مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني0%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف: محمد مهدي شمس الدين
تصنيف:

الصفحات: 174
المشاهدات: 54257
تحميل: 4747

توضيحات:

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54257 / تحميل: 4747
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

وتبين عجز الماركسية وإفلاسها، تبرأ الماركسيون من الدكتور ومن كتابه، واعلنوا بلسان الاستاذ نسيب نمر أنه لا يمثلهم ولا يمثل فكرهم.. لماذا؟!!

هل هذا تكتيك ماركسي للماركسية التي تتخطى ذاتها باستمرار؟!، وإذن فلنسمّ ما كتبه الاستاذ نسيب نمر في شأن مقالاتي وكتاب نقد الفكر الديني نوعاً من تخطي الذات!!

وقد تحدث الاستاذ نسيب نمر عما أتيح لي من حرية، وعما تعرض له الاستاذ صادق جلال العظم من مصادرة لحريته. وهذا ما أثار عجبي ودهشتي، فلقد أُتيح للدكتور من حرية التعبير عن الرأي ما لم يتيج لي عشر معشاره، وأتيح لافكاره من فرص الذيوع والانتشار ما لم يتح لاحاديثي في الرد عليه. لقد ناصرته الصحافة على اختلاف ميولها واتجاهاتها، وانبرت للدفاع عنه ولشرح أفكاره كل المؤسسات الاعلامية والحزبية الموالية لخطه الفكري، ونهجه السياسي. وكم روجت له هذه الأوساط وهللت في الصحافة والنوادي الثقافية.

وأما ما تعرض له من ملاحقة، وتعرض له كتابه من منع ومصارة، فقد قلت في مطلع أحاديثي أنه أمر لا موجب له ولا داعي إليه. وعلى أي حال فقد كان هذا الاجراء فرصة أتاحت للكتاب ذيوعاً وانتشاراً ما كان ليحصل عليهما لو أن الكتاب ترك وشأنه دون اعتراض.

مدخل

شُغِلتُ بعض الوقت عن قراءة كتاب الدكتور صادق جلال العظم «نقد الفكر الديني» وقدرت في نفسي أن هذا الكتاب لا يعدو أن يكون كأمثالٍ له ألفناها في السنوات الأخيرة، هي حصيلة أفكار شبابنا الذي تعلم في أوربا فأخذ منها - إلى جانب علومها - أوهامها وتصوراتهما الخاطئة عن الدين بوجه عام، دون أن يكون قد وعى من تراثه ومن عقيدته ومن تاريخه ما يعصمه من الزلل، ويحمله على غربلة ما يسمع ويرى ويلقّن، فأخذ كل شيء على انه حقيقة، وطفق يروجها في وطنه، بعد أن شُدِه بحضارة أوربا المادية، الغالبة الآن على كل شيء، وبعد أن رأى أن مُثَلها ومفاهيمها وأخلاقها تكتسح أمامها كل المواضعات والأعراف والتقاليد سيئة كانت أو حسنة، جميلة كانت أو قبيحة.

وهذه الكتب أيضاً حصيلة موجة الالحاد التي انطلقت في السنين الأخيرة، وشملت قطاعاً كبيراً من الشباب المتعلم - ولا أقول المثقف - الشباب الذي لم يتزود بأي معرفة دينية علمية على الاطلاق، والذي

٤١

يُحشى فكره بافكار الملاحدة الأجانب في صيغ جازمة. ومسلمات حاسمة.

ومن الغريب في ظواهر هذه الموجة الالحادية انها تسمح لنفسها بالشك في المسيحية والاسلام وتحاول تمهيدها بالضلالات التي تنشرها، والأباطيل التي تروج لها. دون أن تمس اليهودية بشيء، وإن مستها بكلمة فانها تصاغ بمنتهى الرقة والعذوبة، ولا أعرف سرّاً لهذه الظاهرة إلا فكرة ماركس أو انجلز - لا أتذكر - «إن اليهود إذا فقدوا دينهم فقدوا أنفسهم».

