فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد0%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 213012
تحميل: 8098

توضيحات:

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 213012 / تحميل: 8098
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عيَادَةُ النِّساء لِفَاطمِة الزهْراءعليها‌السلام

لا نعلم - بالضبط - السبب الحقيقي والدافع الأصلي الذي دعا بنساء المهاجرين والأنصار لعيادة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، فهل كان هذا بإيعاز من رجالهن؟ فما الذي دعا أولئك الرجال لإرسال نسائهم إلى دار السيدة فاطمة؟

أو هل حصل الوعي عند النساء وشعرن بالتقصير بل الخذلان لبنت رسول الله، فانتشر هذا الشعور بين النساء فأنتج ذلك حضورهن للعيادة، للمجاملة أو إرضاء لضمائرهن المتألّمة لما حدث وجرى على سيدة النساء؟

أو كانت هناك أسباب سياسية فرضت عليهنّ ذلك؛ فحضرن لتلطيف الجوّ وتخفيف توتّر العلاقات بين السيدة فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين السلطة الحاكمة في ذلك اليوم؟

خاصة وأنّ الموقف الاعتزالي الذي اختارته السيدة فاطمة لنفسها، وانسحابها عن ذلك المجتمع لم يكن خالياً عن التأثير، بل كان جالباً لانتباه الناس، وبالأخص حين حمل الإمام أمير المؤمنين السيدة فاطمة يطوف بها على بيوت المهاجرين والأنصار، تستنجد بهم وتستنهضهم فلم تجد منهم الإسعاف بل وجدت منهم التخاذل، وقد مرّت عليك نتيجة الحوار الذي جرى بين السيدة فاطمة الزهراء وبين معاذ بن جبل، وعرفت موقف ابنه من ذلك الردّ السيئ.

وعلى كل تقدير فلا يعلم - أيضاً - عدد النساء اللاتي حضرن عند السيدة فاطمة الزهراء وهي طريحة الفراش، ولكنّ المستفاد أنّ العدد لم يكن قليلاً

٤٤١

بل كان العدد كثيراً يعبأ به.

فانتهزت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام الفرصة، واستغلّت اجتماع النساء عندها لأن تضع النقاط على الحروف، وتكتب في سجلّ التاريخ الأعمال البشعة التي قام بها بعض المسلمين تجاه عترة نبيّهم وذرّيّته الطاهرة.

والنساء يشكلّن نصف المجتمع أو أكثر من النصف، وكل امرأة مرتبطة برجلٍ من زوج أو أب أو أخ أو ابن، فهي بإمكانها أن تقوم بدورٍ فعّال في المجتمع وخاصة في حقل الدعاية والإعلام والنشر.

فلماذا تسكت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام في هذا الاجتماع؟ ولماذا لا تذكر استياءها من أولئك المتطرّفين؟

(قلن لها: كيف أصبحتِ من علتّكِ يا ابنة رسول الله؟) هكذا جرت العادة والآداب أنّ العائد يسأل المريض عن صحّته وعلّته، فيجيبه المريض عمّا يشعر به من المرض والألم، ولكنّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام لم تجبهن عن مرضها وتدهور صحّتها، بل أجابتهن عن آلامها النفسية، ومصائبها الشخصية، فالتحدّث عن هذه الأمور أولى وأوجب من التحدّث عن أحوالها الصحيّة لأنّ تلك المصائب هي التي جرَّت العلّة والمرض إلى السيدة فاطمة وسلبتها العافية والصحّة، فالتحدّث عن السبب أولى من التحدّث عن المسبّب، والإخبار عن العلّة أفضل من الإخبار عن المعلول.

وهنا أجابت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام على أسئلة النسوة كما تقتضي الحال.

لا تتعجّب إن كانت السيدة فاطمة ما نسيت أُصول الفصاحة والبلاغة والأدب الرفيع والمستوى الأعلى بسبب انحراف صحّتها بل قالت:

٤٤٢

فاطِمةُ الزهْرَاءُ تَضَعُ النقَاطَ عَلَى الحرُوف

(أصبحتُ - والله - عائفة لدنياكن) نعم، إنّها تبدي تنفّرها عن الحياة الدنيا، وكراهتها لذلك المجتمع الذي لا يؤمن بالقيم.

(قالية لرجالكن) ويحقّ لها أن تبدي اشمئزازها وغضبها على رجال المدينة، الذين كان موقفهم تجاه السيدة فاطمة الزهراء موقفاً غير طيّب، فلقد مرَّ عليك أنّهم أبدوا انزعاجهم من بكاء السيدة فاطمة الزهراء على فقد أبيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يتجاوبوا معها في إسعافها والوقوف معها.

