دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي0%

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي مؤلف:
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 224

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف: الغدير للدراسات والنشر
تصنيف:

الصفحات: 224
المشاهدات: 76368
تحميل: 7960

توضيحات:

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76368 / تحميل: 7960
الحجم الحجم الحجم
دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف:
العربية

فإنّ الرضا بذلك أَولى، وهو يتحقّق بالصُلح)، ويرى كذلك: (إنّ هذا الصلح ليس فعلاً محرّماً؛ لأنّ المدّعي يأخذ حقّه من المنكِر لعِلمه بثبوت حقّه عنده، ولمّا كان المنكر يدفع المال لإنهاء الخصوم واليمين، وللتخلّص من شرّ المدّعي، فإنّ هذا لا يمنع منه نصٌّ ولا إجماع) (1) .

رأي الباحث:

يرى الباحث في هذا الخلاف رجحان ما ذهب إليه بعض علماء الإماميّة من التفصيل، فقد فرّقوا بين الصحّة الواقعيّة والصحّة الظاهريّة، واعتبروا الصُلح مع الإنكار صحيحاً ظاهراً، واحتجّوا بالمقاصد التي احتجّ بها الجمهور، ذاهبين إلى أنّه لمّا كان الصلح وسيلةً لإنهاء الخصومة، فإنّه لو لم يصحّ مع الإنكار لامتنعت أكثر فوائده، لكنّه هنا صُلحٌ ظاهريّ مع صدق إنكار المدّعى عليه بما يفيد براءة الذمّة.

وقد وردت صحيحة عمَر بن يزيد، عن جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أنّه قال: (إذا كان للرجُل حقّ، فمَطله حتى مات صاحبه، ثُمّ صالح ورثته على شيء، فالذي أخذه الورثة لهم، وما بقي فهو للميت يستوفيه في الآخرة) (2) .

ويترتّب على هذا التفريق أنّه: إن كان المدّعي باطلاً في نزاعه لم يستبِحْ ما صُولحَ به؛ لأنّه من صور الإكراه على الصُلح، أو استثمار طريق شرعيّ لغاية محرّمة (3) ، وإن كان محقّاً فله أخذ العوَض أو طلب اليمين، أو للمدّعى عليه دفع المال بدل اليمين، وهنا يحيل فقْه الإماميّة - كما يبدو للباحث - أمر النظر في صُلحٍ قضائي - مثلاً - مع إنكار المدّعى عليه فحْص (دعوى المدّعي)، إلى القاضي أو الحاكم الشرعيّ.

يقول العاملي: (إلاّ إذا كانت الدعوى مستندة إلى شبهةٍ أو قرينةٍ يخرج بها عن الكذب المحْض) (4) .

وعند ذلك تتحقّق الصحّة في الأمر نفسه؛ لأنّ اليمين المترتّب على ادّعائه حقٌّ يصحّ الصلح على إسقاطه. لكن ابن قدامة يرى أنّ الظاهر للقاضي هو مبنى الصحّة؛ لأنّه لا يعلم باطن الحال إنّما يبني الأمر على الظواهر، لا سيّما أنّ الظاهر من المسلم صحّة المدّعى (5) .

____________________

(1) المصدر نفسه: 8/162.

(2) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، كتاب الصلح.

(3) محمّد جواد العاملي، مفتاح الكرامة، ص458.

(4) المصدر نفسه.

(5) ابن قدامة، المغني: 4/478.

٢٠١

الثمرة المستفادة من تفصيل رأي الإماميّة:

إنّ الحكم بالصحّة ظاهراً يصحّ إذا كان الواقع مشتبهاً، ولم يُعلَم المبطِل منهما بعينه، وإن كان هذا الصلح لا يُبيح للمبطل منهما شيئاً في نفس الأمر - الصحّة الواقعيّة - بحيث لو انكشف الحال بعد الصلح بغير ما تصالحا عليه عُمل بالمنكشف، وحُكم ببطلان الصلح الظاهريّ، بل إذا انكشفت بيّنة تُعدّل من حصص المتصالحَين، أو تلغي الصلح برمّته حكم بها على الأظهر، ولو بعد إتمام الصلح الظاهريّ الذي كانت وسائل الإثبات فيه قد توصّلت إلى حقوق (1) . ويستفاد من ذلك كلّه أنّ عدم القطع بالواقع جملة لا ينافي إجراء الحكم في الظاهر عند عدم التوصّل إليه.

ومن ثمراته: إنّ الحكم بصحّة الصلح صحّةً ظاهريّة حكمٌ مؤقّت يحسم في وقتٍ ما النزاع من جهة، ويضمن حقوق المنكِر في الدنيا من جهةٍ أخرى لحين توفّر البيّنة له، ويُعَدّ (باطلاً) ديانةً إذا كان المدّعي مبطلاً في دعواه.

ومن ثمراته أيضاً: إنّ الصلح لا يُعَدّ إقراراً مطلقاً بما تصالحا عنه أو عليه، بل أمراً قابلاً للفسخ إذا انكشف أمر يعدل ترتّب الحقوق، فلو ظهر أنّ أحد الطرفين لا يستحقّ العوض المصالَح به؛ لعدم ملكيّته بما صالح عنه بَطُل الصُلح، وعند ذاك يكون الصلح مع الإنكار حالةَ صلحٍ مؤقّتة.

يقول الشهيد في اللمعة: (إنّ مَن يطلب الصلح لا يعَدّ منه إقراراً بالحقّ على مَن يرى صحّة الصلح مع الإنكار)، أمّا مَن يرى تفرّده في ما أقرّ به المدّعى عليه، فيَعدّ طلبه إقراراً منه، فيكون مجرّد الطلب ملزماً له (2) .

