الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية0%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الإمامة الإلهية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد سند (حفظه الله)
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الصفحات: 440
المشاهدات: 116932
تحميل: 5574


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 4
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116932 / تحميل: 5574
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

سابقاً، فعنوان البيعة كعنوان العقد والشروط، تعرض على ماهيات أولية مفروغ من صحتها.

والخلاصة أن البيعة إنشاء الالتزام بمفادٍ ثابتة صحته في رتبة سابقة.

نقض ودفع:

وهنا قد يورَد نقض أو تساؤل أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يهاجر إلاّ بعد أن أخذ البيعة من أهل المدينة، وأن أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يرضَ أن يستلم السلطة إلاّ بعد البيعة، وهذان التصرُّفان يدلان على وجود خصوصية في البيعة.

والجواب عن ذلك: أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أخذ البيعة قام بالدعوة إلى نفسه وبيان حقيقة رسالته، فحصل انجذاب أفراد المجتمع إليه، ومِن ثَمَّ أخذ منهم البيعة، وهكذا يقال في أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ فبعد إيمان العامة بالإمام علي، وأنه الشخصية التي تنقذهم من التفكُّك والانهيار الذي صادف الدولة الإسلامية، حصلت المبايعة.

فالغرض من المبايعة هو التغليظ والتوكيد وحصول الاطمئنان للرسول الأكرم؛ حيث أنه ينتقل إلى مرحلة المواجهة مع المجتمع المكِّي، فيجب أن يطمئن إلى التزام جماعته وتعهُّدهم بذلك الالتزام، وهكذا يقال في ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وولاية الحسن‏ عليه‌السلام ، وبيعة أهل الكوفة وحواليها للحسين‏ عليه‌السلام بتوسط نائبه مسلم بن عقيل، وهكذا يمكن تصوير أخذ البيعة للحجة المنتظر(عجَّل اللَّه تعالى فرجه)، فالبيعة في كل هذا، ضرب من التوثيق والتغليظ في المتابعة.

ـ وأمَّا ما ورد في مبايعة المسلمين للرسول الأكرم فى الحديبية، فسببه أن المسلمين لم يريدوا إيقاع الصلح مع المشركين، خلافاً لرأي الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يرى فيه انتصاراً للمسلمين وإذلالاً للكافرين حيث اعترفوا

٢٠١

للمسلمين بكيان ودولة، فيكون أكبر انتصار سياسي للمسليمن، لكن غالبية مَن كان مع الرسول لم يتفطَّن لذلك، وازدادت الشُّـقَّة بينهم، وبعد تمامية الصلح وقبل رجوعه للمدينة، أراد الرسول أن يجدِّد المسلمون التزامهم وتعهُّدهم بمناصرته التي هي في الأساس واجبة عليهم بحكم وجوب الطاعة.

وما ذُكر من الروايات الأخرى تؤكِّد كلَّها هذا المطلب.

ـ وأمَّا خُطب الإمام عليه‌السلام ، ففي بعضها يقيم الإمام الحجة على مبنى الخصم؛ وهو اعتبار البيعة شرط في تولِّي الحاكم وإن كانت على خلاف ماهية البيعة وخلاف ما يعتقد به عليه‌السلام .

ـ وأما قوله للذين تخلَّفوا عن بيعته: (أيها الناس، إنكم بايعتموني على ما بويع عليه مَن كان قبلي، وإن الخيار للناس قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا، فلا خيار لهم، وهذه بيعة عامة؛ مَن رغب عنها رغب عن دين الإسلام واتبع غير سبيل أهله). فبالإضافة إلى ذلك الجواب، فإن هذا المقطع من خطبته مقتطع من صدره المذكور في كتاب سليم؛ حيث يبتدأها: (إن كانت الإمامة خيرة من اللَّه ورسوله، فليس لهم أن يختاروا، وإن كانت الخيرة للناس، فقد بايعني الناس بالشورى...)

رابعاً: الآيات المثبِتة للوظائف الاجتماعية العامة

الاستدلال بآيات كثيرة وردت في الكتاب العزيز يخاطب الحق تعالى الناس عموماً بوجوب الجهاد وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء وإقامة الحدود ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1) . وقوله تعالى: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا

____________________

(1) آل عمران 3: 200.

٢٠٢

نَكَالاً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1) .

( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ ) (2) فاجلدوا ولا تأخذكم، اقطعوا الخطاب فيها للمجموع.

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (3) . وغيرها من الآيات التي تخاطب الناس بما هو من وظائف الدولة.

وتقريب الاستدلال بها: أن هذه الآيات تحدِّد وظيفة الأنبياء والرسل بالتبليغ، أما نفس الحكومة وإدارة أمور المجتمع والوظائف العامة، فهي للناس يجب عليهم القيام بها.

والجواب عنها:

1 - قد ذكرنا سابقاً وظائف الدولة كجهاز لا يمكن أن يقوم به فرد واحد، بل لابد أن يقوم به الجماعة والناس كافَّة، وبتعبير آخر: إن الدولة والحكم جهد مشترك بين الناس والحاكم، ولا يستطيع الحاكم أن يقوم به بمفرده. ومن دون تفاعل الناس مع جهاز الدولة وطاعتهم له لا يمكن لهذا الجهاز أن يقوم بمهمته.

