نفسه، لا من جهة نسبته للأكثرية أو شبهها.

يقول الزمخشري في ذيل ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) : إن الشورى كالفُتيا بمعنى التشاور. ويقول في ذيل ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) : يعني في أمر الحرب ونحوه ممَّا لم ينزل عليك فيه، وهي لتستظهر برأيهم.... ويذكر من فوائده: لئلاَّ يثقل على العرب استبداده صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرأي دونهم، ( فَإِذَا عَزَمْتَ ) يعني قطعت الرأي على شي‏ء بعد الشورى (1) .

فالجزم والرأي النهائي يكون للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو قد يخالف أكثرية الآراء.

وما نلاحظه من استدلال العامة بالآيتين على ولاية الشورى بدأ في العصور المتأخرة بكتابات الآلوسي ورشيد رضا وابن الخازن.

إذن، خلاصة ما يذهب إليه هذا الرأي أنه يوجد منحى في فهم هاتين الآيتين غير ما استدل به أصحاب ولاية الشورى، وأن أوائل المفسِّرين لم يجعلوا هذه الآية دليلاً على ولاية الشورى.

مضافاً إلى أن مبدأ ولاية الشورى يقترب من مبدأ سيادة الأمة، وهو المصطلح الحديث في النظم السياسية المعبِّر عن حكم الأمة، وتدخل الأمة في إدارة شؤونها بنفسها، وهذا المبدأ من المبادئ الحديثة التي ظهرت في القرنين الأخيرين وما زالت تتدخَّل فيه يد القانونيين حتّى يسدُّوا الثغرات التي تظهر بين آونة وأخرى، فلا نجد مظهراً واحداً معبِّراً عن هذا المبدأ، مع أن أغلب دول العالم تتمسَّك به. وأن الديمقراطية هي الأساس الذي تستند عليه الدولة الحديثة إلاّ أن الثغرات والعيوب

____________________

(1) الزمخشري، الكشَّاف، ج1، ص242.

١٣٨

الكثيرة التي ظهرت في هذه الممارسة للسلطة، دعتهم إلى أن يعيدوا النظر مرة وثانية وثالثة ليغيِّروا في طريقة الانتخاب وأهلية المنتخِب؛ وما ذلك إلاّ لأنهم يرون أن هذه الديمقراطية تؤدي إلى مظهر من مظاهر الدكتاتورية الحديثة؛ بسيطرة أصحاب رؤوس الأموال وظهور طبقة معينة تتداول الحكم فيما بينها.

ثانياً: الجواب عن تلك الأدلة.

بعد استعراض السير التأريخي لنظرية الشورى والرأي الآخر في فهم الآيتين الشريفتين، وهو الحق، فإنا نذكر الجواب عن الأدلة السابقة، وهي في نفسها تكون دليلاً على الفهم الآخر الذي ذكرناه وقوِّيناه.

الوجه الأول:

وهو العمدة؛ حيث إن المعنى اللغوي لمادة الشور والمشاورة معاً هو الموضوع لهذا المصطلح.

ـ فسَّر الراغب الأصفهاني الشورى بأنها من التشاور والمشاورة والمشورة؛ وهي استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض الآخر. وقولهم: شرت العسل إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه (1) .

ـ يذكر ابن منظور في لسان العرب أن الأصل اللغوي هو من شار العسل إي استخرجه من الوقية واجتناه.... ويقال: شرت الدابة إذا أجريتها لتعرف قوتها. وحمله البعض على قوله تعالى: ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) بمعنى لتعْلَم الأمين والمخلص من غيره، واستشاره أي طلب منه المشورة.

____________________

(1) المفردات، مادة (شور)، ص 270.

١٣٩

فالمدار في الاشتقاقات يشير إلى عملية الفحص والبحث الفكرية عن حقيقة الأمر، والوصول إلى نتيجة صحيحة (1) .

ـ تاج العروس: فلان شَيِّرُك؛ أي وزيرك، يقال: فلان وزير فلان وشَـيِّره أي مشاوره. وجمعه شوراء كما في شُعراء، وأشرني عسلاً وأشرني على عسل أعني على جَنْيه وأخذه من مواضعه (2) .

وهذه تؤكد أن المشاورة هي أحد أساليب الفحص والبحث قبل اتخاذ الرأي النهائي والعزم الإرادي في المسألة، وهو ما أشرنا إليه بأنه الفعل الأول للفكر.

ـ وأوضح من كل ما مضى ما يذكره ابن فارس أن شور وضعت لأصلين مفردين: الأول إبداء شي‏ء وأظهاره وعرضه. والآخر أخذ شي‏ء (3) .

وكلا المعنين شاهدان على ما ذكرناه؛ فالأول عملية استكشاف واختبار وفحص، والثانية أخذ الرأي الصائب من تصفُّح الآراء. فتكاد كلمات اللُّغويين تشير إلى هذه الحقيقة في الشورى، ولم يرد منها ذكْرٌ وإشارة إلى جهة سلطة أو إرادة أو ولاية أو قدرة تتحلَّى بها الشورى.

ـ ومن كتب اللغة المتأخرة نرى ما ذكر في المعجم الوسيط: (شار الشي‏ء عرضه ليُبدي ما فيه من محاسن، وأشار إليه بيده، أومأ إليه معبِّراً عن معنى من المعاني كالدعوة للدخول والخروج. اشتور القوم: شاور بعضهم البعض، والمستشار: العليم الذي يؤخذ رأيه في أمر هام؛ علمي أو فني أو سياسي أو قضائي ونحوه، هو اصطلاح محدَث) إلاّ أنها ليست مرتجلة، بل منقولة عن الأصل اللغوي؛ لمناسبة بين المنقول منه والمنقول إليه، بل قد يقال: إنه نفس المعنى القديم وليس معنى جديداً

____________________

(1) لسان العرب، ج4، ص335.

(2) الزبيدي، تاج العروس، مادة(شور).

(3) معجم مقاييس اللغة، مادة شور.

١٤٠