دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي0%

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي مؤلف:
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 224

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف: الغدير للدراسات والنشر
تصنيف:

الصفحات: 224
المشاهدات: 76354
تحميل: 7959

توضيحات:

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76354 / تحميل: 7959
الحجم الحجم الحجم
دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف:
العربية

42 - د. الزحيلي (وهبة)، الفقه الإسلامي في أُسلوبه الجديد، دار الفكر - بيروت.

43 - د. مدكور (محمّد سلام)، المدخل للفقه الإسلامي، دار النهضة العربية، ط2.

44 - د. زيدان (عبد الكريم): المدخل للشريعة الإسلامية.

45 - د. مدكور (محمّد سلام)، الإباحة عند الأُصوليّين، دار النهضة العربيّة - مصر، ط2، 1965م.

46 - الجميلي (خالد رشيد)، المدخل في دراسة الشريعة، بيت الحكمة - بغداد.

ل - الكُتب الاقتصاديّة والرسائل الجامعيّة:

47 - أستاذنا الحسب (فاضل)، في الفكر الاقتصادي العربي الإسلامي - الدار العربية للطباعة - بغداد، 1979م.

48 - المحجوب (رفعت)، الاقتصاد السياسي، دار النهضة العربية - مصر، 1977م.

49 - هاشم (جواد)، تكوينات رأس المال في العراق، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر - بيروت.

50 - السبهاني (عبد الجبّار)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعي في الإسلام (رسالة ماجستير)، كلّية الإدارية والاقتصاد، جامعة بغداد، (رونيو).

١٠١

  البحث الرابع

مفهوم الرُشد في الفقه الإسلامي

١٠٢

١٠٣

  مَدخَل

1 - فَرَضيّة البحث المركزيّة

انتهت الدراسات المعاصرة بأبحاثها إلى تحديد مكوّنات الشخصيّة الإنسانيّة، وإن كانت قد بدأت مؤخّراً مع بدايات النضج العلمي لإنجازات عِلم النفس العامّ، أو فروعه التي تُعنى بالشخصيّة.

وقد ادّعت هذه الدراسات أنّها باكورة اتّجاهات العقل الإنساني في هذا المجال، كما سيظهر لنا في آراء (البورت) بعد قليل.

وحيث تفترض الدراسات المعياريّة أنّ القرآن الكريم جاء تبياناً لكلّ شيء، وقد تعرّض في أكثر من موضع بالإشارة إلى مكوّنات الشخصيّة السويّة، أو محصّلتها، وكان من بين ذلك قوله تعالى: ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى‏ حَتّى‏ إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) [النساء: 6]، والآية المُختارة للدراسة والتحليل واحدة من آيات الأحكام في القرآن الكريم:

أ - فإنّها مرتّبة على ما قبلها في منع إتيان المال للقاصرين والسفهاء بقوله تعالى: ( وَلاَ تُؤْتُوا السّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ) [النساء: 5].

ب - وإنّها رتّبت إجرائيّة اختيارهم بعد النضج الذي وضّحته بعلامتين هما: البلوغ الذي كنّى عنه بالنكاح؛ لأنّ الإنسان مع البلوغ يصلح للنكاح، وإيناس الرُشد، الذي جاء مصطلحه مُجملاً في القرآن، ولم تُبيّن السُنّة المراد القطعيّ منه، فصار موضوعاً لاجتهاد المُفسّرين والفقهاء.

ومن اجتهادهم نلحظ أنّ العقل العربيّ قد استعان بالكلّيات في القرآن والسُنّة، وقد أسهم في تحديد سمات الشخصيّة السويّة من خلال جمع محاور نظريّة الرُشد كما فهِمَها المفسّرون والفقهاء، ومقارنتها بما توصّل إليه الفكر البشري دون الاستناد إلى القرآن والسُنّة.

١٠٤

للتحقّق من مقولة تُرى (أنّ العقل البشري، في جهده، قد توصّل إلى الحقائق التي سيجد أساسيّاتها في القرآن الكريـم).

2 - أهمّية البحث

تظهر أهمّية البحث في أنّه محاولة لاستثمار آراء المفسّرين والفقهاء، في بيان أثر اشتراط الرشد في صحّة التصرّفات الماليّة على مستوى التصرّف بالدخل الفردي، الذي ستكون الأحكام فيه مُلزِمة لتصرّف المنشأة أو التصرّف المالي العامّ، سواء في تحديد نمط الإنتاج، أمْ في تحديد مصارف النفقات للوصول إلى إجرائيّة القرآن الكريم في ترشيد استثمار الموارد في حلقتَي الإنتاج والاستهلاك، وهُما حلقتان تقوم عليهما أركان النُظم الاقتصاديّة المعاصرة فـي أُسلوبهـا؛ لحلّ المُشكلة الاقتصاديّة التي تنشأ من نقص الموارد المُتاحة، لا على سبيل التكوين والخَلق والإيجاد، كما يذهب إليه الفكر الاقتصادي الوضعي، إنّما على سبيل تقصير الإنسان في استثمار الموارد وتحويلها إلى سِلع اقتصاديّة، مقابل ازدياد الحاجات، وبخاصّة مع ارتفاع معدّلات زيادة السُكّان في العالم، وهو ما يذهب إليه الفِكر الاقتصادي الإسلامي.

