مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني0%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف: محمد مهدي شمس الدين
تصنيف:

الصفحات: 174
المشاهدات: 54267
تحميل: 4749

توضيحات:

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54267 / تحميل: 4749
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

تأليف

محمد مهدي شمس الدين

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

تقديم

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذه مطارحات في الفكر الديني والفكر المادي كتبت القسم الثاني منها ونشرت معظمه منذ سنين في ملحق جريدة النهار البيروتية في حلقات أُسبوعية فيما بين ٢٢ شباط سنة ١٩٧٠ و ١٧ أيار سنة ١٩٧٠.

وكنت أُقدر ان الحاجة إلى هذه المطارحات قد انتهت بنشرها واذاعتها في الناس عن طريق الصحافة الاسبوعية، ولذا فلا داعي لاعادة نشرها في كتاب.

ولكن نفراً كبيراً كريماً من علماء الدين والمعنيين بقضايا الفكر الاسلامي او الفكر الديني بوجه عام، ومن الطلاب الجامعيين يرون أن الحاجة إلى هذه المطارحات لم تنته بنشرها في الصحافة، بل الحاجة اليها متجددة لأنها ملأت فراغاً كبيراً في هذا الحقل من حقول المواجهة الفكرية بين الدين والمادية، ولأنها أضاءت مساحات كبيرة وهامة، ربما كان غموضها

٣

باعثاً على الحيرة والشك عند المؤمن، وحافزاً على التجني وإطلاق الأحكام الخاطئة على الدين عند من في قلوبهم مرض.

وهم يرون أن هذه الحاجة المتجددة تقضي بنشر هذه المطارحات في كتاب يسهل تداوله والرجوع إليه.

وقد رغب إلى بعض من ذكرت أن أُوضح - في هذه المطارحات - أثر المادية في مأساة العالم الثالث من خلال معاناته الأليمة من الرأسمالية والماركسية. وقد استجبت لهذه الرغبة النبيلة فكتبت القسم الأول من هذه المطارحات عندما قررت نشرها في كتاب.

إن القسم الأول يكمل القسم الثاني. فحين يعرض القسم الثاني للمادية على مستوى الفكر والفلسفة يعرض القسم الأول للمادية على مستوى السياسة والعلاقات الدولية، وبذلك يقدم الوجه التجريبي للمادية في السياسة.

وإذ كنت أُعدّ هذا الكتاب للنشر كانت تدوي في أُذني أنباء العدوان الاسرائيلي على وطني لبنان في أقدس بقاعه، وهي جنوبه - جبل عامل - أرض العلم والتقوى، والانسانية العالية ونبل الأخلاق. وأرى بعيني آثار العدوان الوحشي في عشرات الالوف من النازحين من القرويين المدنيين العزل يتدفقون على بيروت وغيرها فأعيش مأساة العالم الثالث كله في لوحة حية ترسمها الصهيونية بالحديد والنار على لحمي ودمي، أعيش المأساة، لا كشاهد عليها، وإنما كضحية ووقود لها، وأرى كيف أن مادية عصرنا تنفذ فصلاً من جريمتها ضد الانسانية على يد آلة شيطانية من آلاتها الاجرامية المجرمة هي القوة الصهيونية التي تمثل ذراعاً من أذرع المادية التي تسوط بها العالم الثالث... آه ما أشد مرارة الحياة في هذه الأيام

٤

بعد سنوات ثلاث من المعاناة اليومية لآلام الناس في الفتنة اللبنانية البشعة التي هي مشهد آخر من مشاهد تلاعب المادية بمصائر العالم الثالث.

وعلى أي حال فليس أمامنا الآن سوى أن ننتظر ما يقوم به المجتمع الدولي من خلال مجلس الأمن ومنظمة الامم المتحدة تجاه العدوان الاسلاائيلي علينا، وبانتظار ذلك أشعر ان علينا العمل لاعادة النازحين إلى قراهم لئلا تجد الصهيونية أمامها أرضاً خالية من السكان تبعث فيها مطامع جديدة.

