مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني0%

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 174

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف: محمد مهدي شمس الدين
تصنيف:

الصفحات: 174
المشاهدات: 54893
تحميل: 4888

توضيحات:

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 174 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54893 / تحميل: 4888
الحجم الحجم الحجم
مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني

مؤلف:
العربية

- ٢ -

وقد أثبت العلم التجريبي أن خصائص هذه العناصر غير نهائية وغير ثابتة، بل يمكن تبدل بعضها ببعض، وهذا التبدل بعضه يتم بصورة تلقائية، وبعضه يمكن إحداثه بالوسائل العلمية. فعنصر اليورانيوم - مثلاً - يطلق انواعاً ثلاثة من الأشعة، منها أشعة (الفا) وهي عبارة عن ذرات عنصر الهليوم، ويتحول اليورانيوم تدريجياً إلي راديوم، ويتحول الراديوم - بعد عدة تحولات عنصرية - إلي عنصر الرصاص.

وقد تمكن العالم الطبيعي (رذرفورد) من تحويل عنصر إلى عنصر آخر بجعل ذرات الهليوم تصطدم بذرات الآزوت، فنتجت ذرة هيدروجين من ذرة الازوت، وتحولت ذرة الازوت إلى اوكسجين.

وهكذا غدا من الثابت أن خصائص العناصر ليست ذاتية للعناصر.

- ٣ -

وقد استطاع العلم التجريبي - على ضوء نسبية آينشتين - أن ينزع عن الكتلة صفتها المادية، ويحولها إلى طاقة، فلم يعد في الكون عنصران متميزان: أحدهما المادة المحَّسة، والآخر الطاقة غير المحسَّة، بل غدت المادة عبارة عن طاقة مركزة، فإن كتلة الجسم نسبية، وليست ثابتة، فهي تزيد بزيادة السرعة، كما اكدت التجارب التي أجراها علماء الفيزياء الذرية. ولما كانت كتلة الجسم تزداد بازدياد حركته - وليست الحركة

٦١

إلا مظهراً من مظاهر الطاقة - فالكتلة المتزايدة في الجسم هي إذن طاقته المتزايدة، وذلك وفقاً للمعادلة التالية:

الطاقة = كتلة المادة × مربع سرعة الضوء: «١٨٦٠٠٠» ميلٍ في الثانية. كما أنه : الكتلة المادة = الطاقة مربع سرعة الضوء.

وإذن، فنفس صفة «المادية» صفة عرضية، وليست ذاتية للمادة المتطورة.

- ٤ -

على ضوء الحقائق السابقة.

١ - إن المادة الأصلية للكون المادي ترجع إلى حقيقة واحدة مشتركة.

٢ - إن خواص المركبات التي تتكون من العناصر - هذه الخواص ليست ذاتية بالنسبة إلى المادة الأصلية، وإنما هي عارضة عليها بسبب التركيب، وليس عن الطبيعة الاساسية المكوِّنة للمركب.

٣ - إن خواص العناصر البسيطة التي يتكون منها العالم المادي أيضاً ليست ذاتية لتلك العناصر وليست نهائية بدليل تحول بعض العناصر إلى بعض آخر كما رأينا.

٤ - وأخيراً إن صفة «المادية» ليست ذاتية للمادة المحسوسة، لأنها تتحول - في نهاية المطاف - إلى طاقة.

٦٢

وإذن، فليست لدينا «حقيقة نهائية» هي المادة. وليست لدينا حقيقة نهائية. هي الطاقة.

النتيجة

- ٥ -

ان المادة لا يمكن ان تكون هي العلة النهائية للكون، لان الكون يحتوي على حشد هائل من المظاهر المتنوعة، والانواع المتباينة، وهي ترجع باجمعها إلى حقيقة واحدة كما رأينا. ولا يمكن للحقيقة الواحدة أن تختلف آثارها وتتباين افعالها، إذ لو أمكن ذلك لأمكن أن تكون الحقيقة الواحدة متناقضة الظواهر، ولكن هذا مستحيل لانه يؤدي الى القضاء على نتائج العلوم الطبيعية جميعاً، لأن هذه العلوم قائمة - كما رأينا سابقاً - على أساس قانون التناسب الذي يقضي بأن الحقيقة الواحدة لها آثار واحدة وثابتة لا تتغير، فقد بينا أن التجربة في العلم الطبيعي لا تتناول إلا نماذج ضئيلة من المادة المدروسة، وتعمم نتائج التجربة الى جميع المادة المدروسة بمقتضى قانون التناسب، فلو فرضنا إمكان تناقض ظواهر الحقيقة الواحدة لما أمكن وضع أي قانون علمي عام، وبذلك تنهار العلوم كلية.