3 - أهداف البحث

يهدف البحث إلى معرفة خصائص الشخصيّة السويّة من خلال عرض آراء المفسّرين والفقهاء في تفسير المُجمل القرآني (الرشد)، كما يهدف إلى فهْم معطيات الحظر الشرعيّ على تصرّف غير الراشد في أمواله الخاصّة، في ما له من مدلولات تقيّد حقّ التصرّف بالملكيّة الخاصّة، وما له من آثار على تحقيق الترشيد بشِقّيه في الإنتاج والاستهلاك.

4 - مَفهوم الشخصيّة في الفكر الوضعي

يرى علماء النفس أنّ مفهوم الشخصيّة لا يزال من أكثر المفاهيم تعقيداً، حتى أنّ (البورت) أحصى في كتابه عن الشخصيّة ما يقرب من خمسين تعريفاً، ينظر معظمها إلى المفهوم بوصفه: (تنظيم دينامي داخلي يحدّد أُسلوب سلوك الفرد) (1) .

____________________

(1) حسن (عبد الحمد سعيد)، خصائص الشخصيّة المرتبطة بموازين النجاح (دكتوراه)، ص: 43.

١٠٥

ويميل إلى تعريف البروفسور ( stagner - 1974 م) الذي يراها: (ذلك التنظيم للأجهزة الإدراكيّة والمعرفيّة والانفعاليّة والدافعيّة داخل الفرد، والتي تحدّد استجاباته الفريدة لهيئته) (2) .

ويُصرّح العلماء بأنّ أعقد جانب في دراسات الشخصيّة ما يشمل آثار الصفات الجسميّة، والعقليّة، والوجدانيّة كافّة، على أنّ هذا الموضوع هو نتاج طبيعيّ لفرعين من فروع علم النفس، هما: التجربيي - والإكلينكي.

لذلك يرى (البورت) (أنّ اكتشاف الشخصيّة يُعدّ أحد الأحداث البارزة في عِلم النفس المعاصر) (3) ، و(أنّ دراستها ووضع النظريّات لتفسيرها يُعدّ إحدى المحاولات المُهمّة بالنسبة لعلم النفس المُعاصر) (4) .

فإذا كان الأمر كذلك، فهل أسهَم العُلماء المسلمون في تحديد أُطُرها؟ بما رتّبوا على اختلال مكوّناتها مِن تروك قانونيّة سُمّيت في مباحث الفقهاء: الحَجْر على غير الراشد، وما المعطيات في تحديد الرشد وآثار انتفائه على أهداف البحث؟.

____________________

(1) حسن (عبد الحمد سعيد)، خصائص الشخصيّة المرتبطة بموازين النجاح (دكتوراه)، ص: 43.

(2) المصدر نفسه: 4/43.

(3) المصدر نفسه: ص50.

(4) المصدر نفسه.

١٠٦

المبحث الأوّل

1 - المُنطلق القرآني للبحث

قال تعالى في مُحكم كتابه الكريم:

( وَلاَ تُؤْتُوا السّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى‏ حَتّى‏ إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) [النساء: 5 و6].

وقال المفسّرون فيها: (أي لا تُعطوا السفهاء - بالمعنى العامّ في كلّ سفيه - من صبيّ أو مجنون أو محجور عليه للتبذير) (5) .

وقيل ما هو قريب منه، فقد روي عن الصادق (عليه السلام): (إنّ السفيه: شارب الخمـر ومَن جـرى مجـراه) (6) ، قال الطبرسي: وهذا القول أَولى؛ لعمومه.

وذهب المفسّرون إلى أنّ الله تعالى أراد بقوله ( أَمْوَالَكُمُ ) : أي أموالهم كما قال: ( لاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) [النسـاء: 29]. أي لا تؤتوا اليتامى أموالهم (7) .

عقّب الطبرسي بقوله: لا يجوز أن تُعطي المال للسفيه يفسده، ولا اليتيم الذي لا يبلُغ، ولا الذي بلَغ ولم يؤنَسْ منه الرشد.

ومعنى قوله تعالى: ( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) : أي قولوا لهم ما ينبّههم على الرشد والصلاح في أمور المعاش والمعاد، حتى إذا بلغوا كانوا على بصيرة من ذلك، وقال: إنّما سُمّي الناقص سفيهاً؛ لأنّ السفَه خِفّة الحِلم، ولذلك سُمّي الفاسق أيضاً سفيهاً؛ لأنّه لا وزن له عند أهل الدِين (8) .

وبلوغ النكاح: أي البلوغ الجسمي (أو ما يصطلح عليه آثار العُمر الزمني).

____________________

(1) حسن (عبد الحمد سعيد)، خصائص الشخصيّة المرتبطة بموازين النجاح (دكتوراه)، ص: 43.

(2) المصدر نفسه: 4/43.

(3) المصدر نفسه: ص50.

(4) المصدر نفسه.

(5) الطبرسي (الفضل بن الحسن)، مجمع البيان في تفسير القرآن، شركة المعارف: 3/9.

(6) المصدر نفسه.

(7) المصدر نفسه.

(8) المصدر نفسه.