قدرت في نفسي أن الأمر في هذا الكتاب لايعدو أن يكون كذلك، ولكن بعض الاصدقاء ألحوا عليّ أن انتزع نفسي من بعض مشاغلي على الأقل لبعض الوقت، وأن اتفرغ لقراءة الكتاب والتعليق عليه، لأنه «خطير» يجب أن يناقش وتفضح أكاذيبه وأباطيله، وهكذا استجبت لهم، وخصصت للكتاب وقتاً في جملة أوقاتي، وجعلت النظر فيه من بعض أعمالي.

وعندما قرأت الكتاب لم يتغير حكمي عليه قياساً على نظائره وأمثاله، فهو لايعدو أن يكون ترديداً أميناً لأفكار عصر النهضة الأوربية عن الدين وعن أساسه، وعن أهدافه... هذه الافكار التي اندفع إليها بلا تبصر علماء ذلك الحين تحت وطأة الصراع بينهم وبين الكنيسة في ذلك الحين. والكتاب إن تميز على أمثاله بشيء فهو يتتميز بالوقاحة الزائدة، وسوء الأدب في التعبير. إنه عمل تافه يتسم بالنزق الفكري، والعاطفية والفجاجة في كثير من موارده، ولا يخلو عن كثير من التناقضات.

وقد كنت أقرأ الكتاب وأُعلق عليه، فاجتمعت لي من تعليقاتي عليه

٤٢

هذه الحصيلة التي يراها القارئ، والتي عساه أن يجد فيها ما يجعله يوافقني في أن الكتاب المذكور لا يستحق كل هذه الضجة التّي أُثيرت حوله وحول كاتبه، فإنه لا يعدو - كما قلت - أن يكون كسائر الكتابات من هذا النوع تمر دون أن تنال من الدين أي منال، لأن الدين ينبع من فطرة في الانسان لا تقوى على اقتلاعها الترهات والاباطيل مهما كسبت ثوب العلم زوراً وبهتاناً، واسبغ عليها شكل الحقيقة كذباً وهذياناً.

ولا بد لي - قبل الدخول في نقد الكتاب - أن أقدم بعض الملاحظات حول طبيعة الموضوع المبحوث عنه «الدين» وحول مدى اهلية الدكتور المؤلف لتحمل المهمة التي كرس كتابه لأجلها.

أ - أهلية المؤلف

هل الدكتور مؤهل للكتابة عن نقد الفكر الديني؟

هذا أول سؤال يواجهنا.

يفترض فيمن يكتب عن شيء - نقداً أو تأييداً - أن يكون ملماً بصورة كافية بالموضوع الذي يكتب عنه، وأن يكون مطلعاً عليه اطلاعاً تاماً، وذلك ليكون مؤهلاً للحكم له أو عليه. فهل الدكتور بهذه المثابة من المعرفة الدينية؟.

لقد ظهر لي من قراءة كتابه أن معرفته الدينية بالاسلام ساذجة وسطحية إلى أبعد الحدود. إنها التصورات التي امتصها خياله وعقله من مجتمعه ومن

٤٣

أهله، وليست معرفة مبنية على المعاناة والدراسة والبحث.

إن فكرته عن الاسلام أخذها - ليس عن مصادر الاسلام الاساسية «القرآن الكريم والسنة الصحيحة» وانما أخذها عن العجائز واشباه العجائز وعن الجهال وأشباه الجهال، وعن الكتابات المتأثرة بالأفكار الاسرائيلية، والقصص التي لم تثبت إسلامياً من مصادر الاسلام الصحيحة.

وسيمر علينا خلال نقدنا التحليلي للكتاب كثير من الأمثلة الدالة على أن المؤلف ينقد موضوعاً لا يعرفه معرفة كافية. إنه يعرف الاسلام معرفة مشوهة، ويريد أن يجعل الاسلام من خلال معرفته المشوهة - موضوعاً لنقده، مستخدماً في ذلك الآراء التي استعارها من أولئك الذين أطلقوها ضد الدين في فترة الصراع بين الكنيسة وملوك الحكم المطلق في أوربا، تلك الآراء التي تجاوزها الفكر واثبت زيف كثيرٍ منها، وفجاجته، وإغراقه في الذاتية والعاطفية.

