فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد0%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 213006
تحميل: 8098

توضيحات:

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213006 / تحميل: 8098
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي: أنا منك وأنت منّي، أو: أنت منّي وأنا منك(1) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : علي منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمنٍ من بعدي(2) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث البعث بسورة البراءة المـُجمَع على صحّته: لا يذهب بها إلاّ رجل منّي وأنا منه(3) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لحمك لحمي ودمك دمي والحق معك(4) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من نبي إلاَّ وبه نظير في أُمته، وعلي نظيري(5) .

أو ما صحّحه الحاكم وأخرجه الطبراني عن أم سلمة قالت: كان رسول الله إذا أُغضب لم يجترئ أحد أن يكلَّمه غير علي(6).

أو قول عائشة: والله ما رأيت أحداً أحبُّ إلى رسول الله من علي ولا في الأرض امرأة كانت أحبُّ إليه من امرأته(7).

أو قول بريدة وأُبي: أحب الناس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من النساء فاطمة، ومن الرجال علي(8) .

____________________

(1) مسند أحمد ج5 ص204، الخصائص للنسائي 36و51.

(2) مسند أحمد ج5 ص356.

(3) الخصائص للنسائي 8 وغيره.

(4) المحاسن والمساوئ ج1 ص31، مناقب الخوارزمي 76، 83، 87.

(5) الرياض النضرة ج2 ص164.

(6) الصواعق 73، تاريخ الخلفاء للسيوطي 116.

(7) مستدرك الحاكم ج3 ص154، الخصائص للنسائي 29.

(8) الخصائص للنسائي 29، مستدرك الحاكم ج3 ص155.

٢١

أو حديث جميع بن عمير، قال: دخلت مع عمّتي على عائشة فسألت: أي الناس أحب إلى رسول الله؟! قالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمت صوَّاماً قوَّاماً(1) .

وكيف كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقدِّم الغير على علي في الالتفات إليه؟! وهو أوّل رجل اختاره الله بعده من أهل الأرض لما اطَّلع عليهم، كما أخبر بهصلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة بقوله: إنّ الله اطّلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيّاً، ثم اطّلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إليَّ فأنكحته واتخذته وصيّاً(2) .

وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوك والآخر زوجك(3).

إلى آخر ما ذكره شيخنا الأميني (عليه الرحمة) في سرد الأحاديث الصحيحة في تزييف أباطيل ذلك الكتاب التائه.

هذا، والتهجُّمات القاسية ضدَّ آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرة جدّاً، وسنشير أيضاً إلى بعضها في المستقبل بمناسبة المقام إن شاء الله.

وقبل الخوض في صميم البحث لا بأس بذكر مقدّمة كمدخل في الموضوع.

____________________

(1) جامع الترمذي 2 ص 227 وجمع آخر.

(3) الطبراني، كنز العمال ج6 ص153، مجمع الزوائد ج9 ص165.

(4) مواقف الإيجي ص8.

٢٢

وحيث إنّ التحدّث في هذا الكتاب إنّما هو عن شخصية فوق المستويات التي عرفها البشر؛ فلابدَّ من تمهيد أمور لعلّها تعتبر من (الماورائيات) فلا بأس، فالشخصية المترجمة عبقرية ماورائية، وسيتَّضح لك صدق هذا القول وصحّة هذا الكلام.

٢٣

قانون الوراثة

من الأمور الثابتة قديماً وحديثاً أنّ صفات الأبوين تنتقل إلى الطفل، وترتكز فيه منذ تكوُّنه في صلب أبيه إلى انتقاله إلى بطن أُمّه، ونشوّه ونُموِّه، وبعد الولادة والنموّ تظهر الصفات تدريجياً. بل وحتى الرضاع له تأثير عجيب في صفات الطفل المرتضع وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : (لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ الرضاع يعدي) وقد كتب الكثيرون حول هذا القانون تفاصيل كثيرة.