(لفظتهم بعد أن عجمتهم) أي رميتهم من فمي بعد أن عضضتهم، كما يرمي أحدنا اللقمة من فمه ويشمئز منها.

(وشنئتهم بعد أن سبرتهم) أي أبغضتهم ومللتهم بعد أن اختبرتهم، وكرهتهم بقلبي بسبب سوء تصرّفاتهم.

(فقبحاً لفلول الحد) شبّهت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام رجال أهل المدينة بالسيف الذي انثلم حدّه فلا يقطع، إشارة إلى قعودهم عن نصرتها، وخذلانهم إيّاها، فكأنّهاعليها‌السلام تستقبح فيهم سكوتهم عمّا جرى على بنت نبيّهم من الظلم والاضطهاد.

(واللعب بعد الجد) والمقصود: عدم المبالاة بالحق بعد اهتمامهم بذلك، فإنّهم كانوا جادّين في نصرة الإسلام، ولكن الآن صاروا وكأنّهم يلعبون ألعاباً سياسية.

٤٤٣

(وقرع الصفاة) والمراد: التذلل والانقياد لكل مَن قادهم:

(وصدع القناة) وفي نسخة: (خور القناة) إشارة إلى استرخاء الرمح بسبب انشقاقه، وينبغي أن يكون الرمح صلباً حتى يمكن الطعن به، وإذا كان الرمح رخواً لا يمكن أن يُطعن به.

(وخطل الآراء) وفي نسخة: (أفول الرأي) وفي نسخة أخرى: (خطل القول) وعلى كل تقدير فهو إشارة إلى انحراف آرائهم وفسادها، وشذوذ مواقفهم السلبية، والإيجابية.

أما مواقفهم السلبية فهي تجاه أهل بيت نبيهمعليهم‌السلام وعدولهم عن أهل البيت إلى غيرهم، وأما الإيجابية فاعترافهم بالسلطة المناوئة لآل الرسول.

(وزلل الأهواء) ما أقبح تلك الرغبات المنحرفة التي لعبت بمقدرات المسلمين على مرّ التاريخ وعلى مرّ القرون، وتلك العثرات المنبعثة عن اتباع الأهواء الضالة المضلة، ومن مشتهيات الأنفس.

( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) هذه الآية من سورة المائدة آية (80) وقبلها:( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً منْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) .

إنّهاعليها‌السلام أدمجت هذه الآية في حديثها للمناسبة بين الموردين، ويظهر وجه المناسبة بالمقارنة بين الآيات وبين موقف أولئك المتخاذلين.

(لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها) إنّهاعليها‌السلام تلقي المسؤولية -

٤٤٤

مسؤولية الأجيال كلّها على أعناق أولئك الأفراد، إذ إنّها لما حضرت في المسجد وخطبت، وأتمّت الحجّة على الحاضرين واستنجدت بالمهاجرين والأنصار فثبت التكليف الشرعي في حقّهم، وحيث إنّهم لم ينصروها فهم مسؤولون عن مضاعفات ذلك الخذلان أمام الله وأمام التاريخ.

(وحمَّلتهم أوقتها) أي حمّلتهم ثقل المسؤولية وشومها.

(وشننت عليهم عارها) شننت الماء على التراب: أرسلته وصببته بصورة متفرّقة، وفي نسخة: (سننت) أي صببت بصورة متصلة غير متفرّقة، وعلى كل تقدير فالمعنى، أنّ عليهم سبّة التاريخ وعاره للأبد بسبب ذلك الجفاء الذي أبدوه تجاه أهل البيت.

(فجدعاً وعقراً وسحقاً للقوم الظالمين) وفي نسخة أخرى: (فجدعاً وعقراً وبُعداً) هذه كلمات دعاء عليهم بسبب ظلمهم لآل الرسول؛ والظلم: وضع الشيء في غير ما وضُع له، والظلم على درجات ومراتب، فهناك الظلم بالنملة، وهناك الظلم بالأُمّة الإسلامية عبر التاريخ، والظلم بأولياء الله الذين يرضى الله لرضاهم، ويغضب لغضبهم.

ويستحق الظالمون أن يُدعى عليهم بالجدع والعقر والبُعد، فيقال: جدعهم الله جدعاً وعقرهم الله عقراً، ومعناهما: قطع الله أيديهم وآذانهم وشفاههم وجرح الله أبدانهم.

(ويحهم) ويح: كلمة تستعمل في مقام التعجّب، وقد يكون معناها الويل.

(أنَّى زحزحوها عن رواسي الرسالة؟) وفي نسخة: (زعزعوها) تتعجّبعليها‌السلام من سوء اختيارهم، أي كيف نحّوا خلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مواضعها الثابتة التي هي بمنزلة الجبال

٤٤٥

لحركة الأرض وسيرها بصورة منظمة وحفظها من الاضطراب؟!