سنرى أن الفصل الذي عقده المؤلف تحت عنوان «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» لا يكشف عن بؤس الفكر الديني، ولا يكشف عن بؤس الفكر العلمي وإنما يكشف عن البؤس الفكري للدكتور المؤلف.

ب - وظيفة الدين، ما هي؟

إن الدين عقيدة إلهية ينبثق عنها نظام كامل للحياة الانسانية. يقوِّم السلوك الانساني، ويرسم المناهج الصحيحة لهذا السلوك، ويرفع الكائن البشري من مستوى الحيوانية إلى مستوى الانسانية العالية.

٤٤

وليست وظيفة الدين أن يقدم تفسيراً تفصيلياً للكون: كيف نشأ؟ وما هي الأطوار التي مرّ فيها؟ وما هي العناصر التي يتكوّن منها؟ وما هي التفاعلات بين هذه العناصر؟ إلى غير ذلك من هذه المسائل. وليس في الاسلام شيء من ذلك إذا ما رجعنا إلى المصادر الاساسية للاسلام.

كل ما يقوله الدين في هذا المجال أنه يرد الكون إلى علة علياً إنه يعتبر «اللّه» هو السبب النهائي الاعمق والأعلى للتكوين «ويحتم على تسلسل العلل والاسباب أن يتصاعد إلى قوة فوق الطبيعة وفوق المادة» أما المسائل المتقدمة وأمثالها فهي مجال العلم.

وموقف الدين الاسلامي من العلم يتكون من عنصرين:

الأول: التشجيع على البحث والمعرفة، وذلك بفتح الآفاق أمام العقل البشري، وإزالة المعوقات التي تعترض طريقه وتعرقل سيره «حرم الاسلام السحر، والشعبذة، والكهانة، والقيافة»(١) فالاسلام يشجع،

____________________

(١) وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة في مناسبات عدة وجه اللّه فيها الانسان إلى طلب المعرفة والبحث في الكون المادي والحياة الانسانية والحيوانية والنباتية المحيطة به. وبين اللّه تعالى في طائفة اخرى من الآيات أن الكون المادي كله مسخر للانسان لينتفع به، ولا يمكن ذلك بطبيعة الحال إلا بعد اكتشافه، واكتشاف القوانين التي تيسر التعامل معه.

والطائفة الاولى من الآيات هي آيات التفكر، منها الآيات التالية:

١ - «إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب.

الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات =

٤٥

____________________

= والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار» آل عمران (مدنية - ٣) الآية ١٩٠ - ١٩١.

٢ - «اللّه الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، يدبر الأمر، يفصل الآيات: لعلكم بلقاء ربكم توقنون. وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، يغشي الليل النهار، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون» الرعد (مكية - ١٣) الآيات: ٢ - ٤

٣ - «والانعام خلقها لكم فيها دفء، ومنافع، ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون. وعلى اللّه قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين. هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون. ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون» النحل (مكية - ١٦) ٥ - ١١.

٤ - «واللّه أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعونوإن لكن في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين. ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً، إن في ذلك لآية لقوم يعقلون. وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك ذلا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه منه شفاء للناس. إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون» النحل/ الآية ٦٥ - ٦٩.

= ٥ - «أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق اللّه السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى..» الروم (مكية - ٣٠) الآية: ٨.

٦ - «اللّه سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره، ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون». الجاثية (مكية - ٤٥) الآية - ١٢-١٣.

والطائفة الثانية من الآيات هي آيات التسخير، وقد مر بعضها في آيات التفكر، ومنها مما لم يتقدم ذكره الآيات التالية.

١ - «ألم تر أن اللّه سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره» الحج (مدنية - ٢٢) الآية: ٦٥.

٢ - «ألم تروا أن اللّه سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة...» لقمان (مكية - ٣١) الآية: ٢٠.

٤٦

ولا يخطط، لأن التخطيط ليس من وظيفته وإنما هو وظيفة العقل الباحث، ولأن للعلم قوانين تطوره الخاصة التي تنجم عن تطور المعرفة، وتنوع الاكتشافات.