واذن، فهذا الفرض - ان التنوع من خصائص المادة الذاتية - فرض مستحيل.

واذن، من المستحيل أيضاً أن تكون المادة هي العلة النهائية للكون،

٦٣

لأن هذا الفرض يؤدي بنا الى الاستحالة العقلية كما رأينا، ويصدم حقائق التجربة الواقعية.

واذن، فاذا كانت المادة غير صالحة لأن تكون علة نهائية، فلا بد أن تكون هذه العلة النهائية فوق المادة وفوق الطبيعة.

- ٦ -

هل بقي علينا شيء؟

نعم بقي علينا أن نناقش - بصورة مباشرة - موقف الماركسية من هذه المسألة لنفضح قصورها وعجزها وسطحيتها.

تقول الماركسية في تصوير نشوء الكون عن المادة: ان الاشياء تنتج عن حركة في المادة، وان حركة المادة ناشئة ذاتياً عن المادة نفسها لاحتوائها على النقائض في داخلها، وقيام الصراع بين تلك النقائض.

ونغض النظر الآن عن بطلان المبدأ الماركسي (مبدأ التناقض) ونناقش هذه المسألة وفقاً لهذا المبدأ لنرى إن كانت الماركسية قادرة على تفسير نشوء الكون من المادة وفقاً لمبادئها؟

لقد أوضح العلم كما أشرنا - إلى أن العناصر التي يتألف منها الكون ابتداء من الهيدروجين وحتى نهاية السلسلة تعود إلى مادة واحدة بسيطة مشتركة بين الجميع (ولنغض النظر عن ان هذه المادة الاساسية عبارة عن

٦٤

طاقة) فنسأل: كيف وجدت العناصر الاساسية للكون؟

سنقول - مع الماركسية - إن التناقضات الداخلية في المادة الأساسية ( ولا نعرف من أين جاءت هذه التناقضات في المادة الاساسية البسيطة المتجانسة) - إن التناقضات الداخلية ولدت أبسط العناصر (الهيدروجين) وبالتناقضات الداخلية في الهيدروجين تولد عنصر ارقى منه واكثر تعقيداً، وهو عنصر الهليوم، وتستمر التناقضات تفعل فعلها في الهليوم وما يتولد منه حتى يصل التطور إلى ذروته في العنصر الثاني بعد المئة النوبليوم.

هذا هو التفسير يقدمه الديالكتيك ليفسر به ديناميكية المادة.

ولكن بطلان هذا التفسير يتضح حين نلاحظ أن الهيدروجين لو كان مشتملاً بصورة ذاتية على نقيضه، ومتطوراً بسبب ذلك فلماذا لم تتكامل جميع ذرات الهيدورجين وتتحول إلى هليوم، ولماذا تحول بعضها إلى عنصر الهليوم وبقي الاخر محتفظاً بخواصه العنصرية بالرغم من تناقضاته الداخلية التي حولت أجزاء منه إلى هليوم.

إن هذا المثال يمكن تطبيقه على جميع العناصر الاثنين والمئة، وهو يكشف عن بطلان التفسير الماركسي لديناميكية المادة.

وكما اتضح بطلان التفسير المادي على مستوى العناصر يتضح بطلانه بصورة جلية على مستوى المركبات، ولنأخذ الماء مثلاً على ذلك: الماء مركب من أُوكسجين وهيدروجين ولنفرض وفقاً للتفسير الماركسي أحد هذين العنصرين إثباتاً والاخر نفياً نتج عنهما مركب الماء.

ونتساءل: إذا كان هذا التفاعل يتم بصورة ذاتية بين عنصري

٦٥

الاكسجين والهيدورجين، فلماذا اختص بقسم معين منها، وبقيت الأقسام الاخرى متحررة من أسر هذا القانون، فيوجد اكسجين حر، ويوجد هيدروجين حر، ويوجد ماء.

إن هذا المثال - ويمكن تطبيقه على كل مركب في الكون - يكشف بوضوح عن بطلان التفسير الماركسي لديناميكية المادة.