2 - لو سلمنا بدلالة الآيات على المدعى، فنتساءل كيف يمكن للناس أن يقوموا بتلك المهام؟ فهل يؤدُّونها بنحو المجموع؟! هذا غير ممكن، بل لابد أن يكون هناك جهاز يتولَّى هذه المهمة، فمع قيام هذا الجهاز نتساءل: هل يسقط عن الواجب الأمة وبقية الناس؟ الجواب: بالطبع لا، فالواجب يبقى مع وجود هذا الجهاز.

وبتعبير آخر: أن وجوب هذه الأمور على الناس لا يعني عدم وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه المهام، فإنه يبقى على الناس الطاعة والالتزام بما يقرِّره هذا

____________________

(1) المائدة 5: 38.

(2) التوبة 9: 3.

(3) الحديد 57: 25.

٢٠٣

الجهاز. فهذه الآيات على فرض تمامية دلالتها لا تنافي وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه الأمور.

3 - إن أي فعل له جهات ثلاث؛ أحدها: ماهية الفعل وكيفية أدائه وشرائطه. والثانية: الذي يقوم بالفعل، والثالث: الذي يقع عليه الفعل (القابل).

والأدلة التي تذكر في بيان أداء وظيفة أو فعل ما، تكون في صدد بيان إحدى هذه الجهات، ولا يمكن الاستفادة منها في بيان الجهة الأخرى، فقوله عليه‌السلام : (نهى النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر)، لبيان الجهة الأولى، ولا يمكن الاستفادة منها لمعرفة شرائط المتعاقدين، وما ذكر من الآيات في صدد بيان الجهة الأولى؛ وهي: ما هي الأمور التي يجب تنفيذها في المجتمع الإسلامي؟ أما مَن هو الذي يقوم بهذا

العمل؟ فإن الآيات غير متعرِّضة له؛ فهذه وظائف خاصة واجبة على عامة المجتمع بنحو الوجوب الكفائي، وهو لا ينافي كونه واجباً عينياً على الزعيم والمدير والرئيس وهو نظير تجهيز الميت إذ أنه واجب كفائي على عامة المسلمين‏ ولا ينافيه كونه واجباً عينياً على الولي أو الوصي، وهذا النحو من الوجوب مشترك بين نظرية النص والشورى.

4 - ورد في ذيل آية سورة الحديد: ( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ، فالآية الكريمة فيها دلالة واضحة أن الأمر في الواقع بيد الرسل والمبلِّغين عن اللَّه، وأن وظيفة الناس هي المناصرة والطاعة؛ وليميِّز اللَّه الخبيث من الطيب.

5 - إن المستدل استدل بظاهر هذه الآيات وأن هذه الأوامر عامة للناس، لكن غفل عن آيات أخرى كان المخاطب فيها الرسول(‏صلَّى الله عليه وآله وحده) ( جَاهِدِ الْكُفَّارَ ) ( فَاحْكُم بَيْنَهُم بالعَدْلِ ) .

وهذا يعني أنه لا يمكن الإغفال عن هذه الآيات ووضعها بجانب تلك الآيات

٢٠٤

حتى يظهر لنا ما هو الواجب على الأمة وما هو الواجب على المرسلين، ولا يمكن النظر إليها بنحو منفصلٍ عن بقية الآيات التي تُثبت الولاية ووظائف‏ الولاة، وأدلة الولاية لا تكون معارضة لهذه الآيات، بل تكون قرينة على تعيين مفادها.

خامساً: آيات الاستخلاف

( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَا يَشَاءُ... ) (1) ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الارْضِ... )( 2 ) ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ ) (3) ( إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ ) (4) ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ... ) (5) .

وتقريب الاستدلال بها بأن بني البشر قد وُلُّوا عمارة الأرض من قبل اللَّه جلَّ وعلا، ومن بين الأمور التي تقتضيها الخلافة هو تولي أحدهم وتأميره وإعطاء الولاية له.

وهذا الفهم للآية يقابله فهم آخر - طبقاً لنظرية النص -: أن هذه الآيات هي إذن عام بالاستفادة من خيرات الأرض وإعمارها في قبال بقية الكائنات التي ليست لها هذه القابلية ولم يفوض لهم تكويناً ذلك. أمَّا الولاية الخاصة والتأمير، فهو أمر آخر لا

____________________

(1) الأنعام 6: 133.

(2) الأنعام 6: 165.

(3) النحل 27: 62.

(4) الأحزاب 33: 72.

(5) فاطر 35: 39.

٢٠٥

يستفاد من هذه الخلافة العامة.

وههنا ملاحظات حول هذه الطائفة من الآيات:

1 - إن غاية تقريب هذه الطائفة لا يفوق ما ذكر من الآيات والوجوه السابقة من تكليف الأمة بالوظائف العامة، فيرد عليها ما أوردناه هناك، والوظيفة التي تظهرها هذه الآيات هي أن وظيفتهم إعمار الأرض والاستفادة من مواردها الطبيعية في قبال الإفساد والإهمال.

2 - يصرِّح كثير من المفسِّرين أن هناك نوعين من الاستخلاف؛ أحدهما: عام يشمل جميع البشر، والأخر: خاص، وهو الذي يتعرَّض فيه للولاية، وهو خاص بمَن يصطفيه اللَّه تعالى (البقرة:30 - 35)، وخصَّ مَن اصطفاه بخصوصيات منع منها الآخرين كالعلم اللَّدُني وإسجاد الملائكة له. وكذلك راجع: سورة ص/ آية 26، والنور، آية 25.