الثاني: إن موقف الدين الاسلامي بالنسبة إلى كشوف العلم وانتصاراته موقف مؤيد - واكرر: بالنسبة إلى العلم، أي إلي ما ثبت باليقين والحس والتجربة، فهو يعترف به، ويباركه ويعتبره مظهراً من مظاهر خلافة الانسان في الأرض. أما الظنون، أما الفرضيات والنظريات فلا قيمة لها، ولا تنال من الدين الاحترام بوصفها علماً لأنها ليست علماً، وإنما هي ظنون «إن الظَّنَّ لا يُغنِي مِنَ الحَقَّ شيئاً»(١)

____________________

(١) سورة النجم، الآية: ٢٨ وقد وردت المقابلة في القرآن دائماً بين العلم الصحيح (الحق) في جميع الحقول أو في حقل بعينه، وبين الظنون والأوهام غير الثابتة، والتي هي، في أحسن الأحوال، «مشاريع» تفتقر إلى مزيد من البحث لاثباتها أو نفيها.

٤٧

إن الفرضية والنظرية مجرد «مشروع» وليست حقيقة نهائية حتى تؤخذ مأخذ القبول المطلق، وإلا فاذا أردنا أن نظفي على الفرضيات قداسة الحقيقة «المعرفة العلمية النهائية الجازمة» نكون قد نقضنا بذلك المنهج العلمي الذي - لا يجيز لنا الايمان الا بما ثبت باليقين صحته وصدقه.

* * *

إن ما أشرت إليه من جهل المؤلف بموضوع بحثه «الدين الاسلامي» يكشف عن نفسه بوضوح في كثير من الموارد التي ينسب فيها إلي الإسلام أنه يقدّم «نصوصاً مقدسة» تفسر الظواهر الكونية، وهو مخطئ في نسبته ذلك إلى الاسلام.

وما أشرت إليه من بؤس المؤلف الفكري يكشف عن نفسه بوضوح عندما يفترض في الدين موضوعاً غير موجود في الدين وينقده بفرضية من الفرضيات، ونظرية من النظريات التي لم تثبت صحتها، ولم ترتفع عن درجة «الظن» إلى درجة «اليقين».

ج - مَنْهَجة البحث

تحت عنوان «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» عالج المؤلف موقف الدين (الاسلامي على الاخص) من العلم، وموقف العلم من الدين في اثنتين وستين صفحة من كتابه.

وقد انطلق في بحثه هذا من فرضية لم يبرهن على صحتها (وما اكثر ما لديه من فرضيات لا تزيد عن كونها دعاوى بلا برهان) - أقول انطلق من فرضية لم يبرهن عليها وهي:

٤٨

أن النظرة العصرية «يسميها هو علمية» حق بجميع ما اشتملت عليه وأدت اليه، وأن الفكر الديني باطل كله، ابتداء من قضية وجود اللّه إلى إصغر قضية دينية، ورتب على هذه االفرضية العارية عن البرهان أن على الفكر العصري أن ينقد الفكر الديني.

إن أبسط الناس ثقافة لا يستطيع أن يوافق المؤلف على هذا الموقف. وإلا، فاذا كانت المسألة تقوم على مجرد الافتراض والادعاء فلماذا لا يكون الصحيح هو العكس، وهو أن على الفكر الديني الصحيح الأصيل أن يقوم بنفس المهمة تجاه الافكار العصرية القائمة على الهوى وعلى سوء الفهم لقضايا الدين والعلم.

أعتقد أن المؤلف انطلق في هذه المسألة بسبب تشبع فكره «بكليشهات» انصاف المثقفين عن العلم وعن التفكير العلمي وعن قوة العلم وانتصاره، دون أن تكون لديهم القدرة على التمييز بين العلم وبين الفرضيات والنظريات، أضف إلى ذلك ما ذكرناه عن ضحالة تفكيره ومعرفته فيما يتصل بالدين ومصادره الاساسية ووظيفته، فوقع في هذا الخطأ الذي أشرنا إليه.