ويرى في الوسيلة أنّه لمّا صرنا إلى أنّ الصلح يصحّ مع الإنكار، لمْ يكن القبول به إقراراً بالحقّ، بخلاف ما لو قال: بِعْني، أو: ملِّكني، فهو إقرار بعدم كونه مِلكاً له (3) .

المطلب الرابع: اشتراط عِلم المتصالحَين بما تنازعا عليه

اتّفق الفقهاء على صحّة الصُلح مع علم المتصالحَين بما تنازعا عليه، ولكنّهم اختلفوا مع الجهالة، فيـرى الإماميّـة (4) والحنابلة (5) والحنفيّة (6)

____________________

(1) النجفي، جواهر الكلام: 26/212.

(2) الشهيد الأوّل، اللمعة: 4/176.

(3) أبو الحسن الموسوي، الوسيلة: 1/563.

(4) المصدر نفسه.

(5) ابن قدامة، المغني: 4/488.

(6) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/40.

٢٠٢

جواز الصلح مع الجهالة، ويرى الشافعيّة (1) والظاهريّة (2) وبعض المالكيّة (3) بطلانه.

واستدلّ المُجيزون له بعدّة أدلّة، منها:

1 - إطلاق الأدلّة وعدم وجود مقيّد يقيّد صحّة الصلح بما عُلم التنازع فيه.

2 - ما ورد في الصحيح عن الباقر والصادق (عليهما السلام)، أنّهما قالا في رجُلين كان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه لا يدريان كم هو، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه: لك ما عندك ولي ما عندي. فقال الإمام (عليه السلام): (لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت به نفساهما) (4) .

لكن تُناقش دلالة الرواية بأنّها ناظرة إلى الإبراء لا الصُلح، إلاّ أنّ الباحث يرى تضمّن الصُلح للإبراء يجعلها ناظرة إليه بمعناه الأعمّ، أي أنّها ناظرة للصلح الذي يحقّق إبراءً.

ولظهور المعاوضة فيها فلا تُحمَل إلاّ على الصلح، ومع الحاجة إلى تحصيل البراءة مع الجهل فلا يتمّ إلاّ بالصلح.

3 - قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (استَهِما وتوخّيا، وليحلل أحدكما صاحبه) (5) .

4 - ومن المعقول أنّه إذا صحّ عن معلوم، فمِن بابٍ أَولى يصحّ عن مجهول؛ لئلاّ يفضي إلى ضياع المال؛ لأنّ المعلوم يمكن التوصّل إلى استيفائه قضاءً أو تحكيماً، بينما المجهول ليس له من طُرق الاستيفاء إلاّ الصُلح.

5 - وحتى مع افتراض أنّه فرع على البيع، فإنّه في حالاتٍ استثنائيّة يصحّ في المجهول مثل بيع أساسـات الجـدران (6) .

أمّا المانعون، فإنّهم يرونه باطلاً إذا وقع عن مالٍ مجهول؛ لقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) [النساء: 29]، وهنا لا يتحقّق الرضا المشترط في الآية.

ومن حيث إنّه فرعٌ عن البيع، فإنّه باطل لمجهوليّة العوضين المتصالح عنهما.

____________________

(1) الشربيني، مغني المحتاج: 2/177.

(2) ابن حزم، المحلّى: 8/165.

(3) شرح الدردير على حاشية الدسوقي: 3/309.

(4) العاملي، وسائل الشيعة، كتاب الصلح.

(5) ابن قيّم الجوزيّة، أعلام الموقعين: 1/108 - 109.

(6) ابن قدامة، المغني: 4/492.

٢٠٣

ويقسّم العاملي هذه الفرضيّة إلى أربعة صور، هي:

أ - أن يعلما ما وقعت فيه المنازعة، فالحكم في هذه الصورة واضح من غير ريبٍ، لارتفاع الجهالة.

ب - أن يجهلاه ويتعذّر عليهما معرفته مطلقاً، فالصحّة أيضاً؛ لتطابق النصوص والإجماعات على الصحّة مع موافقة العقل، إذ إنّ مَن عليه حقّ يجهل قدره، ويريد إبراء ذمّته، يلزم أن يكون له طريق وليس له إلاّ الصُلح، وإلاّ لَزِم الحرَج، وإذا صحّ الصُلح مع العلم بالمصالَح عنه، فمِن باب أَولى يصحّ مع الجهل به؛ لأنّه في الحالة الأُولى هناك طريق للإبراء، أمّا في الثانية فلا طريق لذلك، ولو لم يجزْ الصلح هنا لأدّى ذلك إلى ضياع المال، وهو خلاف مقصود الشارع.

جـ - أن يجهلاه ويمكن معرفته بالحال، فالمشهور عدم الصحّة؛ لمكان الغَرر والجهل مع إمكان التحرّز منهما، وهنا يلحظ رجحان أدلّة النهي عن الغَرر على عمومات الصُلح؛ لاعتضاد الأُولى بأدلّة العقل، وبإمكان التحرّز، فهي هنا - أي أدلّة عموم الصلح - مخصّصه بما لا غَرر فيه ولا جهالة يمكن التحرّز منها، أو أنّ العامَّين من النصوص تعارضا فتساقطا، ولزم من تساقطهما العودة إلى الأصل، وهو عدم صحّة المعاملات أصلاً ما لم يرِد في جوازها مُسوّغ شرعيّ.

وعبارة العاملي المصدّرة بـ (المشهور) تعني وجود رأي مرجوح عند الإماميّة يقضي بجواز الصلح في هذه الصورة، مستعينين بظهور أدلّة الصُلح؛ ولأنّه أوسع من البيع لِما هو مشرّع فيه من المسامحة والمساهلة، ولأنّه لمّا جاز الصلح بلا عوض جاز مع الجهالة من بابٍ أَولى.