(وقواعد النبوّة) القواعد: جمع قاعدة وهي - هنا - الأساس للبناء، فكما أنّ البناء إذا بُني على غير أساس ينهدم فكذلك الخلافة، إذا وُضعت في غير موضعها اللائق بها تنهار معنوياً، ويختل نظامها، وتضطرب أركانها.

(ومهبط الروح الأمين) كان جبرئيل يهبط في بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبيوت أهل بيته، وبيت فاطمة مهبط الروح الأمين.

(والطبين بأمر الدنيا والدين) الفطن الحاذق بأمور الدنيا المتعلّقة بالحياة، وكذلك القضايا المتعلّقة بالدين في جميع المجالات وشتّى الأحكام، وتقصد بذلك أهل بيت الرسولعليهم‌السلام وتخصّ زوجها الحكيم العظيم الإِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(ألا: ذلك هو الخسران المبين) أي والله، خسران واضح خسرته الأُمّة الإِسلامية في جميع مجالات حياتها من الحياة الفردية والزوجية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والصحيّة والسياسية والعمرانية والدينية والدنيوية والأُخروية.

كل ذلك حين سلبت الأمّةُ السلطةَ والقدرةَ من أهل بيت الرسول، وتصرّف في القيادة الإِسلامية أفراد كانوا هم والإِسلام على طرفي نقيض، إذ كان الإِسلام شيئاً آخر.

فكانت إراقة الدماء البريئة أسهل وأهون عندهم من إراقة الماء.

والتلاعب بالأحكام الإِلهيّة والقوانين الإِسلامية كالتلاعب بالكرة وغيرها من الألاعيب.

إنّ المآسي التي شملت الأُمّة الإِسلامية - عبر التاريخ - ممّا تقشعرّ منها

٤٤٦

الجلود، وتضطرب منها القلوب، كل ذلك من جرّاء القيادة غير الرشيدة التي تسلّمها أفراد من هذه الأُمّة.

وليس في هذا الكتاب مجال لاستعراض تلك المجازر الجماعية، والمذابح المؤلمة التي قام بها بعض حكّام المسلمين على مرّ التاريخ الإِسلامي.

فقد ستروا الكرة الأرضية بقشرة من المقابر التي ضمّت الآلاف المؤلّفة من النفوس البريئة، التي كانت ضحايا لأَهواءِ أفراد، وفداءً لكراسيّهم ومناصبهم وملذّاتهم، وأمّا الكبت والاضطهاد والحرمان والجوع والبؤس الذي ساد العباد والبلاد فحدّث ولا حرج.

نعم، هذا هو الخسران المبين، ولا يزال الحبل ممدوداً حتى اليوم وبعد اليوم.

(وما الذي نقموا من أبي الحسن؟) أي: أيّ شيء عابوه من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حتى نحوّه عن السلطة، وقدّموا غيره عليه؟

أنقصاً في العلم؟

أو جهلاً في الفتيا؟

أو سوءاً في الخلق؟

أو عاراً في الحسب؟

أو ضعفاً في الدين؟

أو عدم كفاءة في الأمور؟

أو جبناً في النفس؟

أو خِسّةً في النسب؟

أو قلّة في الشرف؟

أو بخلاً بالمال؟

أو أي عيب في مؤهّلاته وكفاءاته؟

٤٤٧

كل ذلك لم يكن، بل كان عليعليه‌السلام : أعلم هذه الأمّة جمعاء، وهو باب مدينة علم الرسول، وأقضاهم في الفتوى.

وأشبه الناس خلقاً بالرسول الذي كان على خُلُق عظيم.

وابن شيخ الأَباطح: أبي طالب، مؤمن قريش.

وأعبد الناس في هذه الأمّة.

وأشجعهم نفساً، وأقواهم قلباً، وأكثرهم جهاداً.

وكتلة من الفضائل.

وفي أوج الشرف والعظمة.

وأسخاهم كفّاً، وأبذلهم للمال.

إذن فما هو السبب في صرف الخلافة عنه إلى غيره؟

إنّ السيدة فاطمةعليها‌السلام تجيب على هذا السؤال، وتقول:

(نقموا منه - والله - نكير سيفه) أي عابوا شدّة سيفه، والمقصود: أنّ عليّاً كان قد قتل في الحروب والغزوات رجالات هؤلاء وأسلافهم، وحطّم شخصيّاتهم، فكانوا يكرهونه بسبب سيفه الخاطف للأرواح.