ومهما حاولت القوى التي تقف وراء الصهيونية أن تسقي غرسها الشيطاني هذا بدماء العرب وتغذية بأرضهم فلن تستطيع أَبداً أن تجعل الصهيونية أصيلة في فلسطين، ستبقى نبتة غريبة ملعونة ترفضها الأرض، وترفضها الامة، وترفضها حركة التاريخ، وتقتلعها ارادة اللّه بايدي عباده الأبرار وارادتهم وعزمهم. إن الصهاينة يجتمعون في فلسطين لشِّر يومٍ لهم في التاريخ، متى يشرق هذا اليوم...؟ إننا لا نعلم، ولكنه آتٍ لا ريب فيه، ذلك وعد اللّه والله لا يخلف الميعاد:

١ -( وَلا يَحسَبَنّ الذينَ كَفَرا سَبَقُوا إنهم لا يعجزون ) (١) .

٢ -( لا تَحسَبَنّ الذيِنَ كَفَروا مُعْجزينَ في الأرْضِ، وَمَأوَاهُمُ النارُ ولبئسَ المَصير ) (٢) .

إن علينا أن نعدَّ أُمتنا لهذا اليوم الموعود، ونصونها من التلوث والفساد والانحلال بما تفرزه المادية في الثقافة وأساليب الحياة من سموم

____________________

(١) سورة الانفال (مدنية - ٨) الاية ٥٩.

(٢) سورة النور (مدنية - ٢٤) الاية: ٥٧.

٥

تفسد شخصية الانسان وتذهب بأصالته وتجعله بذلك إحدى نفايات أُمته التي تضعف تماسكها، وتوهن قوتها.

* * *

آمل أن تساهم هذه المطارحات في تعزيز المناعة الفكرية أمام غزو المادية من خلال الماركسية أو من خلال الرأسمالية، وفي معونة الباحثين عن ضياء ينير ظلام دروبهم، وعن هدى يخرجهم من ظلمات الكفر أو حيرة الشك إلى نور الإيمان باللّه، والحمد للّه رب العالمين.

بيروت محمد مهدي شمس الدين

ربيع الثاني ١٣٩٨ هجري

آذار (مارس) ١٩٧٨ م

٦

القِسمُ الأوّل

١ - المادية في الرأسمالية والماركسية ومأساة إنسان عصرنا

٢ - الماركسية والعلم والسياسة

المادية في الرأسمالية والماركسية ومأساة إنسان عصرنا

هذا كتاب يتضمن مطارحات بين الفكر المادي - كما تعرضه النظرية الماركسية - والفكر الديني متمثلاً بالاسلام.

وهذه النظرة المادية الخالصة إلى أصل الكون والحياة والانسان هي النقطة الأرخميدية، نقطة الخلاف الرئيسية بين الاسلام وبين الماركسية، وعنها تتفرع الخلافات الاخرى.

ونريد أن نثير هنا سؤالاً هاماً:

إذا كانت الماركسية مادية فهل الرأسمالية - ضدها الايديولوجي وخصمها السياسي - روحانية تؤمن بقوة وراء الطبيعة يرجع إليها الخلق والأمر؟

٧

إذا كانت الماركسية، انطلاقاً من ماديتها، ترفض الايمان باللّه، ومن ثم فهي ترفض الاعتراف بالنبوة والوحي، ومن ثم فهي ترفض الاعتراف بالدين، بل وتحاربه وتعتبره خصماً عليها أن تقضي عليه في ظاهر التركيب المؤسسي الاجتماعي وفي باطن الضمير الانساني لتخلص الانسان من آثاره الضارة في تخدير الشعوب، ولتمكن لنفسها في الوعي الانساني فتدفع بالانسان إلى إسعاد نفسه وعالمه... إذا كانت الماركسية هكذا فهل الرأسمالية مضادة لها في هذه النظرات والمواقف؟ هل تعترف الرأسمالية باللّه؟ ومن ثم فهل تعترف بالنبوة والوحي؟ ومن ثم فهل تعترف بالدين، وكيف تعترف بالدين؟.

الحق أن الرأسمالية ذات مظهر خادع روَّاغ من هذه الجهة تغر الناظر السطحي إليها فيحسب أنها مذهب في الحياة للدين فيه مكان مكين.

ولكن الباحث الذي تتجاوز ملاحظته السطح الخادع سرعان ما يكتشف أن الرأسمالية من هذه الجهة والخلاف بينهما في الاسلوب لا في جوهر الموقف. وسيرى الباحث المتعمق أن الرأسمالية كالماركسية مادية.