* * *

الحقيقة هي أن المادة ليست ديناميكية، وليست هي نفسها سبباً ذاتياً لاكتساب خصائصها وتنوعها، فقد عرفنا النتتائج العلمية أن جميع خصائص المادة عرضية.

١ - خصائص المركبات صفات عرضية لها جاءت بسبب تركب العناصر. فخاصة السيلان في الماء عرضية جاءت من اتحاد عناصره، وإذا فرزناها ترجع إلى حالتها الغازية وتنعدم خاصة السيلان.

٢ - خصائص العناصر نفسها صفات عرضية لها، فاليورانيوم مثلاً خصائصه من اختزانه لانواع أشعته، فاذا فقدها يتحول إلى الراديوم الذي يتحول بدوره - بعد عدة تحولات إلى رصاص.

٣ - خصوصية «المادية» في المادة البسيطة نفسها صفة عرضية لها، فقد عرفنا أنها تتحول إلى طاقة، وتتكون من الطاقة.

وإذن: فليست المادة ديناميكية بذاتها تولد تفاعلاتها وتنوعاتها وظواهرها بنفسها، لأن كل ذلك (حتى ماديتها) شيء عرضي لها.

وهكذا يظهر بجلاء ووضوح عجز الماركسية عن تفسير نشوء الكون

٦٦

من المادة، وتسقط بصورة مزرية فكرة أن المادة هي العلة الاولى.

وهكذا ننتهي بصورة حتمية إلى الايمان باللّه علة نهائية للكون.

ويجب أن نوضح هنا ان ايماننا باللّه لا يعني أن الاسباب الطبيعية لا معنى لها ولا أهمية لها، وانما يعني أن التنوع والتطور الظاهر والخفي في الكون يعود إلى اسباب طبيعية خارج المحتوى الذاتي للمادة، وهذه الاسباب تتصاعد متولدة من بعضها حتى تصل في النهاية إلى علة وراء الطبيعة هي اللّه تعالى.

الاسلام والعلم

يرى المؤلف في ص ٢١

«أن الدين - كما يدخل في صميم حياتنا، وكما يؤثر في تكويننا الفكري والنفسي - يتعارض مع العلم، ومع المعركة العلمية قلباً وقالباً، روحاً ونصاً».

نناقش فيما يلي الأدلة التي ساقها المؤلف على رأيه هذا لنكشف عن خطأه، وعن جهله بموضوع نقده (الدين الاسلامي).

- ١ -

يذكّر المؤلف قارئه بالصراع الذي حدث بين العلم والدين في أُوربا، ونحن نقول له: إن الصراع حدث بين علماء عصر النهضة وكنيسة القرون الوسطى لأسباب لا مجال لذكرها الان، وليس بين العلم والاسلام. وحدث في أُوربا وليس في العالم الاسلامي، والاسلام ليس ملزماً بتبرير

٦٧

مواقف لم يتخذها هو في مناطق جغرافية لم يصل إليها، وفي مجتمعات لم يطبعها بطابعه.

وما يدعيه المؤلف من أن في العالم العربي معركة تدور في الخفاء بين الدين والعلم شيء لا نعرفه ولا نحسه، ولا يعرفه احد ولا يحسه - نعم تدور في العالم العربي معركة - ظاهرة وليست خفية - بين الاسلام وبين الالحاد متمثلاً في الماركسية ومشتقاتها. والماركسية ليست علماً: ليست علماً بعد أن افتضح عجزها عن تفسير تطور الكون والحياة والمجتمع، وبعد أن اضطر قادتها إلى تغييرها وتبديلها حتى لم يبق منها في بعض المناطق إلا اسمها، ليست علماً وانما هي مجموعة من الأخطاء في الفكر اطلق عليها إسم العقيدة. وإن صداقتنا مع المعسكر الشرقي لا تعني تبعيتنا له في عقائده وطرائقه التي اتضح لمفكرينا وعلمائنا بطلانها. إننا أصدقاء، نعم، ولكن عقيدتنا وجذورنا التاريخية ستبقى هي التي تكوّن شخصيتنا الحضارية المستقلة. وتدور في العالم الاسلامي معركة بين الاسلام وبين تيار الانحلال والاباحية الجنسية، والانهيار الاخلاقي الوافد إلينا من الغرب، وتدور في العالم الاسلامي معركة بين الاسلام وبين الاستعمار بشتىٍ اشكاله والوانه: العسكري، والاقتصادي، والفكري، من أي مصدر جاء.

