دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي0%

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي مؤلف:
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 224

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف: الغدير للدراسات والنشر
تصنيف:

الصفحات: 224
المشاهدات: 76353
تحميل: 7959

توضيحات:

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76353 / تحميل: 7959
الحجم الحجم الحجم
دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف:
العربية

إنّها لا حصر لها؛ إذ إنّها مُتجدّدة (مُرتبطة بمحدّدات فنيّة فقط)، منها المستوى الاقتصادي السائد، فكلّما ازداد المستوى الاقتصادي تعدّدت الحاجات وانشطرت بالشكل الذي يجعل حجمها متوازياً مع ما يخلقه التطوّر الاقتصاديّ لمجتمع مِن المجتمعات، وهذا بالضرورة مُقترن بارتفاع حَجم الدَخَل الفردي مع تزايد المستوى الاقتصادي، فحيث يزداد مستوى الدخل تزداد الحاجات الملحّة والتي تنفق هذه الزيادة الداخليّة لسداد الحاجات المتطوّرة منها.

وطبيعيّ أن يعتمد هذا على نمط التوزيع، فمتى كان التوزيع مُتكافئاً وعادلاً كانت الوسائل النقديّة التبادليّة لتلبية الحاجات أيسر مِن نمط التوزيع غير المُتكافئ، بحيث تبرز في نمط كهذا ثنائيّة الإحساس بالحاجة، وثنائية في أسلوب إشباعها، بين أصحاب المداخيل المالية وأصحاب المداخيل الواطئة، بل إنّ الإحساس بوجود الحاجة قد يظهر في الشرائح الدنيا، ولكن يبقى سُلّم الإشباع فيها يتطلّب المزيد مِن المساواة؛ لكي تضيق الهوّة في السلوك الاقتصاديّ بين مجموعة من الناس عند سدّ متطلّبات الحاجة.

ولا يمكن التغافل عن مسألة قد تقترن بهذين المحدّدين، وهي ارتفاع معدّل زيادة السكّان، بحيث يرتفع المستوى الكمّي للحاجة الضاغطة على مقدار العَرض الكُلّي المُتاح من جانب، وعلى نمط التوزيع من جانب آخر.

وقد دخلت ضمن التطوّر الاقتصاديّ عناصر ربّما تبدو في حقيقتها غير اقتصاديّة، إلاّ أنّ أثرها في اتّساع كمّ الحاجة ونوعها يبدو واضحاً جليّاً، وأهمّهما تطوّر وسائل نقل المعلومات (تطوّر وسائل الإعلام)، واتّساع تطوّر طُرق المواصلات.

وقد يظهر، في حيّز الحاجات المعتمدة قانوناً، ما لا يقبل منها التأجيل (الضروريّات)، فيجب أن تُقابلها إجراءات ووسائل معتمدة على مستوى العَرض وعناصر الإنتاج (ومرونتها)؛ للوفاء العاجل بما يسدّها، أو في اختيار البدائل التي تساعد حلّ هذه المتطلّبات بوساطة تقسيم العمل الاجتماعيّ، وما ينسحب من هذه المقولة من حُسن توزيع عناصر الإنتاج.

٤١

وعلى هذا، يرى بعض الاقتصاديّين (أنّ المشكلة ليست ندرة الموارد، ولا ندرة الوسائل فحسب، بل حُسن الاختيـار، وحُسن التدبير، وحُسن توجيه عناصر الإنتاج)، وطبيعيّ أنّ الاختيار بين البدائل يتوقّف على ظروف عالميّة دائمة التغيّر.

ومِن الأسباب التي تزيد في حدّة المشكلة الاقتصاديّة في الفكر الاقتصاديّ المُعاصر اختلاف أولويّة الحاجات من جهة الاعتبار والأهمّية باختلاف الأفراد، بحيث لو أمكن ترتيب الحاجات بشكل يرضى عنه جميع الأفراد لهانت المشكلة، ولأمكن إيجاد حلّ لها. وبهذا المنظور للحاجة صار السعي الدائم لحلّ المشكلة هو موضوع الدراسة الاقتصاديّة التي اختلفت الأنظمة المعاصرة في تقرير وسائل علاجها، فكان العلاج الفرديّ، والعلاج الجماعيّ، والعلاج الإسلاميّ (مذهب الاستخلاف).

وحيث أنّ الأمر يكاد يكون بحكم المحسوم في قضيّة الندرة، في ما بين التفكير الاقتصاديّ الإسلاميّ والتفكير الوضعـيّ، وإن علَق به بعض ما يتطلّب الإيضاح لا غير، فقد ظلّت مسألة الحاجة، من حيث مفهومها ودورها في النشاط الاقتصاديّ للإنسان، المجال الذي يلزم الباحثين التوسّع والتعمّق فيه، وترتيب مقدّماته؛ ليتّضح بجلاء التصوّر الإسلاميّ للمشكلة الاقتصاديّة، ومن ثَمّ إيضاح دور الحاجة في الإنتاج والتّبادل والتوزيع والاستهلاك، وهذا يتطلّب منظوراً مُقارناً مع المذاهب الاقتصاديّة المعاصرة، انطلاقاً من طبيعة العلاقة بين الموارد والحاجات، وموقف كلّ مذهب مِن مسألتي الندرة، ومفهوم الحاجة ودورها.

2 - التصوّر والمُعالجة في النُّظم الاقتصاديّة الفرديّة

يبدو أنّ الباحثين متّفقون على أنّ الفِكر الليبرالي لا يزال يستمدّ موضوع الندرة النسبيّة بوصفه الرُكن الأوّل في المشكلة الاقتصاديّة، فأثر المالثوسية برز واضحاً في التحليل الكلاسيكي حتى عدّه بعضهم محوراً هامّاً فيه (1) ، فهي وإن خفّت حدّتها في الفكر الكلاسيكي الجديد، إلاّ أنّها ظهرت

____________________

(1) زكي (رمزي)، المشكلة السكّانيّة وخرافة المالثوسية - سلسلة عالم المعرفة - ص: 135، الكويت، 1984م.

٤٢

في الدراسات المعاصرة للتنمية، حيث تطرح الزيادة السكّانية إزاء الثبات النسبي للعَرض الكلّي المُتاح، بوصفها سبباً للتخلّف الاقتصاديّ.

وقد تُصاغ المُشكلة صياغة مُشوّشة تتمثّل في أنّ الطبيعة لا توفّر إشباعاً كافياً للحاجات، فهي متفاوتة في حجم الموارد الطبيعيّة بين مكان وآخر، هذا من جهة الأساس، وإذا توفّرت بأيّ حجم، فإنّ الجهد المطلوب لإنتاجها يتطلّب زمناً مقروناً بوحدات مِن العمل، فإذا وضع إزاءه قلّة عدد العمّال أو الماهرين منهم، وعدم ميل الإنسان إلى بذل الجهد، وثبات مرونة الأرض بوصفها مصدر الغذاء الرئيسي، والحُكم بأنّ بعض الموارد الطبيعيّة لا تتجدّد، صارت مقولة الندرة أهمّ ما يبنى عليه التحليل الاقتصاديّ الفرديّ في تصويره للمشكلة الاقتصاديّة.