فالرأسمالية تتعامل مع الكون والحياة والانسان من منطلق مادي لا يترك مجالاً لمسألة وجود اللّه وما يتفرع عنها من وحي ونبوة وأديان وشرائع دينية. وغاية الفرق بينهما هي:

ان الماركسية نظام فلسفي يدعي لنفسه الشمول. وهذا يقضي منطقياً بأن ينفي كل نظام فكري آخر مغاير له ويدعي مجافاته للحقيقة وبطلانه. ولما كانت عقيدة وجود خالق للكون خارج عنه، على النحو الذي تبشر به الأديان السماوية - مضادة لعقيدة هذا النظام الفلسفي المادي النافية

٨

بِحكم تفسيرها المادي للكون والحياة والانسان - لوجود خالق للكون وما فيه ومن فيه خارج عنه، فلا بد له أن ينفي العقيدة الدينية وأن ينفي كل ما يتفرع عنها من عقيدة بالوحي والنبوة والشرائع والقيم المستمدة من الوحي، ولا بد له من أن يبحث لكل هذه الثوابت في ثقافة الانسان وحضارته على مدى التاريخ عن تفسير مادي يتفق مع أُصوله وقواعده الفلسفية المادية.

أما الرأسمالية فليست نظاماً فلسفياً، إنها طريقة حياة، ولكنها ليست طريقة ساذجة، بل هي قائمة على معطيات فكرية لخليط من الفلسفات أدت جميعها إلى تكوين نظرة مادية إلي الكون والحياة والانسان. فمن المعلوم أن الرأسمالية لم تغد نظاماً ومنهجاً إلا على أنقاض الفكر الديني المسيحي الذي قضت عليه الفلسفات التي رفضت معتقدات الكنيسة ونظامها وأخلاقها، وأحلت محلها نظرة مادية إلى الكون والحياة والانسان، وأنظمة وأخلاقاً مستمدة من هذه النظرة المادية.

ولكن الرأسمالية مع كونها طريقة حياة مادية، تقوم على أفكار مادية، أبقت على الكنيسة بعد أن جردتها من سلطانها الزمني تجريداً كاملاً أو شبه كامل. إلا أنها لم تبق عليها باعتبارها مؤسسة فاعلة في الحياة موجهة لها، منظمة لنشاطاتها، بل باعتبارها مؤسسة تستهوي عقائدها وطقوسها فئة من الناس لا تزال مؤمنة بها. وهذا أمر لا يظير الرأسمالية في شيء ما دامت الكنيسة لا تقحم نفسها في الشؤون التي تقوم عليها طريقة الحياة الرأسمالية ولا تعطل أيَّ نشاط من أنشطتها. بل إن مفكري الرأسمالية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع رأوا أن المؤسسة الدينية ليست عديمة الفائدة في شأن تنفيذ الخطط التي وضعتها الدوائر الرأسمالية لاحتلال العالم القديم والجديد في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية. وليست

٩

عديمة النفع في الصراع الذي تخوضه القوى الرأسمالية مع الطبقة العاملة. كما أنها - كما تبين أخيراً - ليست عديمة النفع في الصراع الايديولوجي ذي الأهداف السياسية والاقتصادية بين الرأسمالية والشيوعية التي لم تقلَّ يوماً ما طموحاً عن غريمتها الرأسمالية إلى احتلال العالم القديم والجديد في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية.

وإذن فقد أبقت الرأسمالية على المؤسسة الدينية لا لأن الرأسمالية تؤمن باللّه واليوم الآخر، وتؤمن بالوحي والنبوة، وتؤمن بالأديان والشرائع والقيم الدينية، فهي - باعتبارها طريقة حياة مبنية على نظرة مادية - لا تعني بهذه الامور على الإطلاق. قد يكون في المجتمعات الرأسمالية مؤمنون وقد يكون فيها ملحدون، فهي تتسع لهؤلاء وهؤلاء ولكن هذا لا يعني أنها مبنية على الايمان الديني بوجه من الوجوه. وإنما أبقت على المؤسسات الدينية لأنها - أولاً - ليست موقفاً فلسفياً ينفي ما يخالفه ويضاده من أفكار ومؤسسات من الناحية الفكرية النظرية، ولأنها - ثانياً - قدرت - وهي المسوقة بفكرة الربح - أن المؤسسات الدينية يمكن أن تكون ذات فائدة كبرى، في عمليات احتلال العالم، وفي الصراع الطبقي، وفي الصراع الايديولوجي مع الماركسية في السباق بينهما لاحتلال العالم.