- ٢ -

(ص ٢٢) أ : «ويحوي الدين الاسلامي آراء ومعتقدات تشكل

٦٨

جزءً لا يتجزأ منه عن نشوء الكون وتركيبه وطبيعته، عن تاريخ الانسان وأصله وحياته خلال العصور».

لا أدري أين وجد المؤلف هذه «الموسوعة الدينية عن الكون» نشوئه، وتركيبه، وطبيعته. الحق أن الموجود في القرآن والسنة الصحيحة لا يعدو الأفكار العامة عن نشوء الكون، وأنه نشأ بارادة اللّه، وعن اصل تكوين هذه السلالة البشرية الموجودة الان، وهي لا تتنافى مع اية حقيقة علمية قائمة على الاطلاق - كما سنرى.

نعم، ربما يكون المؤلف قد استقى بعض معلوماته الدينية من اشخاص أو مصادر متأثرة بالاسرائيليات كبعض العجائز المتأثرات كثيراً بهذا النوع من القصص فيروينها لاطفالهن، كما لا يزال يؤمن كثير من المتعلمين عندنا ببعض الفرضيات «العلمية» التي شاع في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، والتي تجاوزها العلم منذ عقود من السنين ولكن افكار متعلمينا لا تزال متشبثة بها بالرغم من الشكوك الكبيرة التي تحيط بانقاضها الباقية ك‍«الداروينية» و«المادية الجدلية»، ولا يفوتنا أن نذكِّر المؤلف وغيره بأن كثرة أشياع فكرة ما لا تعني أنها حقيقة، وأن القوة المادية لا يمكن أن تسبغ صفة الحقيقة على أية فكرة، إن الفكرة حينئذٍ تكون أداة سياسية، لا حقيقية علمية.

ب - بالنسبة إلى منهج البحث في كل من العالم والدين، قال المؤلف:

«إن الاسلام والعلم في هذا الأمر على طرفي نقيض، فبالنسبة للدين

٦٩

الاسلامي (كما بالنسبة لغيره) إن المنهج القويم للوصول إلى مثل هذه المعارف والقناعات هو الرجوع إلى نصوص معينة تعتبر مقدسة أو منزلة، أو الرجوع إلى كتابات الحكماء والعلماء الذين درسوا وشرحوا هذه النصوص».

أُكرر قولي عن المؤلف بأنه لا يعرف الاسلام (موضوع نقده).

أولاً: ليس في الاسلام افكار تفصيلية حاسمة حول الكون، وطبيعته وتركيبه وتفاعلاته، ومن هنا فليس ثمة موضوع لاتهام المؤلف للاسلام.

ثانياً: إن النصوص الدينية التي تكون مورداً للدراسة والفحص والتعمق فيها هي نصوص الدين، أي ما يتناول العقيدة والشريعة، وليس لأجل اكتشاف أسرار الطبيعة المادية. إن المنهج في استكشاف اسرار الطبيعة المادية هو التجربة وليس دراسة النصوص. إن علماء المسلمين العظام الذين نبغوا في جميع مجالات العلوم الطبيعية في المغرب والمشرق (الخوارزمي، ابن خلدون، ابن سينا، ابن الهيثم، جابر بن حيان، الطوسي وغيرهم، وغيرهم) هؤلاء العلماء الذين بنت أوربا نهضتها علي ثمرات بحوثهم العلمية توصلوا إلى نتائجهم العلمية الباهرة لا بدراسة القرآن والحديث يا دكتور، وإنما باتباع النهج العلمي في البحث والتجربة. إن دور الدين في تكوينهم العلمي هو انه الهمهم ودلهم على قداسة هذا النوع من البحث العلمي وعظمته وكوّن في عقولهم المنهج التجريبي عن طريق الأمر بالبحث والتأمل والنظر في ظواهر الطبيعة وأسرار الانسان، وذلك كما ورد كثيراً في الحديث وفي الآيات الكونية في القرآن.

لقد كان هؤلاء علماء في الفلك والطب والجغرافيا، والكيمياء والفيزياء

٧٠

والاجتماع البشري، وغير ذلك، وكانوا مع ذلك مسلمين صالحين يتلقى المجتمع والدولة على صعيد رجال الدين ورجال الدنيا نتاجهم بالاحترام والتقدير والاعجاب، بل وينفقون الاموال الطائلة عليهم وعلى بحوثهم، وعلى تيسير وسائل البحث العلمي لهم من مكتبات ومستشفيات، ومراصد، وغيرها.