فإذا قابله أنّ المحدّدات الفنّية للحاجة ليست مؤثّرة في قوّة إلزامها، صار التمدّد الهائل والثنائيّة مصدرين من مصادر الضغط على المتاح غير الكافي من العرض؛ ولأجل ذلك صارت المعالجة في المنظور الرأسماليّ للمشكلة تقوم على الحرّية الفرديّة وضمنها حقّ الملكيّة - حقّ امتلاك الأفراد للسلع سواءً كانت إنتاجيّة أم استهلاكيّة - بحيث صارت المشكلة تواجه كلّ فرد، وعليه وحده يقع عبء إيجاد حلّ لها يُلائم مصلحته، أي أنّ ضغط الحاجة على الفرد يدفعه إلى زيادة إيراده باختيار العمل المناسب له، وتوجيه ممكناته إلى تحقيق أكبر ربح مُمكن، وكذلك له طريقة إنفاق الدخل الذي حصل عليه بما يشبع حاجاته على الوجه الأكمل.

وقد أفرز هذا الأساس النظري عدّة نتائج في الترتيب المنطقيّ للفكر الاقتصاديّ الرأسماليّ؛ أهمّها حرّية انتقال عناصر الإنتاج (البشريّة، الماديّة) إلى حيث ترتفع العوائد، وصار الثمن (آليّة السوق) هو المُرشد الأساسي في تحديد هيكل الإنتاج واتّجاهاته.

اختلفت الآراء في تقييم هذه المعالجة وأساسها النظري، فقد ذهب بعضهم إلى أنّ المصلحة الخاصّة ستؤدّي حتماً إلى توازن المصلحتين، بمعنى أنّ المنظّم حين يسعى لإيجاد حلّ لمشكلته يعمل على إيجاد حلّ مُرضٍ

٤٣

للمشكلة برمّتها، فإذا اختفت سلعة ما، سارع المنظّمون - تحت دافع الثمن المتوقّع - إلى إنتاجها، فيكثر العرض بما يُقلّل من حدّة الطلب، ومن ثمّ إلى إعادة الثمن إلى توازناته الحقيقيّة من جهة الكُلفة.

وذهب آخرون إلى أنّ هذا التقييم يكون صحيحاً إذا توفّرت شرائطه، وأهمّها المنافسة الكاملة، وهذا الشرط منذ بدء التنظير الرأسماليّ كان ولا يزال شرطاً نظريّاً محضاً، وبغيابه مع شرائط أُخرى، فإنّ هذه المعالجة قد تهيّئ للأفراد بعض الفرَص، ولكنّها لا تؤدّي إلى حلٍّ جذريٍّ للمشكلة الاقتصاديّة؛ للتعارض القطعيّ بين المصلحتين، إلاّ أنّ هذه المُعالجة لا تخلو من مزايا حسنة، أهمّها أنّ نصيب الفرد من الدخل يكشف عن مدى ما يقدّمه من خدمات، وأنّها تجعل من المصلحة الفرديّة حافزاً للنشاط الاقتصاديّ، وأنّ جهاز الثمن في حالة خلوّه من العناصر غير الطبيعيّة، هو العنصر الذي يحدّد ميول المستهلكين وأذواقهم.

3 - التصوّر والمُعالجة في النُّظم الاقتصاديّة المُخطّطة

إنّ مُجمل الاقتصاديّين السوفيت يرون أنّ الفهم الرأسماليّ للمشكلة الاقتصاديّة يُمثّل واحدة من المبالغات التي يروّجها الفكر الاقتصاديّ الرأسماليّ؛ لأنّ حركة السكّان تؤدّي إلى حركة الإنتاج، وتتمّ الزيادة فيه إذا حصلت ظروف توزيعيّة متكافئة موازية للإنتاج.

ومنهم رابوشكين ( Raboshkin )، الذي يحدّد (أنّ التنظيم الاقتصادي الكفؤ والعمل المتواصل؛ يؤدّي إلى تنمية الناتج بمعدّلات تفوق بكثير معدّلات النموّ السكّاني) (1) .

وهذا التصوّر لا يرى أن الندْرة التكوينيّة - على ما يبدو - حالة مستعصية تقتضي أن يُركّز المنظّر الاقتصاديّ بحوثه على تنظيم الحاجة، بحيث تشكّل متناسبة معها بوصفها مسلّمة نهائيّة، بل المستفاد ممّا تقدّم أنّ العمل الإنسانيّ كفيل برفع مرونة المعطيات إلى ما يكفي سداد الحاجات؛ لذا يعلّق الأمر على توظيف حركة السكّان لصالح حركة الإنتاج من خلال ظروف توزيعيّة مُتكافئة

____________________

(1) د. نامق (صلاح الدين)، اقتصاديّات السكّان، ص: 205 و206، دار المعارف - مصر، 1970م.

٤٤

وموازية للإنتاج، بحيث ينال كلٌّ حَسَب طاقته (لكلّ حسب عمله)، وهذا يتطلّب تنظيماً اقتصاديّاً يعتمد العمل المتواصـل.

وهذا الأساس النظريّ لجنس المُعالجة قائم على إناطة مسؤولية اختبار أنماط الإنتاج وهياكله، وتوزيع نِسَب عناصر الإنتاج واستخداماتها، وتحديد حَجم المشروعات، وأخيراً تقسيم المنتجات على الأفراد وتوفير سُبل التقدّم بالدولة بوصفها ممثّلة للمصلحة العامّة، فهي المالكة لكلّ وسائل الإنتاج، وصاحبة التصرّف والسلطان في إدارة الموارد، وترتيب سُلّم الحاجات، وأُسس التوزيع، ومقادير الاستثمارات، باستخدام التخطيط الشامل والمركزي.

إلاّ أنّ هذه المعالجة جوبهت بانعدام الحافز قياساً بقرينتها (المعالجة الفرديّة)، وترتيب الحاجة بقرار إداريّ، وليس بقرار اقتصاديّ، ولا يُمكن عدّ الوسائل الإحصائيّة مؤشّراً بديلاً؛ لأنّه يفتقد في المُعالجة الجماعيّة إلى صدق النتائج وثباتها لعدّة أسباب، لكن الذي لا خلاف فيه أنّ هذه المُعالجة نجحت تماماً في حالات الأزمات، وخصوصاً الحُروب.

ولأغراض تبيّن وجوه الالتقاء والافتراق في وجهات النظر - المُنطلقات والنتائج - فإنّ عرض مُجمل التصوّر والمعالجة التي تعتمدها النُظم المُعاصرة يمهّد الدرب؛ لاستعراض تفصيليّ للتصوّر والمُعالجة الإسلاميّة للمشكلة الاقتصاديّة في جانبَي العرض والطلَب، أي جانبَي تقدير أثر عامل الندرة، وأثر مفهوم الحاجة ودورها في النشاط الاقتصاديّ للإنسان المسلم.