والآيات المذكورة في هذا الوجه هي في الاستخلاف العام، وهو غير ناظر للولاية.

3 - إن آيات الخلافة العامة مدلولها هو تفويض إعمار الأرض للبشر تكويناً، أمَّا تشريعاً، فإنه لم يفرضها لمطلق البشر، بل لمَن توفَّرت فيه شرائط من قبيل التوحيد والعمل بأحكام اللَّه وطاعته، وأن اللَّه لا يريد صرف ومجرد الإعمار البشري المادي ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ... ) (1) . وهذا وجه التعبير بالفيء على ما استولى عليه الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أموال يهود خيبر ونواحيها، وكل مال للكفار لم

____________________

(1) التوبة 129: 38 - 39.

٢٠٦

يوجف عليه بخيل ولا ركاب؛ بمعنى المال الراجع، فلم يعتبر للكفار صلاحية التملُّك، واعتبر لخليفة اللَّه نبيِّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية الأموال العامة في الأرض.

سادساً: آية الأمانة

قوله تعالى: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (1) .

يوجد للآية تقريبان:

الأول: أن يكون المراد من الأمانة هنا هو خصوص الحكم بين الناس بقرينة التفريع ( وَإِذَا حَكَمْتُم ) بمعنى أن الحكم بين الناس أمانة، وأن مَن يملُك تدبير هذا الحكم هو الناس حيث إنهم المخاطبون بذلك، فإذا وُلِّي بعضهم على بعض يجب أن يحكموا بين الناس بالعدل.

الثاني: أن الأمانة هي الحكم بين الناس بالأصالة، وعند وجود المعصوم، فإن الولاية تكون له بموجب النص، وعند عدمه، فإنها تعود للأمة.

وقوله تعالى: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (2) .

وقد فُسِّرت الأمانة تارة بالتكاليف، وأخرى بالأحكام، وعلى كليهما تنفع في المقام؛ إذ تفيد شمولها للتكاليف الولائية وأنشطة الدولة التي هي نوع من التكاليف الكفائية في المجتمع المدني، فالأمانة بيد الأمة إما بالأصالة مطلقة؛ أي في عرض النص، أو أنها في طول النص.

والجواب عن هذا كلِّه:

____________________

(1) النساء 4: 58.

(2) الأحزاب 73: 72.

٢٠٧

أننا لو لاحظنا آية سورة النساء، لوجدنا أنها ابتدأت بضمير المخاطب ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ ) وفي ذيلها: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) وقد تغيَّر الأسلوب إلى الخطاب بالصفة، وهذا يقرّب ما ورد من الروايات أن المخاطب في الأولى هم ولاة الأمر، فالإمامة هي أمانة الحكم إلا أن المخاطب بها هم ولاة الأمر.

وفي الثانية خطاب إلى عامة الناس لطاعة أولي الأمر، وقد ورد في ذيلها رواية عن الباقر عليه‌السلام : (أن إحدى الآيتين لنا والأخرى لكم) وقد ذهب بعض الكتّاب إلى شرح الرواية بالقول: أن الآية الأولى هي للناس والثانية للأئمة. وهذا عجيب؛ إذ أن الخطاب في الثانية بـ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) ، وهو خطاب عام، والآية الأولى وإن كان الخطاب فيها عاماً إلا أنه لا يُعقل توجيهه لكل الناس؛ لأنه ليس وظيفتهم حكم كل الناس، وواضح أن المخاطب فيها هم الحكّام.

وعلى فرض التنزُّل وأن المخاطب في الآية الأولى هم عامة الناس، فهي أصرح على نظرية النص؛ حيث يكونون مطالبين بأن يولّوا عملياً ويمكِّنوا مَن هو أهل لذلك، وهم الواجب طاعتهم.

أمَّا بقية الآيات، فهي بصدد بيان الأمانة العامة ومطلق التكاليف، الفردية منها والاجتماعية، وليست في صدد التعرُّض إلى ولاية الأمر بالخصوص.

وبعبارة أخرى: أن ذيل الآية؛ من لزوم طاعة أولي الأمر المقرونة طاعتهم بطاعة اللَّه وطاعة رسوله ممَّا يدلل على أنها متفرِّعة منهما لا من تنصيب الناس، شاهدٌ على أن الأمانة والحكم بين الناس ليس من صلاحية الناس وتنصيبهم؛ لأن اللازم على الناس المتابعة والانقياد، ومَن بيده النصب لا يكون تابعاً منقاداً، فالأمانة عهد اللَّه الذي لا يناله الظالمين كما في سورة البقرة، لا العهد من الناس.

٢٠٨

سابعاً: آيات تدل على نفي مسؤولية الرسول عن الأمة

( مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (1) ، ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) (2) ، ( وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ) (3)، ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ) (4) ، ( فَإِن أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلَنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاَغُ ) (5) ، وغيرها من الآيات: ق/ 45، النحل/ 125، الغاشية/ 21، يونس/ 99.