١٠٧

و ( آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ) : أي عرفتموه أو وجدتموه فيهم. وفيه إشارة إلى آثار العُمر العقلي. إلاّ أنّ المفسّرين اختلفوا في مُراد الله من مصطلح الرُشد، فقد روي عن عبد الله بن عبّاس (رضي الله عنه) أنّه قال فيه: (هو أن يبلغ ذا وَقار وحِلم وعقل) (1) .

وذهب قتادة والسدي إلى أنّ الرشد: (العقل والدين والصلاح)، وذهب الحسن البصري إلى أنّه: (صلاح في الدين وإصلاح في المال)، وقيل: هو رأي لابن عبّاس، وروي عن مجاهد أنّه (العقل) حسب، ونُسب هذا الرأي للشعبي، ونسب إليه القول: (أن لا يدفع إلى اليتيم ماله، وإن أخذ بلحيته، وإن كان شيخاً، حتى يؤنـس منـه رُشـد العقـل) (2) .

ويترتّب على حسم الخلاف في الرشد، من حيث هو موضوع، حكم مؤدّاه أنّ الإنسان إذا بلغ عاقلاً رشيداً ثبتت له أهليّة الأداء الكاملة، وصحّت منه جميع العقود والتصرّفات بلا حاجة لإجازة أحد (3) ، فما مفهوم الرشد عند الفقهاء بعد أن عرفنا اختلاف المفسّرين فيه؟

2 - مفهوم الرشد في اللغة واصطلاح الفقهاء

الرشد في اللغة: إصابة وجه الأمر والطريق (4) . وهو عند بعض أهل اللغة (بخلاف الغيّ)، ونقيض الضلال (5) ؛ لقوله تعالى: ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ) [البقرة: 256]، فهو - إذن في اللغة يعني الاهتداء إلى أصحّ الأُمور أياً كانت دينيّة أو دنيويّة.

وهو اصطلاحاً

قال في القواعد: (الرشد: كيفيّة نفسانيّة تمنع من إفساد المال وصرفه في غير الوجـوه اللائقـة بأفعـال العـقلاء) (6) .

ونختار:

إنّه القدرة المكتسبة للفرد التي تظهر في إصلاح تصرّفه عامّة من جهة دينه (سواء العلم بمعتقداته وتقييد عمله على وفق أوامر الله ونواهيه، أو

____________________

(1) الطوسي (محمّد بن الحسن)، التبيان: 3/117.

(2) المصدر نفسه.

(3) زيدان (عبد الكريم)، المدخل لدراسة الشريعة: 2/312.

(4) ابن منظور، لسان العرب، مادّة رشد: 1/169.

(5) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، فصل الراء، باب الدال.

(6) العاملي (محمّد جواد)، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاّمة: 5/246.

١٠٨

تصرّفه في ماله، أو كلاهما). وبناء على اختلاف المفسّرين في الرشد تَوَزَّع الفقهاء في فهْمه إلى محاور أربعة هي:

3 - آراء الفقهاء

أ - رأي الجمهور

ذهب جمهور الإماميّة (1) ، والحنفيّة (2) ، والمالكيّة (3) ، والحنابلة (4) إلى أنّ الرُشد هو (إصلاح المال وتدبيره).

ونقل صاحب (مفتاح الكرامة) أنّ هذا الفهْم هو ما عليه عامّة مَن تأخّر من الإماميّة، وحدّده المحقّق الحلّي بأنّ الرشد (أن يكون الفرد مُصلحاً لماله. وهل تعتبر فيه العدالة؟ فيه تردّد) (5) .

وقال الميرغناني - من الحنفيّة -: (ولا يُحجر على الفاسق إذا كان مصلحاً لماله عندنا، الفسق الأصليّ والطارئ سواء) (6) .

وعرّفه الكاساني (بأنّه الاستقامة والاهتداء في حفظ المال وإصلاحه) (7) ، وينقل ابن رشد (أنّ مالكاً يرى أنّ الرشد هو تثمير المال وإصلاحه فقط) (8) .

ب - رأي الظاهريّة

ذهب الظاهريّة إلى أنّ الرشد هو الدِين لا غير، وقد قال ابن حزم: (فنظرنا القرآن الذي هو المبيّن لنا ما لزّمنا الله تعالى إيّاه، فوجدناه كلّه: أن ليس الرشد فيه إلاّ الدِين وخلاف الغيّ فقط، ولا المعرفة بكسب المال أصلاً) (9) .

جـ - رأي الزيديّة

ذهب الزيديّة إلى أنّ الرشد هو العقل، وقال في منتهى المرام: (إنّ الرشد عن قتادة هو العقل، وهذا قول أهل المذهب) (10) ، والعقل - كما هي عبادة الزيديّة - لا يعني العدالة كما سيظهر في المحور الرابع، ولا يعني إصلاح المال، وإن كان يعني العلّة وراءهما معاً.

____________________

(1) المحقّق الحلي، شرائع الإسلام: 2/100، العلاّمة الحلّي، تذكرة الفقهاء (حجرية): 2/75.

(2) الكاساني، بدائع الصنائع: 7/170.              (3) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 2/278.

(4) ابن قدامة، المغني: 4/418، المرداوي، الإنصاف في مسائل الخلاف: 5/332.

(5) المحقّق الحلّي، (م. س): 2/100.                 (6) الميرغيناني، الهداية: 3/285.

(7) الكاساني، (م. س): 7/170.                    (8) ابن رشد، (م. س): 2/ 278.