4 - التصوّر والمُعالجة في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مِن استقراء القوانين المركزيّة لمذهبيّة الاستخلاف، والنصوص المكوّنة لها في القرآن والسنّة، نلحظ أنّ مبادئ هذه المذهبيّة لا تلتقي مع نقطة الشروع في المدارس الاقتصاديّة الوصفيّة:

أ - موضوع الندرة

يفرّق الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ بين الطيّبات الحرّة، والطيّبات الاقتصاديّة (الثروة القوميّة) والسلع الاقتصاديّة، فالحرّة هي: (الموارد

٤٥

الخاضعة بشكل كامل ودائم إلى مشيئة الخالق سبحانه) (1) ، (وقد جعلها مُسخّرة للإنسان؛ لأنّه يتوجّه بجهده إلى ما يقدر عليه، وهو الإنتاج الاقتصادي) (2) ، أمّا الطيّبات الاقتصاديّة (فهي التي لا بدّ للإنسان من أن يُعمِل فيها قدراتـه؛ لكي يتمكّن من الحصول عليها) (3) ، فالحرّة متقدّمة رتبة، وهي من خَلق الله، ومسخّرة لخدمة الإنسان، أمّا الوفرة والندرة فإنّ النصوص الآتية تجعل الباحث على يقين قاطع من وفرة الطيّبات الحرّة:

1 - ( أَلَمْ تَرَوْا أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُم مَا فِي السّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ ) [لقمان: 20].

2 - ( وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيَها مِن كُلّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيَها مَعَايِشَ وَمَن لّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِن مّن شَيْ‏ءٍ إِلاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) [الحجر: 19 - 21].

3 - ( اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّموَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ وَسَخّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخّرَ لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخّرَ لَكُمُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ * وَآتَاكُم مِن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ ) [إبراهيم: 32 - 34].

والذي يمكن الاستفادة منه - ممّا تقدّم - هو تصريح القرآن بوفرة الموارد بالمفهوم المُطلق، وهذا تجده في إشارة القرآن إلى نعمه ظاهرة وباطنة، أي مُكتشفة وغير مُكتشفة، وتجده في إشارة القرآن إلى التوازن التكويني بيّن مقدار الحاجة على مستوى الكلّي مع معامل الزمن (الدنيوي) وما ينزل من الماء بقدر، وتجده في الآيات المستلّة من سورة إبراهيم، يستعرض فيها مصادر الثروات الطبيعيّة كافّة ومصادر الطاقة، ثمّ يصرّح بالوفرة في ( ... آتَاكُم مِن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا... ) .

____________________

(1) صقر (محمّد أحمد)، الاقتصاد الإسلامي مفاهيم ومُرتكزات، ص: 22 و23، دار النهضة العربيّة - القاهـرة، ط1، 1978م.

(2) المصدر نفسه.

(3) صقر (محمّد أحمد)، (م. س)، ص: 20.

٤٦

وهذا يسوّغ لنا القول: إنّ القرآن، بعد أن يوثّق حقيقة كفاية الموارد المُتاحة، يحيل المشكلة إلى نوع العلاقة بين العمل وما خلق من موارد، وما المحدوديّة التي نشهدها في مكان أو مُدّةٍ ما إلاّ محدوديّة نسبيّة أوّلاً، علّتها الرئيسيّة متأتّية من عدم إنتاج ما توفّر من خامات بسبب اختناقات في جانب العرض، أو آثار سيّئة لتوزيع غير مُتكافئ لعناصر الإنتاج، أي أنّ هذا الاستخلاص تترتّب عليه مهمّة استخلاف الإنسان في الأرض من قِبَل الله تعالى تتضمّنها (اندفاعاته الإيجابيّة) في الاستفادة ممّا سخّره تبارك وتعالى، وعدم استيعاب البشر لمهمّتهم الاستخلافيّة في عمارة الأرض، أو عدم أدائهم مهامّهم الشرعيّة، ما يعني بروز ظاهرة الندرة النسبيّة غير المبرّرة في سياق قوانين الاستخلاف؛ لأنّها أساساً وليدة تقصير الإنسان عادةً، وتفريطه بمهمّاته الأساسيّة في الحياة. لذلك فإنّ الترابط غير الوثيق بأحكام الإسلام بين العمل والموارد، يؤدّي إلى ظهور الندرة.

أمّا العلاقة الإيجابية التي يرسمها الشارع المقدّس بينهما، فإنّها ستؤدّي بعد وفرة الموارد إلى الكفاية الإنتاجيّة لمُجمل الحاجات.

وعليه، فإنّ مقولة الندرة في جهاز المفاهيم الاقتصاديّة الإسلاميّة حادث عرضيّ ( opozoot )، وليس منطلقاً فكريّاً أساسيّاً، كما في المدارس الاقتصاديّة الوضعيّة، أي أنّ المشكلة الاقتصاديّة بالمفهوم الوضعيّ لا وجود لها في المذهب الاقتصادي الإسلامي؛ حيث تهدف قوانينه ولوائحه إلى تحقيق التوازن العامّ بين الموارد المتاحة والحاجات المنظّمة كما سيتبيّن.

ب - موضوع الحاجة

إنّ الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ يجعل من مفهوم الحاجة محوراً هامّاً في المشكلة الاقتصاديّة، ويعدّها المؤشّر الرئيس للتخلّف، ومؤشّراً لما ينبغي أن يكون عليه المستوى الاقتصاديّ السائد، وأساساً في نمط التوزيع، ومعياراً في نمط الإنتاج، ومحوراً نظرّياً هامّاً في نمط الاستهلاك. ومفهوم بهذه الدرجة من الخطورة لم يتركه الشارع من دون اهتمام أو تنظيم، فما هو مفهوم الحاجة؟ وما هو دورها في النظريّة الاقتصاديّة الإسلاميّة؟

٤٧

5 - مفهوم الحاجة

يمكن تعريف الحاجة بأنّها: الرغبة في مطلب أو مجموعة مطالب إنسانيّة مقابل الموارد الاقتصاديّة المتاحة، بحيث يؤدّي تحقيقها والاستجابة إليها إلى إنماء تطوير الطاقات البشريّة المستخلفة في عمارة الأرض، في ضوء نمط الاستهلاك الإسلاميّ ومحدّداته.

  وعرّفها بعضهم بأنّها: تعبير عن مطلب أو مجموعة مطالب للإنسان تّجاه الموارد الطبيعيّة له، يؤدّي تحقيقها وتلبيتها إلى إنماء طاقاته اللازمة لعمارة الأرض (1) .