وإذن، فالتفاوت في الموقف من الدين بين الماركسية والرأسمالية ليس ناشئاً من خلاف نظري مبدئي حول الدين، فكلاهما من الناحية النظرية المبدئية في موقع واحد بالنسبة إلي الدين، فهما لا يعترفان به، ولا يأخذان بتوجيهه في سياساتهما الداخلية والخارجية، ومناهجمها الاجتماعية والتعليمية والثقافية والاقتصادية. التفاوت بين الماركسية والرأسمالية بالنسبة إلى الدين هو في الموقف من الناحية العملية، الماركسية تنفيه وتحاربه

١٠

لأنها نظام فلسفي يفترض فيه - كأي نظام فلسفي غيره - أن ينفي ويبطل كل ما عداه من أنظمة ونظريات تفسر الكون والحياة والانسان بطريقة أُخرى. ولكن هذا الموقف المبدئي من الدين لا يمنع الماركسية من مهادنة الدين ومؤسساته ورجاله وتملقهم حين تكتشف حاجاتها إليهم في توجهاتها السياسية وصراعاتها، وحين ترى أن الدين يحقق لها فائدة عملية كما حدث من قيادات الاتحاد السوفياتي اثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها في مناسبات كثيرة جداً. والرأسمالية تنفي الدين وتحارب تدخله في شؤون الحياة والسياسة لأنها طريقة حياة قائمة على نظرة مادية إلى الكون والحياة والانسان. وهذا لا يمنعها من أن تهادنه بالابقاء على مؤسساته وبعض امتيازاتها لأنه ليس لها موقف فلسفي مبدئي منه من جهة ولأنها قد تحقق عن طريقه بعض المنافع التي تعزز قدرتها على الربح وعلى الكسب السياسي من جهة أُخرى. ولكنها تحاربه في رجاله وفي مؤسساته حين يقف من خلال بعض هذه المؤسسات وبعض هؤلاء الرجال أمام عدوانها ونهبها للشعوب المستضعفة وتسلطها السياسي كما حدث في حالات كثيرة في العصر الحديث في اروبا وافريقيا وامريكا اللاتيتية. وقد تحالفه حين تستطيع ترويض رجاله ومؤسساته لتغطية مخططاتها في استعمار الشعوب ونهب خيراتها وربطها بالفلك السياسي للرأسمالية الذي يجعلها أسيرة مواقف الرأسمالية في السياسة العالمية ومؤسساتها الاحتكارية الكبرى.

* * *

هذا هو واقع الأمر في موقف الرأسمالية والماركسية من الدين على رغم المظاهر الخادعة التي قد تنطلي على النظرة الساذجة.

١١

وأذن فهذا الكتاب الذي يدحض المادية الماركسية لا يعني اعترافاً للرأسمالية بالايمان. والدعوة التي يتضمنها هذا الكتاب إلى الايمان بوجود اللّه سبحانه وتعالى موجهة إلى الماديين كيفما كانوا وكانت ماديتهم التي يدَّعونها ماركسيين كانوا أو رأسماليين، كما أنها دعوة موجهة إلى كهنة الفكر الماركسي والفكر المادي الذي افرز الرأسمالية نظاماً سياسياً اقتصادياً، وطريقة حياة.

والدعوة التي يتضمنها هذا الكتاب إلي الايمان بوجود اللّه تعالى لا تقف عند حد هذا الايمان بما هو قناعة عقلية ووجدانية فقط، فقضية وجود اللّه تعالى خالقاً للكون ومدبراً له لا تقف عند الايمان النظري بوجوده لأن هذه القضية من القضايا التي تنبثق عنها وتلازمها بالضرورة قضايا أخرى لا بد من الايمان بها، والاذعان لها، ومن ثم بناء الحياة على هداها.