وعلى أي حال فقد أثار المؤلف في مقدم بحثه قضية الصراع بين الدين والعلم، وعالج في نهاية البحث مسألة وجود اللّه.

وأعتقد ان الترتيب الطبيعي للبحث يقضي بالعكس: أن نبحث أولاً مسألة وجود اللّه، وبعد ذلك تكون جميع القضايا ثانوية، لأن قضية وجود اللّه هي اساس الفكر الديني ، فاذا خرجنا منها برأي حاسم استطعنا أن نصفي بقية المسائل بسهولة.

٤٩

مسألة العلة الأولى اللّه ام المادة؟

أ - تمهيد

ب - العلة الاولى

ج - اللّه أم المادة؟

٥٠

في الصفحات (٢٥ - ٢٩ ) عرض المؤلف باسلوب غير علمي لمسألة وجود اللّه، وخلقه للكون، وعرض للمسألة أيضاً في الصفحات (٧٤ - ٧٨ ) عند مناقشته لرأي وليم جيمس. وقد لخص رأيه في المسألة في صفحة (٢٨ - ٢٩) بالنص التالي:

«في الواقع علينا أن نعترف - بكل تواضع - بجهلنا حول كل ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون. عندما تقول لي إن اللّه هو علة وجود المادة الاولى التي يتألف منها الكون، وأسألك بدوري: وما علة وجود اللّه. إن اقصى ما تستطيع الاجابة به: «لا أعرف، إلا أن اللّه موجود غير معلول» ومن جهة أُخرى عندما تسألني: وما علة وجود المادة الأولى؟ فان اقصى ما استطيع الاجابة به «لا أعرف، إلا أنها غير معلولة الوجود» في نهاية الأمر اعترف كل منا بجهله حيال المصدر الأول للاشياء. ولكنك اعترفت بذلك بعدي بخطوة واحدة، وادخلت عناصر غيبية لا لزوم لها لحل المشكلة. والخلاصة، وإذا قلنا أن المادة الاولى قديمة وغير محدثة، أو ان اللّه قديم وغير محدث نكون

٥١

قد اعترفنا بأننا لا نعرف ولن نعرف كيف يكون الجواب على مشكلة المصدر الاول للاشياء. فالافضل اذن أن نعترف بجهلنا صراحة ومباشرة عوضاً عن الاعتراف به بطرق ملتوية».

وهكذا نرى المؤلف يسجل على نفسه بصراحة ووضوح أنه يجهل حقيقة المصدر الأول للاشياء: أهو اللّه أم المادة؟

ومع ذلك فهو يصرح في كل صفحة تقريباً من صفحات كتابه بأنه (المؤلف) مادي، وبأن الحقيقة النهائية هي المادة، ويختم كتابه بالعبارة التالية:

«ومن المؤكد أن المادية الديالكتيكية هي أنجح محاولة نعرفها اليوم في صياغة صور كونية متكاملة تناسب هذا العصر وعلومه».

وهكذا يقع المؤلف في التناقض.

إن تبني مفهوم معين للكون ينبع بالضرورة من تبني قرار حاسم بالنسبة إلى العلة الاولى للكون:

إن الاعتراف باللّه علةً أُولى يُلزِم بتبنِّى المفهوم الألهي للكون.

والاعتراف بالمادة علةً يُلزِم بتبنِّي المفهوم المادي للكون.

وعدم الجزم بالعلة الاولى للكون - كما يكشف عنه المؤلف في نصه الذي نقلناه - يجعل من المستحيل منطقياً تبنِّي أي من المفهومين - الالهي أو المادي للكون، إذ لا يمكن بناء نتيجة بدون مقدماتها.