ونودّ الإشارة إلى أنّ تعريف الحاجة الأخير لا يعبّر عن أهمّ قضيّة يلزم الباحثين بسط القول فيها، وهي محدوديّة الحاجة أو عدمها، فقد مرّ أنّ الفكر الاقتصاديّ المعاصر منقسم في نمط التحديدات التي تضيّق ظهور الحاجة واعتبارها، وهذا يعني أنّ كلا المدرستين يرى ذات الحاجة (متحدّدة) في الأقلّ، ولكن الاختلاف فيما بينهما يظهر في صحّة التحديد القسري الإداري أو عدم صحّته.

لقد مرّ أنّ محدّدات الحاجة هي محدّدات فنّية، (فمتى ما تحرّك أحد المتغيّرات، فإنّ امتداداً قد يكون لا نهائيّاً لتطوّر الحاجة الاقتصاديّة من حيث هي حاجة مجرّدة، وهذا يعني أنّ متغيّرات تحديد الحاجة لا تحمل من خلال ذاتيّتها، بل من خلال ما يعرض لها من عوارض حجم الدخل، ومستوى النموّ، ونمط التوزيع) (2) .

أمّا في الفكر الإسلامي، فإنّ الحاجة محدّدة تحديداً فنيّاً، كما هي في الفكر المعاصر، وتحديداً شرعيّاً تجسّده المذهبيّة الاقتصاديّة الإسلاميّة، فبزوال المحدّدات الفنيّة؛ أي مع تطوّر المستوى الاقتصاديّ وارتفاع وتائر الدخل الفرديّ، وتكافؤ نمط التوزيع، أي في حالة اكتمال عمليّات التنمية، نكون في تنظيم وضعيّ أمام حاجات متّسعة ومتنوّعة، ثمّ حاجات متجدّدة. أمّا في تنظيم اقتصادي إسلامي، فإنّ المحدّدات الشرعيّة تبقى الثوابت المُنظّمة للحاجة الاقتصاديّة، فعمارة الأرض سبب في زوال المحدّدات الفنّية، فتتّسع الحاجات التي يقرّها الشارع.

____________________

(1) عابد (عبد العزيز)، مفهوم الحاجات وأثره على الإنماء الاقتصادي، بحث منشور في مجموعة أبحاث المؤتمر الأوّل للاقتصاد الإسلامي، جدّة، ص: 85، نشرته مجلّة الاقتصاد الإسلامي - جدّة، دار العِلم، ط1.

(2) كاظم (عبد الأمير)، التنمية في الاقتصاد الإسلامي، رسالة ماجستير، ص: 6.

٤٨

أمّا ما يحرّمها، فإنّها تبقى في نطاق الحظر، حتى مع توفّر إمكانيّات إشباعها، وقد تبقى حاجات لا يمنعها الشارع ولا يقف في قبالتها (الكراهة)، وتأخذ بالزوال مع ازدياد مستوى التُقى والوَرع الإسلامي، لكنّ هذا لا يُسوّغ لنا القول بمحدوديّة الحاجة في المفهوم الاقتصادي الإسلامي؛ لسببٍ رئيس هو أنّنا طالما قرّرنا وفرة الموارد، فإنّ القول بالحاجة المحدودة ينفي إطلاقاً ضرورة البحث عن حلّ للمشكلة الاقتصاديّة.

لكن القول الراجح إزاء مسألة كهذه هو: إنّ النظرية الاقتصاديّة الإسلاميّة لا تلغي تماماً التطوّر النوعي والكمّي للحاجة، ولا تفتح الباب على مصراعيه لتمدّدها اللانهائي، بل إنّ التحديدات الفنّية حرّة في أثرها على تحديد الحاجات، بينما تعمل المحدّدات الشرعيّة (الحرمة، الكراهة، الإباحة) على تنظيم الحاجة، وتأطير نوعيّتها؛ لأنّ القيم العقائديّة حين تلغي كلاًّ من الخمر والميسر بوصفه سلعة تلبّي حاجات غير مُبرَّرة، فلديها مفهومها الخاص عن سلع تلبّي حاجات ماديّة أو روحيّة أو ثقافيّة لا تراها الاقتصادات الوضعيّة حاجات أساساً، ولا تخصّص لها إشباعاً، ولكن السؤال الهامّ هو: ما هي العلّة التي يستند إليها المُشرّع في الفرز بين الحاجات؟

للإجابة عن هذا السؤال تنبغي متابعة نمط العلّة في قوانين الاستخلاف المركزيّة ومكوّناته في القرآن والسنّة.

أ - قوانين الاستخلاف

إنّ الجمْع بين قانون الخلْق وملكيّة الله تعالى للكون، وقانون الاستخلاف، وقانون التسخير يؤدّي بنا إلى حقيقة لا مراء فيها، وهي أنّ عمارة الأرض عمارة شاملة هي الهدف المركزي للنشاط الاقتصادي، ولضمان المهمّة واستمراريّتهـا، بوصفها سلسلة من الأهداف المرحليّة، فإنّه يتطلّب طاقات بشريّة وموارد اقتصاديّة تُبذل باتّجاه تحقيق هذا الهدف الذي يكوّن حشداً من التكاليف الشرعيّة.

٤٩

ولمّا كانت الطاقات والموارد بحاجة إلى تطوير مُستمرّ، فإنّ مهمّة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك الأساسيّة تسير باتّجاه هدف الإنماء العام للطاقات، بما يضمن إشباع الحاجات لارتباطها بالهدف المركزي ذاك.

ومن الارتباط بين الحاجة والهدف صار للحاجة دورٌ تستحقّ بمقابلة بقاء طبيعتها ووسائل إشباعها وتوسيعها وتحسينهـا؛ لقوله: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56]؛ لذلك فإنّ هدف الخَلق هو العبادة. والعمارة في الفكر الاقتصاديّ تكليف شرعيّ، فهي عبادة؛ لأنّها تؤدّى كما تؤدّى الفروض، إلاّ أنّ لها صفة إجماليّة تنحلّ إلى أحكام تكليفيّة فتُحفّز بشكل أو بآخر كلّ مسلم.

وهدف التسخير تُهيّئهُ الموارد باتّجاه استخدامها لغرض العمارة، والغرض من الاستخلاف إقامة العدل وعمارة الأرض.

يروى عن ابن عبّاس - رضي الله عنه - في تفسيره لقوله الله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30]، قال: (عنى بالخليفة وُلد آدم بعضهم بعضاً، وهُم خلفوا آباءهم في إقامة العدل وعمارة الأرض) (1) .

ويرى البيضاوي أنّ المهام موكولة إلى نبيٍّ استخلفه الله في عمارة الأرض (2) ، فالعلّة بناءً على ما تقدّم: هي مقدار مساهمة الحاجة في تحقيق هدف الإنماء العام للطاقات (3) .

ب - القرآن الكريم

قال تعالى: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للّهِ ) [البقرة: 172]، ( يَا أَيّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ) [المؤمنون: 51]، ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) [هود: 61].

تُشير هذه الآيات الكريمة إلى ربط عمليّة إشباع الحاجة بشكر الله وأداء الفروض، ( وَاشْكُرُوا للّهِ ) ، ( وَاعْمَلُوا صَالِحاً ) ، كما تُشير أيضاً إلى أنّ

____________________

(1) الطبرسي (الفضل بن الحسن)، مجمع البيان، منشورات شركة المعارف الإسلاميّة.