(9) ابن حزم، المُحلّى: 5/307.

(10) المرتضى (محمّد بن يحيى)، البحر الزاخر الجامع لمذاهب عُلماء الأمصار: 5/92، ومحمّد بن الحسين بن القاسم، منتهي المرام في شرح آيات الأحكام، ص: 137.

١٠٩

د - رأي الشافعيّة والشيخ الطوسي

رأي الشافعيّة والشيخ الطوسي مِن الإماميّة ومَن وافقَهم أنّ الرُشد هو إصلاح المال والدين معاً، قال الشافعي: (الرشد - والله أعلم - الصلاح في الدين حتى تكون الشهادة جائزة، وإصلاح المال) (1) ، وبه صرّح الشيرازي فقال: (أمّا إيناس الرشد، فهو إصلاح الدين والمال، فإصلاح الدين: ألاّ يرتكب من المعاصي ما يسقط بـه العدالـة) (2) .

وإليه مالَ الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي (460هـ) في كتابيه (المبسوط) و(الخلاف)، فقال: (وإيناس الرشد منه أن يكون مصلحاً لماله، عدلاً في دينه، فأمّا إذا كان مصلحاً لمالِه غير عدلٍ في دينه، أو كان عدلاً في دينه غير مصلحٍ لمالِه، فلا يُدفع إليه مالُه) (3) .

ووافَقه من الإماميّة عدد من العلماء، منهم: قطب الدين الراوندي، وأبو المكارم في (الغُنية)، وصاحب (شرح الإرشاد) (4) .

ولدى التدقيق في تفسير الآية، في موسوعة الشيخ الطوسي (التبيان) نجد أنّه عرَض آراء المفسّرين في مفهوم الرشد، ثُمّ قال: (والأقوى أن يُحمَل على أنّ المراد به العقل وإصلاح المال على ما قاله ابن عبّاس والحسن، وهو المرويّ عن أبي جعفر (عليه السلام)) (5) ، ثمّ عقّب فقال: (للإجماع، على أنّ مَن يكون كذلك (العقل، إصلاح المال) لا يجوز الحَجْر على مالِه وإن كان فاجراً في دينه، فإن كان ذلك إجماعاً، فكذلك إذا بلَغ وله مال في يد وصيّ أبيه، أو في يد حاكمٍ قد وليَ مالَه، وجب عليه أن يسلّم إليه مالَه، إذا كان عاقلاً، مُصلحاً لماله، وإن كان فاسقاً في دينه) (6) .

وتفسير هذين الرأيين للشيخ - في ما نرى - أنّ الشيخ كان على الرأي الأوّل في كتابيه (المبسوط) و(الخلاف). ولمّا كان قد ذَكر كتابيه هذين في (التبيان).. فإنّنا نرى أنّه - رحمه الله - قد عدَل عن رأيه في (التبيان)، وهو

____________________

(1) الشافعي (محمّد بن إدريس)، الأمّ: 3/215.

(2) الشيرازي، المهذّب: 1/328.

(3) الشيخ الطوسي، المبسوط: 2/ 284، الخلاف: 1/627. العاملي، مفتاح الكرامة: 5/246.

(4) المصدر نفسه.

(5) الشيخ الطوسي، (م. س): 3/117 - 118.

(6) المصدر نفسه.

١١٠

متأخّر عن (المبسوط) و(الخلاف) (*) ، إن لم يكن الشيخ يريد بالعقل العدالة، كما هو الحال عند فقهاء الظاهريّة، كما سيأتي صريح قولهم في ذلك.

وقد برّر الجزائري في (قلائده) أنّ رأيه في (المبسوط) من روايته لا من فتواه (1) ، واعتذار الجزائري عن الشيخ في رأيَيه وجيه، وإن كان دعوى تحتاج إلى مزيد تمحيص واستدلال.

____________________

(*) والدليل على تأخّر كتابته (للتبيان): ما ورد في (السرائر) لابن إدريس (295هـ)، أنّه قال: (التبيان صنّفه الشيخ بعد كتُبه جميعاً، واستكمال عمله وسبره للأشياء وقوفه عليه وتحقّقه لها).

(1) الشيخ الجزائري (أحمد)، قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر.

١١١

المبحث الثاني

1 - ثمرة آراء الفقهاء في اشتراط الرُشد

أ - ذهب الظاهريّة إلى أنّ (المحجور عليه لا يخلو إمّا أن يبلغ عاقلاً سويّاً أمْ لا، فإن بلغ عاقلاً دُفع إليه مالُه برفع الحَجْر عنه، وإلاّ أُمسك عليه حتى يؤنَس منه العقل) (1) .

وحدّد ابن حزم المراد بالعقل، فقال: (أمّا العقل الذي نراه رشداً، فهو صلاح دينه وليس معرفته بكسب المال). وعليه، فإنّ اختبار رشده يتمّ بتحقّق عدالته بعد البلوغ أو الإشهاد على عدالته.

ب - أمّا الزيديّة، فإنّهم وإن فهموا أنّ الرشد هو العقل، إلاّ أنّهم لم يصرّحوا بأنّ مصداقيّة تحقّق الرشد هي عدالة الشخص (عدم ارتكابه المعاصي).