على ضوء هذا القانون ينبغي أن أذكر شيئاً من ترجمة حياة والديّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام كي نستنتج منها بعض جوانب العظمة التي أحاطت بالسيدة فاطمة من ناحية الوراثة، ولكنّ البحث سيطول، وينتقل الكتاب عن موضوعه إلى موضوع آخر، إلاَّ أنّنا نلخّص الكلام في هذه الجُمل الموجزة فنقول: سيّد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أطهر كائن وأشرف مخلوق، وأفضل موجود في العالم كلّه، لأجله خلق الله الكائنات، ولا يوجد في الكون شرف أو فضيلة أو مكرمة إلاَّ وأوفى نصيبٍ ممكنٍ منها متوفّر في الرسول العظيم.

هذه عصارة الخلاصة ممّا يمكن أن يقال في حق الرسول، وليس في هذا التعبير شيء من الغلوّ والمبالغة، بل هو كقولنا: الشمس مشرقة، والعسل حلو.

هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد انحدرت الزهراء

٢٤

من صلبه.

وأمّا السيّدة خديجة، فكانت امرأة بيضاء، طويلة حسناء، شريفة في قومها، عاقلة في أمورها، لها نصيب وافر من الذكاء، وبصيرة في الأمور، تعتمد على نفسها وشخصها، تدير عجلة التجارة بفكرها الوقَّاد، وتعرف مبادئ الاقتصاد والتصدير والاستيراد.

هذا بصفتها إنسان أو بصفتها امرأة.

وأمَّا بصفتها زوجة فقد بذلت تلك الآلاف المؤلّفة من أموالها لزوجها الرسول يتصرّف فيها حسب رأيه، وكان لأموال خديجة كل التأثير في تقوية الإسلام يومذاك؛ إذ كان الدين الإسلامي في دور التكوين، وكان بأمس الحاجة إلى المال، فقيّض الله للإسلام أموال خديجة، وبالفعل تحقّق الهدف.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما نفعني مالٌ قط مثل ما نفعني مال خديجة) وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يفك من مالها الغارم والعاني، ويحمل الكَلَّ، ويعطي في النائبة ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكّة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكان ينفق منه ما شاء في حياتها، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها(1) .

وبهذا يتضح كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما قام ولا استقام الدين إلاّ بسيف علي ومال خديجة).

وكانت معاشرتها للرسول في حياتها الزوجية تستحق كل تقدير

____________________

(1) الأمالي للطوسي ج 2 ص 82.

٢٥

وتعظيم، ولهذا كان الرسول إذا ذكرها أو ذُكرت عنده بعد وفاتها ترحَّم عليها، وانكسر قلبه عليها وربّما جرت عبرته على خدّه حزناً عليها.

وذات يوم ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة فقالت عائشة: عجوز كذا وكذا قد أبدلك الله خيراً منها!! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أبدلني منها، لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدَّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها، وحرمني ولد غيرها(1) .

____________________

(1) الاستيعاب.

٢٦

زواج الرّسُول الأعْظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

تزوّج الرسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسيدة خديجة الكبرى وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي بنت أربعين سنة، وقيل: ستة وعشرين سنة(1) وقيل: ثمانية وعشرين سنة(2) .

ويقال إنّها كانت قد تزوّجت قبل الرسول بزوجين متعاقبين، وقيل: بل كانت عذراء يوم تزوّجها الرسول(3) ولكنّه غير مشهور.

لم يكن زواج الرسول بالسيدة خديجة يشبه الزواج المتعارف بين الناس، بل يعتبر هو الزواج الوحيد من نوعه، إذ لم يكن ذلك القِران الميمون نتيجة حُبٍ وغرام، بل لم يكن هناك دافع مادِّي أو ما يشبهه من الأغراض التي كثيراً تحدث في زواج العظماء من جوانب السياسة.

بل لم يكن هناك تناسب بين الرسول وبين السيدة خديجة من حيث الحياة الاقتصادية، فالرسول العظيم كان يعيش تحت كفالة عمِّه الفقير أبي طالب.

والسيدة خديجة هي أثرى وأغنى امرأة في مكّة، فهناك بون شاسع في مستوى المعيشة بين هذا وتلك.

____________________

(1) جنات الخلود.

(2) بحار الأنوار ج6.

(3) البلاذري، وأبو القاسم في كتابيهما، والمرتضى في الشافي. وأبو جعفر في التلخيص، وابن شهرآشوب في المناقب.