(2) البيضاوي (عبد الله بن عمر)، تفسير البيضاوي، مطبعة مصطفى محمّد: 1/81.

(3) انظر: تعريف عبد العزيز عابد للحاجة، المارّ ذكره.

٥٠

الغاية من الخلْق ( أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ ) هي الإنماء العام، وعمارة الأرض ( وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) .

جـ - السُنّة النبويّة: أحاديث الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (شرّ الكسْب مَهر البغيّ، وثَمَن الكلب، وكسب الحجّام) (1) .

(الدنيا خضرة حلوة، مَن اكتسب فيها مالاً من حلّه وأنفقه في حقّه أثابه الله عليه وأورده الجنّة، ومن اكتسب فيها مالاً من غير حلّه وأنفقه في غير حقّه أحلّه الله دار الهوان) (2) .

(الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلاّ ما ابتغي به وجه الله عزّ وجلّ) (3) .

وسئل (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن أطيب الكسب، فقال: (عمل الرجُل بيده، وكلّ بيع مبرور) (4) .

ودلالة النصوص واضحة على ارتباط التبادل والإنتاج والاستهلاك بغاية معيّنة عبّرت عنها السنّة تعبيرات مُختلفة تؤدّي جميعاً إلى علّة الإنماء العامّ للطاقات. وهكذا يتبيّن، من خلال هذا الفهْم للنصوص الربط بين الحاجة والهدف الذي تبتغيه، بحيث يصلح الوصف علّة تكمن وراء أيّ اعتبار شرعيّ بما يجعلهما - الحاجة، العلّة - من جنس واحد، ويُصيّر الحاجة حلقة ربط بين التنظيم الاقتصادي وعمارة الأرض، بما يكشف عن أنّ لها دوراً هامّاً وطابعاً وظيفيّاً خطيـراً، نستطلعه عند الحديث عن دورها في أوجه النشاط الاقتصادي من خلال استقرائه، أو تبيّن آثاره في النظريّة الاقتصاديّة الإسلاميّة (5) .

6 - أنواع الحاجات في المفاهيم الاقتصاديّة الإسلاميّة

يكاد يكون في حُكم المُسلَّمات تقسيم الحاجة الاقتصاديّة إلى ما هو مادّي، وما هو معنويّ - روحي أو ثقافي -، ثمّ إلى ما هو فرديّ وما هو اجتماعي.

وقد يتداخل الوصفان تداخلاً ينتج أربعة أصناف من الحاجة هي:

____________________

(1) صحيح مُسلم، كتاب المُساقاة، الحديث رقم 40.

(2) كنز العُمّال، الحديث رقم 6076، الدرّ المنثور: 4/204.

(3) مجمع الزوائد: 10/222.

(4) مسند أحمد بن حنبل: 4/141.

(5) عابد (عبد العزيز)، (م. س)، ص: 19.

٥١

أ - مادّي فرديّ يتلخّص في مطالب فرديّة لسلع مادّية.

ب - روحيّ أو ثقافيّ فرديّ يتلخّص في مطالب فرديّة لسلع معنويّة.

جـ - ماديّ اجتماعيّ، كرأس المال الاجتماعيّ.

د - روحيّ أو ثقافيّ اجتماعيّ، كالعقائد والثقافة ووسائلهما.

وهذا التصنيف تكاد تتّفق فيه جميع الفلسفات الموضوعيّة عند الحديث عن الحاجة وأنواعها، إلاّ أنّ هناك مَن يُغلّب نمطاً على آخر حسب التوجّه الغالب على الفلسفة التي تسيطر على النظام الاقتصادي السائد. فالنُظم الرأسماليّة تعتني كثيراً بالحاجات الفرديّة، والنظم الجماعيّة تعتني بالحاجات العامّة، ويكاد يكون الاعتناء بالحاجات الماديّة أمراً متّفقاً عليه بين تلك النُظم.

أمّا في التوجّه الإسلامي، فإنّ الحُكم الشرعيّ يتولّى مهمّة تنظيم الحاجة على أساس مِن علّةٍ مرّ الاستدلال على أثرها الدائم في اعتبار الحاجة مهمّةً مهما كانت، لو أنّها أدّت إلى النتيجة التي تحقّق الهدف أُقرّت، وهذا يعني أنّ الثوابت تقرّ كافة أصناف الحاجات، وأنّ السياسة الاقتصاديّة تهتمّ بالأفضليّات والأولويّات، وسيأتي الحديث عن العلاقة بين الحاجة الاقتصاديّة والسياسة الاقتصاديّة.

7 - سُلّم الحاجات

إنّ الصّفة التي تَميّز بها الاقتصاد الإسلامي من غيره تتمثّل في أنّ المجال المتروك للاجتهاد ليس مطلقاً كما هو في الاقتصادات الوضعيّة، والتغيير إنّما يستند إلى الثوابت بلحاظ تبدّل الظروف الموضوعيّة، محقّقاً بذلك مقاصد الشرع. وعلى ذلك فسُلّم التفضيل بين الحاجات لم يترك تماماً إلى السياسة الاقتصاديّة تقرّره تبعاً للظروف السائدة فقط، أو يُقرّره شخص مُحدّد تفكيره بحدَّي الزمان والمكان، ينتج عنهما وعي محدود عنده، بل إنّ ما استقرّت عليه الدراسات الفقهيّة المستندة إلى الثوابت، والأساس النظريّ في ذلك (أنّ الإسلام يرسي أهدافاً مُعيّنة للحياة البشريّة، فكلّ الأمور، سواء كانت أعمالاً

٥٢

أو أشياء، وتساعد على تحقيق هذه الأهداف، تُدعى مصالح أو منافع؛ لأنّها تزيد من النفع الاجتماعي) (1) .

وقد استعرض الفقهاء الأوامر والنواهي، وتوصّلوا إلى أنّ المصالح لها ثلاثة مستويات: الضّروريّات، والحاجيات، والتحسينيات.

أ - الضّروريّات: وتشمل الأفعال والأشياء التي تتوقّف عليها صيانة الأركان الخمسة للحياة وهي: الدين، النفس، العقل، النسل، المال. وصيانة هذه الأركان من مقاصد الشريعة الأُولى، وهي تقابل مقولة السِلع الضرورية الأساسيّة في الاقتصاد الوضعي.

ب - الحاجيات: الأشياء والأفعال التي لا تتوقّف عليها صيانة تلك الأركان، ولكنّها تستجيب لمطلب التوسّع ورفع الحرج، ومثالها السلع التي تقع بين الضروريّة والكماليّة من الحِرَف والصناعات والفعاليات الاقتصاديّة التي تقع ضمنها، ضمن القَدَر الكافي لإزالة الحَرج ودَفع المشقّة.