جـ - أمّا جمهور فقهاء الإماميّة والحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، فإنّهم يختبرون الرشد بإصلاح المال، ويثبت الاختبار لقوله تعالى: ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى ) [النساء: 6]، وحدّدوا أنماط الاختبار (بما يناسبه من التصرّفات، كما لو يعرف منه جودة المعاملة وعدم المغابنة إن كان تاجراً، أو المحافظة على ما يكتسب به، والملازمة إن كان صانعاً وأشبـاه ذلـك) (2) .

وكذلك بالنسبة للمرأة بما يناسب البيئة والمستوى الحضاري، (ويثبت الرشد في الرجال بشهادتهم وفي النساء بشهادتهنّ) (3) .

وكلّ ما تقدّم من آراء لا يرى البلوغ وحده علامة على النضج، ما لم يتحقّق الرشد بالاختبار أو الشهادة، إلاّ ما ذهب إليه أبو حنيفة (رحمه الله)، الذي سنرى رأيه في ما يأتي:

د - أمّا الحنفيّة، فعندهم أنّ المراد بالرشد حقيقته قبل بلوغ سنّ الخامسة والعشرين، وأمّا بعد ذلك، فإنّ المراد بالرشد مظنّته، وكأنّ أبا حنفية يرى أنّ

____________________

(1) ابن حزم الظاهري، (م. س): 5/230، 8/286.

(2) العاملي، (م. س): 5/246.

(3) المصدر نفسه.

١١٢

الرشد، أي النضج في التصرّفات الماليّة حاصل غالباً في هذه السنّ، وأنّ البلوغ هو حكمٌ وضعيّ لرفع الحَجْر، فمَن بلغ هذه السنّ عنده دُفع إليه مالُه؛ لأنّ السنّ وحدها مظنّة أو علامة على تحقّق الرُشد، سواء علِم منه أمْ لم يعلمْ، طالما أنّ الأحكام تُبنى على الغالب لا النادر.

واستدلّ له بأنّ مفردة الرُشد في الآية جاءت نكرة، فالمراد منها - إذن - شيء من الرشد، وهو حاصل في الأغلب (1) .

كما استدلّ له بحديث حبان بن منقذ، إذ ذُكر فيه لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه يخدع في البيوع، فجعل له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الخيار ثلاثاً، ولم يحجر عليه (2) .

وربّما قالوا: الصِغَر هو المؤثّر في منع التصرّف بالمال بدليل تأثيره في إسقاط التكاليف، وإنّما اعتبر الصِغر لأنّه الذي يوجد فيه السفَه غالباً؛ لذلك جعل البلوغ علامة وجوب التكليف وعلامة الرشد (3) . وعليه بُنيَ رأيٌ للحنفيّة: (ألاّ يحجر على الحرّ البالغ العاقل السفيه، وإن كان مبذّراً يُتلف مالَه في ما لا غرض فيه ولا مصلحة؛ لأنّه مخاطب، فلا يُحجَر عليه اعتباراً بالرشيد، ولأنّ في الحَجْر عليه سلبٌ لآدميّته، وهو أشدّ ضرراً من التبذير، فلا يُتحمّل الضرر إلاّ لرفع الأدنى، وقيل إنّه إذا كان في الحَجْر تأديب - أي رجاء تقويم السلوك - فلا فائدة منه بعد هذه السنّ؛ لأنّه لا يتأدّب بعد هذا ظاهراً) (4) .

أمّا صاحباه: أبو يوسف ومحمّد بن الحسن، فقد خالفاه في هذه واستدلاّ بأنّ البالغ السفيه أَولى بالحَجْر من الصبيّ؛ لأنّ الثابت في حقّ الصبيّ احتمال التبذير، وفي حقّ البالغ السفيه حقيقة التبذير.

وقد نوقشت آراء أبي حنيفة وموافِقيه إبراهيم النخعي وابن سيرين (5) مناقشات عدّة، انتهت كما لخّصها الدكتور زيدان بقوله: (إنّ ظاهر الآية لا يساعده؛ لأنّ دفع المال فيها معلّق على إيناس الرشد، لا بلوغ سِنٍّ معيّنة) (6) .

هـ - أمّا الشافعي، والطوسي في رأيه في (المبسوط) و(الخلاف) ومَن وافقهما مِن الإماميّة، فإنّهم ضبطوا الرشد بجواز الشهادة، أي العدالة، واشتراط إصلاح المال، على أنّ الشيخ الطوسي يرى العدالة حُسن الظاهر أو

____________________

(1) الميرغناني، (م. س): 3/285.                     (2) ابن رشد، (م. س): 2/278.

(3) الجصّاص، أحكام القرآن: 2/63، اُنظر: ابن رشد، بداية المجتهد: 2/278.

(4) الميرغناني، (م. س): 3/280 - 282.           (5) الجصّاص، (م. س): 2/63.

(6) زيدان (عبد الكريم)، (م. س): 2/321.

١١٣

مجرّد الإسلام مع عدم ظهور الفِسق، وهما موجودان في الناس إلاّ النادر، وعليه، فالأصل عند الشيخ في المجهول الحال العدالة، والأصل في أقواله وأفعاله الصحّة (1) .