أما أن نعلقَ الحكم في مسألة العلة الاولى للكون، لاننا (في زعم المؤلف) نجهلها، ثم نجزم بالمفهوم المادي للكون كما صنع المؤلف فهذا

٥٢

تناقض ومحال يكشف كما قلت واكرر عن البؤس الفكري للمؤلف. إن تعليق الحكم في العلة الاولى يقتضينا أن نعلق ايضاً الحكم في طبيعة مفهومنا عن الكون: مادي هو أم إلهي؟

* * *

ويقع المؤلف في تناقض آخر بالنسبة إلى مسألة العلة الاولى، فبعد أن اعترف بصراحة في النص السابق بأنه يجهل الجواب عن مشكلة المصدر الأول للاشياء، نراه في صفحة(٧٨) يصرح بإنه يعرف المصدر الأول للاشياء، وينفي وجود اللّه بشكل حاسم، ويعبر عن رأيه هنا بالنص التالي:

«إن المفكر الذي لا يعتقد بوجود اللّه أو يعلق الحكم حول الموضوع بأسره قد لا يفعل ذلك من جهة تكوينه العاطفي... إنه يفعل ذلك لأنه القناعات الفكرية التي تشكلت لديه على أسس علمية واضحة لا تسمح له بأن يعتقد بوجود اللّه دون أن يقع في تناقض ذاتي ودون أن يضحي بوحدة تفكيره ومنطقه».

نتساءل: كيف علق الحكم سابقاً في هذه المسألة، وكيف جزم بالعدم هنا؟

إنه علق الحكم سابقاً لأنه لا دليل على الوجود (في زعمه) ولا دليل على العدم، ومع أنه لم يقدم أي دليل على العدم نراه جزم هنا بعدم وجود اللّه.

* * *

٥٣

إن المصور لا يستطيع أن يلتقط صورة دقيقة لجسم مّا يريد تصويره ما لم يضبط - بدقة متناهية - زاوية الرؤية بين عدسته وبين الجسم المراد تصويره، فاذا ما أخل بهذا الشرط الاساسي حصل على صورة مشوهة، أو لم يحصل على صورة اطلاقاً.

والأمر في عمليات الفكر يشبه هذا المثال. فاذا أردنا اكتشاف حقيقة ما أو البرهنة على فرضية ما فعلينا ان نفكر فيها من الزاوية الملائمة لها، المتفقة مع طبيعتها - أما حين نفكر فيها من زاوية أُخرى، أو نطبق عليها شروطاً لا تتفق مع طبيعتها فاننا نخفق في مهمتنا، ويؤدي ذلك بنا في النهاية الى الضلال وسوء الفهم كما حدث للمؤلف

ان الشك في وجود علة نهائية للكون، أو الاعتراف بذلك والشك بانها اللّه أو المادة ينتج لدى رجل الفكر من أحد عاملين: إما عن قصور فكري، وإما عن سوء استخدام للفكر بالطريقة الصحيحة. إن ما يبدو لي هو أن المؤلف قد نظر الى مسألة وجود اللّه من غير الزاوية الصحيحة. فادى به ذلك إلى الوقوع في الخطأ: تعليق الحكم في هذه المسألة، أو الجزم بعدم وجود اللّه، فله رأيان في المسألة كما رأينا.

إن هذا يكشف عن أن المولف يعاني من اهتزاز فكري حيال هذه المسألة.

وعلى أي حال فهذه المسألة تبحث على مرحلتين.

الأولى: هل نحن بحاجة إلى الالتزام بعلة أُولى للكون أم لا؟

الثانية: إذا آمنا بلزوم علة أُولى للكون، فهل هذه العلة الاولى هي اللّه كما تقول الفلسفة الالهية أم المادة كما تقول الفلسفة المادية؟

٥٤

أ - مسألة العلة الاولى

- ١ -

إن مبدأ العلية (توقف كل موجود ممكن على علة لوجوده) من البديهيات التي يدركها العقل البشري. إن الانسان يجد في صميم طبيعته ما يدفعه إلى تعليل الاشياء والظواهر، واكتشاف أسبابها. وقد اعترف المؤلف في ص ٢٥ بأن النظرية العلمية لا تعترف بالخلق من لا شيء».

وكل معرفة بشرية نظرية أو تطبيقية تتوقف على التسليم بمبدأ العلية والاذعان لقوانينه:

١ - مبدأ العلية «إن لكل شيء سبباً».