وتقريب الاستدلال: أن هذه الآيات تحصر مهمة الرسول في التبليغ وهداية الناس ونفي مسؤوليته عن تولي زمام الأمة، وأنه ليس مسؤولاً عنهم إذا اختاروا طريقاً آخر، فهي تدل على أنه ليس من مهام الرسول الولاية في الأصل.

والجواب عن هذا الاستدلال: أنه يجب ملاحظة شأن نزول هذه الآيات، وملاحظة ما يحيط بها من آيات تكون قرينة على بيان معناها؛ حيث إن الآيات بصدد الإشارة إلى مطلب مهم بعيد عمَّا يستشهدون بها عليه، وهو أن الإيمان - الذي هو مدار النجاة في الآخرة - لا يمكن للرسول أن يلجيء أو يُقسِر عليه ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ، وكان الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله يتألم لِمَا يرى من صدود المنافقين، وهو الذي أُرسل رحمة للعالمين وما يتحلَّى به من رأفة وشفقة عليهم ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) ( إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) .

____________________

(1) النساء 4: 80.

(2) الأنعام 6: 66.

(3) الأنعام 6: 107.

(4) الفرقان 25: 43.

(5) الشورى 42: 48.

٢٠٩

مضافاً إلى أن الرسول كان رحمة للناس، وكان يظهر شفقته وحزنه حتى على المنافقين، وأن الحفاظة والوكالة المنفية هي في مورد الإيمان والدين، لا في مورد إدارة المجتمع ونحوه، كما أن هذا التفسير لا ينسجم مع الآيات الصريحة بأن على الرسول إقامة العدل، سواء في مجال الاقتصاد والأموال أم في الحقوق والمنازعات - السياسية أو الفردية - والحكم بين الناس، والقضاء شعبة ركنية من شعب الدولة، ولا ينسجم مع الآيات التي تأمر النبي بالجهاد ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ) ؛ فإنها صريحة في وجوب إقامة الحكم الإسلامي وحمل الناس على العيش في ضمن قوانين الدولة الإسلامية والتسليم الخارجي لهم، أما من جهة القلب والإيمان الباطني، فإن هذا أمر غير قابل للإكراه فيه. وفي هذا المجال نرى تلك الآيات التي تنفي مسؤولية الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنهم، أمَّا الجانب الأول، فإن الآيات صريحة في وجوب إقامة الحكم على الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل كلمة اللَّه هي العليا.

ثامناً: آية المائدة

( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) .

استدل البعض بهذه الآية الشريفة على أن الحكم عن طريق الشورى، وأنه يكون في طول النص؛ حيث أن الآية ذكرت أنه أنزل التوراة ليحصل بها الحكم، وهو غير الهداية، بل يشمل التشريع والقضاء، وهو للنبي أولاً، ثُم يأتي دور الربانيين، وهي صيغة مبالغة، ورباني المنسوب إلى الرب، وهم المطيعون للَّه عزَّوجل طاعة خالصة غير مشوبة بمعصية غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وهم أوصياء كل نبي، ثُم يأتي ثالثاً دور الأحبار، وهم العلماء الذين عليهم مسؤولية استلام سدة

٢١٠

الحكم، وأن هذه السنة الإلهية في تولِّي الحكم جارية في جميع الأديان.

وهذا الحكم العام يستفاد من مجموعة من القرائن:

أ - قوله تعالى: ( فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) ، فالمخاطب بها المسلمون، وهذا يدل على جريان هذه السنة الإلهية فيهم أيضاً.

ب - أن القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصص، بل هو كتاب اعتبار وتشريع، فكل ما يذكره إنما يأتي به اللَّه عزَّوجل من أجل العبرة، والتشريعات تكون ثابتة ما لم يُنص على خلاف ذلك. فهذه السنة العامة التي ذكرها القران في بني إسرائيل غير مختصة بهم؛ بدليل عدم ذكر القران لهذا الاختصاص، بل إن ذكرها للدلالة على إرادتها من المخاطبين.

جـ - الآيات الواردة بعد ذلك في بيان حكم أهل الإنجيل؛ إذ يعيد الحق سبحانه نفس المفاد حيث تنص على وجوب الحكم بما جاء في الإنجيل ( وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) ومِن ثَمَّ تستمر الآيات في بيان وجوب أن يحكم الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أنزل اللَّه.

والخلاصة: أن الآيات تبيِّن سنة إلهية جارية في جميع العهود والأزمان، وأنه إذا أنزل كتاباً سماوياً، فمراده من ذلك هو أن يكون دستوراً إلهياً على الأمة أن يتخذوه في تصرفاتهم على كافّة الأصعدة الفردية والاجتماعية والقضائية والتشريعية والولائية. وتُظهر الآية تسلسل ترتب الحاكمية، فهي للنبين ثُم لوصيه، ثُم للأمة والأحبار، أي العلماء الذين هم جزء من الأمة، مع اشتراط توفُّر العلم والكفاءة والأمانة، وهي أمور لا ريب فيها.

وفي هذا الاستدلال تأمل:

1 - أن الآية لا تنافى نظرية النص، بل تدل عليها؛ وذلك لأن إيكال سدة الحكم للأحبار هل هو بالأصالة عرضاً مع الربانيِّين أم بالنيابة عنهم؟ والآية تصلح

٢١١

للانطباق على كلا المعنين.