(وقلة مبالاته بحتفه) أي عدم اهتمامه واكتراثه بالموت، فالمجاهد الذي ينزل إلى جبهة القتال ينبغي أن يكون قليل المبالاة بالموت، فكما أنّه يَقتل كذلك يُقتل، وكان عليعليه‌السلام يقول: والله لا يبالي ابن أبي طالب أوقَع على الموت أو وقع الموت عليه.

(وشدِّة وطأتهُ ونكال وقعته) يقال: فلان شديد الوطأة أي شديد الأخذ وشديد القبض، والمقصود قوّة العضلات ومعرفة القتال، ونكال الوقعة أي كان يصنع صنيعاً يحذّر غيره ويجعله عبرة له، أي كانت ضربته وصدمته للأعداء نكالاً أي يورث الحذر والعبرة للآخرين.

(وتنمّره في ذات الله عزّ وجل) النمر شديد الغضب، إذا غضب

٤٤٨

لنفسه لم يبال: قلّ الناس أم كثروا، ولا يردّه شيء، ولا يحول دون هدفه حائل ولا يمنعه مانع، والرجل الشجاع الذي يجاهد بلا مبالاة ولا خوف، بل بكل غضب وشجاعة يقال في حقّه: تنمّر، أي صار شبيهاً بالنمر في الاقتحام.

لقد تلخّص من كلامهاعليها‌السلام أنّ سبب انحراف الناس عن عليعليه‌السلام كان لأغراض شخصية، وأمراض نفسية متأصّلة في قلوبهم.

فلقد قتل عليعليه‌السلام يوم بدر وأُحد وحنين والخندق وغيرها عدداً كبيراً لا يُستهان به من أقطاب الشرك، ورجالات الكفر، وشخصيّات الجاهلية، أمثال: عتبة وشيبة والوليد وعمرو بن عبد ودّ وعقبة بن الوليد وغيرهم، وأكثر قبائل العرب كانت موتورة بسيف عليعليه‌السلام .

وحتى، وبعد أن أسلمت تلك القبائل كانت رواسب الحقد والعداء كامنة في نفوسهم.

والنجاح الكبير الذي أحرزه عليعليه‌السلام في جميع المجالات من الطبيعي أن يهيّج الحسد في القلوب، والتقدّم الباهر الذي كان من نصيب عليعليه‌السلام في شتّى الميادين كان في قمّة فضائله.

فالآيات القرآنية التي نزلت في حقّه.

والأحاديث النبوية التي شملته دون غيره.

والموفّقيّة التي حازها عليعليه‌السلام وحده.

وخصائصه التي امتاز بها عن غيره من العالمين.

كان لها أسوأ الأثر في النفوس المريضة.

وكانت تلك الرواسب والآثار كامنة في الصدور، كأنّها نار تحت رماد حتى توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلا الجو،

٤٤٩

وارتفع المانع فعند ذلك زال الرماد، وظهرت النار، وجعلت تلتهب وتشتعل.

بالله عليك انظر:

لقد مرّ عليك أنّ جماعة من الصحابة خطبوا السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام من أبيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرفضهم النبي، وحينما خطبها علي من الرسول وإذا به يجد الترحيب والتجاوب على أحسن ما يمكن.

أليس هذا ممّا يهيج الحسد في النفوس؟

ويأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر أن يذهب إلى مكّة بسورة البراءة ليقرأها على أهل مكّة، ويخرج أبو بكر بالسورة متوجّهاً نحو مكّة، فينزل جبرئيل على الرسول قائلاً: إنّ ربّك يأمرك أن تبلّغ هذه السورة بنفسك، أو يُبلّغها رجل منك. فيأمر النبي عليّاً أن يتوجّه نحو مكّة، ويتولّى قراءة السورة على أهل مكّة، ويأمر أبا بكر بالرجوع.

أليس هذا الأمر يهيج الحسد في القلوب؟

وهكذا وهلمّ جرّاً، سِر مع عليعليه‌السلام عبر تاريخ حياته تجده المقدَّم على غيره في كافّة المجالات، ويمطره جبرئيل بآيات من الذكر الحكيم تقديراً لبطولاته، وتنويهاً لإنجازاته، وتقبّلاً لصدقاته، ومدحاً لخدماته.

والمسلمون يقرأون تلك الآيات آناء الليل وأطراف النهار راضين أو مرغمين.

ومن العجيب: أنّ علياً كان يخوض غمار الحروب بأمر الرسول، ولأجل التحفّظ على حياة الرسول، الرسول الذي كان الإسلام متمثّلاً ومتجسّداً فيه وقائماً به، فكيف كان الناس يكرهون عليّاً وهو الجندي ولا يكرهون الرسول وهو القائد للجيش؟‍‍‍‍‍!