٢ - قانون الحتمية «إن كل سبب يولد النتيجة الحتمية له بصورة ضرورية ولا يمكن للنتائج أن تنفصل عن اسبابها»

٣ - قانون التناسب بين الاسباب والنتائج: «إن كل مجموعة متفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة يلزم أن تتفق ايضاً في الاسباب والنتائج».

٥٥

وهكذا يتوقف على التسليم بمبدأ العلية وقوانينه:

١ - إثبات الواقع الموضوعي للاحساس في التجربة الشخصية المادية.

٢ - النظريات والقوانين العلمية المستندة إلى التجربة.

٣ - جواز الاستدلال وانتاجه في أي ميدان من الميادين الفلسفية أو العلمية ولولا مبدأ العلية لما أمكن إثبات شيء من ذلك.

- ٢ -

وهنا يواجهنا سؤال أساسي:

هل مبدأ العلية قائم على أساس تجريبي أو على أساس فلسفي؟

الحق أن مبدأ العلية ليس مبدأً يستند إلى الحس، ولا إلى التجربة وإنما هو مبدأ عقلي ضروري فوق الحس وفوق التجربة.

ليس مبدأ العلية برهاناً حسياً لأن الحس لا يكتسب صفة الحقيقة الموضوعية إلا عن طريق مبدأ العلية، فليس من المعقول أن يكون مبدأ العلية مديناً للحس في ثبوته.

وليس مبدأ العلية نظرية علمية تجريبية، لأن جميع النظريات العلمية تتوقف عليه. فإن كل استنتاج علمي قائم على التجربة يواجه المشكلة التالية، وهي: أن التجربة التي يستند عليها الاستنتاج محدودة بنماذج معينة، فكيف تكون بمجردها دليلاً على نظرية عامة؟ والحل الوحيد لهذه

٥٦

المشكلة في العلية وقوانينها: مبدأ العلية. قانون الحتمية. قانون التناسب

فإذا افترضنا أن مبدأ العلية نفسه، مرتكز على التجربة فسنواجه مشكلة العموم والشمول من جديد على صعيد مبدأ العلية نفسه، وذلك لأن التجربة ليست مستوعبة للكون، فكيف تعتبر دليلاً على نظرية عامة، وقد كنا نحل هذه المشكلة في مختلف النظريات العلمية بالاستناد إلى مبدأ العلية، بصفته الدليل الكافي على عموم النتيجة وشمولها، وأما إذا اعتبر نفس هذا المبدأ تجريبياً، وواجهنا مسألة العموم والشمول بالنسبة إليه، فسوف نعجز نهائياً عن الجواب عنه.

وإذن، فلا بد أن يكون مبدأ العلية فوق التجربة، وقاعدة أساسية للاستنتاجات التجريبية عامة.

وأخيراً، إن مبدأ العلية مبدأ ضروري لا يمكن الاستدلال على رده، وذلك لأن الدليل علة للعلم بالشيء المستدل عليه، وإذن محاولة الاستدلال على رد مبدأ العلية تنطوي على الاعتراف بمبدأ العلية وتطبيقه.

والخلاصة: أن مبدأ العلية ليس مبدأً حسياً، وليس مبدأ تجريبياً، ولا يمكن نقضه بأي دليل، وإنما هو مبدأ عقلي ضروري فوق الحس والتجربة، وثابت بصورة متقدمة على جميع الاستدلالات التي يقوم بها الانسان.

- ٣ -

بعد أن آمنا بمبدأ العلية وقوانينه، وأنه مبدأ عقلي ضروري، تخضع

٥٧

له جميع الموجودات الممكنة ولا تستغني عنه، نتساءل:

لماذا تحتاج الأشياء إلي علل، ولماذا لا توجد الأشياء بدون علل؟

وقد أجاب عن ذلك الفيلسوف الاسلامي الكبير (صدر الدين الشيرازي) بما ملخصه: إن علاقة العلية بين العلة والمعلول هي ارتباط بين شيئين، وللارتباط مظاهر متنوعة، ولكنها جميعاً ترجع إلى نوعين.