جـ - التحسينيات: الأُمور التي تنتج مُراعاتها تحسيناً للحياة وتجميلها، وهي ما اصطُلح عليه بالكمالية في الاقتصادات المُعاصرة، والتي لا يمكن إدخالها ضمن استهلاك أغلبيّة المداخيل للسكّان في قُطُر معيّن ومرحلة تأريخيّة معيّنة.

8 - قواعد الترجيح

يُؤلّف هذا السُلّم جزءاً هامّاً من دالّة المصلحة الاجتماعيّة، ويساعد على حسم الخلاف بين الأهداف الاجتماعيّة المختلفة وقواعد الترجيح. وهي تسمح لنا بأن نختار من بين بدائل متعدّدة ما يُحقّق المصلحة إلى أبعد مدى، أو يُقلّل مِن الضرر الواقع لا محالة إلى ما هو أقلّ ضرراً. فقد وضعت دالّة المفاضلة بنسَق مجموعة مرتّبة بشكلٍ هَرَمي، ففي قاعدة الهَرم نجد الضروريّات تليها الحاجيات ثمّ التكميليات في أعلاه، حيث هي موضوع استهلاك القلّة من السُكّان ذوي المداخيل العالية.

____________________

(1) الزرقاء (محمّد أنس)، إعادة اكتشاف دالة إسلاميّة للمصلحة الاجتماعيّة، بحث منشور في مجلّة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، الهامش 16.

٥٣

والضابط في ذلك ما يأتي:

إنّ الأفعال والأشياء المتعلّقة بفئة ذات مستوى دخل أعلى تُهمل إذا تعارضت مع أهداف فئة ذات مستوى أدنى، فلا ترى حاجة تكميليّة إذا كان في مراعاتها إخلال بما هو ضروري أو (حاجي)؛ لأنّها فروع، والفرع يُهمل إذا أدّت مراعاته إلى تفريط بأصله، وهذا يعني أنّ الموجِّه للاقتصاد في النظام الاقتصادي الإسلامي هو النفع البشري.

9 - المُلاحظات على منهجيّة السُلّم وقواعد الترجيح

أ - ينظر الفقه الإسلامي إلى دالّة منفعة الفرد على أنّها جزء داخلي من النظام الشامل، ومن ثمّ يحرّكها بحيث تتطابق مع المصلحة الحقيقيّة التي لا تتعارض بالتالي مع المصلحة الاجتماعيّة.

ب - إدخال متغيّرات جديدة عليها وتعديلها، بحيث تزداد منفعة الفرد عند ازدياد المنفعة الاجتماعيّة وبالعكس. وهذا يعني تحويلاً تكامليّاً في دوافع الحاجة الفرديّة ومسارها باتّجاه الحاجة الاجتماعيّة. ويمكن وصف ذلك النَسق في قواعد الترجيح بقيامه على ارتباط تامّ ومتبادل بين المتغيّرات في نظامه الشامل، يسعى لتحقيق التكامل بين هذه الدالّة وبين بقيّة أجزاء نظامه؛ وعلى ذلك تكون الوسائل المُعدّة لإشباع الحاجة متدرّجة في ما يُعبّر عن حدّ الكفاية (الاكتفاء الذاتيّ)، وما يحسّن حدّ الكفاية، وما يعبّر عن الحاجات الكماليّة بنوعها المُبرّر شرعاً في حالات التوسعة.

وسنرى في بيان دور الحاجة أثر هذا السلّم التفضيلي في النشاط الاقتصادي واضحاً، على أنّ هذا المعيار الموضوعي الذي تحدّده الشريعة وتنفّذه وتجتهد من خلاله، واستناداً إليه تضع السياسة الاقتصاديّة، يقف بجانبه تكامليّاً معيارٌ شخصيّ معبّرٌ عنه بسماح المنهج بالتمتّع الشرعي بالفوائض الخاصّة، لكنّ العلاقة بين المعيارين تأخذ صورتين: الأُولى ظاهريّـة، أي يقف المعيار الذاتي بجانبه يكمل حقيقة علاقة الكلّ بالجزء: حيث ستكون محصّلة المعيار الشخصي في المسافات الواسعة البعيدة جزءاً من المعيار الموضوعي.

٥٤

10 - دَور الحاجة في النشاطات الاقتصاديّة

ترتّب النظريّة الاقتصاديّة الوضعيّة، على اختلاف مناهجها ومدارسها، النشاطات الاقتصاديّة على النحو التالي: الإنتاج، التبادل، التوزيع، الاستهلاك، انطلاقاً مِن شيئيّة الحضارة التي انطلقت النظريّة منها.

أمّا النظريّة الاقتصاديّة الإسلاميّة، فغالباً ما نراها تنطلق من التوزيع الوظيفي للثروة القوميّة (مرحلة ما قبل الإنتـاج)، وهذا يختلف بطبيعة الحال عن التوزيع المذهبي لعوائد الإنتاج.

وعليه، سنبدأ باستقراء أثر الحاجة في المفهوم الإسلامي، كما يأتي:

التوزيع الوظيفيّ لمصادر الإنتاج

الإنتاج - التبادل - التوزيع المذهبي لعوائد الإنتاج - الاستهلاك.

أ - أثر الحاجة في التوزيع المذهبي للموارد الاقتصاديّة

(الحمى، الإحياء، الإقطاع، النهي عن إجارة البيضاء، فضل الماء، الملكيّة).

سبق القول إنّ معيار اعتبار الحاجة هو أداؤها دور الإنماء العامّ للطاقات، ويمكن أن نلمس ذلك في عدّة مُفردات في النظام الحقوقي الإسلامي.

ففي الإحياء - مثلاً - يضع الفقهاء شرطين لعدّ الأرض مَواتاً قابلاً لإجراء الإحياء عليها، فالإماميّة يرون الموات: (الذي لا ينتفع به لعطلته؛ إمّا لانقطاع الماء عنه، أو لاستيلاء الماء عليه، أو غير ذلك من موانع الانتفاع) (1) .

وأكّد المالكيّة والشافعيّة والحنابلة والظاهريّة والأباضيّة على لحاظ عدم الاختصاص، فالأرض الموات عند الشافعيّ هي: ما لم يملكه أحد في الإسلام بعُرف ولا عمارة (2) .

____________________

(1) المُحقق الحلّي، شرائع الإسلام.

(2) الداماد، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، موطّأ الإمام مالك، تحقيـق محمّد فؤاد عبد الباقي، ص: 743، الحديث رقم 2، اُنظر: ابن حزم، المُحلّى، ص: 232، الحديث رقم 8.

٥٥

وعند الغزالي - وهو من الشافعيّة -: كلّ منفكّ عن الاختصاص (1) . وعند الشافعي في (الأمّ): (الأرض المعطّلة عن الانتفاع والحيازة، المجرّدة من الحقوق والاختصاصات العامّة). ونجد ذلك - بهما معاً - عند الحنفيّة والزيديّة (2) .