٤٥٠

في البحار عن أبي زيد النحوي قال: سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت: لِمَ هجر الناس عليّاًعليه‌السلام وقُرباه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قرباه، وموضعه من المسلمين موضعه، وعناؤه في الإسلام عناؤه؟؟

فقال: بَهَر - والله - نورُه أنوارهم، وغلبهم على صفو كل منهل، والناس إلى أشكالهم أميَل، أما سمعت الأول يقول:

وكل شكلٍ لشكله ألفُ

أما ترى الفيل يألف الفيلا

وأنشدنا الرياشي عن العباس بن الأحنف:

وقائلٍ كيف تهاجرتما؟

فقلت قولاً فيه إنصافُ:

لم يك من شكلي فهاجرته

والناس أشكال وأُلاّفُ

وقال ابن عمر لعليعليه‌السلام : كيف تحبّك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأُحد من ساداتهم سبعين سيّداً، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم؟ فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

ما تركت بدر لنا مذيقا

ولا لنا من خلقنا طريقا

ومن الواضح أنّ الأمور ليست عيوباً ونقائص حتى يكره الناس عليّاً بسببها ومعنى كلام الزهراءعليها‌السلام : (نقموا منه - والله - نكير سيفه) من باب قول الشاعر:

ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم

بهنَّ فلول من قراع الكتائبِ

والمقصود: أنّهم عابوا عليّاً على فضائله ومناقبه، وعلى إنجازاته وخدماته وعلى شجاعته وتضحياته، وجهاده وبطولاته، وليست هذه عيوباً حتى يُعاب علي عليها.

هذا ومن المؤسف أنّ الموضوع يناسب الشرح والتفصيل أكثر من

٤٥١

هذا، ولكن رعاية لأسلوب الكتاب نُرجئ البحث إلى فرصة أُخرى أو كتاب آخر.

(والله لو تكافوّا عن ذمام نبذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليه لاعتلقه)

شبّهت السيدة فاطمةعليها‌السلام المجتمع الإِسلامي أو الأمّة الإسلامية بالقافلة، وشبّهت الخلافة والقيادة الإِسلامية بالزمام وهو المقود، أي الحبل الذي يقاد به البعير، وشبّهت عليّاًعليه‌السلام بالدليل الذي يتقدّم القافلة، ويأخذ بزمام البعير ليقود المسيرة.

ولم تنس السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام أن تقول: (نبذه رسول الله إليه) أي إنّ القيادة الإِسلامية إنّما صارت لعليعليه‌السلام بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين قام في الناس رافعاً صوته: (مَن كنت مولاه فعليّ مولاه).

وبعد هذا تقسم بالله قائلة: (والله) فالمسألة مهمّة وعظيمة جدّاً جدّاً وتستحق أن يقسم الإِنسان بالله لأجلها.

(لو تكافّوا) أي كفّوا أيديهم، أي منع بعضهم بعضاً، بحيث لو أراد أحدهم تناوله منعه الآخرون (لاعتلقه) أي اعتلق عليعليه‌السلام الزمام، أي قام بالواجب كما ينبغي وقاد المسيرة على أحسن ما يتصوّر، وأفضل ما يرام.

ثم وصفتعليها‌السلام نتائج تلك القيادة الرشيدة لو كان يفسح لها المجال، وذكرت الفوائد والمنافع والخيرات والبركات التي كانت تعمّ الأمّة الإِسلامية على مرّ القرون والأجيال فقالت:

(ثم لسارَ بِهم سيراً سجحاً) أي سار القائد بالمسيرة سيراً ليّناً سهلاً، بكل هدوء وطمأنينة، فإنّ البعير إذا سار بالراكب سيراً عنيفاً فلا بدَّ وأنّ

٤٥٢

الراكب يتأذّى من الحركة العنيفة، وتتحطّم أعصابه لما في ذلك من الإزعاج والقلق.

ثم البعير نفسه يتألّم حينما يجاذبه الراكب الحبل الذي قد دخل في ثقب أنفه وربّما يجرح أنفه أيضاً، فيتأذّى الراكب والمركوب، ولكنّ السيدة فاطمة تقول:

(لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه) وفي نسخة: (ولا يكلّ سائره ولا يملّ راكبه) أي الحبل أو الخشب الذي جعل في أنف البعير ويقال له (الخشاش) لا يجرح أنف البعير، ولا ينزعج راكب البعير، والمقصود: سلامة الراكب عن كل مشقّة حال السير.

(ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً) وفي نسخة: (منهلاً رويّاً) إنّ الدليل الذي يتقدّم القافلة لا بد وأن ينزل بهم منزلاً حسناً، ومكاناً لائقاً للراحة، على شاطئ نهرٍ أو عين ماء، ليأخذوا حاجتهم من الماء، ويسقوا دوابهم وغير ذلك.