فالايمان بوجود اللّه تعالى يعني - في حدود إدراك عقلنا البشري - الايمان بوجود علاقات شاملة بين اللّه وبين جميع الكون وما فيه ومن فيه، علاقة ربوبية تغمر الكون كله وتتغلغل في اعماقه وفي جميع ثنايا مظاهر وجوده. ومن بين هذه العلاقات علاقة بالانسان ذات طابع إنساني بشري، وهي علاقة اللّه بالانسان عن طريق النبوة.

فان اللّه تعالى يرسل النبيين مبشرين ومنذرين أدلاء على اللّه بالدين الموحى إليهم من عند اللّه والذي ينظم حياتهم ويقودهم إلى أفضل السبل. هذا الدين - منذ فجر النبوات - هو الاسلام جعل اللّه فيه وبه الهدى والنور لبني الانسان على مدى التاريخ. كل حقبة تاريخية تتلقى الانسانية منه فيها المستوى الذي يلائم نموها الحضاري وتطورها العقلي. فينقلها في

١٢

طريق التكامل إلى مستوى أعلى مما كانت فيه، حتى ختم اللّه تعالى انبياءه الاكرمين بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وختم رسالاته الهادية برسالة الاسلام الكامل المستوعب الشامل لكل حاجات الانسان التشريعية ولكل القيم الأخلاقية التي تجعل الانسان قادراً على بناء حياة طاهرة، كريمة، سعيدة متكاملة، قوية فعالة ذات تأثير حاسم في حركة التاريخ الانساني. وقد جعل اللّه تعالى حقيقة الاسلام وجوهره ومبادئه الكبرى في كتابه الكريم (القرآن العظيم) الذي بيَّن اللّه تعالى أثره في إصلاح حال الانسان وهداية البشرية إلى الحياة السعيدة بقوله مخاطباً أهل الكتاب من اليهود والنصارى، كما أنه خطاب لكل من انحرفت به الأهواء والفلسفات عن هدى اللّه:

( يَا أهْلَ الكتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُم كَثيراً ممّا كُنْتُم تُخْفُونَ منَ الكتَابِ وَيعَفْوُ عَنْ كَثير. قَدْ جَاءَكُم منَ اللّه نُورٌ وَكتَابٌ مُبين. يَهْدِي به اللّه مِنَ اتَّبَعَ رِضوانَه سُبُلَ السّلامِ وَيُخْرجَهُم من الظّلماتِ إلى النّور بإذْنه ويَهْديهم إلى صِراطٍ مُستْقَيم ) (١) .

إن نداء الايمان هذا، بوجود اللّه تعالى، وما يقضي به هذا الايمان من إيمان بالوحي والنبوة والدين والشريعة - إن هذا النداء موجّه باخلاص وصدق وحب إلى جميع الذين تلفهم الحيرة ويطوّح بهم الضياع في حياة فقدت جوهر معناها الانساني، وفقد الانسان فيها بعده الداخلي

____________________

(١) سورة المائدة (مدنية - ٥ - ) الاية: ١٥ - ١٦.

١٣

فشعر بالفراغ والخواء الذي جعله يفزع من الخلوة إلى نفسه، لأنه يشعر بالوحدة والوحشة واللامعنى، فيحمله ذلك على الفرار من مواجهة ذاته باغراق حواسه ومشاعره في صخب العالم الخارجي. وهكذا يزجي هذا الانسان الحديث حياة بائسة: من الاستغراق في العمل، إلى الاستغراق في اللهو، إلى الاستغراق في كل ما يجعل الانسان يعيش خارج ذاته طيلة يومه إلى أن يستغرقه النوم ليستيقظ على يوم جديد يشهد فراراً جديداً من الذات.

إن الايمان الصحيح، وبناء الحياة على هدى اللّه يمنح الانسان سلام النفس وسلام الحياة وسعادتها، والنجاة في اليوم الاخر.

١ -( يَا قَوْمَنَا أجيبُوا دَاعيَ اللّه وآمنُوا بِهِ يَغْفرْ لَكُم من ذنوبِكم ويُجركُمْ منْ عَذَابٍ أليم. وَمَن لا يُجبْ دَاعي اللّه فَلَيْس بمعْجزٍ في الأرْضِ وَلَيس لَهُ منْ دُونهِ أوْلياءُ أولئكَ في ضَلالٍ مُبين ) (١) .