2 - أن الترتيب في الذكر الوارد في الآية ليس اعتباطياً، بل هو للدلالة على نيابة المتأخر عن المتقدِّم بمقتضى ولاية المتقدِّم ذكراً على المتأخر؛ لأن المتأخر من رعية المتقدم، فتكون ولاية المتأخر متفرِّعة عن المتقدم، وحيث إن العلماء مستقى علمهم من المعصومين، فتوليهم للحكم يكون بالنيابة عن المعصوم، والدليل على تسنُّمهم سدة الفتيا هو آية النفر (1) فإسناد سدة الفتيا للفقهاء هو من عصر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله غايته أنه في طول المعصوم عن الرسول؛ حيث أن أصل العلوم كلها هي للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الذي يُطْلِع المعصوم عليها، وإن كان تشريع فتياهم، أي الفقهاء، هو من قبل اللَّه عزَّوجل، لكنها عن المعصوم‏ عليه‌السلام عن الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

إن قلت: ظاهر الآية أن ولاية الأحبار ليست نيابة؛ وذلك لأن اللَّه عزَّوجل أسند الحكم إليهم، فالتخويل هو من قبل اللَّه.

قلت: إن لهذا نظائر كما في طاعة اللَّه وطاعة الرسول، وولاية اللَّه ولاية الرسول، فإن المزاوجة بين الولايتين لا يدل على أنهما في عرض واحد، بل إنها جعلت للمعصوم بتخويل من اللَّه عزَّوجل استخلافا. ومن نظائرها ما ذُكر في موارد الخمس والزكاة وأصنافها، فإن الولاية على الأموال هي للرسول والمعصوم، لا للأصناف، فالفقراء ليست لهم الولاية على أموال الزكاة.

إن قلت: هل تُتصور - بناء على نظرية النص - ولاية الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله على المعصومين بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلت: إن ولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله باقية على مَن بعده حتى بعد وفاته؛ وذلك لأن الرسول الأكرم هو الطريق لوصول العلوم إليهم عليهم‌السلام . ‏ويذكر مضافاً إلى نفوذ

____________________

(1) راجع في تفصيل ذلك كتابنا: دعوى السفارة في عصر الغيبة.

٢١٢

أحكامه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في كل المجالات على مَن بعده إلى يوم القيامة - كمثال على ذلك - ما جرى بين الحسين‏ عليه‌السلام وابن عباس عندما سأله الأخير عن خروجه مع علمه بما فعلوه بأبيه وأخيه، فأجابه عليه‌السلام : أنه قد رأى النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام وأخبره بالخروج إلى العراق؛ حيث أن رؤيا المعصومين صادقة، فهذه تمثِّل استمرار ولايته عليهم وبقاء تلك الطولية بينهم.

3 - قوله تعالى: ( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) ، فإن هذه العبارة في الآية ليست متعلقة بالأحبار، بل متعلقة بالنبيين والربانيين؛ وذلك:

ـ أن مادة الحفظ واردة في القرآن غالباً بمعنى الإيكال العهدي الخاص الشبيه بالتكويني من اللَّه عزَّوجل إلى الملائكة المسمون (بالحفظة)، ولفظة ( اسْتُحْفِظُوا ) لم ترد إلاّ في هذا المورد، وهذا يدل على أن المراد منها هو العهد الخاص، ويقابل الاستحفاظ لفظ (التحميل) حيث ورد وصفاً لعلماء بني إسرائيل في سورة الجمعة ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ) ، فالتعبير بالحمل هو بمعنى التكليف، وهو غير الاستحفاظ، والثاني ورد في علمائهم، لا الأول.

ـ ورد عن الصادق عليه‌السلام في ذيل الآية: (الربَّانيون هم الأئمة دون الأنبياء الذي يربّون الناس بعلمهم، والأحبار هم العلماء دون الربانيين). قال: (ثُم أخبر عنهم فقال: ( بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ) ولم يقل بما حملوا منه). تفسير الصافي 2 / 38.

وهذا أيضاً يدل على أن المراد من الاستحفاظ هو عهد خاص من اللَّه عزَّوجل.

ـ وقد يتساءل عن السر في تأخير ( بِمَا اسْتُحْفِظُواْ ) وإيرادها بعد الأحبار، وكان الأنسب ذكرها بعد الربانيين. والجواب عن ذلك:

أ - مثل هذا التعبير وارد في مواضع أخرى في القران مثلاً في سورة النساء (72 -

٢١٣

73): ( وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ) . فجملة ( كَأَن لَم تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ) متعلقة بالآية السابقة عندما يقول المنافقون عند هزيمة المسلمين: الحمد للَّه الذي لم نكن معهم، فوجود الفاصل لا ينفي الارتباط بين الجملتين.

ب - أن هذا التعليل يبيِّن أنَّ المحورية والمركزية في الحكم للنبي والربانيين؛ وذلك لأن لهم العهد الخاص من قبل اللَّه عزَّوجل، ويكون موضع الأحبار هو النيابة عنهم، وبمنزلة الأيدي والأعوان، ولا يكونون مستقلين بالحكم والأمر، بل يصدر الأمر عنهم. نعم، يكون لهم نوع من الاستقلالية في ما لم يُنط بهم كما في ولاية الإمام‏ عليه‌السلام لمالك الأشتر، فقد زوَّده بالخطوط العامة للحكم، وعليه التصرف ضمن تلك الحدود ولا يرجع في كل صغيرة للإمام، وهذا مقام لا يعطى لكل أحد، بل لمَن يمتلك الكفاءة العلمية والأمانة؛ ولذا عبَّر عنهم بالأحبار، فعدم الاستقلال بالولاية يرجع إلى عدم توفُّر التعليل فيهم؛ حيث إنه منحصر بالنبيِّين والربانيين.