د - أمّا الصورة الرابعة، فهي ما لا يمكن معرفة المُصالَح عنه في الحال؛ لعدم وجود آلة القياس كالوزن والمكيال، أو لكون العوضين غائبَين مع تعذّر إحضارهما.

٢٠٤

والصورة هذه صحيحة؛ لتناول الأدلّة لها، ولأنّ الحالة تقتضي اتّخاذ الصُلح طريقاً لحسْم النزاع، ولأنّه قد يحصل بتأخير الحسم ضرر (1) .

وإلى مثل هذا ذهب الحنابلة، فقد قال ابن قدامة: (إنّ الجهالة لا تمنع الصحّة؛ لكونها لا تمنع التسليم)، وفي موضعٍ آخر يفصّل فيقول: يصحّ الصلح على مجهولٍ إذا لم يكن إلى العلم به سبيل (2) ، مستدلّين بقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للمتنازعين على ما لم يستطيعا معرفته: (استهما وتوخّيا، وليحلل أحدكما صاحبه).

ومَن يرى شريطة المعلوميّة بما تصالحا عنه إنّما رتّب كون الصلح فرعاً على البيع، والحال أنّه ليس كذلك، بل هو هنا (معاوضة)؛ الغرض منها ليس انتقال الثمن والمُثمن فقط، إنّما الغرض الأساس هو تحقّق الإبراء وحسم النزاع، وممّا يدلّ على أنّه لا يشترط أن يكون المصالَح عنه معلوماً، أنّ الصُلح كما يتضمّن معنى المعاوضة يتضمّن معنى الإسقاط، وهذا إسقاط حقٍّ، فصحّ في المجهول.

وذهب المالكيّة إلى اشتراط معرفة المدّعي قدر ما يصالح عنه من الدَين، فإن كان مجهولاً لم يجزْ؛ للغَرر.

ولا يصحّ - كذلك - عند الإمام الشافعي؛ لأنّه يراه فرعاً من البيع.

فمثلما لا يصحّ بيع المجهول لا يصحّ الصُلح على المجهول (3) .

وبهذا القدر نستطيع القول: إنّ الفروض الأربعة الأساسيّة قد شكّلت إطاراً نظريّاً لمبحث الصُلح، اخترنا منها:

إنّ سعة نطاق الأحكام لا تحصر الصُلح في ما كان قد سبَقه نزاع، وإنّه عقدٌ برأسه أفاد في أغلب معالجته تصحيح (حقوق ترتّبت في وضعٍ غير رضائيّ)، سواء كان الوضع ذاك مادّياً أو قانونيّاً، ولا مانع من وروده مطلقاً إلاّ إذا استهدف - ابتداءً - تسويغ المحرّم. وإنّه يصحّ مع إقرار المدّعي ظاهريّاً وواقعيّاً، ويصحّ مع الإنكار والسكوت صحّةً ظاهريّة، بحيث لو انكشف بطلان الدعوى على المنكِر، بَطُل الصُلح برمّته

____________________

(1) العاملي، مفتاح الكرامة، كتاب الصلح، ص458.

(2) ابن قدامة، المغني: 4/492.

(3) الشهيد الأوّل، اللمعة: 4/177.

٢٠٥

إلى جانب أنّه معلّق ديانةً على صدق المدّعي في ما يدّعيه، أو في ما تصالحا عنه بعوضٍ. وأنّه لتعدّد مشاغل الحياة واتّساع مراميها وكثرة الحوادث، لا سيّما في الظروف المعاصرة، فإنّ من المصلحة تجويز الصُلح على (ما جُهِل جنسه ومقداره)، ولا يمكن التوصّل إلى معرفته لسببٍ وجيهٍ؛ لئلاّ يضيّع عدمُ التسويغ المالَ وحقوقَ الناس فيه، ويصاب الناس بالحرَج، ويتأثّر التماسك والودّ الاجتماعي.

٢٠٦

المبحث الثالث: أركان الصُلح

المطلب الأوّل: أركان الصُلح في الفقه الإسلاميّ

يحدّد الفقهاء المسلمون أركان الصلح بـ (الصيغة والعاقدَين والمحلّ).

الفرع الأوّل: صيغة عقْد الصُلح

يرى الفقهاء أنّه لمّا كان الصلح عقداً، فيلزم ألاّ ينعقد إلاّ بصيَغ العقود، أي توافق الإيجاب والقبول الصادرَين من كامل الأهليّة (البلوغ، العقل، والاختيار)، وتؤدّى صيغة التعاقد من كلٍّ منهما بلفظ (صالحتُ)، ولفظ (قبلتُ الصُلـح).

لكن صاحب (الوسيلة) ذهب إلى أنّه لا يعتبر فيه صيغة خاصّة كالبيع والإجارة وعقد النكاح، بل يقع عنده بكلّ لفظ أفاد التسالم على أمرٍ من نقلِ حقٍّ، أو إقرار بين المتصالحَين (1) .

بينما يرى فقيه إماميّ معاصر أنّه لمّا كان عقداً فلا بدّ فيه من الإيجاب والقبول، حتى في موارد المصالحة على إبراء ذمّة المَدين من الدَين، أو إسقاط الحقّ؛ إذ إنّ هذه من الإيقاعات التي يصحّ فيها الإنشاء دون القبول، لكنّها حينما يؤتى بها على وجه الصلح تحتاج إلى إيجاب وقبول؛ لأنّ الصلح عقد، وإن كان متعلّقه قد أشبه الإبراء والإسقاط في آثارهمـا (2) .

الفرع الثاني: العاقدان

عبّر الفقهاء في صدور الصيغة من الكامل - ومقصودهم كامل الأهليّة - بتوافر شروط: العقل والبلوغ والاختيار.

1 - فشرط العقل - كما يقول الكاساني - شرط عامّ في جميع التصرّفات، فلا يصحّ اتّفاقاً صُلح المجنون الذي لا يعقل (3) .