٢٧

ولكن السيدة خديجة كانت قد علمت أو سمعت أنّ للرسول مستقبلاً متلألئاً واسع النطاق، ولعلَّ غلامها ميسرة هو الذي حدَّثها بما جرى للرسول في أثناء رحلته إلى الشام قصد التجارة بأموال خديجة، أو بلغها كلام راهب دير بُصرى قرب الشام في حق الرسول.

فهنا اقترحت السيدة خديجة قضية الزواج، وفاتحت الرسول، وطلبت منه أن يطلب يدها من والدها خويلد أو عمّها (على قولٍ).

لكنّ الرسول كان يفضِّل أن يتزوَّج بامرأة فقيرة تنسجم حياتها مع حياة الرسول، واعتذر من خديجة، وامتنع من تلبية طلبها لهذا السبب.

لكنّ السيدة خديجة العاقلة اللبيبة الفاضلة أجابته بأنّها تهب نفسها للنبي فهل يصعب عليها أن تبذل أموالها له، وتجعلها تحت تصرُّف الرسول؟

وطلبت من الرسول أن يرسل أعمامه إلى أبيها خويلد ليخطبوها.

فوجئ أعمام الرسول بهذا النبأ الوحيد من نوعه، واستولت الدهشة على عمّات الرسول حينما سمعن منه الخبر، إنّه لعجيب!!.

سيّدة تملك الآلاف من الأموال، ويعيش العشرات والمئات من العملاء والأجراء من بركات أموالها وتجارتها القائمة صيفاً وشتاءً، بين اليمن ومكّة وبين مكّة والشام.

سيدّة خطبها الأُمراء والأشراف فرفضتهم، سيّدة هكذا تقدِّم نفسها هبةً لشاب فقير يعيش تحت كفالة عمِّه الفقير أبي طالب.

٢٨

فيا ترى هل صدقت خديجة في تقديم نفسها للرسول؟ وهل لهذا الخبر نصيب من الحقيقة؟ قامت صفية بنت عبد المطلب (عمّة النبي) وتوجّهت إلى دار خديجة للتحقيق عن الخبر، وإذا بها تجد الترحيب والاستعداد بجميع معنى الكلمة.

٢٩

السَيّدة خَديجة على أبواب السعادة

رجعت صفية إلى إخوتها (أعمام النبي) وأخبرتهم بصدق الخبر، واستولت الفرحة على أعمام النبي، فرحة ممزوجة بالتعجّب والدهشة والذهول.

فإنّ خديجة خطبها الأمراء وأشراف العرب فرفضت ولم توافق، إذ إنّها لم ترهم لها أكفاءً، فما الذي دعاها إلى انتخاب هذا الزوج الفقير الذي لا يملك من حطام الدنيا تبراً، ولا من الأرض البسيطة شبراً؟ يا للعجب العجاب!.

قام أعمام النبي وقصدوا دار خديجة، وخطبوها من أبيها خويلد أو عمِّها، فامتنع ثم وافق بعد ذلك. ثم لابدَّ من تقديم مبلغ من المال صداقاً يليق بمقام خديجة، فكيف يمكن تحصيل هذا المال؟ ومن أين؟ ومَن الذي يتبرع بالصداق؟

وإذا بالسيدة خديجة تباغتهم مرّةً أُخرى، وتدفع إلى الرسول أربعة آلاف دينار هدية، وتطلب منه أن يجعل ذلك المبلغ صداقاً لها ويقدِّمه إلى أبيها خويلد.

وفي رواية: أنّ أبا طالب هو الذي دفع الصداق من ماله.

إن كانت السيدة خديجة تؤمن بالقيَم، وتضحّي بالمادة في سبيل تحصيل الشرف فإنّ أباها خويلد لم يكن يحمل هذه الفكرة، وكثيراً ما تجد التفاوت الكثير بين ثقافة الأب وابنه أو ابنته.

٣٠

وهذا الاختلاف في التفكير موجود بين طبقات الناس، وحتى بين الأخ وأخيه، والرجل وزوجته، والأب وما ولد.

كانت هذه المبادرة نادرة عجيبة جداً، فلم يعهد أحد في العرب أنّ المرأة تقدِّم الصداق لزوجها، فلا عجب إذا هاج الحسد بأبي جهل وقال: (يا قوم رأينا الرجال يمهرون النساء، وما رأينا النساء يمهرن الرجال).