تقول السيدة فاطمةعليها‌السلام : كان عليعليه‌السلام يقود المسيرة إلى منهل نمير، والمنهل: المورد أي محل ورود الإِبل، والنمير: العذب، النابع من عين لا ينقطع ماؤها، والفضفاض: الواسع.

(تطفح ضفّتاه، ولا يترنّق جانباه) النهر إذا كان ممتلئاً يفيض جانباه وإذا كان عذباً لا يتكدّر جانباه بالطين كما هو المشاهد من تكدّر الماء بالطين على جوانب النهر، بل وحتى البحر.

فالكثرة والسعة في المجرى والعذوبة والنظافة وعدم التلوّث بالطين وغيره من صفات ذلك الماء.

وكلّها إشارات وكنايات إلى الحياة السعيدة التي كان الناس يعيشونها لو كان الأمر بيد الإِمام أمير المؤمنين، فالخيرات كانت تشمل أهل الأرض،

٤٥٣

والعدل يسود المجتمع، والسلامة كانت تعمّ الجميع، والرفاهية والاستقرار والطمأنينة والأمان والحرية - بمعناها المعقول - والسعادة في الدنيا، والنعيم في الآخرة كان من نصيب الجميع.

(ولأصدرهم بطاناً) وكانت نتيجة ذلك الورود هو الصدور من المنهل، والخروج من ذلك المورد بالشبع والارتواء، فلا جوع ولا حرمان، ولا فقر ولا مسكنة.

(ونصح لهم سرّاً وإعلاناً) النصح: حُب الخير، وعدم الغش، والمعنى: أنّ عليّاً كان يسعى في إسعادهم وجلب الخير لهم بصورة سرّية وعلنيّة، أي ما كان يطلب من وراء تلك القيادة إلاَّ الخير للناس لا لنفسه.

(ولم يكن يحلَّى من الغنى بطائل، ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريّ الناهل وشبعة الكافل) وهنا تذكر السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام موقف زوجها من تلك القيادة والزعامة العامّة.

وقبل كل شيء: ينبغي أن لا ننسى أنّ في العالم أفراداً يحبّون القيادة والرئاسة لأنفسهم، أي يحبّون أن يحكموا على الناس، ويتصرّفوا كما يشاءون وكما يريدون، ويحبّون الرئاسة؛ لأنّها وسيلة تحقيق أهدافهم وأُمنياتهم الشخصية فهم يتنعّمون من وراء تلك الرئاسة بشتّى أنواع النعم، ويختارون لأنفسهم أفضل حياة.

وهناك أفراد - وقليل ما هم - يحبّون الرئاسة والقيادة ليخدموا الناس، ويصلحوا المجتمع، ويجلبوا الخير والسعادة للشعوب، ليعيش الناس آمنين مطمئنين، ولتكون لهم حياة مشفوعة بالراحة والخير والنعيم.

إنّ هذه الطائفة من أولياء الله لا يشعرون بالنقص في أنفسهم كي يكمّلوا أو يستروا ذلك النقص بالفخفخة والجبروت، بل إنّهم يشعرون بالكمال في أنفسهم، فهم في غنى عن الناس، والناس بحاجة إليهم، إن

٤٥٤

هؤلاء لو حكموا لنفعوا الناس وأصلحوهم، وأمنّوا حياتهم من جميع نواحيها.

وفي الوقت نفسه لا يستفيدون ولا ينتفعون من حطام الدنيا، ولا تطيب نفوسهم أن يتنعّموا بأموال الفقراء، ويبنوا قصورهم على عظام الضعفاء، إنّهم يحملون نفوساً أبيّة وأنوفاً حميّة، وأرواحاً طيّبة تستنكف التنازل إلى هذا المستوى السافل.

بعد هذا يتضح لنا كلام السيدة فاطمةعليها‌السلام حول موقف زوجها تجاه القيادة لو كان يفسح له المجال، ولا يغلق عليه الطريق.

تقول: (ولم لم يكن يحلّى من الغنى بطائل) أي لو كان علي جالساً على منصّة الحكم ما كان يستفيد من أموال الناس لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من بيوت الأموال لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من أموال الناس وكنوز الثروة خيراً.

(ولا يحظى من الدنيا بنائل) ما كان ينال من ثروات الدنيا بالعطاء سوى مقدار إرواء نفسه من العطش، وإشباع عائلته من الجوع.

احفظ هذه الجملة وانظر إلى حياة الحكّام والسلاطين في العالم، تجدهم يسكنون أفخم المساكن، ويلبسون أفخر الملابس، ويأكلون ألذَّ المآكل، ويركبون أحسن المراكب، ويؤثثون بيوتهم بأغلى الأثاث، ويعيشون أفضل المعيشة.