٢ -( مَنْ عَملَ صَالحَاً من ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤمن فَلَنُحْييَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أجْرَهم بأحسَنِ مَا كَانوا يَعْمَلُون ) (٢) .

* * *

____________________

(١) سورة الأحقاف (مكية - ٤٦) الاية: ٣١ - ٣٢

(٢) سورة النحل (مكية - ١٦) الآية: ٩٧.

١٤

٣ -( وَعَدَ اللّه المؤمنينَ وَالْمُؤمنَاتِ جَنّاتٍ تَجْري منْ تَحْتها الأنهَارُ خَالدينَ فيها وَمَسَاكنَ طَيّبَةً في جَنّاتِ عَدْن. ورَضوان منَ اللّه أكبْر. ذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العظيم ) (١)

* * *

بقيت كلمة ينبغي أن تقال عن دور الرأسمالية في عذاب إنسانها، والانسان في العالم.

لقد بدأت الرأسمالية طريقة حياة ولدت من جهود فكرية متنوعة قام بها علماء اقتصاد، وسياسيون وفلاسفة، وأُدباء وفنانون، ومصلحون اجتماعيون تضافرت جهودهم طيلة عقود كثيرة من السنين لاخراج مجتمعاتهم من نظام الاقطاع ومن سلطة المؤسسات الدينية ورجالها.

ومن المعلوم أن الارادات وحدها لا تغير التاريخ. الارادات حين تتزامن مع تغيرات مناسبة في البيئة الاجتماعية، ويعبِّر عنها أصحابها بالعمل المنهجي فانها حينئذٍ تغير التاريخ. وهكذا كان الأمر في اوربا في نهاية القرون الوسطى.

كانت الحروب الصليبية قد حملت إلى أوربا مع الجنود العائدين بذور التغيير من العالم الاسلامي - العربي، ومن بيزنطة.

ثم سقطت القسطنطينية، واكتشفت أمريكا، واكتشفت طرق جديدة برية وبحرية أثرت على التجارة العالمية، واخترعت الآلة البخارية والنول الميكانيكي، وحققت صناعة السلاح تقدماً في التقنية، وتحسنت وسائل المواصلات... وتفاعل ذلك كله مع أفكار الفلاسفة، ونظريات الاقتصاديين، وصيحات المصلحين الاجتماعيين، وطموحات ملوك الحكم المطلق وساستهم

____________________

(١) سورة التوبة (مدنية - ٩) الاية: ٧٢.

١٥

الأقوياء الدهاة، وأحلام الشعراء والقصاص والفنانين.. تفاعل ذلك كله، فولدت الرأسمالية على مراحل كطريقة حياة وأُسلوب انتاج للسلع.

وبدأت بولادة طريقة الحياة هذه مأساة جديدة في تاريخ الانسان الاوربي، ومن ثم في تاريخ إنسان العالم.

استهلت الرأسمالية عهدها، مدفوعة بشهوة الكسب التي لا يقيدها شيء، هجومها في كل وطن على إنسان وطنها هي، مسلحة بكل قوى الاغراء والقمع: بالمال، والسلاح، والقانون.

فحولت الفلاحين إلى عمال، وأفرغت، بذلك، الريف وضخمت المدن باحياء الصفيح لفلاحي الأمس في ظل أسوء ظروف العيش لهؤلاء العمال الذين وقعوا في المصيدة حين فقدوا من جهة أرضهم التي حولها الاقطاعيون الكبار إلى مراع للماشية لخدمة صناعات النسيج المربحة، وواجهوا من جهة أُخرى الآلة الرأسمالية الوحشية الهائلة دون أن يقدروا على مقاومتها.

وفرض عليهم أن يقبلوا، لقاء عملهم، بأُجور لا تكاد تكفي للقوت الضروري، وتعرضوا لشّتى الخدع في انفاقهم لهذا الأجر الزهيد... وهكذا مضت الآلة الرأسمالية تمتصهم حتى الموت.