____________________

(1) الموسوي، الوسيلة: 1/561 و562.

(2) محمّد أمين زين الدين، كلمة التقوى (رسالة عمليّة)، كتاب الصلح: 4/5.

(3) الكاساني، بدائع الصنائع: 6/40.

٢٠٧

2 - وفي شرط البلوغ: يفرّق الفقهاء بين الصبيّ المُميّز وغير المُميّز، فهم يردّون صُلح الأخير مطلقاً.

أمّا الصبيّ المُميّز، فيرون لصحّة صُلحه عدّة شروط منها:

أن يكون له فيه نفعٌ مطلَق، ويبطل إن كان فيه ضرر ظاهر (1) .

فإذا وجب له دَين على آخر، فلا يخلو إمّا أن تكون له بيّنة أو لا تكون، فإن كانت له بيّنة لا يجوز الصلح؛ لأنّ فيه حطّاً من أمواله، والحطّ تبرّع، والتبرّع ضرر ظاهر لا يصحّ منه؛ لكونه لا يملك التبرّعات، فيُرَدّ صُلحه.

إلى هذا ذهب أكثر الفقهاء، بل يكاد يتشكّل إجماعاً منهم عليه، لكن بعضهم أجاز له فقط تأخير سداد الدَين؛ لأنّ ذلك من التجارة، ومع ذلك اشترطوا لتأخير السداد عدم كونه - أي التأخير - مضرّاً به.

أمّا إذا لم تكن له بيّنة على حقّه، فقد أجازوا له الصُلح؛ لأنّه مع عدمها ليس له إلاّ التخاصم وتحليف المُدّعى عليه، وتحصيل المال أنفع له منهما.

وإلى مثل هذه الأحكام اتّجه الفقهاء في صلح العبد، وجعلوا المأذون له بمثابة الصبيّ المميّز، وألحقوا بهما (الصبيّ والعبد) المحجور عليه، مقرّرين عدم نفاذ إقراره، إلاّ أبو حنفية الذي أنفذ إقراره إذا كان المال بيده؛ إذ ألْحقَ تعلّق الحقّ بالمال العيني الذي له شروط تمتاز عن الحقّ المتعلّق بالذمّة (2) .

هذا من جهة المُصالِح، أمّا من جهة المُصالَح، فإن كان لخصم الصبي بيّنة جازت مصالحته بقدر الدَين أو بزيادة يسيرة؛ لأنّه لو لم يُصالحه توصّل خصمُه إلى حقّه بالقضاء.

التوكيل في الصلح: يرى أغلب الفقهاء أنّ أحد طرفَي عقد الصلح يجوز أن يوكِل إنشاء العقد إلى غيره، إلاّ أنّهم قسّموا الوكلاء في عقد الصلح إلى قسمين:

1 - الوكيل الضامن لآثار عقد الصُلح وأحكامه.

2 - الوكيل غير الضامن.

____________________

(1) الزحيلي، الفقه الإسلامي: 2/195.

(2) للتفاصيل ظ: أحمد فهمي أبو سنه، النظريّات العامّة للمعاملات، ص73.

٢٠٨

فالأوّل: مَن أتمّ عقد الصلح مع ضمانه له، ومن صوره أنّه يضيف الضمان إلى نفسه، أو أن يشير إلى المال المصالَح به، وهو مِلكه، فإذا صرّح بالضمان، أو تضمّنت صيغة الصلح معنى الضمان فهو له ضامن.

ومثاله: أن يصالحه على مقدارٍ من المال ويضمن ذلك المقدار، فيقول: وهي عليّ، أو أن يصالحه على مقدارٍ من المال، فيقول: صالحتك على ألفَي هذه؛ (فيلزمه الضمان). ومِن أحكام هذا النوع أنّه يلزمه أن يسلِّم المصالح به إلى المصالِح، ويلزم عدم المطالبة بالردّ في ما إذا رفَض الأصيلُ بنود الصُلح، بل لا يتوقّف الأمر على إجازة الموكّل.

ومدرك صحّة هذا النوع عمومات النصّ؛ ولأنّه تصرّف بنفسه، وتبرّع بإسقاط الدَين عن الغير بالقضاء عنه في مالـه.

أمّا في الحالة الثانية، فمثالها قوله: (صالحتك على ألف دينار)، فعقْد الوكيل لهذا النوع من الصُلح موقوف على إجازة الأصيل؛ لعدم ظهور القرينة على التبرّع كالضمان القوليّ، أو الإشارة إلى المال المُصالح به (تعيين البدل، تمكينه منه)، فلمّا عُدمت القرينة صارت وكالته منحصرة في إجازة الموكّل؛ لأنّه تصرّف في مال غيره، فيقف تصرّفه على إجازة الغير (1) .

الفرع الثالث: محلّ العقد

يقسم الفقهاء محلّ العقد إلى قسمين:

المصالَح عنه: وهو الحقّ المتنازع عليه بين المتعاقدَين.

المصالَح به: وهو البديل لذلك الحقّ ممّا يُحسَم به النزاع.

1 - المصالح عنه: اشترط الفقهاء لهذا النوع من محل العقد شروطاً:

أ - أن يكون حقّاً للآدمي، فلا يصحّ أن يتمّ الصلح على حقّ الله تعالى؛ إذ لا يصحّ فيه إسقاط أو إبدال.

يقول ابن القيّم: الحقوق نوعان، حقّ الله وحقّ الآدمي، فحقّ الله لا مدخل للصلح فيه كالحدود والزكاة والكفّارات، أمّا حقوق الآدميين، فهي التي

____________________

(1) للتفاصيل ظ: السمرقندي، خزانة الفقه: 1/251.

٢٠٩

تقبل الصُلح والإسقاط والمعاوضة (1) .