ولا تسأل عن الذخائر التي يدّخرونها ليوم ما؟!

كل ذلك من بيت المال، وكل ذلك من أموال الدولة وأموال الشعب!!

نعم، إنّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام هكذا تعرّف زوجها، والتاريخ الصحيح يصدّق كلامها والواقع يؤيّد ادعائها.

فلقد حكم الإِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام أربع

٤٥٥

سنوات وشهوراً، فكانت حياته هكذا مائة بالمائة،

فلقد كتبعليه‌السلام إلى عثمان بن حنيف كتاباً يقول فيه: (ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بِقُرصيه... فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضكم شبراً؛ بلى، كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّتها الخضراء، فشحّت عليها نفوس قوم وسختْ عنها نفوس قوم آخرين...) إلى آخر كلامهعليه‌السلام .

وهنا سؤال لابد من الإجابة عليه وهو: إذا كان الإمام عليعليه‌السلام بهذه الأوصاف التي ذكرتها الزهراءعليها‌السلام ووصفته بها... فلماذا - حينما حكم على الناس، وتسلّم القيادة وجلس على منصّة الخلافة - حدثت الاضطرابات الداخلية، والحروب الأهلية الدامية، والمشاكل والمصائب والمذابح التي شملت الأُمّة الإِسلامية في عهده؟؟

نجيب على هذا بما يلي:

لا شك أنّ المجتمع الإسلامي في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مجتمعاً صالحاً من جميع النواحي، ولكن الذين حكموا المجتمع بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله خلال ربع قرن قد غيّروا وبدّلوا وتصرّفوا تصرّفات غير مُرْضية.

ولو ألقيت نظرة إمعان على تاريخ الحكّام الذين تسلّموا السلطة بعد الرسول مباشرة خلال خمسة وعشرين عاماً؛ لرأيت كمّيّة وافرة من الأوامر والفتاوى والأحكام المضادّة للشريعة الإِسلامية من الكتاب والسنّة، من تغيير الوضوء والأذان وكيفيّة الصلاة وعدد ركعاتها إلى الحج إلى الجهاد إلى النكاح وإلى الطلاق وهكذا وهلَّم جرَّا.

ولو أردنا أن نذكر الشواهد والأمثلة لهذه المواضيع لطال بنا الكلام،

٤٥٦

ولكنّنا نكتفي - هنا - بمثال واحد كنموذج. ولك أن تقتبس من هذا المثال بقيّة الأمثلة:

مجزرة خالد بن الوليد

خرج خالد بن الوليد بجيشه إلى بعض قبائل المسلمين. وكان في تلك القبيلة رجل من المسلمين اسمه: مالك بن نويرة، قد أسلم على يد النبي وشهد له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجنّة وشهد عمر بن الخطاب بإسلامه فقتله خالد بن الوليد بغير ذنب سوى ذنب واحد، وهو أنّ زوجته كانت من أجمل نساء قومها وقد رآها خالد بن الوليد وطمع فيها، ولم يجد طريقة للاستيلاء عليها سوى قتل زوجها المسكين فقتله خالد، وفي نفس الليلة زنى بزوجته.

وحينما رجع خالد إلى المدينة لم يجد أيّ عقاب أو عتاب من رئيس الدولة يومذاك هذا هو المتفق عليه بين المؤرخين بلا استثناء، مع العلم أنّ الإِسلام لم يسمح بنكاح المعتدّة ما دامت في العدّة، والرجل لم يتزوج بها.

هذه المأساة التي تجدها في أكثر التواريخ، أتعلم كم تشتمل هذه الفاجعة من إهدار الدماء البريئة وهتك الأعراض، وارتكاب الجرائم، والتلاعب بكرامات الناس ومقدّراتهم؟

وكم تتبدّل نظرة الناس إلى الدين وإلى الدولة الإِسلامية؟

وقد مرَّ عليك موقف هؤلاء اتجاه بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحيدة العزيزة واتجاه زوجها العظيم، وولديها الحسن والحسينعليهم‌السلام ؟

٤٥٧

القيادة الإسلامية المفكَّكة

إنّ الإسلام والقيادة الإسلامية وصلت إلى يد عليعليه‌السلام وهي مفكّكة العرى محطّمة الجوانب، مشوّهة السمعة.

ولمّا أراد الإِمام علي أن يصلح تلك المفاسد، وأن يعيد الإِسلام إلى طريقه السوي ويلبسه حلّة القداسة والجمال، وإذا به يجد أصحاب المطامع يقومون ضدّه، ويشهرون سيوفهم في وجهه، فتكوّنت الحروب الداخلية وقامت المجازر على قدمٍ وساق.