هل سمع الدكتور أن عالماً مسلماً اضطهد لعلمه، لاكتشاف من اكتشافاته، أو لرأي من آرائه كما حدث في أمكنة أُخرى؟ لم يحدث هذا أبداً يا دكتور (فلماذا تقيس الدين الاسلامي إلى غيره) عفواً، فما بالي أسألك، والذي يبدو لي من كلامك انك جاهل بالتاريخ العلمي للمسلمين كجهلك بالدين.

ولا ينقضي تعجبي من أحد المدافعين عن الدكتور (ملحق النهار / ١٨ ك٢ ١٩٧٠) الذي أراد - بدافع من حقده على الاسلام أو جهله به - أن يلحق بالاسلام التهمة العالقة بغيره، فادعى أن الامويين قتلوا العلماء القائلين بحرية الفكر، ويا ليته جاء على ذلك بشاهد من التاريخ يثبت دعواه. نعم، كان الامويون يلتزمون بمبدأ الجبرية لغايات سياسية ولكن التاريخ لا يحدثنا انهم قتلوا القائلين بحرية الانسان. على اننا لا نستطيع اعتبار الامويين ممثلين امناء للاسلام - إن

موضوعنا هو الاسلام كما ورد في مصادره الاساسية.

- ٣ -

أ - « من الامور الجوهرية التي يشدد عليها الدين الاسلامي أن جميع الحقائق الاساسية التي تمس حياة

٧١

الانسان في الدنيا والآخرة قد كشفت مرة واحدة في نقطة معينة وحاسمة في التاريخ - نزول القرآن وربما الكتب الاخرى قبله - ».

من أين جاء المؤلف بهذه الفكرة عن الاسلام؟ ومن قال له أن جميع المعارف التي تتعلق بحياة الانسان في الدنيا قد اكتشفت بنزول القرآن؟ ولماذا اشتغل المسلمون بشتى العلوم إذن إذا كانت هذه هي عقيدتهم؟ لا استطيع الا أن اكرر اتهامي للمؤلف بأنه جاهل بموضوع نقده بصورة تبعث على الأسف. كلا يا استاذ هذه الخرافة التي ذكرتها ليست من الاسلام في شيء. إن المعرفة في الاسلام عملية اقتحام واكتشاف للمجهول. وقوله تعالى:

«َ ما فَرّطْنا في الكتَاب منْ شيء(١) » الذي استشهدت به، لا يعني ميادين العلوم والحقائق الكونية، إن كلمة «شيء» في الآية حين توضع في اطارها - الدين - تعني القواعد العامة المعلقة بامور العقيدة والشريعة، ولكن المشكلة انك لا تعرف الاسلام من مصادره الاساسية.

ب - «اما الدين فبطبيعة عقائده المحددة ثابت ساكن، يعيش في الحقائق الأزلية، وينظر إلى الوراء ليستلهم مهده».

إن الدين ثابت في عقائده وتشريعاته، ولكنه يدفع إلى الحركة في

____________________

(١) سورة الأنعام، آية: ٣٨.

٧٢

الكون، والتقدم في الحياة، وبناء الحضارة، ودليل ذلك تاريخ المسلمين الحضاري حين كان الإسلام يحركهم ويدفع بهم نحو بناء الحضارة وصنع التاريخ.

وتلح على ذهني أن المؤلف استقي أفكاره هذه من المستشرق ه‍ أ جيب في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام» فإن هذا المستشرق في بعض فصول كتابه المذكور وجه إلى الاسلام هذا الاتهام الذي ردده المؤلف هنا.

ج - «في الواقع أصبح الاسلام الايديولوجية الرسمية للقوى الرجعية المتخلفة في الوطن العربي وخارجه، والمرتبطة صراحة ومباشرة بالاستعمار الجديد».

إن الاسلام ليس حليفاً لأي نظام غير عادل، وإذا كانت بعض الدول «تظهر» الإسلام كحليف لها فما ذاك إلا لأنها سخرت الإسلام لخدمة مآربها، كما تظهر الحكومات الاشتراكية الإسلام كحليف لها، والحقيقة هي أن الإسلام مع نفسه فقط.