2 - أدلّة آراء الفقهاء

أوّلاً: يستدلّ مَن يرى أنّ الرشد هو العقل بما يأتي:

1 - إنّ الآية مرتّبة على قوله تعالى: ( وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ ) [النساء: 5]، وقد فُسّرت مفردة السفهاء بـ:

أ - النساء والصبيان بجامع عدم النُضج العقلي، وهو رأي لابن عبّاس، وسعيد، والحسن، والضحّاك، وقتادة. ورواه أبو الجارود عن الباقر (عليه السلام).

ب - وقيل: إنّه عامّ في كلّ سفيه من صبيّ أو مجنون (2) . وعليه، فإنّ اشتراط البلوغ - في ما يخصّ علّة صِغَر السنّ إلى جنْب الرشد: أي النضج العقليّ في ما يخصّ المجنون أو السفيه.

2 - ما ذهب إليه مجاهد والشعبي من أنّه العقل.

ثانياً: واستدلّ مَن يرى أنّ الرشد هو الدين حسْب:

1 - مِن الكتاب بقوله تعالى: ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا ) [النساء: 6]، والفاسق موصوف بالغيّ لا بالرشد، لقوله تعالى: ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) [هود: 97]، مع أنّه كان يُراعي مصالح الدنيا على الوجه المعتبر.

2 - وما روي عن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه، عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال: (شارب الخمر سفيه)، وليس من قائل إنّ بين شرب الخمر وغيره من المعاصي فارقاً، ممّا يترتّب عليه أنّ مرتكب المعصية سفيه مطلقاً.

3 - قوله تعالى: ( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ) [البقرة: 256]؛ حيث قابل القرآن الكريم مصطلح الضلالة بالرشد، فمَن كان فاسقاً في دينه كان موصوفاً بالغيّ، ومن وُصف به لا يوصف بالرشد؛ لأنّهما صفتان متنافيتان لا يجوز اجتماعهما، وهو مؤدّى دليل ابن حزم المتقدّم نقلاً عن المحلّي.

____________________

(1) العاملي، (م. س): 5/246.

(2) الطبرسي، (م. س): 3/ 13 و14.

١١٤

4 - استدلّ القائلون بأنّ الرشد هو الدِين: يُمنع غير المتفقّه في الدِين من الاتّجار بأسواق المسلمين؛ فهو إذن: حَجْر جزئيّ على بالغٍ عاقلٍ يجيد المماكسة. كذلك استدلّوا بكراهة دفع المسلم أمواله للكافر مضاربة أو توكيلاً؛ لكونه لا يصدق عليه لفظ المسلم بجامع ارتكابه المعصية.

ثالثاً: واستدلّ مَن يرى أنّ الرشد إصلاح المال وتثميره فقط بـ:

1 - إنّ المفهوم من الرشد عُرفاً إصلاح المال؛ وحيث أنّ حقيقة المراد القطعيّ من النصّ ليس فيه حقيقة شرعيّة، فإنّ العُرف محكّم في مثل هذه الحالات.

2 - إنّ الفسق أمرٌ شرعيٌّ مغاير للرشد من حيث هو، فكيف يعتبر ما لا مدخليّة له في فهْمه؟ (1) ، أي في مفهومه.

3 - إنّ الكافر لا يُحجَر عليه لكفره، فالفاسق أَولى (2) .

4 - مع القول باشتراط العدالة في إطلاق التصرّف، فإنّ ذلك يُعدّ موجباً لترك المعاملة والمناكحة وتعطيل المعيشة، وهو مخالف لعمل الآية (3) ، بل الكتاب والسنّة، بل في الأخبار ما يدلّ على جواز معاملة الفسّاق، وقد ساق في (المسالك) قوله: إنّه لو اعتُبرت العدالة في الرشد لم يقُمْ للمسلمين سوق، ولم ينتظم للعالَم حال (4) .

5 - وإذا كان قتادة اشترط العقل والدين، فهو غير دالّ على العدالة أيضاً، إذ يكفي في صلاح الدين حُسن الاعتقـاد (5) .

6 - يستدلّ أصحاب هذا المحور بأنّ المناط في الحَجْر مَن يسيء استخدام أمور المعاش، لا أمور المعاد؛ لقوله تعالى: ( وَلاَ تُؤْتُوا السّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ) [النساء: 5].

7 - ذهب ابن العربي إلى (أنّ غرض حفْظ الدين وحفظ المال مختلف؛ فغرض حفظ الدين الخوف من الله، وغرض حفظ المال تدبير المعاش، فلا يكون الحكم على عِلَلٍ مختلفة) (6) .

____________________

(1) العاملي، (م. س): 5/246.

(2) المصدر نفسه.

(3) المصدر نفسه.

(4) المصدر نفسه.

(5) السيوري (المقداد)، كنز العرفان في فقه القرآن: 2 / 182.

(6) ابن العربي المالكي، أحكام القرآن: 2/322.

١١٥

8 - إنّ اعتبار الرشد إصلاح المال هو قول أغلب المفسّرين، ومِن ثَمّ هو قول جمهور فقهاء المسلمين، فلا عبرة بالشاذّ مقابل رأي الجمهور.

9 - استدلّ القرطبي بأنّ ورود لفظ الرشد في الآية نكرة في سياق الإثبات يدلّ على أنّ سبيلها الإطلاق، والمطلق يتحقّق بأيّ فردٍ من أفراده، فإذا صوّت العُرف على أنّ المراد إصلاح المال وليس العدالة، توضّح المراد (1) .