واعلم أنّ الذين أقاموا الحروب الداخلية ووضعوا نواتها الأساسية هم أربعة فقط: طلحة والزبير وعائشة ومعاوية.

وكان الزبير وطلحة يهدفان الوصول إلى الحكم من خلال إثارة الاضطرابات في حكومة خليفة رسول الله، وقد اتخذا عائشة ذريعة لذلك.

أمّا معاوية، فكان يهدف المحافظة على كرسيّه في الشام، كما صرّح هو بذلك فيما بعد.

وقد ذكرنا الشيء اليسير من تلك المآسي في الجزء الأوّل والثاني والثالث من شرح نهج البلاغة.

وأنت إذا راجعت وقارنت فسوف تنكشف لك أمور، وتتضح لك أسرار.

نحن لا زلنا في شرح الخطبة:

(ولبان لهم الزاهد من الراغب) إنّ السيدة فاطمةعليها‌السلام لا تزال توالي حديثها عن زوجها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وإنّه لو كان يستلم القيادة كان يقنع من الدنيا بالشيء اليسير اليسير، وذلك بمقدار

٤٥٨

إرواء عطشه وإشباع عائلته، وعند ذلك كان يظهر للناس الزاهد الحقيقي الذي لا يطمع في أموال الناس، كما يظهر الراغب الطامع الذي كان يخضم مال الله خضم الإِبل نبتة الربيع وأمثاله.

(والصادق من الكاذب) وظهر لهم الصادق الذي يصدق في أقواله وأفعاله من الكاذب الذي يكذب في ادعاءاته وتصرّفاته، وتكذّب أفعاله أقواله وشعاراته.

ثم إنّهاعليها‌السلام ختمت هذه المقطوعة من حديثها بالآية الكريمة، وطبّقتها على هذه الأمّة، فقالت:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ منَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) (1) .

ما أنسب هذه الآية بهذا المقام وما أجمل هذا التشبيه في هذا الكلام؟

وتقصد السيدة فاطمة أنّ الناس لو كانوا يقبلون كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في تعيين علي بالخلافة وكانوا ينقادون له لكانت الدنيا لهم روحاً وريحاناً وجنّة نعيم، ولكنّهم خالفوه واختاروا غيره، وبعملهم هذا كذَّبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تكذيباً عملياً، فسوف يشاهدون الويلات تنصبُّ عليهم.

وأردفت هذه الآية بمثلها، فقالت:( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ) (2) .

وسيأتيك القول بالتفصيل عن الويلات والمآسي التي انصبَّت على الأُمّة الإِسلامية من جرّاء تلك القيادة الشاذّة ومضاعفاتها.

(ألا: هلمّ واستمع) وفي نسخة: (هلممن واستمعن) فعلى النسخة

____________________

(1) الأعراف: 96.

(2) الزمر: 51.

٤٥٩

الأُولى يكون الخطاب عاماً للجميع، وعلى النسخة الثانية يكون الخطاب خاصاً بالنساء اللاتي حضرن عيادتها.

(وما عشت أراك الدهر عجباً) أي كلما عشتَ أو مدة عيشك في الدنيا رأيت العجائب التي لا بالبال ولا بالخاطر.

(وإن تعجب فعجب قولهم) هذه الجملة من آية في سورة الرعد وهي: (وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد) اقتبست السيدة فاطمةعليها‌السلام هذه الجملة من الآية وأدمجتها في حديثها، والمقصود أن الناس يتعجبون من بعض الأمور وليست بعجيبة، ولا تستحق التعجب، وهناك أمور وقضايا عجيبة ينبغي أن يتعجب منها، لأنها أمور لا تنسجم مع الشرع ولا مع العقل ولا الوجدان ولا الضمير، ولا تدخل تحت أي مقياس من المقاييس الصحيحة.

والأمر العجيب هو ما يلي:

(ليت شعري إلى أي سناد استندوا؟

وعلى أيّ عماد اعتمدوا؟

وبأيّة عروة تمسّكوا؟

وعلى أيّة ذريّة أقدموا واحتنكوا؟)

إنّ الناس كانوا يستندون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وينقادون له، ويعتمدون على أقواله، ويطيعون أوامره؛ لأنّه مرسل من عند الله، ومتصل بالعالم الأعلى، قد توفّرت فيه الأهلية بجميع معنى الكلمة، فلا عجب في ذلك إذا خضع له الناس، وقدَّموه على كل شيء، ولكنّ العجب كل العجب أنّ بعض الناس بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تنازلوا إلى مستوى نازل جدّاً فسلّموا القيادة إلى أفراد لا توجد فيهم المؤهّلات.

٤٦٠