فيجيبه أبو طالب مغضباً: (ما لك؟ يا لكع الرجال! مثل مُحمد يُحمل إليه ويُعطى، ومثلك يُهدي ولا يُقبل منه) أو قال: (إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوَّجوا إلاَّ بالمهر الغالي).

وتمَّ الزواج المبارك الميمون على أحسن ما يرام، وانتقل الرسول إلى دار السيدة خديجة، فكانت خديجة تشعر أنّها في أسعد أيام حياتها إذ إنّها وصلت إلى أغلى أمانيها وأحلى أحلامها.

وأنجبت السيدة خديجة أولاداً ماتوا كلّهم في أيام الصغر، وأنجبت بنات أربع: زينب وأُمّ كلثوم ورقية وفاطمة الزهراء، وكانت فاطمة أصغرهنَّ سنّاً وأجلَّهنَّ شأْناً وأعظمهنَّ قدراً. وهناك اختلاف بين المؤرّخين والمحدّثين حول البنتين الأوليين، فقيل: إنّهما ليستا من بنات النبي، والصحيح أنّهما من بناته وصلبه. وسيأتي الكلام حول ذلك في المستقبل بالمناسبة بإذن الله(1) .

____________________

(1) التقطنا تفاصيل زواج السيدة خديجة من بحار الأنوار ج 16.

٣١

كَلِمَة خَاطِفَة حَوْلَ (المـَاوَرَائيّات)

هذه هي السيدة خديجة الكبرى، وهذا بعض مناقبها وفضائلها التي تُعتبر كل فضيلة منها مثالاً رائعاً للإنسان الكامل، وهذه السيدة هي التي أنجبت السيدة فاطمة الزهراء، وأرضعتها اللبن الممزوج بالمواهب والفضائل.

وفاطمة الزهراء سليلة أبوين هذا بعض ما يتعلّق بحياتهما ومحاسنهما، وهذه نظرة خاطفة أو صورة مصغّرة يمكن لنا أن ننظر منها إلى عبقرية سيّدتنا فاطمة الزهراء؛ وبذلك تظهر لنا زاوية من حياتها على ضوء الوراثة.

وهناك حقائق ثابتة لا يمكن إنكارها، وقد صرّحت بذلك أحاديث شريفة كثيرة متواترة عن الرسول الأقدس وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام لم يكتشفها العلم الحديث، ولم تصل إليها الاكتشافات الحديثة بالرغم من سعتها وانتشارها، وبالرغم من وصولها إلى الذرّة فما فوقها وإلى الكواكب فما دونها.

تلك الحقائق لا مجال للآلات والمجاهر أن تغزوها وتحيط بها علماً، ولا طريق لعدسات المصوِّرين أن تلتقطها ولو بالأشعة البنفسجية وما فوق البنفسجية.

وتفشل دون إدراكها مقاييس الطبيعة والمنطق، فالحقيقة فوق إدراك المادة والموازين المنطقية، فلا تدرك بالحواس الخمس: (الباصرة، السامعة، الذائقة، الشامّة، اللامسة) بل هي من أسرار الله المـُودَعة في الكائنات، وإن شئت أن تسمّيها بـ (الماورائيات ) فلك ذلك.

٣٢

وقبل عرض تلك الحقائق لابدّ من تمهيد مقدّمة موجزة فنقول: إنّ النطفة التي تنعقد في الرحم ويتكوّن منها الجنين، تتكوّن من الدم، والدم يستخلص من الطعام بعد إنهاء عمليات الهضم والنضج والطبخ في المختبرات التي يحتويها الجسم، فلا شك أنّ النطفة المتكوّنة من الدم المستخلص من لحم الخنزير أو الخمر - مثلاً - تختلف عن النطفة المتكوّنة من الدم المستخلص من لحم الغنم أو ما أشبه ذلك؛ لأنّ نوعيّة هذا اللحم تختلف اختلافاً كبيراً عن نوعيّة ذاك، فكذلك تختلف منتجات كل واحد منهما.

وللطعام تأثير خاص في روح الإنسان ونفسه، فهناك أطعمة مفرِّحة للقلب، مهدئة للأعصاب، تخفّف عن توتّرها، وهناك أطعمة مفعولها عكس ذلك.