4 - وأخيراً يرد على المستدِل بهذه الآية الكريمة للجمع بين الشورى والنص وأنه مع انتفاء النص تصل النوبة للشورى، أن ذلك يتنافى مع ما هو مقرَّر في العقيدة الشيعية من أن الأرض لا تخلو من حجة ظاهرة أو باطنة، وأن الولاية مع وجود المنصوص عليه تكون فعلية، وليست اقتضائية ولا تقديرية، وهذا يعني أن موضوع النص لا ينفى أصلاً حتى يمكن أن نفرض الشورى عند انتفاء النص، ولا يمكن اعتبار عدم تسلُّم الإمام لسدة الحكم لجور الأمة وضلالها انتفاء للنص؛ فهو كما في تصريح الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا).

وكذلك غيبة المعصوم لا تعني انتفاء النص؛ لأنه موجود ومؤثِّر بتسديده للأمة

٢١٤

وهدايته لها من ستار الغيب كما يظهر من الروايات الكثيرة في هذا المجال.

منها: قوله‏ عليه‌السلام (إني لازلت راعٍ لكم، ولست بغافل عما يدور حولكم). فضرورة المذهب السائدة أن الفقهاء هم نوَّاب الإمام وشرعيَّتهم من شرعية الإمام - مع اختلافهم في مساحة تلك النيابة سعة وضيقاً - لا أن لهم ذلك بالأصالة. وهذه النيابة للفقهاء بالنصب العام، لا الخاص لجماعة وأشخاص بخصوصهم. نعم، أوكل أمر تعيين هذا المصداق النائب للأمة، فهو نوع من التخويل، سواء كان هذا الانتخاب بنحو مفرد أم لمجموعة واجدة لشرائط النيابة، وهذا نظير صلاحية القاضي فإنها استنابة عنه عليه‌السلام إلاّ أنه جعل تعين المصداق بيد المتخاصمين.

وهذا المعنى ليس إيكالاً للأمة باختيار القائد؛ بمعنى أن الأمة تختار مَن ينوب عنها، بل هو تفويض للأمة في تعيين المصداق من بين هؤلاء العلماء. فما يذكره بعض المتأخرين من أن للفقهاء الولاية بالأصالة في عصر الغيبة، مخالف لضرورة من ضروريات المذهب.

تاسعاً: سيرة الأئمة عليهم‌السلام

وقد ذكرت وجوه أخرى للدلالة على الشورى، بعضها قد مضى في تضاعيف الاستدلال بالآيات السابقة:

1 - الاستدلال بالسيرة: أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام جرت سيرتم وعملهم على عدم استلام سدة الحكم إلاّ بعد حصول البيعة ورجوع الناس إليهم، وأن الإمام نُقل عنه أنه يكون وزيراً ومرشداً أفضل من أن يكون أميراً، وأن حكومة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هي حكومة معنوية أقرب منها أن تكون حكومة سياسية. ولذا قيل: أن الموروث من الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بذاك الحجم الذي يمكن أن يؤسَّس به دستور لدولة، سواء في الجانب القضائي أو التشريعي أو التنفيذي.

٢١٥

ـ أن الأئمة عليهم‌السلام كانوا يبتعدون عن السلطة ولا يسعون لإقامة الحكم، بل على العكس كانوا يدفعون مَن يأتي ليبايعهم. فالإمام علي‏ عليه‌السلام عندما أتاه الناس لمبايعته، صدهم وامتنع أول الأمر، وهذا يعني أن الأمر بيد الأمة؛ فإنْ انتخبتهم، فقد أصابت طريق الرشاد والصلاح. كما أن أبا مسلم الخراساني قد عرض الحكم على الإمام الصادق‏ عليه‌السلام وقد رفض ذلك، والإمام الرضا قد عرض عليه المأمون الحكم وقد رفض، فهذا يعني أنهم لم يكن يرون أنفسهم منصوبين من قبل اللَّه.

2 - أن السياسة وتدبير الأمور ليست جزءاً من الدين والشريعة، بل هي أمور عامة ترجع إلى تقدير الناس وحسن رويتهم؛ فالحكومة تستمد مشروعيتها من الأمة والمجتمع.

3 - أن المعصومين مبشِّرون ومبلِّغون وهُداة، والنص على إمامتهم يعني وجوب الرجوع إليهم في معرفة أحكام الدين أصولاً وفروعاً، وإن الحكومة ليست تكليفاً إلهياً، وليس من مراتبه ومقاماته الحكومة؛ وأوضح مثال على ذلك أنبياء بني إسرائيل إذ لم يكونوا يديرون شؤون الناس.

4 - أن الكتاب الكريم لم يحتوي إلاّ على جزء قليل من أحكام الدولة.

5 - أن مفهوم النبوة والإمامة يعتمد على العلم الخاص، وليس فيه دلالة أو إيماء إلى الحكم والولاية.