فالحاجة إلى الاستثمارات - إذاً - قائمة بالدرجة الأُولى على إلغاء عطلة الموارد، ثُمّ عدم وجود علاقة اختصاصيّة لأحد عليها.

وحيث إنّ الحاجة مرتبطة بالظروف الاقتصاديّة السائدة، فقد اعتمد الإماميّة وأبو حنيفة إذْنَ الإمام شرطاً في اكتساب الحقّ في ما ينتجه الاستثمار. ثمّ تبدو مسألة الحاجة في اختلاف الفقهاء في صحّة إحياء حريم العامر، فالكلّ مُتّفق على عدم صحّته لاحتمال التوسّع فيه.

والفقهاء، وإن اختلفوا في ماهيّة الإحياء، فقد أحال قسم منهم المسألة إلى العُرف، فما عدّه العُرف إحياءً أصبح حقيقةً شرعيّةً، الأمر الذي يعني أنّ الحاجة في الاستثمار هي المحدّدة للسياسة الاقتصاديّة، فالمرجع في ماهيّة الإحياء إلى العُرف من غير خلاف؛ لعدم النصّ على ذلك في الشرع واللُغة. واختلاف الفقهاء في مدى الحقّ المُكتسب الناتج من الإحياء دليل على عدّ الحاجة محلاً للموازنة بوصفها مقولة إنتاجيّـة، فمنهم من يرى أنّ مُفردة (له) في الحديث: (مَن أحيا أرضاً من المؤمنين فهي له)، تُفيد تمام الملك، ومنهم من يراها مُعبّرة عن حقّ اختصاص متلازم مع الإعمار، ولكلٍّ دليله (3) ملتزماً، لقيام الحاجة إلى الاستثمارات، محوراً هامّاً في تفضيل حكمٍ على آخر، ومع تساوي الدليل صار بعض الباحثين (4) يرجّح رأي مَن يرى جواز سحب الحقّ مع التعمّد بتعطيله، وهو رأي للأحناف، وإن غلب على فقهاء المذهب ترجيح الرأي الذي يرى ارتباط الاختصاص بالمختصّ مع إعماره أو إهماله (5) ، والمالكيّة مع سحب الحقّ، إلاّ أنّهم اشترطوا طول فترة الاندراس بما يُشعر بإعراض المُحيي الأوّل عن المورد (6) .

____________________

(1) الغزالي، الوجيز في فقه الشافعي: 1/145.

(2) اُنظر: الإمام الشافعي، الأمّ، تحقيق محمّد زهدي النجّار، ص: 41، الحديث رقم 4، دار المعرفة - بيروت.

(3) اُنظر في ذلك: الكاساني، بدائع الصنائع: 1/198، أبو يوسف، الخراج، الشيخ الطوسي، المبسوط.

(4) اُنظر: سيّد قُطب، العدالة الاجتماعية، ص: 121، الحديث رقم 6، العربي (محمّد عبد الله)، استثمار المال، بحث في المؤتمر الأوّل للأزهر، ص: 128. عودة (عبد القادر)، المال والحكم، (م. س)، ص: 37. الحسب (فاضل)، في الفكر الاقتصاديّ، ص: 36.

(5) الرملي، الفتاوى الخيريّة، المطبعة العثمانيّة: 2/185.

(6) الصاوي (أحمد بن محمّد)، بُلغة السالك: 2/374، ط2.

٥٦

أمّا الإماميّة فأغلب مُجتهديهم على صحّة إحياء المُحيي الثاني؛ لأنّ الإحياء يتمّ بإذن الإمام، أمّا الحنابلة والظاهريّة والزيديّة، فقد اعتمدوا حقوق المُحيي الأوّل، فإن شغر ودثر حتى عاد كأوّل حالة، فهو مِلك لمَن كان له، فإن جهل أصحابه فالنظر فيه إلى الإمام (1) .

ويظهر دَور الحاجة في الإحياء من خلال ما يأتي:

1 - دعوة مفتوحة لجميع القادرين على تشغيل الموارد المعطّلة سدّاً للحاجة.

2 - تقليل فُرص الرَيع المُطلق لِما له مِن أثر على وتائر تصعيد الإنتاج والإنتاجيّة.

3 - اعتماد وحدة التشغيل المُثلى بربط مقولة الإحياء بالقدرة الذاتيّة لمَن يُمارس حقّه في اكتساب الاختصاص بالمـورد.

4 - مُساهمة واضحة في امتصاص فائض العمالة؛ سدّاً لحاجة التوظّف التامّ لقوّة العمل.

5 - فتح الطريق أمام تغييرات هامّة على مستوى العَرض، وإحداث تغييرات هامّة أيضاً في مستوى الطَلَب.

6 - مواجهة النموّ السكّاني بتوفير الأمن الغذائي من خلال الترخيص والإعانات.

7 - تصعيد وتائر التراكم من خلال مجانيّة أحد عناصر الإنتاج، وهو الأرض، وما ينطبق على الأرض ينسحب على ما في باطنها كالمعادن.

فقد أجاز بعض الفقهاء إحياء المعادن الباطنة، ورتّبوا عليها - على اختلافٍ بينهم - الخُمس أو الصدقة لبيت المال، بينما عدّها المالكيّة والإماميّة مِلكاً عامّاً يتصرّف به جميعاً الإمام لمصلحة المسلمين كافّة، والباحثين المُتأخّرون على الرأي الثاني. ويظهر ضغط الحاجة الاجتماعيّة وراء الرأي الثاني جليّاً؛ ذلك أنّ مصادر الطاقة أصبحت اليوم أهمّ احتياطيّ لمواجهة تطوّر الحاجات العامّة وأُسلوب سدادها.

____________________

(1) ابن حَزم، المُحلّى: 8/270.

٥٧

وفي مقولة الإقطاع تجد أنّ ما يجوز إقطاعه إقطاع تمليك، هو ما لم يُعمّر أصلاً (الموات)، أو ما عُمّر في الجاهليّة ولم يبقَ له مالك. وما خرب بعد إعماره في الإسلام، على اختلاف بين الفقهاء في ما إذا عُرف أربابه أم لم يُعرَفوا.

ويقطع إقطاع انتفاع ما كان في الصفايا، أو ما لم يستغل من أرض الخراج، أو ما لا وارث له.

وهذا يعني أنّ ما وضع في حكم إقطاع التمليك فيه حاجة فرديّة، أمّا ما جعل في إقطاع الانتفاع، فهو لسداد الحاجات العامّة لفرض الخراج عليه؛ للمسوّغات والآثار التي سقناها في إحياء الأراضي الموات.

يقول أبو يوسف: (فهي للإمام إن رأى يصيّرها عُشراً فعل أو عُشرَين فعل، أو رأى أن يُصيّرها خراجاً فعل، وذلك موسعاً عليه في أرض العراق خاصّة) (1) ، أمّا مقياس المُفاضلة بين المستقطعين، فيقوم على أساس الكفاءة من جهة، والحاجة التي يقرّها الشرع من جهة أُخرى.