وللطعام الحلال والطاهر تأثير في نفس الإنسان وروحه، بعكس الطعام النجس كالخمر أو الحرام كالمسروق والمغصوب.

ونفس التأثير يظهر في النطفة التي تنعقد من الطعام الحلال أو الحرام، أو الطاهر أو النجس، ولو أردنا استعراض الشواهد وإقامة الأدلة والبراهين على ذلك لطال بنا الكلام وخرج الكتاب عن أسلوبه وموضوعه المقصود.

وعلى هذا الغرار فللطعام الذي يأكله الأبوان كل التأثير في توجيه الطفل وتسييره نحو الخير والشر؛ إذ من ذلك الطعام تتكوّن النطفة، ثم تنتقل من صلب الرجل إلى رحم زوجته، وتلتصق بجدار الرحم، وتنمو وتكبر حتى تكمل جنيناً تامّاً.

فالطعام من حيث النوعية ومن حيث الحكم الشرعي كالحلال والحرام، والطاهر، له تأثير عجيب مدهش في مصير الطفل، وكيفية تفكيره في الأمور واختيار الحياة الدينية، وتوجيهه نحو الاعتدال

٣٣

والاستقامة أو الانحراف والانجراف.

وكذلك الحالة النفسية الموجودة عند الزوجين عند العملية الجنسيّة لها كل التأثير في مقدّرات الطفل وحالاته ونفسيّاته في المستقبل.

فالخوف والقلق لهما أسوأ الأثر في مستقبل الطفل المسكين، وبالعكس الطمأنينة والهدوء النفسي له أحسن الأثر في الطفل.

كذلك الرغبة الملحّة والشوق الشديد يؤثّر في جمال الطفل وحسنه وذكائه، بينما عدم الرغبة وضعف الشهوة بسبب خلاف ذلك.

وانطلاقاً من هاتين النقطتين: نقطة تأثير الطعام ونقطة تأثير الحالة النفسية ننتقل بالقرّاء إلى طائفة من الأحاديث المتواترة، فقد ذكر شيخنا المجلسي (قدّس سرّه) في السادس من البحار هذا الحديث الشريف:

اعتزال النبي عن خديجة

... هبط جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فناداه: يا محمد! العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً.

فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان لها محبّاً وبها وامقاً (محبّاً) فأقام النبي أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، حتى إذا كان في آخر أيامه تلك. بعث إلى خديجة بعمّار بن ياسر وقال: قل لها: يا خديجة لا تظنّي أنّ انقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكنّ ربّي أمرني بذلك لينفّذ أمره، فلا تظنّي يا خديجة إلاّ خيراً، فإنّ الله عزّ وجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مراراً.

فإذا جنّك الليل فأجيفي (ردّي) الباب، وخذي مضجعك من

٣٤

فراشك، فإنّي في منزل فاطمة بنت أسد.

فجعلت خديجة تحزن كل يوم مراراً لفقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا كان في كمال الأربعين هبط حبرئيل فقال: يا محمد! العليّ الأعلى يقرئك السلام وهو يأمرك أن تتأهّب لتحيَّته وتحفته.

طعام الجنّة

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل وما تحفة ربّ العالمين وما تحيّته؟ فقال جبرئيل: لا علم لي.

فبينما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطّى بمنديل سندس أو إستبرق، فوضعه بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقبل جبرئيلعليه‌السلام وقال: يا محمد، يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.

قال علي بن أبي طالبعليه‌السلام : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمـَن يرد من الأقطار، فلمّا كان في تلك الليلة أقعدني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على باب المنزل وقال: يا بن أبي طالب إنّه طعام محرَّم إلاّ عليَّ.

قال عليعليه‌السلام : فجلست على الباب، وخلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالطعام، وكشف الطبق، فإذا عذق من رطب، وعنقود من عنب، فأكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله منه شبعاً وشرب من الماء رياً، ومدّ يده للغسل، فأفاض الماء عليه حبرئيل، وغسل يده ميكائيل وتمندله إسرافيل، وارتفع فاضل (باقي) الطعام مع الإناء إلى السماء.