وحطمت باندفاعها في التوسع والانتشار بنية الاسرة وفككت عراها حين فرقت بين أفرادها الذين انطلقوا هنا وهناك بحثاً عن العمل والقوت. واضطرت المرأة - أُما وزوجة وفتاة - إلى أن تزاول العمل، وأن تهجر أُسرتها إذا اقتضى الحال ذلك بحثاً عن العمل. وقد تفاعل وضع

١٦

المرأة هذا مع تنامي رغبة الرجال في إطالة فترة العزوبة فراراً من الزواج وما يوجبه من مسؤوليات، فأدى ذلك إلي بدايات الفوضى الجنسية التي تعاظمت باستمرار ولم تقف عند حد حتى الآن، حيث غدت واقعاً معترفاً به، بل يجد في المفكرين والفلاسفة من يفلسفه ويبحث له عن المبررات الأخلاقية.

وأُعيد تعمير أوربا بقوة الانتاج الكبير الذي وفرته الرأسمالية بعرق ودماء الملايين من العمال الذين كان فيهم عدد كبير من العمال الأطفال.

وتفتحت، رويداً رويداً، أعين العمال على بشاعة مأساتهم، ووعوا قساوة الظلم والاستغلال اللذين تمارسها القوى الرأسمالية عليهم، فتحركوا بهدف تغيير واقعهم المرير بالاضرابات والتظاهرات التي كانت تقمع بقوة السلاح من قبل قوى السلطة الشرعية - لأنها محرمة بحكم القانون - ويسقط القتلى بالعشرات والمئات، ويعود العمال صاغرين إلى مصانعهم لأن الاضراب يعني الجوع.

ولكن جهاد العمال في سبيل تحسين أوضاعهم لم يتوقف، ولم تفلح أساليب القمع في أن تضع له حداً، لقد تكتل العمال في جمعيات، ثم في نقابات طالبت الحكومات بسن تشريعات مناسبة للعمال تخفف شيئاً من قسوة واقعهم وتحد من سلطة رأس المال عليهم. فاستيقظت ضمائر نخبة من المفكرين والمصلحين الاجتماعيين على بشاعة ما يحدث وفداحة الظلم الذي يتعرض له هؤلاء العمال فعملوا على تهيئة الضمائر في المجتمع للتغيير في أُسلوب استغلال العمال. وساهمت في ذلك الصحافة اليومية، والشعر والقصة، وتكوَّن بذلك رأي عام في المجتمعات لمصلحة العمال... وبدأت

١٧

تلين قناة الرأسمالية تدريجاً أمام الضغط الهائل الذي مارسته الشعوب على تكتل الرأسماليين، وهكذا وجدت طريقها إلى النور التشريعات التي تصون حقوق العمال وتنصفهم وتحسِّن ظروف العمل.

وأخيراً أدراك علماء الاقتصاد (الحر) الرأسمالي أن السلام الاجتماعي لا يفيد العمال وحدهم، وإنما يعود على العمل بفوائد كبيرة أيضاً، ومن ثم فإنه يزيد الأرباح - هاجس الرأسمالية ومحركها الأعظم - لأنه يقلل من تعطيل المصانع، ويحفظ سلامة الآلات التي كان العمال في بعض الاحيان ينتقمون بتحطيمها، ويجوّد كفاءة العامل... وإذن فتحسين ظروف العمل ورفع مستوى حياة العامل ليس صدقة ولا احساناً وإنما هو استثمار للمال يعود بمزيد من الربح.. وهكذا زادت الفرص أمام العمال في اوطان الرأسمالية لتحسين اوضاعهم، ونعم العمال في مراكز الرأسمالية الكبرى في أوربا وامريكا بمستويات من العيش جيدة، وبظروف عمل مريحة، وبعطلات أطول ومدفوعة الأجر، وبمعاشات تقاعدية، وغير ذلك من الامتيازات.

ولكن حين أذنت مأساة عمال الرأسمالية في أوطانها بالانتهاء تعاظمت مأساة شعوب العالم الثالث التي توجه الوحش الرأسمالي بأنيابه إليها.