احدهما: أن يكون لكل من الشيئين المرتبط أحدهما بالآخر وجود مستقل سابق على حصول الارتباط: يكون القلم - مثلاً موجوداً بصورة مستقلة، ويكون الكاتب موجوداً بصورة مستقلة، ثم يحصل الارتباط بينهما حين يستخدم الانسان القلم للكتابة. ويكون القماش - مثلاً - موجوداً بصورة مستقلة، ويكون الشخص موجوداً بصورة مستقلة أيضاً، ثم يحصل الارتباط بينهما حين يلبس الشخص القماش ثياباً، وهكذا.

ثانيهما: أن لا يكون لأحد الشيئين وجود مستقل عن وجود الاخر وهذا هو رباط العلية، مثلاً (ب) ارتبط ب‍ (ا) برباط العلية، ففي هذه الحالة لا يكون له (ب) وجود مستقل عن وجود (ا) وإنما حقيقة وجود (ب) عبارة عن ارتباطه وعلاقته ب (ا) فلو انقطع هذا الارتباط انقطع وجود (ب) بالضرورة - وهذا بخلاف ما إذا كان الارتباط ليس على نحو العلية، فان انقطاع الارتباط بين القلم والكاتب لا يؤثر على الوجود المستقل لكل منهما، وإنما يحتفظ كل واحد منهما بوجوده المستقل قبل الارتباط ومعه وبعده، بينما المعلول وجود منبثق عن العلة حال ارتباطه بها أما قبل ذلك فلا وجود له ابداً، وأما بعد انقطاع الارتباط فينعدم فوراً.

٥٨

وإذن: فالحقائق الخارجية ليست في الواقع إلا تعلُّقات وارتباطات، فالتعلق والارتباط مقوم لكيانها ووجودها، والسر في احتياجها إلى العلة أن وجودها وكيانها عبارة عن الارتباط والتعلق بمنبع وجودها المباشر، وهو العلة.

- ٤ -

إن مبدأ العلية في الكون يقودنا الى قانون النهاية: «إن العلل المتصاعدة التي ينبثق بعضهاعن بعض، يجب أن تكون لها بداية، أي علة أُولى لم تنبثق عن علة سابقة».

وذلك لأن العلل لا يمكن أن تتصاعد بشكل لا نهائي، فإن الموجودات المعلولة كلها ارتباطات، وهي تحتاج إلى حقيقة مستقلة تنتهي إليها، وإلا فإن سؤال «لماذا؟» يبقى قائماً بالنسبة إلى كل موجود، وإذن، فإن عقلنا يقودنا إلى الايمان بسبب أول متحرر من مبدأ العلية، مستقل بذاته عن كل شيء، وبذلك لا نواجه بالنسبة إليه سؤال «لماذا؟».

* * *

إن خضوع الكون كله لمبدأ العلية وقوانينه قادنا بصورة حتمية إلى الايمان بعلة أُولى واجبة الوجود بالذات، غير محتاجة إلى علة، ولا يسع الانسان الا الاذعان لهذه الضرورة العقلية لأن رفضها يؤدي إلى التسلسل اللانهائي المستحيل.

٥٩

ب - اللّه أم المادة

- ١ -

يتألف الكون المنظور من عدد من العناصر الأساسية بلغ عدد ما اكتشف منها حتى الان عنصرين ومائة عنصر رتبت في جدول حسب تسلسل وزنها الذري. ويقع الهدروجين في أول هذا الجدول لأنه أخف العناصر في وزنه الذري، فهو يحتوي في نواته على شحنة واحدة موجبة، يحملها بروتون واحد، ويحيط بها الكترون واحد ذو شحنة سالبة، ويقع في نهاية الجدول النوبليوم - فمرقمه الذري (١٠٢) أي أن نواته تشتمل على (١٠٢) وحدة من وحدات الشحنة الموجبة، ويحيط بها ما يماثل هذا العدد من الالكترونات ذات الشحنات السالبة.

في حدود ما وصل إليه العلم الان هذه العناصر هي المواد الاساسية التي يتألف منها الكون المادي، وهذا الحشد الهائل من الحقائق والانواع المختلفة يرجع لدى التحليل إلى تلك العناصر.

٦٠