ولا تفوتنا هنا أن ننبه على تناقض من تناقضات المؤلف الكثيرة، فهو في هذا الموضع يتهم الإسلام بأنه حليف الاستعمار والرجعية، ولكنه في ص ٤٥ - ٥١، تحت عنوان «التوفيق التبريري» يقول ان الإسلام يتخذ سنداً للرجعية وللاشتراكية وللديمقراطيات الشعبية، وللليبرالية. ونسأل المؤلف: هل هذه المواقف تشكل اتهاماً للاسلام الذي لا ينسجم إلا مع نفسه فقط أو تشكل اتهاماً بالجهل أو بالنفاق لاولئك الذين يظهرونه بمثل هذه المظاهر «ملاحظة: نذكر المؤلف بأن حكومة ستالين في الاتحاد

٧٣

السوفياتي استعانت بالروح الديني عند المسلمين التابعين لها في الحرب العالمية الثانية»

هذه هي الأدلة التي ساقها المؤلف للتدليل على أن الإسلام يقف ضد العلم، وقد رأينا مدى تفاهتها، وكشفها عن جهل المؤلف بموضوع نقده.

* * *

وقد استطرد المؤلف في ص ٢٤ - ٣٣، في أفكار يبدو أنه أراد أن يعزز بها أدلته الثلاثة، ونحن نستعرضها فيما يلي لبيان زيفها وبطلانها:

أ - «وهناك تشابه بين الدين والعلم في أن كليهما يحاول أن يفسر الأحداث وأن يحدث الأسباب ص٢٤».

هذا خطأ. ان الدين الإسلامي لا يحاول أن يفسر الظواهر الطبيعية، ولا يحاول أن يجعل نفسه بديلاً عن العلم. ان الدين كما ذكرنا عقيدة وشريعة توجه سلوك الانسان وحياته، وموضوع العلم هو الطبيعة يكتشفها ويسخرها للانسان، ودور الدين في العملية دور الاثارة، والتوجية وبعث الاهتمام بالطبيعة، ونحو اكتناه المعنى الذي يكمن فيها، ومن يلاحظ الآيات الكونية في القرآن يرى الشاهد على ما نقول. وبهذا ينكشف أن كل النائج التي رتبها المؤلف على مقدمته السابقة خيال محض من عنده وليس من الإسلام.

ب - «خلق اللّه هذا الكون في فترة معينة من الزمن بقوله كن فكان. أما الطبيعة فقد حافظت على سماتها الأساسية منذ أن خلقها اللّه، أي أنها تحتوي الآن على نفس الاجرام السماوية وأنواع الحيوانات والنباتات التي

٧٤

كانت موجودة فيها منذ اليوم الأول لخلقها، أما النظرية العلمية حول الموضوع ذاته فلا تعترف بالخلق من لا شيء، ولا تقر بأن الطبيعة كانت منذ البداية كما هي عليه الان».

١ - نكرر ان العقيدة الأساسية في الإسلام هي أن علل التكوين المتصاعدة في عالم الطبيعة تنتهي إلى اللّه، وما ورد في القرآن،

( إنما أَمرُه إذا أرادَ شَيْئاً أن يَقُولَ له كن فيكون ) (١)

____________________

(١) ورد أمر الخلق (كن) في القرآن الكريم في سبع سور، في ثمان آيات، هي كما يلي

١ - «بديع السماوات والارض. واذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

البقرة (مدنية - ٢) الاية: ١١٧

والآية إخبار من اللّه تعالى عن قدره المطلقة على الخلق بصيغة الغالب.

٢ - «قالت: رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر. قال: كذلك اللّه يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

آل عمران ( مدنية - ٣) الآية: ٤٧

٣ - « إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»

آل عمران (مدنية - ٣) الآية ٥٩

إخبار من اللّه تعالى في مورد خاص (خلق آدم وعيسى) عن قدرته المطلقة على الخلق.

٤ - «وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون، قوله الحق...»

الانعام (مكية - ٦) الآية: ٧٣

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٥ - «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون»

النحل (مكية - ١٦) الآية: ٤٠ إخبار من اللّه تعالى عن قدرته المطلقة على الخلق في مقام بيان قدرته المطلقة على بعث الأموات.

٦ - «ما كان اللّه أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

مريم (مكية - ١٩) الآية ٣٥

إخبار من اللّه تعالى بصيغة الغائب عن قدرته المطلقة على الخلق في مقام بطلان قول النصارى في عيسى بن مريم انه ابن اللّه.