والجواب عن هذه الوجوه:

أولاً: قد ذكرنا سابقاً الجواب عن السيرة ونكرره هنا:

ـ إن الآيات التي تأمر النبي بإقامة القسط والعدل والقضاء والجهاد والنشاط العسكري والدفاع عن المجتمع الإسلامي كثيرة، وهذه ‏خطابات ‏لا تصلح إلاّ للحاكم والوالي. وأمَّا البيعة، فقد ذكرنا نكتها وأنه لا يكفي مجرد التكليف من دون حصول

٢١٦

الوثوق والاطمئنان، وقد ذكرنا أن البيعة ليست تفويضاً أو توكيلا، بل هي إظهار الالتزام وأخذ العهد والتغليظ.

ـ وهكذا في سيرة الإمام علي عليه‌السلام ، فإنه في كثير من كلماته يشير إلى أحقِّيته بالخلافة والحكومة، وأن مماطلته في استلام الخلافة بعد مقتل عثمان لحكمة تتضح لمَن له أقل تتبُّع للتأريخ؛ حيث أنه أراد قطع العذر لمَن يشق عصا المسلمين والطاعة عليه، وحتى لا يكون هناك مجالاً لمَن أراد أن ينكث البيعة.

ـ وقد يشكل بما روي عن الإمام الحسين عليه‌السلام ؛ من أنه في ليلة العاشر من المحرم قال لأصحابه: (وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍ ليس عليكم مني ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا).

وجوابه: أن الإمام الحسين واجب النصرة؛ لأنه مظلوم، فضلاً عن كونه إماماً مفترض الطاعة، فنصرته لم تجب بالبيعة فقط، بل بدونها نصرته واجبة. وقد ذكروا وجوها لهذه المقالة؛ منها: أنه أراد امتحان أصحابه ليعلم الثابت منهم عن غيره.

ومنها: أنه يكون إذن خاص منه‏ عليه‌السلام حيث علم أن سوف يستشهد.

ومنها: أن أصحابه ليسوا كلهم على درجة واحدة من الثبات، فلذا تنقل بعض الروايات أنه قد ذهب بعض منهم - ولكن يسير جداً - فهؤلاء لم يلزمهم بالبقاء.

ومنها: أن الاستشهاد معه‏ عليه‌السلام مرتبة لا ينالها إلاّ مَن أُتي نصيباً وافراً من المعرفة الحقيقية بمقامهم‏ عليهم‌السلام ؛ ‏ولذا كان هذا التحليل هو لذوي النفوس الضعيفة التي ليس من مقامها الاستشهاد معه‏ عليه‌السلام . وهؤلاء كانوا يظنون أن بقاءهم معه‏ عليه‌السلام مرتبط ببيعتهم له، فعاملهم الإمام عليه‌السلام على اعتقادهم.

ـ أما بالنسبة للإمام الصادق‏ عليه‌السلام ، فلقد عرض عليه أبو مسلم ‏الخراساني ‏البيعة، ولكن الإمام رفض ذلك، وسرُّه واضح؛ لأن أبا مسلم لم يرد تحكيم وتولية الإمام، وإنما أراد التستر والاستفادة من شخصية الإمام عليه‌السلام ؛ لأنه يعلم أن التغيير غير ممكن إلاّ إذا كانت

٢١٧

هناك شخصية ذات نفوذ وسلطة في قلوب الناس، والإمام عليه‌السلام كان له إحاطة بالأوضاع الاجتماعية وعلى دراية بخبايا أبي‏ مسلم. ولذلك ما أن أعرض عنه الإمام، حتى بادر ودعى إلى بني العباس.

ـ أمَّا بالنسبة للرضا عليه‌السلام ، فأولاً عندما امتنع عن قبول الولاية حقَّق هدفاً مهماً؛ وهو اتضاح أن ولاية المأمون لا أساس شرعي لها. وثانياً عندما قبل الولاية تحت الإجبار والإكراه مع شرط عدم التدخل في أمور السلطة، فإنه يتجنب إمضاء مشروعية أفعال السلطة الحاكمة؛ حيث يتَّضح أن المأمون لا شرعية لسلطته حتى يوليه ولاية العهد. وبهذا يكون قد خلص من الهدف الذي توخاه المأمون من استغلال مكانة الإمام الدينية في دعم شرعية سلطته.

ـ أما ما استشكله البعض من انصراف الأئمة عليهم‌السلام ‏عن الجانب السياسي، وعدم سعيهم لإقامة الدولة والحكم، فجوابه يتضح من خلال النقاط التالية:

أ - أن الأئمة عليهم‌السلام ‏انصرفوا إلى إعمال تعتبر أهم مِلاكاً من إقامة الحكم عند التزاحم؛ وهي بيان أحكام الدين ومعارفه، أي تدبير الجهة العقلية والمعرفية عند الناس، وهي مقدمة على تدبير الأبدان. واضح أن نشر الدين وبيان الأحكام تعمُّ منفعته جميع المسلمين في الأزمنة كافة، بينما تدبير الحكم وإقامة الدولة يفيد الأجيال المعاصرة لتلك الحقبة فقط، فإذا دار الأمر بين النفع والفائدة الأطول زماناً مع آخر ذي فائدة اقصر زمانا، فالتقديم للأول.