ويرى الحنفيّة أنّ حدّ القذف لا يجري فيه الصلح؛ لأنّهم يرون أنّ المُغلَّب فيه حقّ الله تعالى، وأمثلة ذلك كثيرة، منها: الصلح مقابل عدم الإشهاد، أو إسقاط الشهادة والرجوع عنها، ومثل هذا كلّ ما وقع في حيّز ما يطلق عليه بالنظام العام.

قال السمرقندي: لا يصحّ صلح امرأة ادّعت أنّ زوجها طلّقها ثلاثاً، فأنكر الزوج، فصالحها بشرط أن تُكـذّب نفسهـا؛ لأنّ المباينة وقعت، والنصّ يشترط لمثل هذه الحالة شرط (المُحلِّل).

ويضرب الفقهاء مثلاً لذلك أيضاً: إذا عُثر على شخص متلبّسٍ بجريمة ذات حدّ، وأراد أن يرفعه إلى الحاكم، فصالحه المتلبّس على مالٍ ليتركه، فالصلح باطل؛ لأنّه من الصلح الذي يحرّم الحلال.

أمّا إذا كان المصالَح عنه حقّاً للآدمي، فيصحّ فيه الصلح. ومن أمثلته:

صلح وليّ الدم عن الجاني - قاتل العمد - بتنازل الوليّ من القصاص إلى الديّة؛ لقوله تعالى: ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ فَاتّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) [البقرة: 178]، قال ابن عباس: نزلت في الصلح عن دم العَمْد.

ب - أن يكون المال المصالَح عنه حقّاً للمصالِح، بل اشترطوا أن يكون حقّاً ثابتاً في محلّ الصُلح، ومن صوره:

1 - لو ادّعت المطلّقة عليه صبياً في يده أنّه ابنه فجحد الرجل،ُ فصالحت عن النسَب، فالصلح باطل؛ لأنّ النسب حقٌّ للصبيّ وليس حقّها، فلا تملك المعاوضة عليه؛ لأنّه حقّ غيرها.

2 - ولو صالح الشفيعُ مشتري الدار عن حقّه في الشفعة على مال، فالصلح باطل؛ لأنّ حقّ الشفعة أن يمتلك الدار لا أن يبيع حقّه في الشفعة.

3 - لو صالح شخص أحداً على أن يزيل من داره مظلّة مطلّة على الشارع العامّ، فالصلح باطل؛ لأنّ الطريق حقّ عامّ للناس جميعاً، لهم فيه حقّ الانتفاع، فلا يملكه أحد، وقيل في التعليل: إنّه إن سقط حقُّ واحدٍ بالصلح، فللباقين حقّ ثابت فيه.

____________________

(1) ابن قيّم، أعلام الموقعين: 1/108.

٢١٠

بخلاف الطريق الخاصّ؛ إذ الصلح فيه جائز في القلْع والإبقاء، بشرط رضا جميع المنتفعين بالطريق غير النافذ.

ففي كلّ الأمثلة المتقدّمة نلاحظ أنّ النَسب حقّ للصبيّ وليس للمرأة، فلا يحقّ لها أن تصالح عنه، وأنّ الشُفعة لا تتحوّل إلى مالٍ، إنّما حقٌّ قاصر على التملّك، وأنّ حقّ الناس جميعاً يتعلّق بالمظلّة المُطلّة على شارعٍ عامّ.

أمّا أمثلة الحقّ الثابت، فهي:

1 - إنّ الفقهاء يجيزُون الصلح عن النكول عن يمين مترتّبة على مدّعى عليه منكِر.

2 - لو ادّعى رجل على امرأة زواجاً فأنكرت، فصالحته على المال لكي يترك الدعوى، جاز الصلح؛ لأنّه في معنى الخُلع، ويصحّ العكس، ويُعَدّ المال المُصالَح به كأنّه زيادة في المَهر؛ لأنّ إقرارها يكفي في اعتبار صحّة العقد.

3 - أمّا إذا ادّعت المرأة على رجُلٍ نكاحاً، فجحد الرجُل، فصالحها على مالٍ لتتنازل عن دعواها، لا يصحّ الصُلـح؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون النكاح ثابتاً أو لا، فإن كان ثابتاً، فلا تصحّ الفُرقة بهذا الصلح، ولا يعدّ مخالعة؛ لأنّ المال يعطيه الزوج.

4 - الصلح على مالٍ لإسقاط القصاص بين وليّ الدم والجاني - قاتل العمْد - متفرّع على الخلاف في: ما الواجب في القتْل العمْد؟ معلوم أنّ أبا حنيفة ومالكاً قالوا: الواجب مُعيّن وهو القصاص، والرواية الأُخرى التخيير بين القصاص والديّة. وللشافعي قولان: الواجب أحدهما لا بعَينه، والثاني وهو القصاص عيناً، لكن لوليّ الدم العدول إلى الديّة وإن لم يرضَ الجاني (1) . وعند الإماميّة: الثابت فيه القصاص دون الديّة، فليس لوليّ الدم المطالبة بها إلاّ إذا رضي الجاني (2) .

الثمرة في الخلاف: على القول بأن ليس له إلاّ القصاص، فالنزول إلى الدية لا يتمّ إلاّ بالتراضي بين وليّ الدم والجاني، ويجوز الصلح على ما هو

____________________

(1) الدمشقي، رحمة الأُمة، ص 265.

(2) أبو القاسم الخوئي، مباني تكملة المنهاج: 1/166.

٢١١

أكثر منها وما هو أقلّ. بينما على القول بأنّه يخيّر بين القصاص والديّة - الشافعي وأحمد - أنّه يجوز النزول إلى الديّة المقدَّرة بلا حاجةٍ إلى رضا الجاني، زيادةً على أنّ الصلح على الديّة عند القائلين بأن ليس له إلاّ القصاص يجوز فيه الزيادة على الديّة والنقصان.