ثم قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليصلي فأقبل عليه جبرئيل وقال: الصلاة محرَّمة عليك

٣٥

في وقتك حتى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها، فإنّ الله عزّ وجلّ آلى (حلف) على نفسه أن يخلق من صلبك هذه الليلة ذرية طيّبة.

فوثب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى منزل خديجة.

قالت خديجة: وقد كنت قد ألفت الوحدة، فكان إذا جنّني الليل غطّيت رأسي، وسجفت (أرسلت) ستري وغلّقت بابي، وصلّيت وِردي، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي؛ فلمّا كانت تلك الليلة لم أكن نائمة ولا بالمنتبهة إذ جاء النبي فقرع الباب، فناديت: مَن هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلاّ محمد؟

فنادى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإنّي محمد. قالت خديجة: فقمت مستبشرة بالنبي، وفتحت الباب، ودخل النبي المنزل، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهّر للصلاة ثم يقوم فيصلّي ركعتين يوجز فيهما، ثم يأوي إلى فراشه.

فلما كانت تلك الليلة لم يدعُ بالإناء ولم يتأهب للصلاة... بل كان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء، وأنبع الماء ما تباعد عنّي النبي حتى أحسست بثقل فاطمة في بطني... إلى آخره(1) .

نستفيد من هذا الحديث أموراً:

1 - إنّ الله تعالى أمر نبيّه أن يعتزل خديجة، وأن ينقطع عن رؤيتها لفترة حتى يزداد بها شوقاً ورغبة.

2 - اشتغاله بالمزيد من العبادة للمزيد من روحانية النفس وسمّوها

____________________

(1) البحار ج16 / 78.

٣٦

وتعاليها بسبب الاتصال بالعالم الأعلى.

3 - إفطاره بالتحفة السماوية الطاهرة، السريعة التحوّل إلى النطفة بسبب لطافتها.

4 - تكوّن النطفة من طعام سماوي لطيف، لا يشبه الأطعمة المادية.

5 - التوجّه إلى دار خديجة فوراً استعداداً لانتقال النطفة مع تلك المقدّمات.

وقد ذكر هذا الحديث - من علماء العامّة - بتغيير يسير كلٌّ من:

1 - الخوارزمي في مقتل الحسين ص63 و68.

2 - الذهبي في الاعتدال ج2 ص26.

3 - تلخيص المستدرك ج3 ص156.

4 - العسقلاني في لسان الميزان ج4 ص36.

ثمّ هناك أحاديث كثيرة بهذا المعنى مع اختلافٍ يسير في ألفاظها، واتفاقها حول النقطة الجوهرية، وهي انعقاد نطفة السيدة فاطمة الزهراء من طعام الجنّة، ونذكر من بعض تلك الأحاديث الجملة المرتبطة بالموضوع رعايةً للاختصار، فنقول:

عن الإمام الرضاعليه‌السلام قال: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : لما عُرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنّة فناولني من رطبها فأكلته، فتحوّل ذلك نطفةً في صلبي فلمّا هبطت واقعت خديجة، فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسيَّة، فكلّما اشتقت إلى رائحة الجنّة شممت رائحة ابنتي فاطمة(1) .

عن الإمام الباقرعليه‌السلام عن جابر بن عبد الله قال: قيل لرسول

____________________

(1) الأمالي للصدوق.

٣٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك لتلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك... وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ جبرئيل أتاني بتفاحة من تفّاح الجنّة فأكلتها فتحوّل ماءً في صلبي، ثمّ واقعت خديجة فحملت بفاطمة؛ وأنا أشمّ منها رائحة الجنّة (1) .

وعن ابن عباس قال: دخلت عائشة على رسول الله وهو يقبِّل فاطمة، فقالت له: أتحبّها يا رسول الله؟ قال: أما والله لو علمت حبِّي لها لازددت لها حباً، إنّه لما عُرج بي إلى السماء الرابعة... إلى أن يقول: فإذا برطب ألين من الزبد، وأطيب من المسك، وأحلى من العسل، فأخذت رطبة فأكلتها فتحوّلت الرطبة نطفة في صلبي، فلمّا أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوارء إنسيّة، فإذا اشتقتُ إلى الجنّة شممتُ رائحة فاطمة(2) .

وقد روى هذا الحديث بألفاظ مختلفة كلٌّ من:

1 - الخطيب البغدادي في تاريخه ج5 ص87.