ب - أن المجتمع الإسلامي قد توسَّع بشكل كبير في القرنين الأول والثاني، وانفتح على حضارات مختلفة، واختلط بأمم متعددة، ممَّا أثار جملة كبيرة من الأسئلة والاستفسارات والشبهات التي احتاجت إلى أجوبة شافية دامغة لكل ما يمسُّ الدين الحنيف، وقد عجزت الأذهان العادية التي تنهل من العلوم الكسبية عن الإجابة عليها واحتاجت إلى مَن يكون له علم لدني يجيب عنها، خصوصاً أن

٢١٨

الحركة المسيحية واليهودية لم تألوا جهداً في ضرب الإسلام فكرياً وعقائديا بعد أن عجزت عن الإطاحة به عسكرياً، فقامت ببث التشكيك في معارف القران والجبر والتفويض وتجسيم اللَّه عزَّوجل ومعاجز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله و...

جـ - أن إقامة الحكم ورئاسة الأمة وظيفة مشتركة بين القائد والأمة، فإذا لم تتمثَّل الأمة للواجب المُلقى على عاقتها؛ من رجوعها إلى الإمام المعصوم، فإنه لا يجب على الإمام إجبارهم على ذلك. وقد تخاذلت الأمة عن القيام بواجبها، فاتجه الإمام إلى الوظيفة الأخرى.

ـ أن الأئمة لم يغفلوا الجانب السياسي البتة، وكانوا لا يفوّتون الفرصة من حين لآخر لإثبات أحقِّيتهم بالخلافة؛ فالإمام الكاظم عليه‌السلام عندما حجَّ هارون الرشيد وزار المدينة وجعل الأخير يسلِّم على الرسول: السلام عليك يابن العم. قال‏ عليه‌السلام في السلام: (السلام عليك ياجداه)؛ للإشارة إلى أن المشروعية إذا كانت بالأقربية، فإنَّا أقرب إليه منكم. وغيره من مئات الوقائع التي رصدها التاريخ لهم‏ عليهم‌السلام ‏مع سلاطين بني أمية وبني العبَّاس.

ـ أن الأئمة عليهم‌السلام ‏كانوا يمارسون نوعاً من الحكومة الخفية، ويأمرون وينهون شيعتهم؛ ومن هذه المواقف:

أ - نهي الكاظم عليه‌السلام لصفوان عن إيجار جماله - والتي كانت له أكبر مؤسسات النقل في العالم الإسلامي آنذاك - للدولة الحاكمة آنذاك.

ب - جباية الأموال في ذلك الزمان من الأمور المختصة بالدولة، ومع ذلك فإنهم عليهم‌السلام ‏كانت تجبى إليهم الأخماس والزكوات، واتفاق الفقهاء على أنه مع حضور الإمام لا تبرأ ذمة شخص إلاّ بتسليمها للإمام عليه‌السلام ؛ لِمَا كان علي بن يقطين يدفع زكاته للإمام الكاظم عليه‌السلام مع كونه وزيراً للسلطان العباسي، حتى أن جواسيس بني العباس خاطبوا هارون يوماً بما مضمونه: هل للمسلمين خليفتان تجبى لكل

٢١٩

منهما الأموال، وأن الثاني هو موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، وأن معه من شيعته عشرات آلاف السيوف تنصره، ممَّا ينذر الخليفة العباسي بتنامي نفوذ الكاظم عليه‌السلام في المجتمع الإسلامي.

ب - نصب الوكلاء في المناطق المختلفة، وهؤلاء يرجع إليهم الناس في كلٍّ مِن معرفة الأحكام وفي خصوماتهم القضائية وفي كل توابع ولواحق القضاء؛ من إنفاذ الأوقاف والوصايا وتقسيم المواريث وإدارة أموال القصّر وأخذ القصاص أو الديَّات وغيرها.

وكان النصب على نحو نصب خاص ونصب عام، ونجد أن فقهاء الشيعة يجعلون المناصب ثلاثة: الإفتاء - القضاء - المرجعية؛ حيث يرون لكل منها شروطاً تختلف عن الأخر، وقد تتداخل بعضها. وهذا التفصيل استفيد من روايات الأئمة عليهم‌السلام ‏فعن تقرير يرفعه أحد عيون الجاسوسية للدولة العباسية - يرويه لنا الكشي في كتابه الرجالي - يصف الشيعة في الكوفة أنهم على ثمان طوائف؛ أحدها: زرارية بن أعين، والأخرى: مسلمية اتباع محمد بن مسلم، وهشامية: أتباع هشام بن الحكم، وبصيرية: أتباع أبي بصير، وهذا يذكر في الحقيقة تعداد الجماعات الشيعية التي ترجع إلى فقهاء الرواة عن الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ‏كما نجد أن الأئمة قد أجازوا إقامة الحدود بما يتناسب مع هذه الحكومة الخفية كالأب على ابنه والزوج على زوجته والسيد على عبده.

جـ - الممانعة من الجهاد الابتدائي مع السلطة الأموية والعباسية كما في رواية زين العابدين‏ عليه‌السلام في الرواية المعروفة عندما اعترض عليه أحد أقطاب العامة، قائلا: تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحجج وليونته، واللَّه تعلى يقول: ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ... هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) فأجابه‏ عليه‌السلام : (أكمل الآية، فقال: ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ

٢٢٠