٧ - «إنما أمره إذا أراد شيئاً ان يقول له كن فيكون»

يس (مكية - ٣٦) الآية: ٨٢

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في الاحتجاح على المشركين بشأن احياء الموتى وبعثهم.

٨ - «هو الذي يحيي ويميت، فاذا قضى أمراً فانما يقول له كن فيكون»

المؤمن (مكية - ٤٠) الآية: ٦٨

تعليم من اللّه تعالى لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله في مواجهة المشركين.

٧٥

وغيرها من الآيات التي ورد فيها هذا التعبير، لاتدل على أن الكون خلق بصورة دفعية على نحو مكتمل، وإنما تدل على قدرة اللّه الكلية الشاملة، بل لعلها على التدريج في الخلق أكثر دلالة بقرينة قوله:

( إذا أرادَ شَيْئاً )

٢ - أما أن الطبيعة وجدت بصورة مكتملة، وحافظت على سماتها الاساسية منذ أن خلقها اللّه... فهذا غير صحيح، وليس في الاسلام ما يشير إلى ذلك، بل في القرآن ما يدل صراحة على أن الطبيعة مرت في أدوار وأطوار حتى اكتملت في صورتها الحاضرة، وعلى المؤلف ان يرجع إلى القرآن الصحيح ليصحح رأيه.

٧٦

٣ - يقول المؤلف أن النظرية العلمية لا تعترف بالخلق من لا شيء. ونحن نسأل المؤلف: إذا كانت العلوم ترفض الخلق من لا شيء، فكيف وجد الكون اذن؟ ومن اين وجد؟ وهذا الشيء الذي وجد منه الكون مَن أوجده؟ لقد رأينا في مطلع هذا الحديث أن الذي اوجده هو اللّه تعالى.

٤ - تعرض لذكر خلق آدم، والجنة والطرد منها، ونرجئ الحديث عن ذلك إلى موعدنا معه في مكان آخر من كتابه تعرض فيه لهذه المسائل.

٥ - بعد كل ما ذكرنا فما هي قيمة ما نقله المؤلف عن «رسل» وهل هو إلا تهريج في وجه المنطق والحقيقة.

٦ - في ص ٢٩ - ٣١ تحدث المؤلف عن التوتر الذي يعاني منه المثقف الحديث بسبب التعارض القائم بين ثقافته العلمية وبين تراثه الديني - ان هذا التوتر يا دكتور ليس ناشئاً من تعارض حقيقي بين العلم وبين الاسلام، وانما هو ناشيء من أن كثيراً مما تسمونه «علماً» ليس إلا افتراضات لم تتأكد صحتها، أو ثبت بطلانها، وان الدين كما تفهمونه ليس مستنداً على مصادره الاساسية، وانما على الأباطيل التي الصقت به على مدى القرون من الاسرائيليات وغيرها.

العلم، العلم الحقيقي والدين الصافي لا يتعارضان وإنما يتكاملان في تنشئة الانسان وتقدمه.

خلق الانسان

المعتقد الاسلامي الاساسي الذي هو من ضروريات الدين هو أن الانسان وكل شيء في الكون مخلوق للّه سبحانه وتعالى.

أما تفاصيل كيفية الخلق وابتدائها فليس فيها نص صريح قاطع غير قابل للتأويل. وكيفية الخلق وابتدائها ليست من أُصول الدين التي يتحتم الاعتقاد بتفاصيلها ومميزاتها، بل يتقبلها المسلم كما جائت به ظواهر الكتاب والسنة الصحيحة وما لا يتنافي مع المسلمات العلمية اليقينية..

بعد هذا التمهيد نواجه ثلاث مسائل:

١ - وجود الانسان على الأرض هل ابتدأ بالسلالة الانسانية الموجودة الآن، أو سبقتها سلالات أُخرى غيرها انقرضت وبادت؟

٢ - نشأة السلالة الانسانية الموجودة الان.

٣ - الداروينية في علم الأحياء.

٧٧

- ١ -

لم يتعرض القرآن الكريم بصراحة ووضوح لبيان أن هذه السلالة البشرية الموجودة الان هي السلالة الوحيدة التي ظهرت على الأرض، أو أن ثمة سلالات بشرية أُخرى ظهرت على هذه الأرض، وعاشت ثم انقرضت، ثم تكرر ظهور السلالات البشرية وانقراضها، ونسلنا البشري الحاضر هو آخر هذه السلالات.