أمّا شبه العمْد والخطأ، فلا يصحّ الصلح على أكثر من الديّة؛ لأنّها مقرّرة شرعاً، ولأنّ الزيادة على المقدّر رِبا. بينما في القصاص إنّما يصحّ التنازل عنه إلى مالٍ بالصلح؛ لأنّ القصاص ليس بمالٍ حتى تكون الزيادة على مقدار، وتحتسب من مصاديق الرِبا.

وفي الحقّ الثابت أيضاً مثّل الفقهاء: أنّه لو ادّعى شخصٌ على آخر دَيناً، فأنكر المدّعى عليه، فصالحه على مالٍ على أن يقرّ له، فالصلح باطل؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون كاذباً في دعواه فيترتّب التزام لا سَبب له، أو صادقاً فالدَين واجب السَداد. فالمال المصالَح به في معنى الرشوة.

2 - المصالَح به: من شروط المال المصالَح عليه أو به:

أ - أن يكون المصالَح عليه مالاً متقوّماً، فلا يصحّ عن خمرٍ، أو ميتة، أو صيد الحرَم أو الإحرام؛ لأنّ في الصلح معنى المعاوضة، والأقرب أنّ هذه السلع قد سحَب الشارع قيمتها التبادليّة، فلا يصحّ أن تكون أساساً يُصالَح عليه.

ب - أن يكون معلوماً، وبذلك قال الحنابلة، فإن وقع الصلح بمجهول لم يصحّ. أمّا الحنفيّة، فقد فصّلوا في المسألة بين ما إذا كان المصالَح به مَن يحتاج إلى القبض والتسليم فيشترط كونه معلوماً، وبين ما إذا كان المصالَح به لا يفتقر إلى القبض والتسليم فلا يشترط معلوميّته.

في القانون المدني: نجد أيضاً أنّ فقهاء القانون يُبطلون الصلح في ما خالَف القانون أو النظام العامّ، ومثّلوا له بما يأتي:

1 - ببطلان الصلح إذا استأجر عقاراً بأكثر من الحدّ الأقصى الذي قرّره القانون.

2 - وأبطلوا الصُلح عن إصابات العمل، أو إنهاء عقد العمل الفردي.

٢١٢

3 - وأبطلوا الصلح عن الفوائد الرَبويّة إذا زادت عن النسبة المقرّرة في المصارف الربويّة.

4 - وأبطلوا الصلح عن دَينٍ لأداء عمل غير مشروع.

5 - ومن المسائل المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة، فقد أبطلوا الصلح على نفي البُنوّة وإثباتها، والصلح على إثبات الزواج أو الطلاق، (خلافاً لِما مرّ مِن موقف الفقهاء)، وأبطلوا الصلح عن الإقرار بالجنسيّة أو نفْيِها، أو الصلح عن تعديل أحكام الوصاية والولاية والقوامة، أو الصلح للتنازل عن حقّ الحضانة (1) .

المطلب الثاني: آثار عقد الصُلح

الفرع الأوّل: حُكم الصُلح بعد انعقاده

يقرّر الفقهاء أنّ الصلح عقدٌ لازم حتّى حينما تكون فائدته فائدة الهبة، فلا يجوز فسخه إلاّ إذا تراضى المتصالحان بالفسخ، أو اشتُرط ضمن عقد الصلح أنّ له خيار الفسْخ مدّة معيّنة وقَبِل صاحبه بهذا الشرط.

والصُلح بعد انعقاده له آثار - أحكام - أبرزها:

1 - تنتهي به الخصومة والمنازعة بين المتداعيَين شرعاً وقضاءً، فلا تُسمَع دعواهما بعدئذٍ، وهذا الحكم يلازم جنس الصُلح.

2 - لا يجري في الصلح الردّ بالغلَط؛ لأنّ المراد بعقد الصلح إنهاء النزاع، فلا يفتح بالردّ بالغلَط..

الفرع الثاني: مُبطلات عقْد الصُلح

يبطل الصلح بعد انعقاده بأُمور، أهمّها:

1 - الإقالة - في غير الصلح عن قصاص - وقد عُلّل بأنّه يُفسَخ بالإقالة؛ لِما فيه من معنى المعاوضة فأشْبَه البيع، فصار محتملاً للفسخ بالإقالة.

____________________

(1) ظ: المادة 551 من القانون المدني.

٢١٣

2 - يجوز الردّ بخيار العيب والرؤية. لكنّه عند الإماميّة لا يجري فيه خيار الحيوان إذا كان أحد العوَضين، ولا خيار المجلس؛ لأنّها تختصّ بالبيع، وعندهم أنّ الصلح عقدٌ مستقلٌ.

3 - موت أحد المتعاقدَين قَبل إتمام تبادل العوضين، يُبطل الصلح.

4 - الاستحقاق: إذا ظهر استحقاق أحد الطرفين المتصالحَين تبيّن أنّه لا خصومة، واستوفى صاحب الحقّ حقّه، فإن كان بيد المستحقّ ما يستحقّه بقي في يده، وإن كان زائداً أو ناقصاً أعاد الزائد، ورجع على خصمه بالنقصان. وإذا بان أحد العوضين ممّا كان متّسماً بالجهالة وبان معلوماً، بَطُل الصلح على المجهول.

5 - إذا هلكت العين المُصالَح بها قبل استيفاء المنفعة منها فُسِخ الصُلح، وعاد كلٌّ بما صالَح عنه.

الفرع الثالث: موقف المتصالحَين بعد بُطلان الصُلح

إذا بَطل الصلح عاد كلٌّ من المتصالحَين إلى دعواه، فإن كان عن إنكار، احتاجا إلى صلحٍ جديد صحيح. وإن كان عن إقرار، عاد المدّعي على المدّعى عليه بالمدَّعى المقرُّ به لا غيره.