ثُمّ يخلص أبو يوسف إلى القول: (ولا أرى أن تترك أرض لا مِلك لأحدٍ فيها ولا عمارة حتى يقطعها الإمام، فإنّ ذلك أعمر للبلاد) (2) .

ب - أثرُ الحاجةِ في الإنتاج

يرى الفقهاء أنّ ما يكتسب به (ما يُنتج) لا يخلو من أن يكون إمّا مُباحاً أو مكروهاً أو مُحرّماً، فالمُحرّم كالأعيان النجسة: الخمرة، والفقاع، وكلّ مائع نجس (غير القابل للطهارة)، والميتة، والدم، والخنزير، وجلد الكلب.

وما حَرُم لتحريم ما قُصد منه: كهياكل العبادة، وآلات اللهو والقمار، وما لا يُنتفع به، وما هو مُحرّم في نفسه كالسحر، والكهانة.

أمّا ما يُكره، فهو ممّا يُفضي إلى حرام أو مكروه غالباً، أو ما يُكره لتطرّق الشُبهة، وقد عُدّ ذلك كلّه مباحاً (3) .

____________________

(1) أبو يوسف (م. س)، ص: 58، اُنظر أيضاً: الفرّاء، الأحكام السلطانيّة، ص: 65.

(2) المصدر نفسه، ص: 61.

(3) المحقّق الحلّي، (م. س)، ص: 2، الحديث رقم 4.

٥٨

وفي مجال التبادل نجد قول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لعَن الله اليهود، حُرّمت الشحوم عليهم فباعوها وأكلوا ثمنها)، مانعاً مِن جعل هذه الأصناف مادّة للتبادل. والحكمة المستفادة من عِلل الحُرمة أو الكراهة - في ما تقدّم - تتمثّل في أنّ هذه الأصناف لا تسهم في الإنماء العام للطاقات البشريّة.

ذلك أنّ نظرة الاقتصادي الإسلاميّ للسلع المُجازة، إنتاجاً وتبادلاً، تتمثّل في ما ينطبق عليه لفظ القرآن ( الطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ ) [الأعراف: 32] بما يحمل هذا المعنى مِن الحُسن والنقاء والنفع العام، أي ما يؤدّي استعمالها إلى تحسين المنفعة الشاملة للمستهلك، وبالطبع سيكون ذلك مؤثّراً على نوعيّة السِلع، وعلى قيمها التبادليّة، وما يعبّر عن تلك القيم (الأسعار).

يقول الشيخ الأنصاري في (المكاسب): (إنّ الحرمة تظهر في كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه، أو وجه من وجوه الفساد، وكلّ مَبيع ملهوّ به، وكل منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير الله، أو يقوى به الكفر والشِرك، أو يوهن به الحقّ) (1) .

وإذا حرم شيء ما، أو اكتسب شيءٍ ما حُكمه الكراهة، سرى هذا الحكم إلى الإجارة فيه؛ لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ الله عزّ وجلّ إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه) (2) .

ومعنى حرمة الثمن: حرمة النقل والانتقال وترتّب الأثر.

وهكذا تمنع السلعة غير المساهِمة بتحسين الطاقات العامّة للإنماء من تخصيص الموارد، أي أنّ الاعتبارات العقائديّة تدخل في إنتاج السِلع، بما يعود على المجتمع بالإيراد العام.

ويتّضح ممّا تقدّم أنّ تركيب السِلع في الاقتصاد الإسلامي، من منظور الرعيّة، يرتبط ارتباطاً مُباشراً بالحاجة المشروعة من منظور نوعيّة السِلع.

جـ - دور الحاجة في نَمط التوزيع

تتّخذ عمليّة التوزيع الأساسيّة ونمطها بافتراض رأسماليّة المنافسة الحرّة شكل الملكيّة الخاصّة، حيث يجري تقسيم القيمة الجديدة المُنتجة

____________________

(1) الشيخ الأنصاري (مرتضى)، المكاسب: 1/10.

(2) مسند الإمام أحمد، شرح أحمد محمد شاكر، دار المعارف.

٥٩

إلى قسمين: أجور وربح، يُغطّي الأوّل الكفاف، بينما يستحوذ مالك وسائل الإنتاج الرأسماليّ على ما يزيد على الكفاف بشكل ربح.

ويُشكّل العمل أساس التوزيع الاشتراكي، بافتراض اشتراكيّة ناضجة، حيث يجري التقسيم وفق المبدأ الآتي: (مِن كلٍّ حسَب طاقته، ولكلّ حسب حاجته)، في المرحلة الأُولى للاشتراكيّة، ثُمّ في المرحلة العُليا مِن الاشتراكيّة يصبح العمل أداة لتسديد جميع أنواع الحاجات.

أمّا في المذهب الاقتصادي الإسلامي، فإنّ العمل والحاجة هُما أساس التوزيع، وإنّ حدّ الكفاية هو المُجسّد لمكافأة المسلم على عمله من جهة، ومدى التزام المجتمع الإسلامي ومسؤوليّته التوزيعيّة نحوه مِن جهة أُخرى.

ويعتمد حدّ الكفاية في تحديد مقدار العطاء من حيث إنّه المقدار الذي يجعل المقاتل يستغني به عن التماس مادّة تقطعه عن حماية البيضة (1) .

ولتقدير الكفاية رقمياً كانت المعايير التالية تؤخذ في الاعتبار (2) .

1 - عدد الأفراد المُعالين من قِبل المقاتل.

2 - عدد الخيل والظهور التي يضعها المقاتل في خدمة الجيش.

3 - مستوى أسعار السِلع والخدمات الضروريّة لإعاشة المقاتل وإعاشة عائلته.

ولمّا كان مقدار الكفاية يُقاس بالسِلع والخدمات اللازمة في حياة المجاهد وأفراد عائلته وخَيله، صار من اللازم أن يقوم الديوان بإعادة النظر في مقداره من عام إلى عام، فإن زادت أسعار السلع والخدمات زاد العطاء، وإن نقصت الأسعار نقص، ورُدّ إلى ردّ الموضع الذي يحلّه في الغلاء والرخص، فتقدّر كفايته في نقصه وكسوته لِعامِه، فيكون هذا المقدار في عطائه، ثُمّ تُعرَض حالة كلّ عام، فإن زادت زاد راتبه وإن نقصت نقص (3) .

ومن منظور تقسيم السِلع إلى الضروري والحاجي والتحسينيّ، فإنّ الضروريّات داخلة أصلاً في حدّ الكفاية، وإنّ الحاجي هو تحسين لحدّ

____________________

(1) البلد أو الأُمّة.

(2) نقلاً عن الحسب (فاضل)، الماوردي في نظريّة الإدارة الإسلاميّة العامّة، عمان، المنظمّة العربيّة للعلوم الإداريّة، ص: 56.

(3) الحسب (فاضل)، (م. ن)، نقلاً عن الماوردي في أحكامه السلطانيّة، المكتبة المعموديّة التجاريّة - مصر.

٦٠