رابعاً: أدلّة مَن يرى الرشد (إصلاح المال، وصلاح الدين): بأدلّة المحور الذي يرى الرشد هو الدين استدلّ مَن يراه إصلاح الدين والمال معاً، في ما سبق من قولنا إنّه مذهب الشافعي والطوسي في (التهذيب) و(الخلاف)، ومَن وافقَهم.

واستدلّوا - إضافة إلى ذلك - بالاحتياط، قال العاملي: (وليست هذه الأدلّة بتلك المكانة من الضعف كما قد يُظنّ؛ ولذا تردّد المحقّق في كتابيه: (الشرائع) و(المختصر) فيهما (2) .

____________________

(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 5/37.

(2) العاملي، (م. س): 5/246.

١١٦

المبحث الثالث

1 - الموازنة بين الأدلّة

قال العلماء: إنّما حُذف العقل في مفهوم الرشد؛ لأنّ المفروض حصوله، بل والبلوغ والغرَض حصول ما يعتبر بعد ذلك، فلا يمكن القول إنّ الرشد هو العقل، طالما أنّه أحد مُستلزماته. وإلاّ لو بلغَ عاقلاً، ولكنّه مبذّر متلف لماله، فهل يُعَدّ راشداً؟ إلاّ إذا أُريد بالعقل الدين، وهذا ممّا يمكن أن يتواضع عليه بعض الناس، فكان إلى جانب كونه تواضعاً محلاًّ للنظر، فوق ما عليه من تحفّظات عديدة؛ لأنّ موضوع الآية ومجالها.. قضيّة التصرّف الاقتصاديّ الفرديّ ونمطـه.

وبصدد اعتباره الدين مِن حيث أنّ القرآن وصفهما بالتنافي، فإن وُجد أحدهما فإنّه يعني غياب الثاني ضرورة، قال في الكنز: (إنّهما وإن تضادّا مفهوماً لم يتضادّا تعلّقاً؛ لأنّهما يُطلقان في أمور المعاش - بمعنى من المعاني - وفي أمور المعاد بمعنى آخر، والمراد بالآية أمور المعاش) (1) .

وأورد: إنّ سبب تصوّر قول الشيخ بالعدالة وإصلاح المال ظهر مِن خلال عرضه للحديث النبويّ: (شارب الخمر سفيه)، والحال أنّ ذلك من مرويّاته، لا من فتواه، وهذه اللفتة دقيقة في مضمونها؛ حيث اكتشف الباحث بالمقارنة بين رأي الشيخ في (المبسوط) و(الخلاف)، وبين رأيه في (التبيان) أنّ الشيخ لا يشترط العدالة، الأمر الذي يجعلنا نقف مع العلاّمة الجزائري في تصريحه: إنّ تلك ليست من فتاوى الشيخ إنّما من مرويّاته (2) ؛ خاصّة وهو صاحب (التهذيب) و(الاستبصار).

على أنّ هناك مَن يهمس في سنَد الرواية (3) ، ويرى مع إغماض العين عن سندها، أنّ مرادها أعمّ من كونه مساقاً على الحقيقة التي عليها مدار الألفاظ، فيُحتمَل إرادة المجاز.

____________________

(1) السيوري (المقداد)، (م. س): 2/182.

(2) الجزائري (أحمد)، (م. س).

(3) بحر العلوم، الحَجْر وأحكامه، ص: 131، نقلاً عن رياض المسائل، كتاب الحَجْر (غير مُرقّم).

١١٧

ويذهب صاحب (الرياض) إلى أنّها تعيّن في المجاز لعدم التبادر، وصحّة السلب عادةً، وقيل: إنّه لو عَرَض للإنسان بعد بلوغه ورشده فِسق.. هلاّ حجَرتُم عليه؟ والجواب: ليس هناك مِن قائل بذلك، وإن نَقل في (اللمعة) قول الشيخ احتياطاً.

أمّا منع غير المتفقّه من الاتّجار بالسوق - وهو أجنبيّ عن الموضوع؛ لأنّ جهله بفساد البيوع من صحيحها (فساداً وصحّة شرعيّة) يمنعه - فيتمّ دفعاً لوقوعه في الحرام إلاّ بعد أن يتفقّه.. وهي وظيفة للمحتسب لا علاقة لها بالرشد من جهة كونه حكماً وضعيّاً، وما قيل في هذا يقال في كراهة الفقهاء للمسلم أن يدفع أمواله للكافر مضاربةً أو توكيلاً.

2 - رأي الباحث

يرى الباحث أنّ الاستعمال القرآني لمصطلح الرشد جاء على ضربَين: أحدهما تغلُب عليه الصفة العقائديّة؛ فكان بمعنى سلامة العقيدة، كقوله تعالى: ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) [هود: 97]، و ( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ) [البقرة: 256]، والثاني تغلُب عليه الصفة العمليّة التكليفيّة؛ حيث ورد غايةً (لرفْع حُكم الحَجْر) على غير الراشد، كما هو الحال في الآية محلّ البحث، ذلك أنّ تعلّقها بالأموال يعني أنّ الرشد المراد هو: كيفيّة التصرّف بالأموال.