ففي سبيل التوسع الصناعي والمواد الخام وزيادة الربح وتصريف الانتاج الذي فاض عن حاجة الأسواق الداخلية في أوربا، تنافست دول أوربا الرأسمالية على آسيا وأفريقيا لأجل فرض السيطرة السياسية والعسكرية التي تضمن حيازة جميع المنافع، فهجمت على هاتين القارتين فاتحة مستعمرة، فارضة سيادة الرجل الأبيض على مئات الملايين من الناس

١٨

بكل ما تعنيه هذه السيادة من تسلط سياسي، واستيطان، ونهب للثروات، وتجارة بالرقيق، والحيلولة دون شعوب القارتين ودون إهمال أي فرصة للنهوض والتحرر، وتحويل المستعمرات إلى أسواق لاستهلاك ما تنتجه مصانع أوربا مع سلع، ونجد دائماً عند جميع القوى الأوربية المستعمرة هما كبيراً وهاجساً دائماً هو الاسلام الذي كان ولا يزال يمثل القوة المعنوية والروحية المقاومة، والصيغة الحضارية البديلة، فكان يخيفها منه أن تتاح له فرصة الانبعاث في قلوب وعقول ابناء المستعمرات فيهدد وجودها، ويدفع بابناء المستعمرات إلى أن يستعيدوا وجودهم المسلوب وحريتهم المصادرة، فيحرروا به أنفسهم من مستعمريهم، ومن هنا فقد تعرض الاسلام في عقول وقلوب أبناء المستعمرات لأكبر عملية تشويه مرت بها عقيدة من العقائد وشريعة من الشرائع على أيدي أعدائها، وذلك لكي يشلّوا فاعليته وتأثيره، ووجهوا همهم إلى السيطرة على التعليم ليحولوا بين ناشئة ابناء المستعمرات المسلمين وبين أن يكون الاسلام: عقيدته، وشريعته، وقيمه ومفاهيمه جزءً من شخصيتهم المعنوية وعاملاً في صيانة هذه الشخصية فلا تهن ولا تستسلم، وقد افلحوا في ذلك إلى حد بعيد.

لقد كانت الرأسمالية - بما هي استعمار واستغلال اقتصادي - لشعوب آسيا وأفريقيا كالحذاء الحديدي الذي يحكى أن الصينين القدماء كانوا يضعون أقدام فتياتهم فيه لغايات جمالية فكان يشوه اقدامهن ويجعلن عاجزات حين يحول بينهن وبين النمو الطبيعي الحر، وهكذا كانت الرأسمالية: منعت شعوب آسيا وأفريقيا من النمو وشوهت صورتها امام نفسها حين غرست فيها روح الشك والشعور بالدونية وامام العالم، ولكي

١٩

تتم المقارنة مع الحذاء الصيني نذكر أن الرأسمالية كانت تمارس عمليتها تحت شعار (رسالة الرجل الأبيض) ولكن من المؤكد أن كهنة الرأسمالية لم يكن لديهم ذرة من حسن النية التي كانت عند الآباء الصينيين تجاه بناتهم.

* * *

وحين تعاظمت موجة النقمة لدي شعوب آسيا وأفريقا تفجرت ثورات هذه الشعوب ضد تسلّط القوى الاستعمارية الرأسمالية، وتكون، على مهل، رأي عام عالمي أدان الاستعمار على أُسس أخلاقية. ولكن القوى الرأسمالية التي كانت بعيدة عن أن تستجيب لداعي الاخلاق اضطرت أن تستجيب لحقائق السياسة الدولية حين وجدت أمامها قوة عالمية أُخرى هي المجموعة الاشتراكية التي ولدت بثورة روسيا سنة ١٩١٧ م بين أطلال عالم الحرب العالمية الاولى. لقد شبت هذه القوة الجديدة عن الطوق، وغدت تنافس الرأسمالية في السباق إلى استثمار العالم وفقاً لمنطق آخر.. حين حدثت هذه المتغيرات بدلت القوى الرأسمالية أساليبها في التعامل مع الشعوب المستعمرة وشبه المستعمرة، فقلصت على مهل تسلطها العسكري والسياسي المباشر الذي يفرض عليها التزامات مالية تنقص من أرباحها. ويضعها - امام الرأي العام العالمي الرافض للاستعمار - في مواقف محرجة، ويتيح للاتحاد السوفياتي أن يتسلل إلى مواقعها من خلال الامال بالتحرر، واستبدلت بالاستعمار المباشر صيغاً أُخرى للتسلط السياسي والاقتصادي والعسكري تؤمن لها جميع الامتيازات القديمة دون أي مضايقات - هذه الصيغ يجمعها ما يسمى ب (الاستعمار الجديد).

لقد أُبرمت المعاهدات بين الدول الاستعمارية ومستعمراتها السابقة.

٢٠