أمّا إذا بطل الصلح عن القصاص، يرجع وليّ الدم على الجاني بالديّة دون القصاص.

أمّا لو انعقد على منفعة استوفى منها أحد المتصالحَين، ثمّ بَطل الصلح، عاد المدّعي على المدّعى عليه بقدَر ما لم يستوفِ.

٢١٤

النتائج

1 - لوحظ أنّ التشريع الإسلامي يشترك مع القوانين الوضعيّة في منهجه، في تحديد الحقوق والالتزامات ابتداءً، وفضّ المنازعات، ولكنّه يتفوّق عليها بميزة (الصفة الدينيّة له وتعدّد الجزاءات) فيه، فلا بدّ أن يوجد باباً عمليّاً، فشرّع باب الصلح طريقاً ثالثاً لفضِّ النزاعات التي يعجز القضاء عن فضّها، وهو الطريق العمليّ لتخليص الذمّة ممّا عَلُق بها من ترتّب حقوق، إذا توقّف القضاء فيها فهي ثابتة في الذمّة.

2 - لوحظ أنّ الصلح طريق من طُرق إنهاء النزاعات خارج القضاء، وهو ما يمكن اعتباره ممّا يخفّف من مهمّاته وتبِعاته، بما يجعل من المجتمع الإسلاميّ - مجتمعاً يستطيع حلّ مشكلاته - بطرُقٍ متعدّدة (خارج ساحات القضاء).

3 - ظهر أنّ التعاريف التي عُرّف بها الصلح انتابَتْها عيوب عدم المانعيّة. وقد حاول الباحث إيجاد بديل يعتقد أنّه خالٍ من تلك العيوب.

4 - ظهر أنّ للصلح قواعد تدخل ضمن نطاق القانون الدستوري والدوَلي والأحوال الشخصيّة والقانون المدني، ما يدلّ على أنّ التشريع الإسلامي مترابط الأجزاء في أقسام القانون كلّه، تحكمه القواعد نفسها.

5 - ظهر أنّ (رُكن السبب) الذي تمسّكت به النظريّة التقليديّة في القانون الوضعيّ، قد تجاوزته الشريعة منذ خمسة عشر قرناً، مُستبدلة إيّاه بالقصود والنوايا. وفي القرن التاسع عشر طالبت النظريّة الحديثة بإلغائه وعدم اعتباره ضمن أركان العقد، وفي الصلح بَدا واضحاً أنّ المشرّع الإسلامي لم يجعل السبب في تشريعه من مقوّمات ماهيّته وأركان العقد فيه؛ ممّا وسّع فوائده فقْهاً وقضاءً.

6 - وظهر من خلال البحث أنّ المشابهة في الجزئيّة أو الأغلبيّة بين مضمون عقد الصُلح وعقود أُخرى، دعَت الأكثر إلى عدّه تفريعاً عليها، مما جرّ إلى

٢١٥

نتائج خاصّة بهذا الاعتبار، بينما انفرد أغلب الإماميّة إلى أنّه عقدٌ قائمٌ بذاته..، ولكلٍّ منطلقه واستدلالاته ومساراته ونتائجه المبيّنة في ثنايا البحث.

7 - وإذا كان مقصد الشارع في تشريع عقد الصلح أنّه الباب العمليّ للصفة الدينيّة للفقه الإسلامي، فإنّ هناك مَن اعتبره صحيحاً ولو صحّة ظاهريةً مع إنكار المدّعى عليه (محجوزاً مطلقاً، أو مفصّلاً). وهذا الفريق من الفقهاء قد أحسن صُنعاً؛ وذلك لتوافق المضامين التشريعيّة مع ضرورة توسيع الباب القانوني لإنهاء المنازعات، سواءٌ في بدْء كونها أو في ذروتها قبل التقاضي أو في أثنائه، وسواء في حالة نسيان المدّعى عليه، أو جهله، أو إنكاره العَمْد.

على أنّ الفقه الإسلامي هو قانون المؤمنين الذين يحرّمون على أنفسهم أكْل المال بالباطل؛ لذلك فإنكار المدّعى عليه لا يُحمَل على أنّه متيقّن تحقّق المدّعى بالذمّة، ورغم ذلك يُنكِره، إنّما الإنكار لعوارض أُخرى؛ لذا أجازه جمْع من الفقهاء مع الإنكار، وهو محلّ ترجيح الباحث.

8 - وعلى ذلك تفرّع كون جهل أحد المتصالحَين أو كليهما بما تنازعا عليه لا يُبطل عقْد الصلح؛ لأنّ صحّته مع الترجيح السابق تجعل صحّته مع هذا الافتراض من بابٍ أَولى، فالإنكار جملةً وتفصيلاً أشدّ من الإقرار بمالٍ متنازعٍ عليـه، مع جهل مقداره؛ لذلك - لا سيّما إذا ارتبط تحقّق التراضي في الصلح بالتراضي الحقيقي، وإقامة الصلح على أساسه - يُلغى عَيب (جهالة المتنازَع عليه) إذا اعتبرناه عيباً من عيوب العقد.

9 - ولوحظ في أركان عقد الصلح (الصيغة، العاقدان، والمحل) أنّ في اختلاف الفقهاء في الصيغة في ما أفاد التسالُم مطلقاً مَيلاً إلى التوسعة على الناس، لكنّهم عند العاقدَين تشدّدوا فيه في ما يخصّ ناقص الأهليّة، وهو فِقهٌ راعى الشروط المؤثّرة في تحديد القصد دون الشكل.

10 - ظهر أنّ الصلح في مجاله المدني يقع في حقوق الناس الخاصّة، ولا يتناول الحقّ العامّ - حقّ الله -.