ولكن هذا لا يمنع من تأثير التصوّر العقائدي على السلوك اليومي التفصيلي؛ مِن حيث تأثير عدم سلامة المعتقد، أو ضعف الإيمان، وبالتالي ضعف الالتزام بأوامر الشرع ونواهيه على نمط التصرّف المالي.

وهذا التداخل أجبر الفقهاء على الاعتراف بأثر العدالة على نمط السلوك، فقد أشار العاملي إلى أنّ مَن أصرّ على اعتبار الرشد هو التصرّف بالمال فحسب، بمعزل عن العدالة، لم يغفل التذكير مشترطاً ألاّ يكون نوع فِسقه ممّا يستلزم التبذير، فقد عدّ مصنّفات العلماء الذين قالوا بذلك ممّا يربو على العشرين، فقد ذيّلوا فتاواهم بقولهم: (إن لم يستلزم الفسق تبذيراً) (1) ، وقال: (إنّ التحجير على هذا الفاسق محلّ وفاق)، إنّما محلّ النزاع الفِسق الذي لا يستلزم التبذير.

____________________

(1) العاملي، (م. س): 5/246.

١١٨

لذلك يرى الباحث صعوبة الفصل بين مدى الالتزام بأوامر الله ونواهيه، وبين غياب الرشد... فالتصرّف بالمال إمّا واجب، كالإنفاق في الحجّ والجهاد والزكاة والخُمس والكفّارات والنذور وغيرها من العبادات الماليّة، فهي وإن كَثُرت لا سفَه فيها ولا تبذير، وإمّا مندوب، وإمّا مباح.

أمّا المندوب ، فللعلماء فيه رأيان:

الأوّل: ما عبّروا عنه بقولهم: (وصرْف الأموال في وجوه الخيرات ليس بتبذير) (1) ، وظاهر العبارة أنّه لا فرْق بين الإفراط في ذلك وعدمه، واستدلّوا بأنّ الإمام عليّ (عليه السلام) تصدّق بالأقراص، كما هو مشهور، فنزلت فيه سورة (هل أتى)، وما روي عن الإمام الحسن (عليه السلام) أنّه قاسَم ربّه مالَه حتى النعل.

أمّا الثاني: فاشترطوا للجواز أن تكون في أمواله سعة للإنفاق، بمعنى كون المُنفَق مِن المال فاضلاً عمّا يحتاج إليه، وربّما قيّدوه بعبارة (أن يليق بحاله) ورجّحه العاملي، فقد قال: (ولا تُصغِ إلى ما ذُكر في معناه غير هذا) (2) .

1 - لقوله تعالى: ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى‏ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ ) [الإسراء: 29]، وهو مطلق يتناول محلّ النزاع.

2 - وقوله تعالى: ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) [البقرة: 219]، وفسرّه الصادق (عليه السلام) أنّه: (الوسط من غير إسراف ولا إقتار)، وعن أبيه الباقر (عليه السلام): (ما فَضُل عن قُوت السنة)، وعن ابن عبّاس: ما فَضُل عن الأهل والعيال.

3 - قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّما الصدقة عن ظَهر غِنى).

4 - وقوله تعالى: ( وَالّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) [الفرقان: 67].

أمّا الإنفاق المباح:

فقد قال الفقهاء: (إنّ صرْف المال في الأغذية النفيسة التي لا تليق بحال المنفِق تبذير)، وعقّب العاملي، فقال: (وهذا ممّا لا خلاف فيه عندنا،

____________________

(1) المصدر نفسه: 5/253.

(2) المصدر نفسه.

١١٩

لصدق الإسراف والتبذير المنهيّ عنهما)، خلافاً للشافعيّة الذين يرون أنّ الغاية مِن تملّك المال الانتفاع به والتلذّذ بمبادلاته.

وحصر بعض العلماء التبذير في ما يصدق عليه تضييع المال، كالغبْن الفاحش، وأشباهه.

أمّا الإنفاق في المحرّمات، فهو تبذير وإسراف وسفَه قطعاً (*) ، وهذه هي حلَقة الربط بين اشتراط العدالة والسفَه (فقدان الرشد)؛ حيث إنّ الإنفاق في المحرّمات والإنفاق في المباحات بإسرافٍ وتبذير هو فقدان الرشد؛ لقوله تعالى: ( وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) [الأنعام: 141]، وقد ورد في بعض الأخبار أنّ السرَف يبغضه الله، حتى طَرْحك النواة وهي لا تصلح لشيء، وحتى فضْل شرابِك.

وفي رواية إسحاق أنّه ليس في ما أصلح البدن إسراف، إنّما الإسراف في ما أفسد المال وأضرّ البدن...

وقد ذهب الفقه الحنفي إلى أنّ السفه يتحقّق مع وجود الإسراف، بصرْف النظر عن النواحي التي ينفق المال فيها، فهو في ذاته حرام؛ عملاً بعموم الآيات الناهية عنه، وتأسيساً عليه، فتصوّرهم للحَجْر أنّه: حماية للمال والنظر إلى مصلحة المحجور عليه وأُسرته، بينما هو في فقه الشافعيّة عقوبة على إضاعة المال في أوجهٍ غير مشروعة.

____________________

(*) قال العلاّمة في (التذكرة): (إنّ إجماع الأُمّة قائم على أنّ صرْف المال في المحرّمات سفَهٌ وتبذير).

١٢٠