قلت إن القرآن لم يتعرض بصراحة ووضوح لبيان هذه النقطة، وإن كان التحليل الدقيق لقوله تعالى في سورة البقرة، وهي قوله تعالى:

( وإذ قال رَبّكَ للمَلائكَةِ إني جاعل في الأرَضِ خَليفَةً. قالُوا: أتجعَلُ فيها مَن يُفْسد فيها ويسفكُ الدّماءَ، ونحنُ نُسبّحُ بحمدِكَ ونقدّسُ لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون ) (١) .

أقول: ان التحليل الدقيق لهذه الآية ربما يدل على أن سلالة انسانية سابقة على هذه السلالة، وجدت على ظهر الأرض، وعاشت، ثم انقرضت. وليس هنا مجال استعراض تحليل الآية المذكورة.

نعم في بعض الأخبار الواردة عن طريق أهل البيت(ع) وعن طريق غيرهم ما يدل بصراحة ووضوح على أن السلالة البشرية الموجودة الآن ليست هي الوحيدة التي وجدت على هذه الأرض من النوع الانساني،

____________________

(١) سورة البقرة الآية ٣٠.

٧٨

وإنما سبقتها سلالات كثيرة انقرضت قبل وجودها:

١ - روي عن الإمام جعفر الصادق (ع)، قال: «لعلك ترى أن اللّه لم يخلق بشراً غيركم؟ بلى واللّه. لقد خلق ألف ألف آدم. أنتم في آخر أولئك الآدميين».

٢ - ذكر الشعراني في كتابه: «اليواقيت والجواهر/ ج ١ ص ٤٩» عن محيي الدين بن عربي حديثاً رواه عن ابن عباس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال: «ان اللّه تعالى خلق مئتي ألف آدم».

٣ - وعن الإمام الباقر (ع): «لقد خلق اللّه في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم، خلقهم من أديم الأرض، فأسكنهم فيها واحداً بعد واحد مع عالمه، ثم خلق اللّه عزوجل آدم أبا البشر، وخلق ذريته منه».

هذه نماذج من النصوص التي تدل بصراحة على تقدم سلالات بشرية، غير السلالة الحالية، في سكنى هذه الأرض، وانقراضها قبل ظهور هذه السلالة.

ولم يتح لنا الوقت لدراسة هذه النصوص من حيث السند والشكل والمضمون وتحليل دلالاتها، ونرجو ان تتاح لنا الفرصة لذلك.

- ٢ -

إن ظواهر القرآن والسنة الصحيحة تدل على أن السلالة البشرية الموجودة الآن تنتهي إلى آدم وحواء «لم يرد في القرآن! اسم حواء»

٧٩

ونحن هنا أمام أربع احتمالات.

١ - آدم رمز للنوع الانساني كله.

٢ - آدم عدد من أفراد النوع الانسان نظراً لتعدد الوان البشر ورسوسهم.

٣ - آدم فرد إنساني واحد. وهذا ينطوي على احتمالين:

أ - إنسان كامل تطور من نوع حيواني آخر كالقردة العليا مثلاً.

ب - إنسان كامل عقلياً تولد من زوج إنساني غير متكامل عقلياً وهذا بدوره تطور من زوج أحط منه عقلياً، وهذا بدوره تطور لزوج ادنى منه... وهكذا حتى تنتهي السلسلة إلى أبسط أنواع الحياة.

٤ - أن آدم وزوجه هما الابوان الأولان لهذه السلالة الانسانية، وهما لم يتكونا بالتناسل، وإنما خلقا من الأرض.

هذه هي الصورة المحتملة لمسألة المخلوق الأول، وابتداء خلق النوع الانساني - هذه السلالة الموجودة الآن بخصوصها، أو جميع السلالات السابقة ايضاً - واكرر أنه ليس من ضروريات الدين الاعتقاد بتفاصيل مسألة كيفية الخلق الأول، ما دام الاعتقاد الضروري الاساسي موجوداً، وهو أن اللّه خالق كل شيء، الانسان وغيره.

إلا اننا حين نعود إلى الفروض المتقدمة لفحصها نجد أن ظواهر القرآن تدل على الفرض الرابع، وتدفع بظاهرها الفروض الاخرى - ولا مجال

٨٠