ويبطل إذا كان أحد العوضين ممّا لا يتقوّم. وكذا لا يصحّ على ما لا يثبت حقّاً لأحد المتصالحَين.

٢١٦

11 - يتوقّف الفقهاء في التنازع الحاصل بين متعاقدَين أو طرفَي اتّفاق، مثل الاختلاف في عقد الوديعة، أو العاريـة، أو المضاربة، أو الإجارة، أو هلاك المبيع، ويختلفون في قول أيّهما المقدّم مع تعارض البيّنات. وربّما أشار بعضهم في حالةٍ كهذه بالرجوع إلى القُرعة، لكن الباحث توصّل إلى أنّ المصالحة في مثل هذه الحالات أطيب للنفس وآكد للحقوق من القُرعة؛ لأنّها لا تفيد الرضا والاطمئنان ولا تحقّق المودّة؛ لذلك يرى الباحث أنّه أين وُجدت القرعة فإنّ الصلح مقدّم عليها - فقهاً وقضاءً - ولا سيّما إذا خيف الإشكال.

12 - وتبيّن أنّ حُكم الصُلح يُنهي الخصومة، وله مبطلات، فإذا بَطُل الصلح عاد كلّ من المتعاقدَين إلى ما كان عليه قبْل الصُلح.

٢١٧

المصادر

  أ - القرآن الكريم.

ب - كُتب تفسير القرآن الكريم:

1 - الطبرسي (الفضل بن الحسن)، مجمع البيان في تفسير القرآن، شركة المعارف الإسلاميّة. ب. ت.

2 - الشيخ الطوسي (محمّد بن الحسن)، تفسير التبيان، تحقيق أحمد القصير، مطبعة النعمان - النجف، 1965م.

3 - الأنصاري القرطبي (محمد بن أحمد)، الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث العربي - بيروت، 1965م.

4 - الرازي الجصاص (أبو بكر بن أحمد علي)، أحكام القرآن، دار الكتب العربي - بيروت، 1965م.

5 - الشيخ الفاضل الكاظمي (جواد)، مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام، المكتبة الرضوية - طهران.

٢١٨

6 - المقداد السيوري (الفاضل أبو عبد الله)، كنز العرفان في فقه القرآن، مكتبة الأضواء - النجف.

جـ - مصادر الحديث

7 - صحيح البخاري، دار الطباعة العامرة، ط1.

8 - الزيلعي (محمّد بن عبد الله بن يوسف)، نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، دار المأمون - مصر، ط1، 1983م.

9 - الحرّ العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة، مؤسّسة الأعلمي - بيروت.

10 - الصدوق القمّي (عليّ بن الحسين)، من لا يحضره الفقيه، تصحيح محمود بن جعفر الموسـوي، 1376 هـ، ب. م.

11 - السيوطي (عبد بن أبي بكر)، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير بهامشه كنز الحقائق، ط4، الحلبي - مصر.

12 - الشوكاني (محمّد بن علي)، نيل الأوطار في شرح منتقى الأخبار، الحلبي، ط2، 1952م.

13 - الإمام ابن حنبل (أحمد)، مسند أحمد، مطبعة أنصار السنّة - مصر، 1952م.

14 - ابن الأشعث (سليمان)، صحيح سنن المصطفى، المطبعة التجاريّة - مصر، ب. ت.

15 - ابن ماجة، سنن ابن ماجة، دار الفكر - بيروت.

16 - الشيخ الطوسي (محمّد بن الحسن)، تهذيب الأحكام، تحقيق السيّد حسن الخرسان، مطبعة النعمان.

د - مصادر الفقه:

فقه الإماميّة:

17 - الطوسي، المبسوط، طبعة حجريّة.

18 - الطوسي، الخلاف، طبعة المعارف الإسلاميّة، ب. ت.

19 - الطوسي، النهاية في الفقه والفتاوى، مطبعة الزهراء - بيروت.

٢١٩

20 - الحلّي (محمّد بن إدريس)، السرائر، ط. حجريّة.

21 - العلاّمة الحلّي، مختلف الشيعة، ط. حجريّة.

22 - العاملي، مفتاح الكرامة، مطبعة الفجالة - مصر 1932م.

23 - الشهيد الأوّل، اللمعة الدمشقيّة، منشورات جامعة النجف الدينيّة، ط2، مطبعة الآداب - النجف، 1965م.

24 - المحقّق الحلّي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، تحقيق عبد الحسين البقال، ط1، 1969م، مطبعة الآداب - النجف.

25 - النجفي (محمّد حسن باقر)، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، تحقيق القوجاني، دار الكتب الإسلاميّـة.

26 - الشيخ الأنصاري، المكاسب، تحقيق محمد كلانتر، مطبعة الآداب - النجف، 1369هـ.

27 - الموسوي (أبو الحسن)، وسيلة النجاة، ب. م، ب. ت.

فقه الحنفيّة:

28 - ابن عابدين، (أبو الحسن)، ردّ المحتار على الدرّ المختار, دار الطباعة المصريّة.

29 - السرخسي، المبسوط، طبعة محمّد أفندي المغربي - مصر، 1324هـ.

30 - المير غيناني (علي بن أبي بكر)، الهداية شرح بداية المبتدئ، مطبعة الحلبي - مصر.

31 - الكاساني (علاء الدين أبو بكر بن سعود)، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، دار الكُتب العلميّة - بيـروت، ط 2، 1986 م.

32 - السمرقندي (محمّد بن أحمد بن إبراهيم)، خزانة الفقه وعيون المسائل، شركة الطبع والنشر الأهليّة - بغـداد، 1965م.

فقه المالكيّة:

33 - محمّد بن سعد، دليل السالك لمذهب الإمام مالك، دار الندوة - جدّة، 1939م.

34 - شرح الدردير على حاشية الدسوقي، ط. المكتبة التجارية - مصر 1945م.

٢٢٠