2 - الخوارزمي في مقتل الحسين ص63.

3 - محمد بن أحمد الدمشقي في ميزان الاعتدال ج1 ص38.

4 - الزرندي في (نظم درر السمطين).

5 - العسقلاني في لسان الميزان ج5 ص160.

6 - القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة.

7 - محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص34.

____________________

(1) علل الشرائع.

(2) البحار: ج 16.

٣٨

وهذه الأحاديث مرويّة عن: عائشة وابن عباس وسعيد بن مالك وعمر بن الخطاب.

8 - وروى ذلك الشيخ شُعيب المصري في (الروض الفائق ص214) قال: (روى بعض الرواة الكرام: أنّ خديجة الكبرىرضي‌الله‌عنها تمنَّت يوماً من الأيام على سيّد الأنام أن تنظر إلى بعض فاكهة دار السلام، فأتى جبرئيل إلى المفضّل على الكونين من الجنّة بتفاحتين وقال: يا محمد يقول لك مَن جعل لكل شيء قدراً: كل واحدة وأطعم الأخرى لخديجة الكبرى، وأغشها، فإنّي خالق منكما فاطمة الزهراء. ففعل المختار ما أشار به الأمين وأمر... إلى أن قال: فكان المختار كلّما اشتاق إلى الجنّة ونعيمها قبَّل فاطمة وشمَّ طيب نسيمها، فيقول حين يستنشق نسمتها القدسية: إنّ فاطمة حوراء إنسية).

وهناك روايات متواترة بهذا المضمون، واكتفينا بما ذكرنا.

بقيت هنا كلمة لا بأس بالإشارة إليها، وهي أنّ الأحاديث كما تراها تصرّح بأنّ السيدة خديجة حملت بفاطمةعليها‌السلام بعد المعراج مباشرةً، وكان المعراج على ما هو المذكور في بعض كتب الحديث في السنة الثالثة من المبعث، وفي بعضها: في السنة الثانية وقيل غير ذلك.

وستأتيك طائفة من الأحاديث من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تصرّح بولادتها بعد المبعث بخمس سنين، ومعنى هذا أنّها بقيت في بطن أُمّها أكثر من عامين، وهذا غير صحيح قطعاً، فكيف يمكن الجمع بين القولين؟

يمكن أن تُحلّ هذه المشكلة بما يلي:

1 - إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عُرج به إلى السماء

٣٩

أكثر من مرّة كما في كتاب الكافي(1) وهذا عندي أحسن الوجوه.

2 - الأخذ بالقول المروي بولادتها في السنة الثانية أو الثالثة من المبعث (كما سيأتي) وهذا يتفق مع القول بالمعراج في تلك السنة نفسها، وخاصة بعد الالتفات إلى اختلاف الأقوال حول الشهر الذي كان فيه المعراج.

الجنين يتكلّم مع أُمّه

ومن جملة مزايا السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام أنّها كانت تكلّم أُمّها خديجة وهي في بطنها، ولم ينفرد علماء الشيعة بذكر هذه الفضيلة، بل شاركهم كثير من علماء العامّة ومحدّثيهم، فقد روى عبد الرحمان الشافعي في (نزهة المجالس ج2 ص227): (قالت أُمّها خديجةرضي‌الله‌عنها : لما حملتُ بفاطمة كانت حملاً خفيفاً، تكلِّمني من باطني).

وروى الدهلوي في (تجهيز الجيش) عن كتاب (مدح الخلفاء الراشدين): (إنّه لما حملت خديجة بفاطمة كانت تكلّمها ما في بطنها، وكانت تكتمها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل عليها يوماً وجدها تتكلّم وليس معها غيرها، فسألها عمّن كانت تخاطبه فقالت: ما في بطني، فإنّه يتكلّم معي. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبشري يا خديجة، هذه بنت جعلها الله أُمّ أحد عشر من خلفائي يخرجون بعدي وبعد أبيهم).

وذكر شعيب بن سعد المصري في (الروض الفائق ص214): فلمّا سأله الكفّار أن يريهم انشقاق القمر، وقد بان لخديجة حملها بفاطمة

____________________

(1) الكافي ج 1 / 442 باب مولد النبي حديث 13.

٤٠